لئالی الاصول القسم الاول فی مباحث الالفاظ المجلد 2

اشارة

سرشناسه : علوی گرگانی، سیدمحمدعلی، 1317 -

عنوان و نام پدیدآور : لئالی الاصول القسم الاول فی مباحث الالفاظ/ تالیف السیدمحمدعلی العلوی الحسینی الگرگانی.

مشخصات نشر : قم: دارالتفسیر، 1431 ق.= 1389.

مشخصات ظاهری : 10 ج .

شابک : 150000 ریال: دوره: 978-964-535-244-6 ؛ ج.1: 978-964-535-245-3 ؛ ج. 2 978-964-535-246-0 : ؛ ج. 3 978-964-535-247-7 :

وضعیت فهرست نویسی : فاپا

یادداشت : عربی.

یادداشت : عنوان عطف: لئالی الاصول.

یادداشت : کتابنامه.

عنوان عطف : لئالی الاصول.

موضوع : اصول فقه شیعه

رده بندی کنگره : BP159/8/ع86ل9 1389

رده بندی دیویی : 297/312

شماره کتابشناسی ملی : 2163034

ص:1

اشارة

تألیف:

سماحة آیة اللّه العظمی المرجع الدینی

السید محمّد علی العلوی الحسینی الگرگانی دام ظلّه

الجزء الثانی

ص:2

ص:3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص:4

ص:5

فی الشروط المتأخّرة عن زمان التکلیف

بسم الله الرحمن الرحیم

البحث عن الشروط المتأخّرة عن زمان التکلیف

قلنا: إنّ هناک مشکلة فی کیفیّة تصویر الشروط المتأخّرة عن زمان التکلیف، وقد حاول الأعلام حلّها، فینبغی استعراض أقوالهم فی المقام:

قال المحقّق الخوئی: ما خلاصته:

(إنّ الأحکام الشرعیّة بجمیع أنواعها اُمور اعتباریّة، فلا واقع موضوعی لها ما عدا اعتبار من بیده الاعتبار ، ولا ربط ولا صلة لها بالموجودات المتأصّلة الخارجیّة أبداً .

وبعبارة اُخری : الموجودات التکوینیّة خاضعة فی قبال العلل الطبیعیّة، فلا یتعلّق بها جعل حاصل ، هذا بخلاف الموجودات الاعتباریّة، فهی خاضعة لاعتبار المعتبر ، وعلی هذا قد اتّضح أنّ موضوعات الأحکام، وإن کانت من الاُمور التکوینیّة ، إلاّ أنّه لا تأثیر لها فیها لا بنحو العلّة والمعلول، ولا بنحو الشرط والمشروط، ولا بنحو السبب والمسبّب، وإن أطلق علیها تارةً بالسبب ، واُخری بالشرط ، لکنّه مجرّد اصطلاح من الأصحاب علی تسمیة الموضوعات فی الأحکام التکلیفیّة، بالشروط فی الأحکام الوضعیّة بالأسباب، مع عدم واقع موضوعی لها ، فالقول بأنّ الاستطاعة شرط لوجوب الحجّ، کالقول بأنّ البیع سببٌ

ص:6

للملکیّة وبالعکس ، فکما أنّ الشارع علّق وجوب الحجّ علی وجود الاستطاعة، هکذا علّق وجود الملکیّة علی وجود البیع ، هذا .

ومن ناحیة اُخری: أنّ فعلیّة الأحکام وإن کانت دائرة مدار فعلیّة موضوعاتها، وتمامیّة قیودها وشرائطها فی الخارج ، إلاّ أنّ لازم ذلک لیس تقارنهما زماناً ، والسبب فی ذلک أنّه تابع لکیفیّة جعلها واعتبارها ، کما یمکن للشارع جعل حکم علی موضوع مقیّد بقیدٍ فرض وجوده مقارناً أو متقدّماً ، وکذلک یمکن جعل حکم الموضوع مقیّداً بقید فرض وجوده متأخّراً، فإنّ ذلک بمکان من الإمکان، لما قد عرفت من کون الأحکام من الاُمور الاعتباریّة .

والسرّ فی ذلک: أنّ المجعول فی القضایا الحقیقیّة حصّة خاصّة من الحکم، وهی الحصّة المتقیّدة بقید فرض وجوده فی الخارج لا مطلقاً ، ومن الطبیعی أنّ هذا القید یختلف ؛ فمرّةً یکون قیداً لها بوجوده المتأخّر ، واُخری بالمتقدّم أو بالمقارن ، فإذا جعل الحکم متعلّقاً علی وجود القید متأخّراً، فبطبیعة الحال تکون فعلیّة الحکم قبل وجود ذلک الموضوع ، وإلاّ لکانت الفعلیّة علی خلاف الإنشاء وهو خلفٌ کما عرفت . ومثال ذلک فی العرفیّات، الحمّامات المتعارفة فی زماننا هذا ، فإنّ صاحب الحمام یرضی فی نفسه رضاً فعلیّاً بالاستحمام لکلّ شخص علی شرط أن یدفع بعد الاستحمام، وحین الخروج مقدار الاُجرة المقرّرة من قبله ، فالرضا من المالک فعلیٌ والشرط متأخّر) ، انتهی محلّ الحاجة من کلامه(1) .

ویرد علیه أوّلاً : بأنّ الأحکام الشرعیّة وإن کانت من الاُمور الاعتباریّة ، إلاّ


1- المحاضرات : ج2 / 313 .

ص:7

أنّ ذلک لا یوجب أن یکون إطلاق السبب والشرط، والمسبّب والمشروط، مجرّد استعمال خالٍ عن الفروق، بحیث یصحّ إطلاق کلّ واحدٍ منها مکان الآخر، وإلاّ لا داعی لإثبات کلّ واحدٍ فی موضع بأنّه سببٌ أو شرط، فلیس هذا إلاّ من جهة أنّ ما ینطبق علیه عنوان السبب والشرط یصدق ما یکون بالنسبة إلی الأحکام، أی ما إذا وجد السبب فوجد المسبّب، ویعدم بعدمه ، وهذا بخلاف الشرط حیث أنّه بوجوده یمکن أن یوجد وبعدمه ینعدم . غایة الفرق بین الأسباب والشروط فی الموجودات المتأصّلة، کون ذلک ذاتیّاً لها من دون جعل جاعل ، ولذلک اشتهر بینهم لزوم قیام التضادّ بین الأحکام الخمسة، مع کونها من الاُمور الاعتباریّة ، فمجرّد اعتباریّتها لا یوجب عدم تحقّق هذه الاُمور فیها ، بل یجری ولکنّه بمناسبة عالم الاعتبار، فصحّة إطلاق کلّ من السبب والشرط مکان الآخر، وکون الاستطاعة بالنسبة إلی وجوب الحجّ، کالبیع بالنسبة إلی الملکیّة، أمرٌ عجیب نستغرب صدوره منه رحمه الله ؛ لأنّه من الواضح أنّه بوجود الاستطاعة یوجد الوجوب، وبعدمه ینعدم، فیکون حاله حال الأسباب دون الشروط .

والسرّ فی ذلک: أنّ تمام الشروط فی التکالیف راجعٌ إلی الأسباب، بخلاف المشروط فی المأمور به ، ولذلک قلنا فی البحث السابق بأنّ مقدّمة الوجوب لیست داخلة فی موضع النزاع ، هذا بخلاف مقدّمة الوجود للواجب الذی یُطلق علیها عنوان الشرط حیث یصحّ إطلاق الشرط علیه واقعاً ، ولذلک یُقال إنّ دخول الوقت شرطٌ لوجوب الصلاة، ولکنّه فی الحقیقة سببٌ للوجوب وشرطٌ للوجود ، فهکذا یکون فی مثل الاستطاعة لوجوب الحجّ لا لوجوده ، مع أنّه یمکن أن یُقال إنّ الاستطاعة لو کان المقصود خصوص الاستطاعة المالیّة أو البدنیّة، تکون شرطاً

ص:8

لأنّه بوجودها یمکن أن یوجد الوجوب لو کان سائر الشرائط موجوداً، وإن کان المقصود هو الاستطاعة بجمیع أقسامها، فتکون سبباً للوجوب .

وثانیاً: فإنّ قوله (فإذا جعل الحکم معلّقاً علی وجود القید متأخّراً فبطبیعة الحال تکون فعلیّة الحکم قبل وجود ذلک الموضوع وإلاّ لکانت الفعلیّة علی خلاف الإنشاء ، وهو خلف) .

ممّا لا یرجع إلی أصل صحیح ؛ لأنّه دعوی بلا برهان ، بل خلاف الاستدلال والبرهان ؛ لأنّ فساد تقدّم الحکم علی الموضوع من الواضحات ، مع أنّه من المعلوم أنّ الأحکام کلّها تکون من الاُمور المجعولة والاعتباریّة ، فکیف یصحّ أن یُقال : إنّ الحکم لا یتحقّق إلاّ بعد تحقّق الموضوع ؟

فدعوی جواز فعلیّته قبل الموضوع، دعوی فاسدة مستحیلة .

مع أنّا نرد الإشکال علی کلامه نفسه، بأنّه إذا لم یکن تقدّم الحکم علی الموضوع مستحیلاً، لکونه من الاُمور الاعتباریّة، فنحن نقول مثله فی خلاف الفعلیّة للإنشاء، لأنّه أمرٌ اعتباریّ ولا یکون فیه شیئاً من الحدود الموجودة فی الموجودات المتأصّلة ، فکما أنّ هذا خلفٌ کما اعترف به ، کذلک یکون فی جهات اُخری للأحکام من التضادّ، وعدم جواز تقدّم فعلیّته علی الموضوع، وأمثال ذلک من استحالة اجتماع النقیضین وارتفاعهما أیضاً ؛ لأنّ جمیعها خلف کما لا یخفی .

وثالثاً : أنّه قد أخطأ رحمه الله فی تنظیر المقام بالمال العرفی فی الاُجرة المتأخّرة فی الحمّامات العامّة حیث یکون إعطائها فی المتأخّر شرطاً لرضا المالک فی أوّل الأمر ، لوضوح أنّ الاستعمال والاستفادة من الحمّام لا یجوز إلاّ بإعطاء الاُجرة أوّلاً ؛ لأنّه نوع إجارة ، فما دام لم یدفع الاُجرة، یجوز للحمامیّ المنع عن

ص:9

الاستفادة والانتفاع . غایة الأمر قد یکون المتعارف فی الخارج هو تأخیر الاُجرة فی إجارة المساکن والحمّامات إلی آخر العمل والمدّة ، فهذا لا یوجب أن یکون فی الواقع الشرط المتأخّر عن المشروط، بحسب الجعل والتشریع، مؤثّراً حتّی یکون من قبیل ما نحن فیه ، فلیتأمّل .

أقول: وقد حلّ بعض الأعاظم إشکال شرط المتأخّر للتکلیف، بطریقٍ آخر غیر ما عرفت، فلا بأس بالتعرّض إلیه، قال رحمه الله فی «نهایة الإحکام» نقلاً عن المحقّق العراقی قدس سره (1) ما خلاصته:

(ثمّ إنّه ممّا ذکرنا ظهر حال شرائط الوجوب والتکلیف وقیوده أیضاً ، فإنّ قیود الوجوب بعد أن کانت راجعة إلی مقام الدخل فی أصل الاحتیاج إلی الشیء، واتّصاف الذات بوصفه العنوانی، بکونه صلاحاً ومحتاجاً إلیه ، فلا جرم یکون قضیّة دخلها أیضاً من باب دخل طرف الإضافة فی الإضافة، ودخل ما به التقیّد فی التقیّد ، ومعه أمکن فیها أیضاً تصویر الشرطیّة للأمر المتأخّر بالنسبة إلی التکلیف ، بداهة أنّ قضیّة کون الشیء شرطاً، وحینئذٍ لیس إلاّ کونه بحیث یحصل للشیء بالإضافة إلیه خصوصیّة، یکون بتلک الخصوصیّة متّصفاً بکونه صلاحاً ومصلحة، کما قد یکون بالنسبة إلی المقارن والمتقدّم کذلک، بحیث لولا حدوث المتأخّر فی موطنه، لما کان للسابق تلک الإضافة الموجبة لتعنونه ، غایته فی شرط المتأخّر للتکلیف، یحتاج حینئذٍ فی فعلیّة الإرادة والتکلیف من القطع بتحقّق المنوط به فی موطنه، حیث أنّه مع القطع المزبور، یری کون المتعلّق متّصفاً فعلاً بالصلاح، ومحتاجاً إلیه ، فتوجّه إلیه الإرادة فعلاً، من دون أن تخرج عن الإناطة


1- نهایة الإحکام : ج1 / 282 .

ص:10

أیضاً إلی الإطلاق ، ویمکن تمثیله فی العرفیّات بمثل اشتراء اللّحم فی الیوم لورود الضیف غداً، حیث یکون القطع بذلک موجباً لصرافة لتوجّه النفس إلی تحصیله.

إلی أن قال : فیمکن المصیر إلی أنّ الشرط فی التکلیف فی الثلاثة، من المقارن وأخویه هو نفس الشرط بوجوده فی موطنه، من دون احتیاج إلی جعل الشرط عبارة عن الشیء بوجود العلمی اللّحاظی، کما فی «الکفایة».

لأنّا نقول : إنّ ذلک یتمّ بالنسبة إلی فعلیّة الإرادة، حیث کان له دخل بوجوده العلمی لا الخارجی . وأمّا بالنسبة إلی مقتضیات الأحکام، من المصالح والأغراض، فلا شبهة فی أنّ ما له الدخل فیها فی اتّصاف الشیء بالصلاح والمصلحة، بنحو الشرطیّة أو غیرها، إنّما کان هو الشیء بوجوده الخارجی لا بوجوده العلمی ، بل العلم واللّحاظ فی ذلک لا یکون إلاّ طریقاً محضاً ، ولذلک قد یتخطّی عن الواقع، فیکشف عدم تحقّقه عن فقد العمل المشروط للمصالح ، ولذلک تری المولی الذی یتصوّر فی حقّه الخطأ کالموالی العرفیّة، قد یحصل له الندامة علی فعله وطلبه، بأنّه لِمَ أمر به مع کونه فی الواقع غیر ذی المصلحة ، فلو أنّه کان الدخیل فیهما أیضاً هو الشیء بوجوده العلمی کما فی الإرادة والاشتیاق، لما کان وجهٌ لانکشاف الخلاف، وکشف فقد الشرط فی موطنه المتأخّر عن فقد العمل للمصلحة حینئذٍ، فکان ذلک برهاناً تامّاً علی أنّ ما له الدخل فی مقام المصالح والأغراض، هو الشیء بوجوده الخارجی، وکون العلم فیه طریقاً محضاً) ، انتهی کلامه(1) .

أقول: ولا یخفی ما فی کلامه من الإشکال ، لأنّه قدس سره قد خلط فی بیان مراده


1- نهایة الأفکار : ج1 / 282 .

ص:11

بین ما هو شرط للمتعلّق والواجب، وبین ما هو شرط للتکلیف والبعث، المولود من الإرادة والکراهة ؛ لأنّ کون شیء دخیلاً فی مصلحة شیء، وکونه ذا صلاح بالتقدّم أو التقارن أو التأخّر، ممّا لا سترة فیه کما سیأتی توضیح ذلک أزید من هنا فی المباحث الآتیة إن شاء اللّه تعالی . لکنّه تکون بالنسبة إلی المأمور به والواجب ، ولذلک نجده یصرّح بقوله: (وأمّا بالنسبة إلی مقتضیات الأحکام...) ، فإنّ کون الاقتضاء للمتعلّق لا ربط له بالوجوب والتکلیف، الذی هو مولود من تلک المقتضیات. ومجرّد کون شیء ذا صلاح ومصلحة، منوطاً إلی وجود الشرط فی المتأخّر، لا یوجب کون تکلیفه أیضاً منوطاً به ، فلابدّ أن یکون للتکلیف شرطاً آخر غیر ذلک الشیء بوجوده الخارجی ، وذلک لیس إلاّ کون الشیء بوجوده العلمی واللّحاظی هو شرطاً لتحقّق التکلیف والحکم، کما اعترف به بنفسه بأنّ فعلیّة الإرادة منوط علی علمه بوجود ذلک الشیء المسمّی بالشرط فی موطنه ، فما هو شرط لتحقّق الإرادة المولود منها التکلیف، لیس هو الشیء بوجوده الخارجی ، بل الشرط هو الشیء بوجوده العلمی واللّحاظی لیس إلاّ.

والذی یؤیّد ویشهد لذلک: ماعرفت فیالمباحث السابقة بأنّ الملازمة موجودة بین ما یتعلّق به الإرادة الفاعلیّة فی الفاعل، وبین إرادة الآمریّة فی الآمر ، فکما أنّ تحرّک الفاعل لتحصیل شراء اللّحم فی الیوم فی المثال المذکور موقوف علی علمه بتحقّق الشیء فی محلّه، فإذا فرضنا أنّه لم یکن فی الواقع حاصلاً ، بل کان علمه مجرّد تخیّل وخیال ، فوجود الشیء فی الحقیقة وعدمه لا یکون مرتبطاً بوجود الإرادة للفاعل ، بل المرتبط هو علمه بذلک، فهو یکون شرطاً لوجود الإرادة المستلزمة لتحریک العضلات للقیام بشراء اللّحم، لا أصل ورود الضیف فی الغد .

ص:12

هکذا الأمر فی الإرادة الآمریّة لاشتراء اللّحم ؛ یعنی إذا علم المولی بورود الضیف ومجیئه فی الغد، یحکم ویبعث بالاشتراء ؛ لأنّ شرط التکلیف وهو علمه بتحقّق ورود الضیف فی موطنه، وقد وجد فی الآن، فیکون التکلیف حینئذٍ فعلیّاً، لأنّ شرطه کان موجوداً ومقارناً به، إذ الشرط لیس ورود الضیف حقیقة فی الغد ، بل الشرط فی الحقیقة هو علمه بذلک ولحاظه هکذا ، ولهذا لو انکشف الخطأ لما تحقّقت صورة الإرادة الجدیّة ، کما لا یجعل البعث الحقیقی غیر الواقعی ، بل یلزم لغویّة التکلیف والإرادة ، وهذا القول یختلف عن القول بأنّ التکلیف لم یکن واجداً لشرائطه .

والحاصل : أنّ التکلیف معلول للإرادة، وهی معلول لعلمه بوجود الشرط وهو الصلاح الذی وقع فی کلامه بالنسبة إلی وقوع شیء آخر فی محلّه، لا معلول لوجوده الخارجی للشیء بدون العلم، وإلاّ لزم أن یکون التکلیف والإرادة موجوداً، ولو لم یکن علمه بوجوده محقّقاً ، مع أنّه واضح البطلان کما لا یخفی .

أقول: فثبت من جمیع ما ذکرنا، صحّة کلام المحقّق الخراسانی فی ذلک ، ولکنّه فی الحقیقة یرجع إلی عدم وجود شرط متأخّر للتکلیف، لأنّه یرجع الأمر إلی کون العلم بوجود الشرط فی موطنه، هو الشرط للتکلیف، وهو مقارن أو متقدّم علی التکلیف وهو متقدّم لا متأخّر ، فلیتأمّل .

هذا کلّه فی الشرط المتأخّر للتکلیف .

***

ص:13

فی الشروط المتأخّرة فی الأحکام الوضعیّة

البحث عن الشروط المتأخّرة فی الأحکام الوضعیّة

أقول: هناک بحث فی هذه الشروط وهو نظیر الإجازة المتأخّرة للعقد السابق الصادر عن الفضولی، وسکوت الموصی، الموجب لحصول الملکیّة للموصی له بواسطة عقد الوصیّة فی السابق .

فالإشکال هو ما عرفت من أنّ الشرط إذا کان من قبیل أجزاء العلّة ، فلابدّ فی تأثیره من تقدّمها علی المعلول، وهو علی الشروط ، فکیف یؤثّر الشرط المتأخّر فی المشروط المتقدّم ؟

فقد أجاب عنه صاحب «الکفایة»: بالجواب الذی قاله فی التکلیف، بأنّ الشرط لیس إلاّ لحاظه وتصوّر الآمر والجاعل، بأنّ العقد الذی یعلم بتعقّبه للإجازة یکون موجباً للملکیّة، فیصیر الشرط حینئذٍ هو تصوّره ولحاظه حال العقد .

أقول: ذکرنا آنفاً عن هذا الجواب، والإنصاف أنّ أصحّ الأجوبة وأحسنها هنا، هوالذیصدر عن صاحب«الفصول» وذکره الشیخ الأنصاری قدس سره فی «المکاسب» من الکشف الحکمی ، أو یُقال بالکشف الحکمی الذی أنشأه الشیخ قدس سره بعدما استحال الکشف الحقیقی فی مثل ذلک ، فلا بأس بالتعرّض لها حتّی یتّضح المرام فی المقام:

فنقول : قلنا هنا دعویان :

الدعوی الاُولی : بیان مقالة صاحب الفصول وتبعه صاحب «عنایة الاُصول» وصاحب «تهذیب الاُصول» وبعض آخر من الاُصولیّین ، هو:

القول بأنّ الشرط فی مثل الإجازة المتعقّبة لیس هو نفس الإجازة

ص:14

بوجودها الخارجی، حتّی یقال إنّه مستلزم للمحال ، بل الشرط عبارة عن الوصف العنوانی الذی کان عارضاً للعقد الحاصل من جهة إضافته إلی تلک الإجازة .

وبعبارة اُخری : العقد المتّصف بالوصف العنوانی یکون محقّقاً للملکیّة لا مطلق العقد ؛ یعنی العقد المتعقّب ، وهذا الوصف یعدّ مقارناً للعقد باعتبار ما تتعقّبه الإجازة فی موطنها ، فعلی ذلک تکون الإجازة کاشفة بالکشف الحقیقی، أی تکون الملکیّة حاصلة فی الواقع من زمان العقد، لوجود شرطه وهو تعقّبه بالوصف العنوانی ، إلاّ أنّه لولا وجود الإجازة فی موطنها، لما علم واکتشف کون العقد سبباً لتحقّق الملکیّة أم لا ، فبعد الإتیان یکشف عن تأثیره من ذلک الحین .

ولذلک لو فرض من کان عالماً بوقوعها - کالأنبیاء والأوصیاء - فلا إشکال حینئذٍ بأنّ الملکیّة حاصلة بنفس العقد، لحصول شرطه وهو تعقّبه بذلک الوصف ، فلو کان الشرط هو نفس الإجازة بوجودها الخارجی، کان اللاّزم أن لا یترتّب علی هذا الفرض آثار الملکیّة ، مع أنّ الجمیع علی ثبوت الآثار المذکورة، ممّا یؤیّد ما التزمنا به.

وبتعبیر آخر : إنّ العقد الواقع متقدّماً علی الإجازة، حیث أنّه واقع فی الزمان فیکون زمانیّاً ، فکما أنّ الزمان یکون تقدّم بعض أجزائه علی الآخر ذاتیّاً وطبیعیّاً لا إضافیّاً، ولا یکون التقدّم ثابتاً للزمان المتقدّم إلاّ لثبوت الآخر الذاتی لجزئه الآخر، فهکذا یکون فی ما یقع فی الزمان من الزمانیات من العقد المتقدّم ، فعلیه یکون شرط العقد المسبّب لتحقّق الملکیّة، هو نفس التقدّم الذی کان ذاتیّاً له بواسطة الزمان، بحیث لو لم یوجد ما هو المتأخّر، لما تحقّق هذا المتقدّم ، فالشرط لا یکون الموجود المتأخّر من الإجازة ، بل الشرط قد یکون العقد متّصفاً بوصف

ص:15

التقدّم الذی لا یحصل ذلک إلاّ بعد حصول الإجازة فی محلّها، فیصیر الشرط حینئذٍ مقارناً للعقد بالدقّة العقلیّة، لا متأخّراً عنه کما لا یخفی .

وأمّا الدعوی الثانیة: وهی الالتزام بالکشف الحکمی، فإنّ الشیخ قدس سره بعد أن اعترض فی «المکاسب» علی الوجهین اللّذین استدلّ بهما المحقّق الثانی والشهید الثانی لإثبات أنّ العقد هو السبب التامّ للنقل والإجازة وأنّه الرضا بمضمونه ولیس هو إلاّ النقل من حینه ، وذکر إشکالات ثلاثة علی الوجه الثانی ، قال :

إنّ هذا المعنی - أی حصول النقل من حین العقد بعد الإجازة المتأخّرة - علی حقیقته غیر معقول ؛ لأنّ العقد الموجود علی صفة عدم التأثیر، یستحیل لحوق صفة التأثیر له ؛ لاستحالة خروج الشیء عمّا وقع علیه ، فإذا دلَّ الدلیل الشرعی علی إمضاء الإجازة علی هذا الوجه الغیر المعقول، فلابدّ من صرفه بدلالة الاقتضاء إلی إرادة معاملة العقد بعد الإجازة، معاملة العقد الواقع مؤثّراً من حیث ترتیب آثاره الممکنة علیه،فإذا أجاز المالک،حَکَمنا بانفصال نماء المبیع بعد العقد إلی المشتری، وإن کان أصل الملک قبل الإجازة للمالک، ووقع النماء فی ملکه .

والحاصل : أنّه یعامل بعد الإجازة معاملة العقد الواقع مؤثّراً من حینه، بالنسبة إلی ما أمکن من الآثار ، وهذا نقلٌ حقیقی فی حکم الکشف من بعض الجهات .

إلی أن قال : وقد تبیّن من تضاعیف کلماتنا أنّ الأنسب بالقواعد والعمومات هو النقل، ثمّ بعده الکشف الحکمی ، وأمّا الکشف الحقیقی علی کون نفس الإجازة من الشروط، فإتمامه بالقواعد فی غایة الإشکال) . انتهی محلّ الحاجة من کلامه

ص:16

رفع مقامه(1) .

أقول: ولا یذهب علیک أنّه علی الکشف الحکمی، لا یکون حینئذٍ داخلاً فی مفروض مسألتنا ، بل هو عبارة عن الخروج عمّا هو المقصود فی المقام ؛ لأنّه بناءً علی الکشف الحکمی لا یکون ملکیّة الرقبة خارجة عن ملک مالکها، إلاّ بعد الإجازة ، فلا تکون الإجازة حینئذٍ شرطاً متأخّراً للوضع الذی کان هو مفروض الکلام .

وأمّا بالنسبة إلی ملکیّة المنافع: حیث کانت من حین العقد :

فإن قلنا: بالملازمة، وبلزوم تبعیّة ملکیّة المنافع لملکیّة العین ، فلازمه عدم إمکان الالتزام بما ذکره الشیخ من الکشف الحکمی ؛ لأنّه لا یمکن التفکیک بین الملکین من العین والمنفعة .

وإن قلنا: بجواز التفکیک، وقلنا بأنّ لاسبب التامّ لملکیّة المنافع، کان نفس العقد فی الفضولی سبباً - من دون دخالة للإجازة - بالنسبة إلی ملکیّة المنافع من حین العقد فی الفضولی علی استفادة ذلک من الأدلّة، کما استظهره الشیخ بمقتضی الجمع بین الأدلّة ، فیلزم خروج المسألة أیضاً عمّا نحن بصدده، لعدم کون الإجازة حینئذٍ دخیلاً فی ملکیّة المنافع، حتّی یُقال لها بالشرط المتأخّر کما هو المقصود فی طرح المسألة .

وإن قلنا: بدخالة الإجازة الواقعة فی ما بعد ذلک، فی تحقّق ملکیّة المنافع من حین العقد، فیرجع إشکال الموجود فی الشرط المتأخّر فیه ، فنقول حینئذٍ بأنّه لو کان ذلک ممکناً فی ملکیّة المنافع، فلِمَ لم یقل به فی أصل ملکیّة العین؟ وأیّ


1- المکاسب : ص133 .

ص:17

فرق بین الملکین فی هذا المحذور ، فتأمّل .

وبالجملة: فظهر ممّا ذکرنا بأنّ الالتزام بالکشف الحکمی، لا یوجب الفرار عن محذور الشرط المتأخّر، إلاّ بأن یخرج عن موضوعه، ویلتزم بما یرجع إلی أحد الشرطین من التقدّم والتقارن .

فعلیه لا نحتاج إلی هذه التکلّفات ، بل یمکن الأخذ بما ذکره صاحب «الفصول» من العنوان الاتّصافی بالمتعقّب بالإجازة ، أو بالوصف الزمانی من العقد المتّصف بالتقدّم، الذی لا یتحقّق إلاّ بإتیان الإجازة فی موطنها . وهذا هو المطلوب .

والنتیجة: استحالة الشرط المتأخّر فی التکلیف والوضع بمعناه الحقیقی، من دون تصرّف فیه بأحد من الوجوه المشیرة إلیها فی المباحث السابقة، کما صار إلیه المحقّق النائینی وبعض آخر من الاُصولیّین .

أقول: ولعلّه هذا هو المراد من کلامه بالاستحالة، لا حتّی مع التصرّفات التی ذکروه وقلناها، حیث کان حقیقة ذلک هو رفع الید عن الشرط المتأخّر بالمعنی الواقعی، بأن یکون المؤثّر ما هو المتأخّر وجوداً فی الخارج ، والحال أنّه قد عرفت عدم کونه حقیقة شرطاً فی التکلیف ؛ إذ وجوده العلمی هو الشرط الذی کان متقدّماً علی المشروط .

وهکذا فی الوضع أیضاً، یکون الشرط هو الوصف العنوانی ، أی العقد المتعقّب بالإجازة، أو وصف المتقدّم الذی کان مع العقد ذاتاً لا بالوصف الإضافی ؛ لأنّ الوصف إذا کان من مقولة الإضافة، لابدّ من وجود المتضائفین فی الوجود فعلاً وقوّةً ، مع أنّ وجود المتأخّر لم یتحقّق بعدُ - کما لا یخفی مع التأمّل - ووصف

ص:18

المتقدّم یکون ذاتیّاً فلا نعید .

هذا تمام الکلام فی الشرط المتأخّر فی الوضع ، وقد عرفت فرقه عن الشرط المتأخّر للتکلیف ، ولیس حکمه بحکم شرط المتأخّر فیه، وإن اتّحدا فی المآل والنتیجة من جهة الخروج من الشرط المتأخّر إلی الشرط المتقدّم أو المقارن .

***

ص:19

البحث عن الشرط المتأخّر من المأمور به

البحث عن الشرط المتأخّر من المأمور به

أقول: والظاهر أنّه لا خلاف ولا إشکال بین الاُصولیّین، من عدم استحالة کون شیء بوجودها الخارجی شرطاً هو واجبٌ ومأمورٌ به، وجعلوا ارتباط الواجب بالشرط کارتباطه بالأجزاء ، کما أنّ الأجزاء إذا تحقّق جزئه الأوّل یکون المتحقّق مرتبطاً مع أجزائه الآخر إلی آخره ، وکان المرکّب مترتّباً ومنطبقاً علی المجموع لا علی الجزء الأوّل فقط ، هکذا یکون فی الشرط أیضاً، لأنّ ذات القید لا یکون داخلاً تحت الأمر حتّی یُقال کیف یعقل مع کونه بحسب الوجود متأخّراً ، بل الداخل تحته عبارة عن نفس التقیید ، وهو کما یمکن دخوله بالمقارن، ویوجب ذلک تحقّق الحسن فی متعلّقه - باعتبار أنّ الحسن والقبیح متحقّق بالوجوه والاعتبارات والانتساب والإضافات - کذلک یمکن حصول ذلک بالمتقدّم والمتأخّر، من دون أن یستلزم المحاذیر التی قد ذکرت فی الأحکام التکلیفیّة والوضعیّة .

ومثّلوا لذلک بالأغسال اللیلیّة اللاّحقة، لصحّة الصیام فی الیوم السابق، حیث أنّ تقییده بها یوجب اتّصاف الصوم بالصحّة، فتکون هی شرطاً متأخّراً له، کما لا یخفی .

وحیث کانت المسألة واضحة، وکان وضوحها علی نحو قد أسقط بعض الاُصولیّین عن ذکرها، فالأولی حینئذٍ الانصراف عنها وعدم التعرّض لها .

فإذا عرفت أصل الإمکان بحسب ذاته، فنقول :

بأنّ الشرط فی المأمور به علی أقسامه الثلاثة: من المقارن، والمتقدّم،

ص:20

والمتأخّر، وجمیعها داخلة فی محلّ النزاع فی مقدّمة الواجب ؛ یعنی لو قلنا بوجود الملازمة بین المقدّمة وذیها، فیکون الشرط فیه دخیلاً فی تحقّق الوجوب ، فإذا وجب ذیها تجب مقدّمته أیضاً بأقسامها الثلاثة ، فلیتأمّل .

ثمّ لمّا بلغ الکلام إلی بیان الشرط والمشروط فی مقدّمة الواجب، فإنّ ذلک یستدعی سوق الکلام والبحث إلی الواجب المطلق والمشروط.

ص:21

***

فی الواجب المطلق والمشروط

البحث عن الواجب المطلق والمشروط

أقول: إنّ من أقسام الواجب، الواجب المطلق والمشروط وقد اختلفت تعاریف القوم فیها، وفی بیان النقض والإبرام فیها، وفی عدم جامعیّة التعریف ومانعیّته ، فلا بأس بالإشارة إلیها ولو بنحو الإجمال، لعدم خلوّ ذکرها عن الفائدة . وهناک تعاریف عدیدة لهما:

1 - الواجب المطلق: عن التفتازانی والمحقّق الشریف، وتبعهما المحقّق القمّی قدس سره - علی ما فی تقریرات شیخنا الأنصاری قدس سره - أنّ الواجب المطلق ما لا یتوقّف وجوبه علی ما یتوقّف علیه وجوده .

الواجب المشروط: وهو خلاف الواجب المطلق، أی ما یتوقّف وجوبه علی ما یتوقّف علیه وجوده، کالحجّ بالنظر إلی الاستطاعة .

أورد علیه: بعدم الجامعیّة لمثل الصلاة، مع کونها من الواجبات المطلقة ، مع أنّ وجوبها مشروط بدخول الوقت ، فما لم یتحقّق الزوال مثلاً لم یتحقّق وجوب صلاة الظهر والعصر ، فإذا ورد هذا الإشکال فی عدم جامعیّته، فیرد علی تعریف الواجب المشروط بأنّه لا یکون مانعاً لشموله لمثل الصلاة مع کونها من الواجبات المطلقة لا المشروطة کالحجّ .

2 - وتعریف آخر قد نسبه صاحب التقریرات إلی السیّد عمید الدِّین ، وتبعه صاحب «الفصول» وهو :

أنّ الواجب المطلق ما لا یتوقّف وجوبه بعد الشرائط العامّة الأربعة - من البلوغ والعقل والعلم والقدرة - علی شیء، والمشروط ما هو بخلافه .

ص:22

فأورد علیه أیضاً: بعدم شموله لمثل الصلاة، لتوقّف وجوبها بعد تلک الشرائط الأربعة علی الوقت أیضاً ، فحینئذٍ یکون واجباً مشروطاً مع کونها واجباً مطلقاً فالتعریف غیر جامع.

فإذا اختلّ التعریف من جهة الجامعیّة، فیرد علیه أیضاً من جهة المانعیّة أیضاً کما لا یخفی ، لأنّه مع کونها من الواجبات المطلقة تدخل تحت تعریف الوقت بالمشروط أیضاً .

3 - وتعریف ثالث: کما عن جماعة، ومالَ إلیه بل اختاره صاحب «التقریرات» وتبعه صاحب «الکفایة» والمحقّق الخمینی والخوئی کما هو الحقّ، وهو:

إنّ کلّ مقدّمة لا یتوقّف علیها وجوب الواجب ، فالواجب مطلقٌ بالنسبة إلیها، وکلّ مقدّمة یتوقّف علیه وجوب الواجب، فالواجب مشروط بالنسبة إلیها ، فالصلاة مثلاً مشروطة بالنسبة إلی الزوال، ومطلقة بالنسبة إلی الطهارة ، وهکذا فی سائر الموارد .

فعلی هذا یمکن أن یکون الواجب متّصفاً لکلّ من وصفی الإطلاق والتقیید بالنسبة إلی کلّ واحدة من المقدّمة، فتکون الصلاة مثلاً مطلقة بالنسبة إلی الطهارة، وذلک یجب تحصیلها عند فقدها ، ومشروطة بالنسبة إلی وقت الزوال ، وهکذا یکون فی مثل الحج، حیث أنّه واجب مطلق بالنسبة إلی بعض المقدّمات کالإحرام والختان للرجال، ومشروطاً بالنسبة إلی الاستطاعة ، فوصفی الإطلاق والتقیید وصفان إضافیّان لا حقیقیّان .

قال المحقّق الخراسانی: وأمّا کون التعریف لهما بما قد عرفت تعریفاً حقیقیّاً،

ص:23

کتعریف الشیء بالجنس والفصل، حیث یطلق علیه بالحدّ أو بالجنس والغرض، حیث یطلق علیه بالرسم الذی هو تعریفٌ بحقیقة الشیء وکنهه ، أو تعریفاً لفظیّاً وهو المسمّی بشرح الاسم ، کما إذا قیل فی جواب السُعدانة ما هی ؟ أنّها نبتٌ ، أو الرمد ما هو؟ إنّه داء .

ففیه کلام من جهة إمکان دعوی کونه تعریفاً حقیقیّاً بالنسبة إلی مثل هذه الاُمور ؛ لأنّ الجنس والفصل فی کلّ شیء یناسب مع ذلک الشیء ، فحقیقة الإطلاق لیس إلاّ بمعنی الإرسال، فهو صادق حقیقة للواجب بالنسبة إلی بعض المقدّمات دون بعض .

هذا، ومزید الکلام فیه موکول إلی محلّ آخر وهو بحث العام والخاص إن شاء اللّه تعالی .

***

ص:24

فی متعلّق الشرط الواجب المشروط

بحث فی متعلّق الشرط الواجب المشروط

أقول: یقع الکلام فی أنّ الشرط الواجب المشروط هل هو:

1 - راجع إلی الهیئة والطلب، حتّی یثمر بأن لا یکون الوجوب والطلب فعلیّاً قبل تحقّق الشرط ، وهذا هو الذی ذهب إلیه صاحب «الکفایة» وتبعه علیه عدّة من الاُصولیّین ، کما أنّه مقتضی القواعد العربیّة فی تعلیق الطب والجزاء علیه، کما اعترف بذلک بعض من خالف فی أصل المسألة .

2 - أو راجع إلی المادّة والموضوع لبّاً، وإن کان فی الظاهر متعلّقاً بالهیئة، حتّی یثمر بکون الطلب والبعث فی الواجبات المشروطة فعلیّاً وموجوداً قبل تحقّق الشرط ، برغم أنّ الواجب یبقی تعلیقیّاً ، وهذا هو الذی التزم به الشیخ الأنصاری کما فی تقریراته ، والظاهر تفرّده فیه إذ لم یشاهد من المتأخّرین من یوافقه .

3 - أو یکون کلّ واحد منهما صحیحاً وواقعاً ، فتارةً یکون کالأوّل ، واُخری کالثانی ، وهذا هو الذی ذهب إلیه المحقّق العراقی قدس سره والخمینی والبروجردی ، وهو الحقّ عندنا .

أقول: فلا بأس أوّلاً بالإشارة إلی ما هو المحذور فی إرجاع القیود إلی الهیئة فی مقام الثبوت ، فإذا دفعنا الامتناع عقلاً وبحسب العرف، فنرجع إلی ما هو فی مقام الإثبات .

فنقول : بأنّ المستفاد من کلام الشیخ - حسب ما حُکی عنه، أو یمکن أن یستدلّ به للامتناع ولو لم یقل به الشیخ قدس سره - هو اُمور :

ص:25

الأمر الأوّل : إنّ مفاد الهیئة وهو الطلب معدود من المعانی الحرفیّة غیر ملحوظ استقلالاً ؛ لأنّه اندکاکی فیکون جزئیّاً، فما لم یکن الشیء موسّعاً کیف یمکن تضییقه وتقییده ، فإنّ هیئة الأمر والنهی موضوعان بالوضع العام والموضوع له الخاصّ، لأنّه یکون لخصوصیّات الطلب وجزئیّاته لا لمفهوم الطلب ، وإذا کان الموضوع له للهیئة جزئیّاً، فکیف یتصوّر تقییدها، إذ الإطلاق والتقیید إنّما یجریان فی المفاهیم الکلّیة .

الأمر الثانی : إنّ تقیید شیء لابدّ أن یکون مع اللحاظ الاستقلالی، وهو من المعانی الاسمیّة ، والحال أنّ الهیئة تعدّ من المعانی الحرفیّة، ولأنّها کانت من اللّحاظ الآلی الاندکاکی لا الاستقلالی ، فالتقیّد موجب لخروجها عن معنی الحرفی ، وهو خلف .

الأمر الثالث : وهو العمدة کما عن «المحاضرات»، وهو أنّ رجوع القید إلی الهیئة یستلزم تفکیک الإنشاء عن المنشأ، والإیجاب عن الوجوب الذی هو مساوق لتفکیک الإیجاد عن الوجود، وهو غیر معقول .

والعلّة فیه: أنّه لا ریب فی استحالة التفکیک بین الإیجاد والوجود فی التکوینیّات، حیث أنّهما متّحدان ذاتاً وحقیقةً ، والاختلاف الموجود بینهما اعتباری ، وکذا الحال فی الإیجاب والوجوب فی التشریعیّات ، فعلیه لابدّ أن یکون رجوع القید إلی المادّة لبّاً وإن کان راجعاً بحسب الظاهر إلی الهیئة، لئلاّ یستلزم المحال المذکور .

الأمر الرابع : هو الذی استدلّ به الشیخ بما خلاصته:

إنّ الإنسان إذا توجّه إلی شیء والتفت إلیه، فلا یخلو: إمّا أن یطلبه أو لا

ص:26

یطلبه ، ولا ثالث لهما . ولا کلام فی الثانی منهما .

وعلی الأوّل: لا یخلو بأن تکون الفائدة:

تارةً: مترتّبة علی طبیعی ذلک الشیء، من دون دخالة خصوصیّة فیه من الخصوصیّات .

واُخری: ماتکون الفائدة علی صورة وجود خصوصیّة وفی حصّة خاصّة منه.

ثمّ قد یکون ذلک القید الدخیل فی حصول الفائدة :

تارة: من الاُمور الاختیاریّة للمکلّف .

واُخری: غیر اختیاریّة .

وعلی الأوّل: قد یکون القید بنفسه مورداً للطلب والبعث، وذلک کالطهارة للصلاة .

واُخری: ما لا یکون کذلک ، بل أُخذ مفروض الوجود، وذلک کالاستطاعة بالإضافة إلی الحجّ .

فعلی هذا یکون الثانی لا محالة مأخوذاً مفروض الوجود فی مقام الطلب والبعث، لعدم صحّة تعلّق التکلیف به ، بلا فرق فی ذلک بین کون القید اختیاریّاً للمکلّف أو غیر اختیاری، کالزوال للصلاة والاستطاعة للحجّ ، والأوّل للثانی والثانی للأوّل .

فعلی جمیع المقادیر، یکون قد تعلّق الطلب المطلق الفعلی بالمطلوب المقیّد المعلّق الاستقبالی، وهذا هو معنی کون رجوع التقیید إلی المادّة لبّاً .

ولا فرق فیما ذکرنا:

بین الالتزام بمذهب الأشاعرة القائلین بأنّ الأحکام تابعة للمصالح

ص:27

والمفاسد الموجودة فی نفس الأحکام، حیث أنّ الأمر أوضح، لما قد عرفت من أنّ المصلحة کامنة فی الحکم المطلق المتعلّق علی المطلوب المقیّد کما علمت ممّا قلناه .

أو کانت الأوامر والنواهی والأحکام تابعة للمصالح والمفاسد الموجودة فی المتعلّق بین المأمور به والمنهی عنه ؛ لأنّ الطلب المنقدح فی نفس الآمر والطالب فی کلّ منهما شیءٌ واحد، لا اختلاف فیه، وإنّما الاختلاف راجع إلی التعبیر، وهو راجع إلی الفعل لبّاً، إذ الفعل هو الذی یختلف مصالحه ومفاسده باعتبار القیود الطارئة علیه لا الطلب والبعث، کما لایخفی. انتهی کلامه بتوضیح منّا(1).

وأمّا الجواب عن الدلیل الأوّل، فنقول : بأنّا وإن التزمنا فی المعنی الحرفی کون الوضع فیه عامّاً والموضوع له خاصّاً ، لأنّ له وجود اندکاکی فی الطرفین أو فی طرف واحد ، إلاّ أنّ الکلّیة والجزئیّة لا تلاحظان فی المعنی الحرفی بنفسیهما ، بل الحالتان تلاحظان فی متعلّقهما ، فإن کان المتعلّق أمراً جزئیّاً، کان معنی الحرفی فیه کذلک ، وإن کان کلیّاً فهو أیضاً کذلک ، فعلی هذا التقدیر مجرّد کون الموضوع له فیه خاصّاً، لا یمنع عن التقیید، مع أنّ التقیید والإطلاق کانا فی الأطوار والحالات فی الجزئی الحقیقی لا فی ذاته، حتّی یُقال إنّه کیف یمکن فرض سعته، حیث لا یناسب مع جزئیّة الحقیقی .

فعلیه یمکن أن یُقال : بأنّ الطلب علی قسمین :

تارةً : یتحقّق من دون اختصاصه بحال دون حال،فیطلق علیه أنّه طلب مطلق.


1- مطارح الأنظار: ص53 .

ص:28

واُخری: یتحقّق مع وجود حال أو خصوصیّة دون اُخری، فیُطلق علیه أنّه طلب مقیّد، ولا محذور فیه .

کما أنّ هذین العنوانین موجودان فی نفس الأمر، من إرادته النفسانیّة التی کان الطلب حاکیاً عنها ، فحیث کان المحکی عنه له حالتان، کذلک الحال فی ما یحکی عنه، فإرجاع التقیید إلی الطلب والوجوب المنتزع عنه، ممّا لا مانع فیه من تلک الجهة .

وأمّا عن الثانی: وهو أنّه کیف یمکن تقیید الهیئة مع أنّه مساوق مع لحاظ الطلب استقلالاً، وهو لا یساعد مع کونه معنی حرفیّاً الذی کان لحاظه آلیّاً .

فیمکن الجواب عنه أوّلاً : بما قد عرفت بأنّ التقیید فی الجزئی الحقیقی یکون فی حالاته لا فی ذاته ، واللّحاظ الآلی الذی کان فی الهیئة، کان فی ذاتها التی کانت معنی حرفیّاً لا فی ملاحظتها بلحاظ حال التقیید، الذی یرد علی أحواله، فیجوز أن یکون اللّحاظ فیه استقلالیّاً، ولا ینافی معنی جزئیّته بحسب ذاته .

وثانیاً : قد ذکرنا فی بحث المعانی الحرفیّة والإخبار والإنشاء، بأنّ التقیّد فی کلّ شیء یکون لحاظه بعد الفراغ عن لحاظ الشیء أوّلاً، سواءً کان الملحوظ الأوّلی من المعانی الاسمیّة أو الحرفیّة ، فعلی هذا فلابدّ فی حال التقیید ملاحظته استقلالاً، من دون منافاة مع أصل اللّحاظ الآلی الذی کان فیه .

وقد اُجیب عنه ثالثاً: کما عن صاحب «الکفایة» و «عنایة الاُصول» بأنّ التقیید الذی یحتاج إلی اللّحاظ الاستقلالی، المنافی مع اللحاظ الآلی، إنّما هو التقیید بعد الفراغ عن إطلاق الشیء أوّلاً، ثمّ إیراد التقیید علیه ، وأمّا لو فرض کون الشیء من أوّل إیجاده قد تحقّق متقیّداً ، فحینئذٍ لا یحتاج مثل هذا التقیید إلی

ص:29

اللحاظ الاستقلالی، حتّی ینافی مع اللّحاظ الآلی الذی قد فرض فی متعلّقه ، وما نحن فیه من قبیل الثانی دون الأوّل .

أقول: ولکن الإنصاف عدم تمامیّة ذلک ؛ لأنّ وصفی الإطلاق والتقیید معدودان من الأوصاف الإضافیّة ، فالشیء ما دام لم یمکن ورود الإطلاق علیه أوّلاً، لا یمکن ورود التقیید علیه ثانیاً ، فلابدّ فی إمکان وقوع التقیید فیه من إمکان وقوع الإطلاق فیه أوّلاً ، فملاحظة کون هذا الشیء مثلاً متقیّداً، لا یکون إلاّ أن یلاحظه أوّلاً بصورة الإطلاق فی الذهن، ولو من حیث الأحوال لو کان جزئیّاً حقیقیّاً ، أو من حیث الأجزاء لو کان الشیء کلّیّاً ، فبعد ملاحظته کذلک یلاحظه مع وجود خصوصیّة معه فیصبح متقیّداً ، وهذا هو معنی لحاظه استقلالاً فی حال التقیید ، فهذا الجواب ممنوع.

أمّا قول المحقّق الخمینی: فقد ظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیّة ما ذکره حفظه اللّه فی المقام بقوله:

(وثانیاً : أنّه یمکن أن یُقال إنّ التقیید لا یحتاج إلی اللّحاظ الاستقلالی، وإن کان لا یضرّ لحاظه ثانیاً أیضاً ، بل یکفی فیه ما هو حاصل فی ضمن الکلام الذی یحکی عن الواقع إذا کان حکائیّاً، أو یوجد معناه بنفس الاستعمال إذا کان إیجادیّاً، لما عرفت من أنّ الهدف الأعلی لأهل المحاورة، إنّما هو النسب والإضافات)(1) ، انتهی محلّ الحاجة .

لما قد عرفت منّا بأنّ لحاظ التقیید لا یمکن إیجاده وتحقیقه، إلاّ بعد ملاحظة الإطلاق فی الشیء قبله ، فعلی هذا یکون مقتضی هذه التعبّدیّة، لزوم


1- تهذیب الاُصول: 1 / 175.

ص:30

لحاظه استقلالاً غیر ما هو الملحوظ به أوّلاً ، ولعلّه لما قلنا قد تذکّر نفسه الشریف بالتأمّل فیه فی الإیجادیّات ، مع أنّا نقول لا فرق فیما ذکرنا بین الحکائیّات والإیجادیّات ، وتحقیق الکلام موکولٌ إلی محلّه .

وأمّا الجواب عن الدلیل الثالث: وهو استحالة ما یلزم منه التفکیک بین الإیجاب والوجوب ، فقد أجاب صاحب «الکفایة» عنه بعد بیان الإشکال بقوله :

(فإن قلت: علی ذلک یلزم تفکیک الإنشاء عن المُنشأ، حیث لا طلب قبل حصول الشرط .

قلت : المُنشأ إذا کان هو الطلب مع تقدیر حصوله، فلابدّ أن لا یکون قبل حصوله طلب وبعث، وإلاّ لتخلّف عن إنشائه، وإنشاء أمر علی تقدیر کالإخبار به بمکان من الإمکان، کما یشهد به الوجدان ، فتأمّل جیّداً) . انتهی کلامه .

أقول: ولا یخفی أنّ کلامه وجوابه مصادرة ظاهرة ؛ لأنّه لم یجب عن الإشکال الوارد بأنّه إذا کان الطلب موجوداً علی فرض حصول الشرط، مع کون الإنشاء والإیجاب فعلیّاً، یلزم مع کون الوجوب بعد حصول الشرط تفکیک الإیجاب عن الوجوب ، حیث یعود المحذور فی التشریعیّات، کما یستحیل التفکیک بین الإیجاد والوجود فی التکوینیّات .

قال المحقّق الخمینی: فی معرض جوابه عن الإشکال:

(وفیه: أنّ الخلط نشأ من إسراء حکم الحقائق إلی الاعتباریّات التی لم تُشمّ ولن تشمّ رائحة الوجود حتّی یجری علیه أحکام الوجود .

ولعمری! أنّ ذلک هو المنشأ الوحید فی الاشتباهات الواقعة فی العلوم الاعتباریّة، إذ الإیجاد الاعتباری لا مانع من تعلیقه ، ومعنی تعلیقه أنّ المولی بعث

ص:31

عبده علی تقدیرٍ وألزم وحتّم شیئاً علیه لو تحقّق شرطه، ویقابله العدم المطلق ؛ أی إذا لم ینشأ ذلک علی هذا النحو) ، انتهی کلامه(1) .

أقول: ولکنّ الإنصاف عدم تمامیّة ما ذکره حفظه اللّه ؛ لأنّ کون الاُمور الاعتباریّة أهون وأیسر من الأعیان والاُمور الحقیقیّة ، أمرٌ مسلّم غیر قابل للإنکار ، إلاّ أنّه لا یوجب أن یکون فی مقام الموارد قابلاً للافتراق بینهما ، وممّا لا یقبل هذا المعنی یکون هو هذا المورد ، إذ لا یخفی کما لا یمکن فرض التفکیک بین الإیجاد والوجود فی التکوین ، کذلک لا یمکن تحقّقه بین الإیجاب والوجوب فی التشریع.

وبالجملة: إنّ الهویّة الواحدة لها نسبتان : نسبتها إلی فاعلها ، ونسبتها إلی قابلها .

فباعتبار الاُولی یسمّی بالإیجاد فی التکوین والإیجاب فی التشریع ، وباعتبار الثانیة وجود فی الأوّل ووجوب فی الثانی ، ولا یعقل تحقّق إحدی النسبتین من دون تحقّق الهویّة المزبورة ، وتلک الهویّة سواء کانت حقیقیّة أو اعتباریّة إمّا متحقّقة فالنسبتان کذلک ، وإمّا غیر متحقّقة فکذلک النسبتان ، فعلی هذا لا یمکن تحقّق نسبة الفاعل بالإیجاد أو الإیجاب، من دون تحقّق نسبة القابل وهو الوجود أو الوجوب .

وبعبارة اُخری : یستحیل الإیجاد الإنشائی من دون وجود المعنی الإنشائی لأنّهما إضافیّان ، فبناءً علی ذلک فادّعائه من إمکان التفکیک فی الاعتباریّات دون الحقائق والأعیان، تکون دعوی بلا برهان ، بل علیه البرهان کما عرفت ، هذا .


1- تهذیب الاُصول : ج1 / 175 .

ص:32

فالتحقیق الحقیق للتصدیق أن یُقال: بأنّ الطلب سواءً کان صدوره بالإطلاق أو بالتقیید علی تقدیرٍ، لا یلزم التفکیک بین الإیجاب والوجوب حتّی یستلزم المحال .

وجه ذلک: أنّ اتّصاف کلّ من الإیجاب والوجوب بوصفٍ یعدّ تابعاً لما هو منشأ هذا الوصف :

فإن کان منشأه الإنشاء المطلق والطلب المطلق ، لزم أن یکون کلّ من الإیجاب والوجوب متّصفاً بالإطلاق؛ أی الإیجاب الإطلاقی والوجوب الإطلاقی.

وإن کان منشأه الإنشاء علی تقدیر والطلب التقدیری، یلزم أن یکون الإیجاب التقدیری والوجوب کذلک، أی کان إیجابه تقدیریّاً ، فوجوبه کان کذلک .

فبعد إنشاء وجوب الإکرام عند مجیئ زید بقوله : (إن جاءک زید فاکرمه) ، فکما أنّ الإنشاء التقدیری فی الحال موجود، کذلک یکون الطلب التقدیری أیضاً موجوداً .

نعم ، یصبح ذلک الطلب بعد حصول الشرط طلباً فعلیّاً ، کما هو الحال فی الوجوب فی ذلک الوقت والإیجاب حیث أنّ کلیهما فعلیّاً ، فعلیه لا یستلزم التعلیق فی الهیئة والطلب تفکیکاً بین الإیجاب والوجوب کما عرفت .

وأمّا الجواب عن الدلیل الرابع:

أوّلاً : إنّ رجوع القیود فی تمام الموارد لبّاً إلی المادّة غیر صحیح، لأنّه یستلزم فی بعض الموارد بما هو أمرٌ محال ، وهو فیما إذا کان الشیء المطلوب بإطلاقه دخیلاً فی رفع المفسدة المتوجّهة إلیه لا الشیء المقیّد؛ لأنّ تقییده موجبٌ

ص:33

لجلب المفسدة ، وهذا کما یشاهد فی مثل الکفّارات أو أوامر الأطبّاء لشرب الدواء لإزالة المرض، فإنّ القیود فی هذه الموارد لو رجعت إلی المادّة، لزم أن یُقال فی مثل : (إن ظاهرت اعتق رقبة) ، أنّ العتق بإطلاقه لا یکون دافعاً للمفسدة المتوجّهة إلی المکلّف بالظهار ، بل العتق المقیّد بوجود الظهار یکون دافعاً ، مع أنّ القید بنفسه یکون حاکیاً للمفسدة ، فکیف یکون دافعاً ورافعاً؟، وهکذا فی مثل قول الطبیب : (إن مرضت وشدّد علیک الصفراء فاشرب السقمونیا) فإنّ شربه المطلق رافعٌ للمرض لا الشرب المقیّد بازدیاد الصفراء، إذ هو جالب للمرض لا رافع له ، فلا محیص فی أمثال هذه الموارد التی هی کثیرة فی الشرعیّات، من رجوع القید إلی الهیئة لا المادّة کما لا یخفی .

ومن هذا القبیل أیضاً من الاشکال: ما لو کان رجوع القید إلی المادّة مستلزماً لما هو غیر ممکن عقلاً، وهو کما لو کان القید من الشرائط العامّة، وکان المتعلّق ذا مصلحة مطلقاً من دون قید ، ولکن المانع أوجب رجوع القید إلی الهیئة للمنع عقلاً من البعث المطلق علیه، وإن کان المطلوب واقعاً مطلقاً ، کما لو غرق ابن المولی فی الماء ، ولکن العبد عاجز عن إنقاذه، فیقول المولی إن قدرت فانقذه ، فلا إشکال حینئذٍ من رجوع القید إلی الهیئة ؛ أی عند عدم القدرة لا یکون الطلب الحالی موجوداً، لاستلزامه أمراً محالاً ، مع أنّ المادّة - وهو إنقاذ الابن - مطلوب واقعاً مطلقاً، سواء کان قادراً أو عاجزاً أم لا .

وثانیاً : أنّ رجوع القیود إلی المادّة فی جمیع الموارد، یستلزم ما لا یمکن الالتزام به، حتّی عن مثل الشیخ الأعظم رحمه الله .

توضیح ذلک منوط علی بیان مقدّمة، وهی :

إنّ الفرق بین رجوع القید إلی الهیئة أو المادّة، یکون فی تعلّق التکلیف إلی

ص:34

تحصیل القید فی الأوّل، وتعلّقه بوجوب تحصیله فی الثانی ، والعلّة فی ذلک أنّه إذا کان الطلب مطلقاً من غیر تقیید ذلک القید المفروض، فیجب علی المکلّف تحصیله ، ولعلّه من هذا القبیل الطواف حول البیت ورمی الجمرات، وأمثال ذلک ، حیث أنّه یستفاد من نفس هذا الدلیل وجوب احداث البیت وتعمیره، لتحصیل الطواف الواجب المطلوب مطلقاً ، هذا بخلاف ما لو کان القید راجعاً إلی الهیئة، فحینئذٍ لا یکون الطلب موجوداً إلاّ مع حصول القید بنفسه ، وهو کما فی الاستطاعة فی الحجّ، فإنّه مع عدم الاستطاعة لا یجب تحصیلها، لعدم وجود طلب حینئذٍ حتّی یجب تحصیلها ، بل الطلب یوجد مع وجود الاستطاعة .

والنتیجة المستفادة من هذه المقدّمة: فی المقام أنّه لو سلّمنا کلام الشیخ من رجوع القید لبّاً فی جمیع الموارد إلی المادّة، وکانت الهیئة مطلقة، فیلزم القول بوجوب تحصیل الاستطاعة فی الحجّ والنصاب فی الزکاة، لإطلاق الطلب والهیئة ، مع أنّه باطل قطعاً حتّی عنده رحمه الله ، حیث تفطّن إلی هذا الإشکال فتصدّی لدفعه ، ولا بأس بذکره والنظر فیه :

فقال ما خلاصته : إنّ الغرض علی قسمین:

تارةً: قد یکون مترتّباً علی شیء علی الإطلاق، لأنّ المصلحة الموجودة فیه کانت کذلک، وهو کالصلاه بالنسبة إلی الطهارة، حیث أنّه لا تکون مصلحة الصلاة متقیّدة بوجود الطهارة ، بل المصلحة کانت فیها ویجب تحصیلها ولو بتحصیل الطهارة خارجاً .

واُخری: تکون المصلحة مترتّبة بشرط أن لا یشمل التکلیف للقید، وإلاّ لو شمله التکلیف لخرج عن المصلحة .

ص:35

وبالجملة : ترک شمول التکلیف لذلک القید، موجبٌ لوجود مصلحة فی الشیء وإلاّ لخرج عنها ، ومن هذا القبیل الاستطاعة للحجّ، فإنّ الطلب وإن کان مطلقاً إلاّ أنّه یشمل الحجّ مع وجود الاستطاعة، لو لم تکن الاستطاعة داخلة تحت التکلیف فی تحصیلها، وإلاّ لخرج الحجّ عن المصلحة کما یخرج القید عن المصلحة أیضاً ، فعلی هذا لا یوجب رجوع القید إلی المادّة وإطلاق الهیئة، وجوب تحصیل القید فی جمیع الموارد، وهو المطلوب ، انتهی محصّل کلامه(1) .

ولکنّه مخدوش أوّلاً : بأنّه إذا فرض کون المصلحة الموجودة فی الشیء منوطاً علی وجود القید من دون تعلّق التکلیف به ، فهو بنفسه یوجب تعلّق القید بالطلب ؛ لأنّ معنی ذلک - خصوصاً علی مسلک العدلیّة، من تبعیّة الأحکام للمصالح والمفاسد الموجودة فی المأمور به والمنهی عنها - أنّ الفعل الذی یکون مرکزاً للطلب، إنّما یکون صورة وجود هذا القید، فله حینئذٍ مصلحة ویوجب تحقّق الطلب فیه، وإلاّ لا مصلحة فیه، کما لا طلب له، فلیس هذا إلاّ معنی التقیید فی الهیئة .

فدعوی إطلاق الطلب والهیئة، مع کونه مقیّداً بحصول القید بنفسه لا مع التکلیف، لا یخلو عن تهافت .

وثانیاً : أنّ فرض کون المصلحة منوطة بعدم تعلّق التکلیف للقید، یوجب إشکالین:

الإشکال الأوّل: هل المقصود من تلک المصلحة المتوقّفة علی ترک الطلب، هی المصلحة المربوطة بنفس المأمور به کالحجّ .


1- مطارح الأنظار : ص 4 و 53 .

ص:36

الإشکال الثانی: أنّ المصلحة المتوقّفة علی ترک المطلوب هی إمّا المصلحة الموجودة فی القید أو کلاهما .

والذی یظهر من صدر کلامه إلی ذیله هو الأخیر ، مع أنّه من الواضح أنّ المصلحة کامنة فی المأمور به فقط لا فی القیود ، فهی دخیلة فی تحقّق المصلحة الموجودة فی المأمور به ، إلاّ أن یکون القید بنفسه واجباً مستقلاًّ اُخذ شرطاً فی واجب آخر ، فلا یبعد أن تکون الطهارة هکذا . وأمّا مثل الاستطاعة التی کانت مورداً للبحث فلا .

أقول: یبقی الکلام فی خصوص مصلحة المقیّد حیث نقول :

کیف یمکن أن تکون المصلحة منوطة بعدم التکلیف الذی هو أمرٌ عدمیّ، إذ الأمر العدمی لا یمکن أن یؤثّر ویقتضی المصلحة .

نعم ، یمکن أن یکون عدم شیء موجباً لتأثیر المقتضی فی اقتضائه، المسمّی حینئذٍ بعدم المانع .

وبعبارة اُخری: یمکن أن یقرّر کلامه کذلک، بأنّ وجود المصلحة فی الحجّ کان متوقّفاً علی حصول الاستطاعة بنفسها لا بتحصیلها ، فهو أمرٌ وجودیّ لا عدمیّ .

ولکن یعود المحذور حینئذٍ ؛ لأنّ الطلب إذا کان مطلقاً، الکاشف عن إطلاق المصلحة، فیوجب إیجاب القید لا حصوله بنفسه ، کما هو الفارق بین الواجب المطلق والواجب المشروط .

وإن لم یکن مطلقاً، فیکشف عن عدم إطلاق المصلحة ، فلا یجب حینئذٍ تحصیل القید، لعدم وجوب الواجب قبله ، فیلزم حینئذٍ رجوع القید إلی الهیئة لا

ص:37

إلی المادّة، کما قاله الشیخ قدس سره .

وبالجملة: فإذا عرفت رفع جمیع الإشکالات المتوهّمة، فی رجوع القید إلی الهیئة،وعلمت بأنّه لا یستلزم أمراً محالاً فیمقام الثبوت ونفس الأمر،وکان بحسب الواقع کلاهما ممکناً، تصل النوبة إلی البحث فی مقام الإثبات والوقوع الخارجی.

البحث فی مقام الإثبات:

نقول : لا إشکال بأنّ الواقع فی الخارج لیس إلاّ رجوع القید إلی الهیئة، لأنّه مقتضی ظاهر القضیّة الشرطیّة، من ترتّب الجزاء - سواءً کان إخباراً أو إنشاءً - علی مفاد الشرط، مثل قوله: (إذا کانت الشمس طالعة فالنهار موجود) فی الاخبار ، وقوله: (إن جاءک زید فاکرمه) فی الإنشاء ، حیث أنّ الظاهر منها أنّ وجود النهار ووجوب الإکرام مشروط بطلوع الشمس ومجیی ء زید، کما علیه أهل المحاورة .

بل قد یمکن أن یدّعی أنّ رجوع القید إلی الهیئة یکون أصلاً ومقدّماً فی جمیع الموارد، فیحمل علیه فی جمیع موارد الشروط ، إلاّ أن تکون القرینة دالّةً علی رجوعه إلی المادّة، أو کان مورداً لم یمکن الرجوع إلی الهیئة ، إمّا من جهة وجود مانع ، أو لفقدان المقتضی .

کما أنّه یجب فی بعض الموارد رجوع القید إلی الهیئة، ولا یمکن أخذ الإطلاق فی الوجوب بواسطة إطلاق الهیئة :

1 - إمّا من جهة فقدان المقتضی لأخذ الوجوب مطلقاً، کما فی وجوب الصلاة بعد الوقت، حیث لا اقتضاء فی الصلاة قبل دخول الوقت .

2 - أو کان لوجود مانع فی فعلیّة الحکم والتکلیف ، وإن کان الاقتضاء فیه موجوداً قطعاً .

ص:38

ولا یبعد أن تکون الأحکام الواقعیّة بالنسبة إلی الأحکام الظاهریّة الثابتة بالاُصول من هذا القبیل ؛ أی جُعل الأحکام الظاهریّة فی ظرف الشکّ فی الواقع فعلیّاً، ولم یحکم بفعلیّة الأحکام الواقعیّة ما لم ینکشف الخلاف، وکان ذلک لوجود المانع فی الحکم بفعلیّة الأحکام الواقعیّة، من لزوم العسر والحرج والمشقّة الشدیدة، أو اختلال النظام أو المعاش فی بعض الموارد، أو غیرها ممّا لا یجوّزه العقل والعقلاء، ولا یرضاه الشارع ، وإلاّ فإنّ أصل الاقتضاء فی تلک الأحکام الواقعیّة موجودةً قطعاً .

أقول: ولعلّه من هذا القبیل فعلیّة بعض الأحکام فی عصر حضور المهدی علیه السلام ، حیث أنّ أصل وجود المقتضی فیها محرز قطعاً ، إلاّ أنّ المانع - وهو عدم تحقّق ما هو المستعدّ لإجراء تلک الأحکام فی الناس - موجودٌ فیمنع عن فعلیّته ، کما هو الأمر کذلک فی فعلیّة بعض الأحکام فی صدر الإسلام، حیث کان فعلیّتها مندرجةً بتدرّج قوّة استعداد الناس لتحمّلها وأمثال ذلک ، فخطابات هذه الأحکام لا تکون فعلیّة إلاّ بعد تحقّق شرطها ، فکلّ حکم یثبت قیده وشرطه یصبح فعلیّاً ، والوجوب فیه حالیّاً ، وکلّ ما لا یکون کذلک فالحکم فیه أیضاً یکون تقدیریّاً .

وخلاصة الکلام: فثبت من جمیع ما قلناه، إنّ الحقّ فی المسألة هو القول بالتفصیل:

من أنّه قد یرجع القید إلی المادّة،فلازمه إطلاق الوجوب ولزوم تحصیل القید.

وقد یرجع إلی الهیئة، فلازمه تقیید الوجوب وعدم وجوب تحصیل القید ، فلیتأمّل .

***

ص:39

فی موانع رجوع القید إلی الهیئة

البحث عن موانع رجوع القید إلی الهیئة

أقول: ثبت ممّا ذکرناه أنّ المشهور علی أنّ الواجب المشروط، لا یمکن أن یکون الوجوب فیه قبل تحقّق الشرط فعلیّاً ، بل یکون تقدیریّاً کما حقّقناه سابقاً بالتفصیل فلا نعیده، لکن هناک إشکالات لبعض الأعلام یقتضی المقام التعرّض لها لما فیها من الفائدة، فنقول ومن اللّه الاستعانة:

الإشکال الأوّل: أنّه لا یمکن الذهاب إلی رجوع القید إلی الهیئة والطلب، لاستلزامه الاستحالة، لوضوح أنّ الطلب والحکم لیس إلاّ الإرادة التشریعیّة ، فکما أنّ الإرادة إذا تحقّقت لا یمکن أن تکون معلّقة علی تقدیر، لأنّها من الاُمور التکوینیّة النفسانیّة وأمرها دائرٌ بین الوجود والعدم ، فإذا تحقّقت تکون فعلیّة، وإلاّ فلا وجود لها، لا ما کانت موجودة معلّقة علی شرط وقید ، فهکذا الأمر فی الطلب والحکم الذی هو عبارة عن الإرادة التشریعیّة ، هذا .

ولکنّه مندفع: بأنّ هناک اختلاف بین الأعلام فی کون الحکم والطلب هل هما عبارة عن نفس الإرادة أو عن الإرادة المظهرة، أو لم یکن شیئاً منهما ، بل الحکم والطلب عبارة عن البعث والتحریک نحو المطلوب، الناشئ عن الإرادة بحیث تعدّ الإرادة من مبادیها کسائر مقدّماته ؟

وقد قدّمنا ذلک فی المباحث السابقة من أنّ الأقوی عندنا - کما علیه بعض الفحول - هو الأخیر بشهادة العرف والعقلاء، بأنّ الإرادة تکون من مبادیه، لأنّه من الواضح أنّ الأمر إذا تحقّق یوجب انتقال العبد إلی الوجوب، من دون التفات وتوجّه بأنّ الأمر هل صدرَ عن إرادة أو لا ، ولذلک تری أنّ البعث والطلب بأیّ آلة

ص:40

تحقّقت، یوجب تحقّق الوجوب ، بلا فرق فی ذلک بین کونه باللّفظ الکاشف عن الإرادة، أو بالإشارة أو غیرها ؛ لأنّ ما هو الملاک فی الحکم وهو البعث قد تحقّق، وهو یکفی فیه .

فعلی هذا التقدیر، لیس الحکم والطلب نفس الإرادة حتّی یرد ما قیل فیه من أنّ الإرادة سببٌ لانتزاع الوجوب لا أنّها نفسه ، وقد عرفت فیما سبق أنّ الوجوب یمکن جعله علی تقدیرٍ ، کما أنّ الإیجاب أیضاً یکون کذلک .

وبالتالی فما ذهب إلیه بعض الأعلام من أنّ الحکم عبارة عن الإرادة التشریعیّة ممنوع جملةً وتفصیلاً.

الإشکال الثانی: أنّ وجوب المقدّمة قبل وجوب ذیها ممتنع، لأنّه ناشئمنه ، فإذا کان بین الوجوبین ملازمة، کان ذلک لوجود الملازمة بین الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة، وبین الإرادة المتعلّقة بذیها ، فتکون الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة ناشئة عن إرادة ذیها ، فلابدّ أن یکون وجوبها بعد وجوبه ، فلو تقدّم وکانت المقدّمة واجبة قبل وجوب ذیها، لزم وجود المعلول قبل وجود علّته، أو وجود أحد المتلازمین دون الآخر، وکلاهما محال .

أقول: وهذا الإشکال یتوجّه علی مسلک المشهور، من قولهم بعدم وجوب فعلی لذی المقدّمة، لعدم تحقّق شرطه، مع أنّ مقدّماته یجب تحصیلها قبل الشرط ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بفعلیّة وجوب ذی المقدّمة قبل الشرط، واعتبرنا القید مربوطاً بالواجب ، فحینئذٍ لا یستلزم التفکیک بین وجوب ذی المقدّمة مع وجوب المقدّمة ولا تقدّمه علیه .

أجاب عنه المحقّق الخمینی بما حاصله : أنّ هذا الإشکال وارد لو قلنا بکون

ص:41

الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة ناشئة عن الإرادة لذیها ، ولکنّه لیس بحقّ إذ الإرادة المرتبطة بالمقدّمة تکون بعضها مستقلّة من دون أن تنشأ من الإرادة الأخیرة ، فیمکن أن تتحقّق الإرادة للمقدّمة، ویصیر الوجوب فیها غیریّة، من دون أن تکون الإرادة لذیها موجودة أصلاً، لعدم کون هذه متولّدة عنها، ولا متلازمة معها ، بل ربما لا یکون للمولی بعث إلی المقدّمات ، فالإرادة المرتبطة بالمقدّمات تکون مطلقة تحصل من مبادیها ، فلا منافاة بین القول بأنّ الإرادة لذیها غیر فعلیّة وبین ما تقدّم من کون الإرادة التشریعیّة فی الواجب المشروط فعلیّة .

والسرّ فی ذلک: أنّ الملاک فی إرادة المقدّمة، هو علمه بتوقّف التوصّل إلی الواجب علیها ، فحینئذٍ :

إن کان ذو المقدّمة مراداً فعلیّاً، ومبعوثاً إلیه مطلقاً، فلا محالة تتعلّق الإرادة الفعلیّة بما یراه مقدّمةً بناءاً علی الملازمة .

وأمّا إذا کان ذو المقدّمة غیر مبعوث إلیه، فعلاً ولکن المولی وقف علی أنّ له مقدّمات، لابدّ من إتیانها قبل حصول الشرط ، وإلاّ یفوت الواجب فی محلّه بفوتها ، فعند ذلک تتعلّق إرادة آمریة علی تحصیلها، لأجل التوصّل بها إلی المطلوب بعد تحقّق شرطه .

فظهر أنّه علی فرض الملازمة، لا محیص عن تعلّق الإرادة بهما) ، انتهی محصّل کلامه(1) .

أقول: لا یخفی ما فی کلامه من النظر، لأنّه کیف یمکن أن یفرض شیئاً بأنّه مقدّمة لشیء آخر ، بمعنی أنّه لا یمکن تحقّق الآخر المطلوب فی الخارج إلاّ به ،


1- تهذیب الاُصول : ج / 179 .

ص:42

فمع ذلک لم یکن الشیء الأوّل - المسمّی بالمقدّمة - مراداً ومطلوباً .

نعم ، ما یشاهد بأنّ المولی قد یرید ویبعث إلی ذیها، من دون بعثٍ وإرادة إلی المقدّمات، لیس ذلک من جهة عدم کون المقدّمة مرادة ، بل إنّما من جهة أنّه قد فرض تعلّق الإرادة بالمقدّمة مفروضاً ومفروغاً عنه بحسب الارتکاز والعقل ، ولهذا یعدّ السؤال عن الآمر عن إرادته للمقدّمات سؤالاً لا یتفوّه به عاقلٌ لشناعته ؛ لأنّ مطلوبیّتها من الواضحات والبدیهیّات الأوّلیّة التی لا تحتاج إلی السؤال ، فلیس هذا بمعنی أنّه لیس له إرادة بالمقدّمة وکان ذیها فقط مراداً کما قیل .

وأمّا کون هذه الإرادة ناشئة من الإرادة المتعلّقة لذیها، فلیس یعنی أنّ الإرادة متولّدة من إرادة اُخری کذلک ، بل المقصود أنّ الإرادة المرتبطة للمقدّمات لا تتحقّق بمبادیها، إلاّ بعد تحقّق الإرادة لذیها ؛ یعنی إذا علم المولی بالمقدّمیة والتوقّف، وتصوّر أنّ الشیء الفلانی کان مطلوباً، وعلم توقّفه علیه، فقهراً یحصل له بعد ذلک إرادة مستقلّة للمقدّمات ، فرتبة هذه الإرادة بل وزمانها تکون بعد الإرادة المتعلّقة لذیها، فیستحیل أن تتحقّق قبل إرادة ذیها ؛ لأنّ الشیء المتأخّر رتبة محالٌ أن یتقدّم علی الآخر، کما لا یخفی ، فثبت الإشکال وعاد المحذور .

وبالجملة: ومن هنا ظهر أنّ ما قاله فی ذیل کلامه: (من أنّ المولی إذا علم أنّ له مقدّمات لابدّ أن یحصّلها قبل الشرط ، وإلاّ یفوت، فعند ذلک تتعلّق الإرادة الآمریّة إلی تحصیلها).

لیس فی محلّه ؛ لأنّ هذا العلم لا یخلو حاله إمّا یوجب صدق عنوان المقدّمیّة لتلک الأشیاء أم لا :

فإن أوجب، فلا تکون المقدّمة مقدّمة ، إلاّ إذا کان ذی المقدّمة موقوفاً

ص:43

علیها ، فإذا کان کذلک، فلابدّ أن یکون هو مراداً حتّی تکون مقدّماته مرادة وإلاّ فلا ، فکیف یمکن أن یکون ذی المقدّمة غیر مرادة، مع کون مقدّماتها مرادة مع حفظ صدق المقدّمیّة علیها، وهو أمرٌ مستحیل ، فلابدّ من البحث عن الجواب من طریق آخر غیر ذلک .

ولکن الحقّ أن یُقال: بأنّ الإرادة المتعلّقة بالمقدّمات تابعة لأصل وجود الإرادة لذی المقدّمة، لا بالإرادة الفعلیّة المتعلّقة لذیها . حتّی یرد ما قیل فیه .

توضیح ذلک: بعد ما عرفت أنّ ملاک المقدّمیّة لشیء، هو کونه موقوفاً علیه، بحیث لولاها لما وجد ذیها ، فإذا ثبت هذا التوقّف، لابدّ حینئذٍ لمن یرید وجود ذیها فی الخارج مطلقاً أو معلّقاً علی تقدیرٍ، أن یرید وجود مقدّماته أیضاً، فالمقدّمة بحسب الإرادة تابعة لأصل وجود الإرادة لذی المقدّمة، لا تابعة للإرادة الفعلیّة الحالیّة لذیها، لأنّه قد یکون وجود ذی المقدّمة منوطاً بوجود شیء وقید، مع کون المقدّمة لازمة الوجود قبل تحقّق الشرط، لاحتمال عدم إمکان تحصیل المقدّمة حال وجود القید .

فحینئذٍ یصحّ أن یُقال: بأنّ المقدّمة مرادة لأنّ وجود ذیها مراداً ، وأمّا لزوم التبعیّة بین الإرادتین، حتّی فی الفعلیّة والتقدیریّة، غیر معلوم ، بل ربما یمکن دعوی عدمها فی مثل ما نحن فیه .

فعلی هذا یصحّ أن یُقال علی مسلک المشهور المنصور من کون الوجوب فی الواجب المشروط استقبالیّاً مع کون المقدّمة قبل الشرط واجباً حالیّاً، إذا کانت حالها هو ما عرفت من عدم إمکان وجودها فی حال وجود الشرط، وإلاّ لما کانت المقدّمات واجبة، إلاّ بعد تحقّق الشرط کوجوب نفس واجب المشروط .

ص:44

أقول: هذا کلّه إذا قلنا بأنّ الملازمة بین وجوب المقدّمة ووجوب ذیها، توجب وجود الملازمة بین الإرادتین، وکون المقدّمة واجبة غیریّة متحقّقة عن وجوب المتعلّق لذی المقدّمة، کما نسب إلی المشهور .

وأمّا إن لم نقل بوجود الملازمة : وقلنا بأنّ وجوبها یکون عقلیّاً من دون وجوب شرعی غیری للمقدّمة ، بل لابدّ من تحقّقها من جهة حکم العقل، إذا یری بأنّ ذی المقدّمة لا یتحقّق إلاّ بها ، فلا یحتاج إلی هذه التکلّفات ، بل یکون حینئذٍ وجوب الواجب تقدیریّاً مع عدم وجوب شرعی للمقدّمة ، بل تکون واجبة عقلیّة کما علیه صاحب «الکفایة» وعدّة من المحقّقین ، وهذا لا یخلو عن قوّة .

أقول: إذا عرفت الجواب عن ما أورد علی المشهور، بناءً علی الملازمة وغیرها ، نرجع إلی کلام صاحب «الکفایة» قدس سره فهو بعدما ذکر بأنّ المقدّمات الوجودیّة - علی مسلک الشیخ الأنصاری - تکون واجبة قبل الشرط، لکون الوجوب علی مسلکه حالیّاً دون الواجب ، قال هذا فی غیر المعرفة والتعلّم من المقدّمات .

وأمّا المعرفة: قال المحقّق الخراسانی فی الکفایة:

(فلا یبعد القول بوجوبها، حتّی فی الواجب المشروط بالمعنی المختار قبل حصول شرطه ، لکنّه لا بالملازمة بل من باب استقلال العقل بتنجّز الأحکام، علی الأنام بمجرّد قیام احتمالها، إلاّ مع الفحص والیأس عن الظفر بالدلیل علی التکلیف، فیستقلّ بعده بالبراءة، وأنّ العقوبة علی المخالفة بلا حجّة وبیان، والمؤاخذة علیها بلا برهان ، فافهم) . انتهی کلامه(1) .


1- کفایة الاُصول : ج1 / 158 .

ص:45

فیرد علیه أوّلاً : بأنّ معرفة الأحکام والتعلّم لها، لا تکون بأقسامها من المقدّمات الوجودیّة للواجب، حتّی یستدلّ بذلک الاستدلال الذی ذکره صاحب «الکفایة» ؛ لأنّه:

تارةً: تکون معرفة الأحکام متوقّفة علیها الموافقة التفصیلیّة للأحکام ، فحینئذٍ لو قلنا بوجوب الموافقة التفصیلیّة عقلاً، کانت المعرفة واجبة عقلاً .

وإن قلنا بوجوب الموافقة التفصیلیّة شرعاً، فتجب المعرفة شرعاً، کالصلاة إلی القبلة عیناً أو جهةً لمن اشتبهت علیه القبلة، حیث تجب الصلاة إلی أربع جهات لتحصیل الموافقة التفصیلیّة، فإنّه لو لم یعرف المسألة ربما صلّی إلی جهة واحدة فیتحقّق الموافقة الاحتمالیّة ، فلا یقطع بالمخالفة بترک الصلاة إلی القبلة ، لکن لا یحصل بذلک الموافقة التفصیلیّة .

واُخری : قد تکون الموافقة القطعیّة متوقّفة علی المعرفة، لعدم إمکان الاحتیاط من باب الاتّفاق، کما لو علم بوجوب أحد أمرین لا یمکنه فعلهما معاً ، کما لو علم أنّه نذر إمّا علی الإقامة فی یوم کذا وساعة کذا فی المسجد، أو فی حرم الإمام علیه السلام ، فإنّ الموافقة الواقعیّة غیر متوقّفة علی العلم بالواجب، لإمکان فعل أحدهما، فیصادف کونه هو الواجب الواقعی ، ولکن الموافقة العلمیّة به موقوفة علیه، لأنّه إذا علم ما هو الواجب علیه، أمکنه حینئذٍ العلم بالموافقة القطعیّة ، وهذا هو الغالب فی الناس من لزوم تحصیل العلم فی أطراف العلم الإجمالی، کما لایخفی .

وثالثة : قد تکون المعرفة من المقدّمات الوجودیّة للواجب ، وهو کما لو فرض فیما إذا استلزم ترک المعرفة إلی ترک الواجب، وهو کما فی حال نوع الناس

ص:46

بالنسبة إلی بعض الأحکام، نظیر وجوب صلاة الجمعة فی عصر الغیبة، حیث أنّ الجهل به قد یؤدّی إلی ترکها ، ففی ذلک یمکن إجراء ذلک البحث من أنّ المعرفة الکذائیّة هل هی واجبة بوجوب الواجب إطلاقاً وتقییداً، قبل تحقّق الشرط وبعده ، أم لابدّ من التفصیل ، فإطلاق کلام صاحب «الکفایة» فی وجوب المعرفة فی ذلک - مع ما قد عرفت من خروج الفردین منه - لا یخلو عن إشکال، إلاّ أن یکون مقصوده خصوص الأخیر فقط ، فلابدّ من البیان ، هذا أوّلاً .

ویرد علیه ثانیاً : أنّ استدلاله قدس سره بوجوب تحصیل المعرفة والتعلّم، بما ذکره من قیام احتمال تنجیز الأحکام للإمام، واستقلال العقل بذلک، إلاّ أن یفحص وحصل الیأس عن الظفر بالدلیل ، غیر مناسبٍ لا من جهة وجوب تحصیل المعرفة، لأنّ ذلک لا یقتضی وجوب تحصیل المعرفة ، بل مقتضاه عدم جواز الرجوع إلی أصل البراءة أو نحوه ممّا یسوغ ترک الواقع .

وبعبارة اُخری : ذاک یوجب إیجاب الاحتیاط لإدراک الواقع ، وأمّا وجوب تحصیل المعرفة لما هو الواقع، فلا یوجبه .

فالأولی فی الجواب أن یُقال : بأنّ وجوب المعرفة والتعلّم:

تارةً : یفرض من حیث الثبوت .

واُخری : من حیث الإثبات .

فأمّا الکلام فی الأوّل: فإنّه یتصوّر وجوبها علی أنحاء أربعة:

تارةً : یُقال بالوجوب النفسی التهیّئی کما ذهب إلیه صاحب «المدارک» وغیره من الفقهاء والاُصولیّین .

واُخری: یُقال بالوجوب الإرشادی العقلی من جهة احتمال فعلیّة التکلیف

ص:47

قبل الفحص ، وقلنا بتنجّز هذا الاحتمال کما علیه صاحب «الکفایة» .

ثالثة : بالوجوب الإرشادی العقلی من باب حفظ غرض المولی، فإنّه یجب علیه عقلاً إحراز تحصیله من غیر فرق بین الواجبات المطلقة والمشروطة، بعد الشرط وقبله .

رابعة : الوجوب الغیری المولوی الاستقلالی، من باب الملازمة، بناءً علی عدم وجود حکم العقل وإلاّ یکون إرشادیّاً .

وأمّا فی مقام الإثبات: فیمکن أن اختیار الأوّل إن تمّت دلالة الأخبار علی إثبات وجوب التعلّم، قبل تحقّق شرط وجوب الواجب - کما فی الفرض الآخر کما سیأتی بحثه إن شاء اللّه فی خاتمة الاُصول - وهو ممّا لا کلام فیه ، وتفصیل البحث فیه موکولٌ إلی محلّه .

کما أنّه لا إشکال فیه إن قلنا بالوجوب الإرشادی العقلی، من جهة تحصیل غرض المولی، کما عرفت منّا سابقاً بأنّ العقل فی تلک الموارد حاکمٌ بذلک، والعقل بنفسه یکفی ولا نحتاج إلی دلیل آخر لإثبات وجوب تحصیل المقدّمات .

وأمّا إن قلنا بالوجوب الغیری الاستقلالی من باب الملازمة، أی بأن لم نقل بوجود حکم العقل هنا ، بل أردنا إثبات وجوب المعرفة والتعلّم من وجوب نفس ذلک الوقت، بما أنّها مقدّمة وجودیّة له ، فحینئذٍ :

1 - إن کان وجوب الواجب مطلقاً ولا قید فیه، فلا بحث فیه من حیث تعلّق الوجوب بمقدّماته، منها المعرفة.

2 - وأمّا إن کان الواجب مشروطاً بوجود الشرط والقید ، فمع تحقّق ذلک الشرط وفعلیّة الوجوب، وکونه متمکِّناً من تحصیل الأحکام من دون لزوم ترک

ص:48

الواجب ، فلا إشکال أیضاً فی وجوب مقدّماته ومنها المعرفة .

فیبقی الإشکال فی صورة واحدة، وهو ما لم یقدر علی إتیان الواجب بعد تحقّق الشرط ، بل لابدّ أن یکون التعلّم قبل الشرط .

فحینئذٍ السؤال المهمّ هو أنّه هل یمکن القول بوجوبها فعلاً، مع عدم کون وجوب الواجب فعلیّاً أم لا؟

فعلی مسلک من یقول بأنّ وجوب الواجب المشروط حالی قبل الشرط - کالشیخ قدس سره - فیترشّح عنه وجوب لذلک أیضاً .

وأمّا علی المسلک المشهور من أنّ وجوب الواجب استقبالی، فقد عرفت الإیرادات التی أوقعوها ، وعلمت الأجوبة عنها ، وقلنا إنّ إمکان کون الإرادة المتعلّقة بالمقدّمات ومنها المعرفة، تابعة لأصل وجود الإرادة للواجب، لا تابعة لتمام کیفیّاتها ، فلا فرق بین المعرفة وغیرها من المقدّمات، إلاّ من جهة القول بالوجوب النفسی التهیّئی المستفاد من الأخبار الواردة فی ذلک، من الاعتراض للمتخلّف والعاصی بقوله تعالی: (هلاّ تعلّمت) إذا أجاب بأنّه کان جاهلاً، بخلاف سائر المقدّمات کما لا یخفی علی المتأمّل.

وعلیه ، فاستثناء صاحب «الکفایة» لمثل المعرفة عن ذلک بغیر ما عرفت، ممّا لا وجه له .

نعم ، قد یبقی الإشکال علی ما اخترناه فی الواجب المشروط، من ثبوت الوجوب للمقدّمات الوجودیّة للواجب، قبل وجود الشرط والقید فی بعض المقدّمات للواجب، قبل دخول وقت الواجب، مثل الوضوء والغُسل قبل دخول وقت الصلاة ، حیث قیل:

ص:49

لازم ما ذکرناه لزوم اتّصاف مثل هذه المقدّمات بالوجوب الغیری :

إمّا علی التخییر فیما لو علم تمکّنه من تحصیل الوضوء والغسل بعد دخول الوقت، حیث یکون مخیّراً بین إتیانهما قبل الوقت أو بعد دخوله .

وإمّا علی التعیین، إذا علم بعدم تمکّنه من تحصیلهما فی ظرف دخول الوقت لولا تحصیلهما قبله .

بل ربما ترتّب علی ما ذکرنا وجوب إبقائهما إلی ما بعد دخول الوقت، إذا فرض کونه متطهّراً قبل دخول الوقت .

مع أنّ الإجماع قائم علی عدم وجوب تحصیلهما قبل الوقت، حتّی مع العلم بعدم تمکّنه فی الوقت من تحصیلهما، کما أفتی به بعضٌ بجواز إجناب نفسه قبل الوقت مع علمه بعدم تمکّنه من الغُسل والطهارة الحدثیّة قبل الوقت، حیث یفهم عنه عدم وجوب إبقائهما ، هذا .

ولکن یمکن أن یُجاب عنه : أنّ حکم الفقهاء بعدم وجوب التحصیل أو الإبقاء فی هذه الموارد، لا یوجب الإشکال فیما حقّقناه ، لإمکان أن یُقال فی وجه عدم الوجوب فیها :

إنّ المستفاد من الأدلّة الواردة فی هذه المقدّمات، هو أنّ القید والشرط یعدّان قیداً للواجب والمقدّمات کلیهما ، وهو کما تری فی مثل قوله علیه السلام : (إذا دخل الوقت وجبت الصلاة والطهور) ، حیث یستفاد منه أنّ ملاک المقدّمیّة للطهارة هو وجودها بعد دخول الوقت لا قبله ، فلعلّه لذلک لم یفتوا بوجوبها قبل الوقت، فلا یجب إبقائها أیضاً .

فإن قلت : لازم هذا الجواب عدم کفایة الطهارة التی تحقّقت لغایة اُخری غیر

ص:50

الصلاة، لأنّها لیست هیالطهارة المتحقّقة بعد دخول الوقت للصلاة،مع أنّه لم یلتزم به الخصم ، بل الفتوی علی جواز الاکتفاء بالطهارة المتحقّقة بأیّة غایة قبل الوقت .

قلت : إنّ ملاک المقدّمیّة هو وجود الطهارة بعد الوقت، ولو بوجودها البقائی مطلقاً، أی سواءً حصلت لغایة الصلاة أو لغایة اُخری غیرها ، وسواءً حصلت وحدثت فیما قبل الوقت أو بعده ، فما هو المقدّمة هی الطهارة بعد الوقت بما هی جامعة بین وجودها الحدوثی أو وجودها البقائی فیه من باب الاتّفاق ، فلا یرد الإشکال علی ما اخترناه فی وجوب المقدّمات الوجودیّة للواجب .

***

خاتمة البحث: تعرّض صاحب التقریرات فی الواجب المشروط - الذی قد أشار إلیهما صاحب «الکفایة» - إلی أمرین، یقتضی المقام استعراضهما والبحث عنهما لیظهر الحقّ فیهما فی المقام:

الأمر الأوّل: أنّ إطلاق الواجب للواجب المطلق إطلاق حقیقی بلا إشکال ؛ لأنّ وجوبه متحقّق فی أوّل أزمنة الطلب بعد الإنشاء، وهو واضح .

وأمّا إطلاق الواجب للواجب المشروط، بلحاظ حال حصول شرطه وقیده، فهو حقیقی أیضاً مطلقاً - أی بلا فرق بین اختیار الشیخ قدس سره من کون الوجوب فیه حالیّاً قبل الشرط، وبین اختیار صاحب «الکفایة» من کون الوجوب قبله استقبالیّاً - لأنّ ملاک الحقیقة فی المشتقّ هو ملاحظة حال التلبّس والنسبة ، لا حال النطق ، ففی حال قیام النسبة وهو وجود الشرط، کان واجداً للوجوب، فیصدق ذلک علیه حقیقة .

فبقی صورة ثالثة: وهی إطلاق الواجب علی الواجب المشروط قبل

ص:51

حصول شرطه ، فهو علی مسلک الشیخ قدس سره یکون الإطلاق حقیقیّاً، لأنّ الوجوب فیه حالیٌ ، وهکذا علی ما ذکرنا یکون أصل الإرادة والطلب علی تقدیرٍ موجوداً فعلاً ، کما کان کذلک علی من اعتبر الوجوب عبارة عن اللّحاظ الذهنی والتصوّری، کالمحقّق العراقی والحکیم .

هذا بخلاف ما علیه مسلک صاحب «الکفایة» من کون الوجوب قبل الشرط غیر حاصل ، فإطلاق الواجب علیه یکون مجازاً بعلامة الأول والمشارفة، کما صرّح بذلک شیخنا البهائی قدس سره واعترف به صاحب «الکفایة» .

الأمر الثانی: إطلاق الصیغة علی الواجب - بکلا قسمیه من المطلق والمشروط - هل هو علی نحو الحقیقة أو المجاز؟

فعلی مسلک الشیخ قدس سره حیث یعتقد حالیّة الوجوب فی کلیهما، یکون إطلاقها علیهما حقیقة ؛ لأنّ معنی الواجب المطلق ، لیس إلاّ طلبٌ حالیّ فإطلاق صیغة الأمر علیه حقیقی . وأمّا الواجب المشروط، حیث کان الشرط فیه قیداً للواجب لا الوجوب، فالطلب والوجوب فیه فعلیٌّ ، فإطلاق الصیغة علیه أیضاً تکون حقیقیّة، فتکون الصیغة مستعملة فی الطلب المطلق الشامل لهما .

وأمّا علی مسلک صاحب «الکفایة» حیث اعتبر الوجوب فی المشروط استقبالیّاً ، وصرّح قدس سره بأنّ إطلاقها للطلب والقید للمقیّد إذ القید عبارة عن القرینة الدالّة علی معنی القید، لا قرینة صارفة لمعنی الحقیقة عن الصیغة .

کما أنّ الحال فی استعمال الصیغة فی الطلب المطلق القسمی - وهو الذی فی مقابل الطلب المقیّد - أیضاً یکون کذلک، أی الصیغة لم تستعمل إلاّ فی أصل الطلب .

ص:52

وأمّا الإطلاق فقد استفید من مقدّمات الحکمة، حیث دلّت علی أنّه لا یکون فی الکلام قید ، فیوجب ذلک فی کلام الحکیم - مع کونه فی مورد البیان، ولیس فی البین قدراً متیقّناً - إرسال الکلام والطلب علی إطلاقه ، فیندرج حینئذٍ فی باب تعدّد الدال والمدلول .

ثمّ أمر أخیراً بالتفهّم بقوله : فافهم(1) .

لعلّه إشارة إلی أنّه یمکن أن یکون استعمال الصیغة فی الطلب المطلق أو المقیّد علی نحو وحدة الدال والمدلول ؛ أی تکون مستعملة فی الطلب المقیّد ، والقید مستفادٌ من القرینة الصارفة، أو تکون مستعملة فی الطلب المطلق القسمی، والإطلاق المقتضی للمقدّمات کانت قرینة صارفة ؛ لأنّ الحقیقة فی الصیغة عبارة

عمّا استعملت فی الطلب المطلق المقسمی الشامل لکلّ من الطلب المقیّد والمطلق .

ونحن ملتزمون بما التزم به الشیخ ، وقد وجّهنا کلام المشهور علیه من جعل الوجوب فی المشروط حالیّاً، فاستعمال الصیغة فی الطلب المطلق المقسمی یکون حقیقیّاً، کما لا یخفی .

***


1- الکفایة : ج1 / 159 .

ص:53

فی الواجب المنجّز والمعلّق

البحث عن الواجب المنجّز والمعلّق

أقول: قسّم صاحب «الفصول» قدس سره الواجب المنجّز والمعلّق، فقال ما هو خلاصة کلامه من صدره إلی ذیله:

(أنّه ینقسم الواجب باعتبار آخر إلی:

1 - ما یتعلّق وجوبه بالمکلّف، ولا یتوقّف حصوله علی أمر غیر مقدور له کالمعرفة، ولیسمّ هذا منجّزاً .

2 - وإلی ما یتعلّق وجوبه به، ویتوقّف حصوله علی أمر غیر مقدور له ولیسمّ هذا معلّقاً کالحجّ، فإنّ وجوبه یتعلّق بالمکلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة ، ولکن یتوقّف فعله علی مجیء وقته، وهو أمرٌ غیر مقدور للمکلّف .

والحاصل : أنّ الواجب المعلّق ما کان حصوله متوقّفاً علی أمرٍ غیر مقدور للمکلّف کالوقت، من غیر أن یکون الوجوب مشروطاً به ، فالوجوب بالنسبة إلی هذا الأمر مطلق والواجب مقیّد .

ثمّ قال ما حاصله : أنّه من هذا القبیل کلّ واجب مطلق توقّف تحصیله علی إتیان مقدّمات یحتاج تحصیلها إلی مرور زمانٍ، کالصلاة المشروطة بالطهارة ، فمن أدرک الوقت غیر متطهّر، ثبت علیه وجوب الصلاة من أوّل الوقت، إن کان بحیث یثبت له القدرة فی زمانٍ یمکن فیه تحصیل الطهارة والصلاة بشرائطها، وإن لم یکن کذلک فی متن الواقع ، فلیس الوجوب ثابتاً له من أوّل الأمر .

ومن هذا القبیل أیضاً الواجب الذیتوقّف حصوله علی أمرٍ مقدور للمکلّف، ولکن لم یمکن تعلّق التکلیف بهذا الأمر المقدور، من جهة کونه محرّماً شرعیّاً.

ص:54

وبعبارة اُخری : الواجب الذی توقّف حصوله علی أمرٍ غیر مقدور شرعاً، وإن کان مقدوراً عقلاً، کالوضوء من الماء المباح الکائن فی الآنیة المغصوبة مع الانحصار، فإنّه واجبٌ علی المکلّف من أوّل الأمر، إن کان المکلّف فی متن الواقع ممّن یقدم علی المعصیة والاغتراف من الآنیة المغصوبة) ، انتهی کلامه ملخّصاً .

أقول: ولا یخفی أنّ ظاهر کلامه من أوّله إلی آخره، هو جعل الواجب المطلق من حیث الوجوب منقسماً إلی قسمین من التنجیز والتعلیق ، فمثّل للمنجّز بالمعرفة ، وللمعلّق إلی أقسام ثلاثة :

1 - بالتعلیق بأمرٍ غیر مقدور عقلاً کالوقت .

2 - أو بالتعلیق بأمرٍ مقدور من مرور الزمان کتحصیل المقدّمات .

3 - أو بالتعلیق علی أمرٍ غیر مقدور شرعاً لا عقلاً کالمحرّمات .

لکن فی کلامه مواقع للنظر، أوّلاً :

أنّ غرضه من هذا التقسیم لیس إلاّ من جهة أن یرفع الإشکال المشهور وهو أنّه کیف یمکن أن تکون المقدّمة واجبة قبل وجوب ذیها کالغسل فی اللیل لصوم النهار للمستحاضة وأمثال ذلک ، فأراد أن یثبت بأنّ الصوم بالنسبة إلی الوقت یکون واجباً مطلقاً معلّقاً، فالوجوب فیه حالی وإن کان الواجب فیه استقبالی، فیمکن ترشّح الوجوب من الوجوب الحالی إلی مقدّمته وهو الغسل فی اللیل من دون دخول وقت الواجب .

مع أنّه مندفع بما قد عرفت منّا سابقاً، فی الواجب المشروط بإمکان القول بالوجوب الفعلی فی الواجب المشروط أیضاً، من دون أن یلزم أن یجعله واجباً معلّقاً ، بل یصحّ أن یُقال بأنّ الواجبات التی قد جعل فی الشرع لها وقت کانت من

ص:55

الواجبات المشروطة ؛ یعنی یکون الوجوب فیه حالیّ والواجب استقبالیّ، وذلک أنّ تبدّل التسمیة المشهورة فی ذلک بالواجب المعلّق فی قِبال غیره ممّا لا یکون کذلک ، فلا مشاحة فی الاصطلاح ، فدفع الإشکال لا یکون موقوفاً علی هذا التقسیم ، بل یمکن دفعه بحسب مسلک الشیخ والمشهور مع توضیح الذی ذکرناه .

نعم ، یمکن أن یُقال فی وجه الفرق: بأنّه کیف لا یطلق لمثل الصلاة بالنسبة إلی الوقت واجباً مشروطاً، بخلاف الحجّ بالنسبة إلی الاستطاعة، بأنّ العمل لو کان بذاته ذات مصلحة وفی نفسه کذلک ، إلاّ أنّ الشارع لاحظ فیه حال المکلّفین تفضّلاً علیهم، لئلاّ یقعوا فی حرج من ذلک ، ولهذا لم یأمر بهم إلاّ بعد وجود الشرط لهم کالاستطاعة للحجّ ، فهو یطلق عرفاً علی مثل هذا الواجب واجباً مشروطاً . وأمّا ما لا یکون إتیان العمل قبل تحقّق الشرط ذا مصلحة مقتضیة فیه کما فی صلاة الظهر قبل الزوال، حیث لا مصلحة لها ولا اقتضاء فیها ، ففی مثل ذلک یطلق علی الواجب بالنسبة إلی هذا الشرط، واجباً مطلقاً، وإن کان هو أیضاً فی اللبّ واجباً مشروطاً ، فمثل هذا الوجه من الفرق فیهما لا یوجب التفاوت فی أصل الوجوب، بأن لا یکون الوجوب فیه حالیّاً ، بل حالیّ فی الذی ذکرناه .

ثانیاً : أنّ هذا التقسیم لا یکون لمطلق الواجب الأعمّ من المطلق والمشروط ، بل یکون تقسیماً للواجب المطلق فقط ، کما یظهر من تصریحه بأنّ الوجوب لا یکون مشروطاً بذلک القید ، وعلیه فما قاله فی أوّل کلامه بأنّ الواجب باعتبار آخر ینقسم إلی شیئین ممنوع .

ثالثاً : هناک مناقضة بین صدر کلامه وذیله، لأنّه جعل المعرفة فی الواجبات من الواجب المنجّز، لکونه أمراً متعدّداً ، بخلاف الصلاة بالنسبة إلی الطهارة التی

ص:56

یحتاج فی تحصیلها إلی مضیّ زمان ، فإنّ الواجب بالنسبة إلی المقدّمات یکون واجباً معلّقاً ، مع أنّ ملاک التعلیق لو کان ما کان تحصیله مقدوراً کما کان کذلک فی الطهارة ، فلِمَ لا یکون الواجب بالنسبة إلی المعرفة واجباً معلّقاً لأنّ تحصیلها مقدور أیضاً؟ وإن کان ملاک التعلیق هو احتیاج الواجب إلی المقدّمة بمرور زمان، فلِمَ لا یطلق الواجب بالنسبة إلیها واجباً معلّقاً؟

والحاصل : أنّه لا فرق بین المعرفة والطهارة بالنسبة إلی وجوبهما، بالنظر إلی القدرة ومرور الزمان فی ملاک التنجیز والتعلیق ، کما لا فرق بین الطهارة المحتاجة إلی مرور زمان غیر مقدور، مع الواجب بالنسبة إلی دخول الوقت، إذ هما سیّان.

أقول: إذا فإذا عرفت هذه الإیرادات علی کلام صاحب الفصول ، یظهر أنّه لا وجه لمثل هذا التقسیم جهة أنّه جعلنا الوجوب فی الواجب المشروط قبل تحقّق شرطه وجوباً حالیّاً، کما ذهب إلیه الشیخ قدس سره ، فلا نحتاج لدفع الإشکال إلی هذا التقسیم .

وأخیراً: هناک إشکالات اُخری علی کلام صاحب «الفصول» قدس سره أشرنا إلی بعضها فی السابق، فی باب رجوع القید إلی الهیئة، أو فی باب أنّ الإرادة فی المقدّمة تابعة لذیها ، وأنّه یستحیل تحقّقها قبل الشرط دون الإرادة لذیها ، کما أنّ بعضها ممّا لا فائدة فیها لوضوح بطلانها، وقد أشار صاحب «تهذیب الاُصول» إلی بعضها والردّ علیها، فالأولی الانصراف عنه والبحث عن ما هو مهمّ فی المقام، وهو عن القیود الواردة فی الخطابات الشرعیّة وأقسامها فی مقامی الثبوت والإثبات وفی صورتی العلم والشکّ.

***

ص:57

فی القیود الواردة فی الخطابات الشرعیّة

البحث عن القیود الواردة فی الخطابات الشرعیّة

حیث قد عرفت سابقاً اختلاف حال رجوع القید إلی الهیئة أو إلی المادّة، من وجوب تحصیله فی بعضه دون بعض ، فلابدّ من بیان ذلک هنا تفصیلاً .

فنقول : إنّ القید الوارد فی الخطابات الشرعیّة علی أقسام:

أوّلاً: أمّا مقام فی مقام الثبوت:

تارةً : یکون راجعاً إلی الهیئة، بمعنی أن یکون من قبیل المقدّمة الوجوبیّة ، فلازمه عدم وجوب تحصیله، لعدم وجوب ذیها حتّی یترشّح منه الوجوب إلی مقدّماته .

واُخری : أیضاً ما یکون کذلک ؛ أی لا یجب تحصیله لو کان القید مأخوذاً عنواناً للمکلّف ، کما لو قیل (المستطیع یحجّ) أو (المسافر یقصّر) حیث أنّه من المعلوم أنّه ما لم یتحقّق العنوان لا یکون الحجّ واجباً ولا یجب علیه قصر الصلاة فرضاً .

وثالثة : أن یکون القید راجعاً إلی المادّة، ولکنّه من خلال أمر غیر اختیاری للمکلّف کالوقت ونحوه ، فمن قال إنّه حیث لا یکون اختیاریّاً فلا معنی لإیجاب تحصیله، فلا یجب إلاّ بعده ، وإن کان ذلک غیر مقبول عند بعض آخر، کما نتعرّض له إن شاء اللّه .

ورابعة : أن یکون القید أمراً اختیاریّاً ، إلاّ أنّه اُخذ علی نحو لا یترشّح علیه التکلیف ؛ یعنی اُخذ علی نحو أنّه تحقّق بنفسه کان واجباً کما لو قال : (حجّ عند حصول الاستطاعة) .

ص:58

وخامسة : أن یکون القید مأخوذاً علی نحو اختیاری، یتعلّق به التکلیف ویترشّح منه الوجوب، کما لو قال : (حجّ مع تحصیل الاستطاعة) ، أو (صلِّ عن طهارة) ونحو ذلک .

وهذه هی الوجوه المتصوّرة فی أخذ القیود ثبوتاً للهیئة أو المادّة .

وثانیاً: فی مقام الإثبات:

تارةً : یکون جهة الرجوع إلی إحداهما معیّناً :

إمّا بواسطة وجود قرینة لفظیّة دالّة علی ذلک .

أو بواسطة قرینة حالیّة مقامیّة مفهمة لذلک .

أو بمقتضی القواعد العرفیّة، کما قد عرفت دعواها فی القضایا الشرطیّة، من رجوع القید إلی الهیئة .

أو بمقتضی حکم العقل أی دلالة الاقتضاء من إلزام الرجوع إلی الهیئة بالخصوص، أو إلی المادّة کذلک ، فیعمل به ویعیّن ما هو المأخوذ به من الأقسام .

وأمّا لو لم یکن الجهة فی موردٍ مشخّصاً، لفقدان جمیع ما قلناه ، فحینئذٍ یکون الحکم هو التوقّف والرجوع إلی الاُصول العملیّة ، وهی مختلفة:

فتارة: یکون فی مورد قام الشکّ فی التکلیف بأن کان الشکّ فی أنّ القید هل هو ما یجب تحصیله أم لا؟ ولم یکن له حالة سابقة من الحکم، ولم یکن المشکوک أحد الفردین من المکلّف به ، فتجری فیه البراءة حینئذٍ قطعاً .

واُخری: لو کان من قبیل ما له حالة سابقة فی التکلیف، فیستصحب .

کما أنّه لو کان فی مورد من أحد الفردین من أطراف العلم الإجمالی، فمقتضاه الاحتیاط .

ص:59

وإن کان من دوران الأمر بین المحذورین مع شیء آخر، فمورده التنجیز .

أقول: هذا تمام الکلام فی المرحلتین من مقامی الثبوت والإثبات ، فلابدّ حینئذٍ من الرجوع إلی ما استدلّ به بعض لإثبات کون القید فی موضع التردید راجعاً إلی المادّة دون الهیئة، حیث استدلّ بأدلّة غیر مقبولة ، وقد جاء ذلک فی کلام الشیخ الأعظم قدس سره - حسبما نقل عنه فی تقریراته - وإلیک خلاصته کما هو المنقول عنه فی «الکفایة» حیث یقول:

(ربما قیل: فی الدوران بین الرجوع إلی الهیئة والمادّة ترجیح الإطلاق فی طرف الهیئة وتقیید المادّة بوجهین :

أحدهما : أنّ إطلاق الهیئة یکون شمولیّاً، کما فی شمول العام لأفراده (یعنی أنّ الطلب ثابت علی کلّ حال وعلی کلّ تقدیر ، إذ مقتضی إطلاقه شموله لحالتی وجود القید وعدمه) فإنّ وجوب الإکرام علی تقدیر الإطلاق، یشمل جمیع التقادیر التی یمکن أن یکون تقدیراً له، وإطلاق المادّة یکون بدلیّاً غیر شامل لفردین فی حالة واحدة .

ثانیهما : أنّ تقیید الهیئة یوجب بطلان محلّ الإطلاق فی المادّة ویرتفع به مورده ، بخلاف العکس (لأنّه من الواضح أنّه إذا قیّدت الهیئة وصار الوجوب منحصراً بحال وجود القید، فإطلاق المادّة لا أثر له لعدم حکم حتّی یتعلّق بذلک الإطلاق) ، وکلّما دار الأمر بین التقییدین کذلک، کان التقیید الذی لا یوجب بطلان الآخر أولی .

أمّا الصغری: فلأجل أنّه لا یبقی مع تقیید الهیئة محلّ حاجة وبیان لإطلاق المادّة، لأنّها لا محالة لا تنفکّ عن وجود قید الهیئة ، بخلاف تقیید المادّة فإنّ محلّ

ص:60

الحاجة إلی إطلاق الهیئة علی حاله، فیمکن الحکم بالوجوب علی تقدیر وجود القید وعدمه .

وأمّا الکبری: فلأنّ التقیید وإن لم یکن مجازاً ، إلاّ أنّه خلاف الأصل ، ولا فرق فی الحقیقة بین تقیید الإطلاق، وبین أن یعمل عملاً یشترک مع التقیید فی الأثر وبطلان العمل به) ، انتهی کلامه(1) .

ثمّ أورد علیه صاحب الکفایة بقوله :

وأنت خبیر بما فیهما :

أمّا الأوّل: فلأنّ مفاد إطلاق الهیئة وإن کان شمولیّاً بخلاف المادّة ، إلاّ أنّه لا یوجب ترجیحه علی إطلاقها، لأنّه أیضاً یکون بالإطلاق ومقدّمات الحکمة . غایة الأمر أنّها تارةً تقتضی العموم الشمولی ، واُخری البدلی ، کما ربما تقتضی التعیین أحیاناً، کما لا یخفی .

وترجیح عموم العام علی إطلاق المطلق، إنّما هو لأجل کون دلالته بالوضع لا لکونه شمولیّاً ، بخلاف المطلق فإنّه بالحکمة، فیکون العام أظهر منه فیقدّم علیه ، فلو فرض أنّهما فی ذلک علی العکس، فکان عام بالوضع دلّ علی العموم البدلی، ومطلقٌ بإطلاقه دلَّ علی الشمول لکان العامّ یقدّم بلا کلام .

وأمّا فی الثانی: فلأنّ التقیید وإن کان خلاف الأصل ، إلاّ أنّ العمل الذی یوجب عدم جریان مقدّمات الحکمة وانتفاء بعض مقدّماتها، لا یکون علی خلاف الأصل أصلاً، إذ معه لا یکون هناک إطلاق کی یکون بطلان العمل به فی الحقیقة مثل التقیّد الذی یکون علی خلاف الأصل .


1- الکفایة : ج1 / 168 .

ص:61

وبالجملة : لا معنی لکون التقیید خلاف الأصل ، إلاّ کونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببرکة مقدّمات الحکمة ، ومع انتفاء المقدّمات لا یکاد ینعقد له هناک ظهور، کان ذاک العمل المشارک مع التقیید فی الأثر، وبطلان العمل بإطلاق المطلق مشارکاً معه فی خلاف الأصل أیضاً .

وکأنّه توهّم: أنّ إطلاق المطلق کعموم العام ثابت، ورفع الید عن العمل به تارةً لأجل التقیید ، واُخری بالعمل المبطل للعمل به .

وهو فاسد ؛ لأنّه لا یکون إطلاق إلاّ فیما جرت المقدّمات .

نعم ، إذا کان التقیید بمنفصل، ودار الأمر بین الرجوع إلی المادّة أو الهیئة، کان لهذا التوهّم مجال، حیث انعقد للمطلق إطلاق وقد استقرّ له ظهور ولو بقرینة الحکمة ، فتأمّل) . انتهی کلامه(1) .

أقول: وفی کلامه مجالٌ للنظر ، لکن لا بأس بذکر مقدّمة مفیدة قبل الدخول فی الإشکال والنظر إلی مطالبه ، وهی :

إنّ الأدلّة إنّما هی حجّة بواسطة حجّیة الظهور عند العقلاء، لما تری من احتجاجاتهم بظواهر الألفاظ علی المقرّین والمتکلّمین فی اعترافاتهم وأقاریرهم، ویرتّبون الآثار علی تلک الظواهر، ولا یقبلون اعتذار المعتذر عن إرادة غیر ظاهر الکلام، وتوجیهه بما لا یدل علیه ظاهره ، ویحکمون باستحقاق العقوبة لمن خالف ذلک ، وهذا أمرٌ ثابت عند العقلاء جمیعاً، أعمّ من المسلمین وغیرهم ؛ لأنّه حکمٌ بمقتضی کونهم عقلاء لا بما هم مسلمون .


1- الکفایة : ج1 / 169 .

ص:62

فعلی هذا، فإنّ ملاک الحجّیة فی الدلیل هو الظهور :

1 - فإن لم یکن لذلک معارض، فلا إشکال فی وجوب اتباع الدلیل لظهوره .

2 - وأمّا إن کان له معارض، فلا محیص بالرجوع إلی الأخذ بما هو أقوی ظهوراً عندهم، من جهة ما عرفت فی ملاک الحجّیة، فیقدّم هو علی الآخر ، وهذا أمرٌ ثابت فی باب التعارض بین الظهورین .

إذا عرفت هذه المقدّمة، فنقول :

إنّ العموم الواقع بین الطرفین المتعارضین:

1 - قد یکون أحدهما شمولیّاً والآخر بدلیّاً .

2 - کما أنّه قد یکون العموم فی أحدهما بالوضع والآخر بالإطلاق ومقدّمات الحکمة .

3 - وقد یکون کلاهما بالوضع ، وقد یکون کلاهما بالإطلاق وبمقدّمات الحکمة .

وکیف کان، فقد عرفت أنّ ملاک التقدّم فی المتعارضین هو أقوائیّة ظهور أحدهما علی الآخر، بأیّ طریق ثبت هذا الظهور، سواءً کان بالوضع أو بالشمول أو بأمرٍ آخر ، فلو لم یحرز هذه الأقوائیّة، یوجب التعارض بینهما، والإجمال إن کان القید متّصلاً، فالمرجع حینئذٍ الاُصول العملیّة ، أو یسقط عن الاعتبار من دون إجمال ؛ إن کان الدلیل الوارد المتکفّل للقید منفصلاً، فیرجع حینئذٍ أیضاً إلی مقتضی الدلیل الفقاهتی، وهو الأصل العملی أیضاً .

هذا کلّه إذا قام التعارض بین الدلیلین واقعاً بین عمومهما أو إطلاقهما بالذات ؛ مثل ما لو قال المولی : (أکرم العلماء) أو (أکرم عالماً) ، ثمّ قال : (ولا تکرم

ص:63

الفسّاق) ، أو (فاسقاً) ، حیث أنّ طبع إطلاق الحکمین متناف معاً فی مورد التصادق والاجتماع وهو (العالم الفاسق) حیث یکون مقتضی دلیل الأوّل وجوب الإکرام ، ومقتضی الثانی حرمته . فطریق الجمع هو ما عرفت فلا نعید .

وأمّا لو لم یکن إطلاق الدلیلین یقتضیان التنافر بالذات ، بل کان بینهما کمال الملائمة ، وإنّما وقع التعارض بینهما بسبب أمرٍ خارجیّ عارضی أی من جهة العلم الإجمالی بورود التقیید أو التخصیص لأحد العامّین أو الإطلاقین ، فحینئذٍ لا علاقة لمسألة أقوائیّة ظهور أحدهما فی الدلالة، لأن یکون وجهاً لتقدیم إطلاق ذلک علی الآخر، وإرجاع القید إلی الآخر دون ذلک ، مع أنّ لسان إطلاق کلّ واحد منهما مع القید کان لساناً واحداً ، فلابدّ فی مثل ذلک من سلوک طریق آخر غیر ما مرّ سابقاً ، وهو أنّه:

1 - لو کان فی المورد قدرٌ متیقّن للتقیّد فی أحد الطرفین دون الآخر ، فلا إشکال حینئذٍ من انحلال العلم الإجمالی فیه، ولزوم الأخذ بالإطلاق فی الآخر ، وهو واضح .

2 - وإن لم یکن لأحدهما قدرٌ متیقّنٌ فی البین أصلاً ، فلازمه دوران الأمر والتردید بینهما، وعدم وجود مرجّح لأحدهما علی الآخر، فیسقط حجّیة کلیهما بإطلاقها :

إمّا بالإجمال، إن کان القید متّصلاً به، لأنّه یمنع عن انعقاد إطلاق لأحدهما ، وهو غیر معلوم، فیصیر مجملاً .

أو بسقوطه عن الاعتبار بواسطة التردّد والتحیّر عمّا لا یکون إطلاقه وعمومه مراداً، إن کان القید منفصلاً ، فیرجع فی کلتا الصورتین إلی الاُصول

ص:64

العملیّة .

أقول: إذا عرفت هاتین الصورتین فی المتعارضین من التعارض الذاتی والعرفی، یقتضی فی المقام البحث عن أنّه:

هل التعارض قائمة بین رجوع القید إلی الهیئة - حتّی یرفع الید عن إطلاقها، فلا یجب حینئذٍ تحصیل قیدها - وبین رجوعه إلی المادّة ورفع الید عن إطلاقها، لکی یجب تحصیل القید حینئذٍ، کان من فعل التعارض الذاتی أو العرضی ؟

والجواب: الظاهر أنّه لا إشکال فی کونه من القسم الثانی ؛ لوضوح أنّ إطلاق الهیئة فی الوجوب لجمیع حالات المادّة وأفرادها، لا ینافی مع تحقّق إطلاق المادّة من جهة الوجوب فی أیّ فرد منه ، وإنّما التعارض وقع بواسطة العلم بأنّ القید قد ورد من الشارع مثلاً، وعلم أیضاً بأنّه لابدّ من رجوعه إلی أحدهما الذی کان لکلّ واحد منهما أثرٌ بخصوصه، غیر ما هو للآخر ، فلا یدری بأیّهما تعلّق ، فلا محیص من المصیر إلی ما عرفت وجهه آنفاً من الإجمال أو الإسقاط ، فلا علاقة له حینئذٍ بالرجوع إلی أقوائیّة ظهور أحدهما علی الآخر، کما ذهب إلیه عدّة من الاُصولیّین، منهم صاحب «الکفایة» و«العنایة» و«الحقائق» وغیرهم .

وأمّا ملاحظة أنّه هل کان فی البین قدر متیقّن یرجع إلیه أم لا ، فإنّ أمر البحث عنه موکولٌ إلی ما بعد ذکر الإشکال علی کلام صاحب «الکفایة» وما یمکن أن یرد علیه، علی فرض صحّة دعواه فی ملاحظة أقوائیّة الظهور فی التقدّم .

فیرد علیه أوّلاً : بما قد عرفت خطأه واشتباهه من جعل المورد من قبیل القسم الأوّل من المتعارضین، حیث قد لاحظ فیهما الترجیح بما هو أقوی ظهوراً، کما لا یخفی لمن لاحظ فی کلامه .

ص:65

وثانیاً : أنّ صراحة کلامه هنا من جعل ملاک تقدّم العام علی المطلق، هو کونه أظهر منه بلحاظ الوضع، بخلاف المطلق حیث یکون بالإطلاق ومقدّمات الحکمة، لا یناسب ولا یجامع مع ما ذهب إلیه فی باب التعادل والتراجیح فی الفصل الخامس من «الکفایة» حیث یُجیب عن الشیخ بما هو حاصله :

أنّ الذی یعدّ جزء المقتضی للإطلاق، هو عدم البیان فی مقام التخاطب، لا إلی الأبد، فإذا انتفی البیان فی مقام التخاطب، انعقد الإطلاق المطلق، فیعارض العموم ولا یرجّح أحدهما علی الآخر ، فإذن لیس العبرة بالوضع وعدمه ، بل بأظهریّة أحدهما کما حقّقناه ، وهو ما یقتضی البحث عن کیفیّة التوفیق بین هذین الکلامین .

اللّهُمَّ أن یرید کون فرض کلامه ما هو الأظهریّة الثابت بالوضع، أی وضعاً کان أظهر عن إطلاق المطلق .

فهو وإن کان فرضه ممکناً، إلاّ أنّه لا کلیّة له فی الخارج ، إذ ربما ینعکس الأمر فی الأظهریّة بواسطة وجود ما یوجب ذلک ، فالأحسن اعتبار الأظهریّة هو الملاک من أیّ طریق کان .

ولکن قد عرفت أنّ المورد لیس من هذا القبیل لکون التعارض هنا عرضیّاً لا ذاتیّاً .

وقد أورد علیه صاحب «المحاضرات» ثالثاً: - بما قاله بأنّ تقیید المادّة لا یستلزم تقیید الهیئة بخلاف عکسه، حیث إنّه یوجب ترتّب أثر التقیّد للمادّة أیضاً - بما خلاصته:

(إنّ التحقیق فی المقام یقتضی أن یُقال :

ص:66

إذا کان القید راجعاً إلی الهیئة، فمرجعه إلی أخذه مفروض الوجود فی مقام الجعل والاعتبار ، سواءُ کان القید اختیاریّاً أو غیره .

وإذا کان قیداً للمادّة واقعاً، فمرجعه إلی اعتبار تقیید المادّة به فی مقام الجعل والإنشاء ، بلا فرق بین کون القید اختیاریّاً أو غیره .

والنتیجة: أنّ تقیید کلّ من الهیئة والمادّة مشتمل علی خصوصیّة مباینة للخصوصیّة التی فی الآخر، فإنّ تقیید الهیئة مستلزم لأخذ القید مفروض الوجود ، وتقیید المادّة مستلزم لکون التقیّد به مطلوباً للمولی ، وعلی هذا فلیس فی البین قدر متیقّن لنأخذ به وندفع الزائد بالإطلاق .

وبعبارة اُخری : معنی إطلاق الهیئة رفضها عن القیود، وعدم ملاحظتها معه لا وجوداً ولا عدماً ، کما أنّ معنی إطلاق المادّة هو أنّ الواجب ذات المادّة، من دون ملاحظة دخل قیدٍ من القیود فی مرتبة موضوعیّتها للحکم .

وفی مقابله تقییدها بخصوصیّة مّا ، فإنّ مفاده هو أنّ المولی جعل حصّة خاصّة منها موضوعاً للحکم ومتعلّقاً له، وهی الجهة المقیّدة بهذه الخصوصیّة . فینتج بأنّ النسبة بین هذین التقییدین هو العموم من وجه .

ثمّ قال : فیمکن أن یکون شیءٌ قیداً للهیئة دون المادّة، وذلک کما إذا فرضنا أنّ القیام مثلاً قیدٌ لوجوب الصلاة دون نفس الصلاة ، فعندئذٍ جاز الإتیان بالصلاة جالساً بعد تحقّق القیام ، بل لا مانع من تصریح المولی بذلک بقوله : (إذا قمت فصلِّ قاعداً) ، وکالاستطاعة فإنّها قیدٌ لوجوب الحجّ دون الواجب . ومن هنا لو استطاع شخص ووجب الحجّ علیه ، ولکنّه بعد ذلک أزال عن نفسه الاستطاعة باختیاره ، فحجّ متسکّعاً، صحّ حجّه وبرئت ذمّته ، فلو کانت الاستطاعة قیداً لنفس الحجّ أیضاً

ص:67

لم یصحّ جزماً لغرض انتفائها .

إلی أن قال : وقد یکون قیداً للمادّة دون الهیئة، وذلک کاستقبال القبلة وطهارة البدن واللباس وما شاکل ذلک، فإنّها بأجمعها تکون قیداً للمادّه وهی الصلاة دون وجوبها ، وقد تکون قیداً لهما معاً وذلک کالوقت الخاصّ ، بالإضافة إلی الصلاة مثلاً لزوال الشمس وغروبها وطلوع الفجر، فإنّ هذه الأوقات من ناحیة کونها شرطاً لصحّة الصلاة، فهی قید لها ، ومن ناحیة أنّها ما لم تتحقّق لا یکون الوجوب فعلیّاً فهی قید له .

فلا ملازمة بین تقیید الهیئة وبین تقیید المادّة) ، انتهی محصّل کلامه(1) .

أقول: ولکن الإنصاف عدم تمامیّة هذا الإشکال ؛ لأنّ الظاهر - کما علیه کلّ الاُصولیّین أو أکثرهم، کما صرّح بعضهم بذلک - أنّ أثر التقیید فی الهیئة یظهر فی المادّة أیضاً ، ولا یمکن حفظ إطلاق المادّة مع کون الهیئة متقیّدة ، غایة الأمر أنّ القیود الملحوظ فی الهیئة تکون علی قسمین :

تارةً : یکون حدوث القید شرطاً وقیداً للوجوب والهیئة لا بقائه، فلو تحقّق القید یصیر الوجوب حاصلاً ، وأمّا حال المادّة لما بعده لا یکون مشروطاً بوجود القید ؛ لأنّ وجوده حدوثاً کان قیداً للهیئة والمادّة معاً . ویشهد لذلک أنّ الهیئة لا اقتضاء لها لما قبل ذلک القید . هکذا المادّة لا تکون مطلوباً قبل حدوث هذا القید ، فلو کان القید فقط قیداً للهیئة لا المادّة، استلزم أن یکون تحقّق المادّة قبل هذا القید مطلوباً ، ومثاله الاستطاعة لوجوب الحجّ بقوله : (حجّ عند الاستطاعة) ، فإنّ حدوث الاستطاعة یکفی فی تحقّق الوجوب والمطلوبیّة الملزمة للمولی فی الحجّ ،


1- المحاضرات : ج2 / 342 - 344 .

ص:68

فقبل تحقّق الاستطاعة کما لا یکون الحجّ واجباً، لعدم تحقّق قید الهیئة ، هکذا لا یکون صحیحاً ومطلوباً إلزامیّاً لعدم تحقّق المادّة ، فلا یکون تقیید المادّة منفکّاً عن تقیید الهیئة . وأمّا بعد زوال الاستطاعة فیکون الحجّ واجباً وصحیحاً، لعدم کون بقاء القید شرطاً فیهما .

واُخری : یکون القید بحدوثه وبقائه قیداً لا بحدوثه فقط ، وهو کما یمکن القول بذلک فی الوقت الذی یکون قیداً لوجوب الصلاة وصحّته، حیث أنّه یکون باستمراره قیداً للوجوب ؛ أی ما دام کان الوقت موجوداً کان الوجوب ثابتاً ، کما أنّ صحّة الصلاة تکون کذلک ، فهذا القید یکون قیداً لهما حدوثاً وبقاءاً .

والتفاوت بین هذین القیدین، لا یوجب التفاوت فی حصول التقیّد واحداً أو متعدّداً ، بل کان التقیید فی کلا الموردین متعدّداً إذا رجع التقیید إلی الهیئة، فیؤثّر فی حصول التقیید فی المادّة .

وعلیه فما ذهب إلیه المحقّق المذکور واستشکل علیه لیس فی محلّه، کما لا یخفی . وهکذا ثبت أنّ الإشکال الثالث غیر وارد .

ورابعاً : أنّ صاحب «الکفایة» قدس سره قد فصّل بین صورتی الاتّصال والانفصال، حیث قد تسلّم کلام الشیخ فی حصول التقیّدین فی الانفصال دون الاتّصال، لعدم انعقاد إطلاق فی الثانی حتّی یوجب التقیید .

وفیه: أنّ الملازمة بین تقیّد الهیئة مع تقیّد المادّة موجودة ولو تقدیراً، سواءً کان القید متّصلاً أو منفصلاً ؛ یعنی الانفصال والاتّصال لا یؤثّران فی حصول وحدة التقیید وتعدّده ، بل یؤثّران فی حصول أصل التقیّد ؛ بمعنی أنّه لو اتّصل بحیث لا ینعقد ظهور وإطلاق لهما للإجمال ، فلا تقیید أصلاً لا أنّه حاصل إلاّ أنّه واحد وإن

ص:69

کان فی متن الواقع موجوداً ، إلاّ أنّه کما یحتمل أن یکون راجعاً إلی المادّة حتّی یکون التقیید واحد ، کذلک یحتمل أن یکون راجعاً إلی الهیئة حتّی یکون التقیید فیه متعدّداً ، فلا أثر لهذا الاحتمال، وإن انفصل کان هذا الاحتمال موجوداً أیضاً وله أثر ، فالاتّصال والانفصال لا یوجبان الافتراق بین تحقّق التقییدین أو تقیّد واحد، لوجود الملازمة بین هذین التقییدین فی ناحیة ، إلاّ أن لا یتحقّق التقیید للهیئة أصلاً وتصبح المادّة متقیّدة فقط، فیکون حینئذٍ تقییداً واحداً ، والمفروض أنّه غیر معلوم هنا .

هذا تمام الکلام فی الإشکال علی کلام المحقّق الخراسانی .

أقول: ولکن الحقّ فی المسألة - بحسب ما یخطر بالبال فی الحال - أن یُقال:

إنّ التعارض بین الإطلاقین من الهیئة والمادّة لیس ذاتیّاً کما عرفت ، بل عرضی من ناحیة قیام العلم الإجمالی، هذا من جهة.

ومن جهةٍ اُخری ثبت عدم جریان أقوائیّة الظهور فی أحدهما علی الآخر ، فلابدّ من الرجوع إلی ما هو مقتضی التعارض بالعرض :

من ملاحظة وجود قدر متیقّن فیه لیؤخذ به وینحلّ به العلم الإجمالی بورود التقیّد به .

أو عدمه لکی یستلزم التوقّف والرجوع إلی الاُصول العملیّة ؟

فإثبات هذا الأمر منوط علی البحث المتقدّم، من أنّ تقیّد الهیئة هل یستلزم تقیید المادّة أم لا؟

فمن ذهب إلی عدم الملازمة - کالمحقّق الخوئی - فالمسألة تکون من قبیل الحکم بالتوقّف والرجوع إلی الاُصول العملیّة .

ص:70

ومن ذهب إلی أنّ تقیید الهیئة مستلزمٌ لتقیید المادّة - کالشیخ الأنصاری والمحقّق النائینی - فلازمه الأخذ بالقدر المتیقّن، وهو تقیّد المادّه ؛ لأنّه المتیقّن من رجوع القید إلیه ابتداءاً أو بواسطة الهیئة، فهو تقیّد قطعاً، وتقیید الهیئة مشکوک ، فأصالة الإطلاق فیها یقتضی عدم التقیید، بلا فرق فی ذلک بین کون القید متّصلاً أو منفصلاً ؛ لما قد عرفت من أنّ القید کان فی الواقع راجعاً إلی أحدهما ، فالمادّة فی نفس الأمر کان محلاًّ للتقیید قطعاً ، إمّا بنفسه أو بواسطة الهیئة ، وإن کان فی مقام الظاهر غیر معلوم من جهة إثبات کونه من عند نفسها أو من ناحیة غیرها .

وبالجملة: ثبت من خلال ما ذکرناه فساد کلام المحقّق الخراسانی فی الجواب الثانی، من عدم انعقاد إطلاق للإجمال، لأنّه یلزم عدم کونه تقییداً أیضاً ، مع أنّه لا إشکال فی وجود تقیید واحد لکون التقابل بینهما تقابل العدم والملکة ، فکیف یمکن ثبوت أحدهما دون الآخر مردّداً .

وأمّا القول بالتفصیل بین المتّصل - حیث لا یکون التقیید بینهما لعدم انعقاد ظهور وإطلاق له، فلا قدر متیقّن له فی التقیید حینئذٍ - وبین المنفصل حیث کان التقیید فیه موجوداً ومردّداً بین کونه واحداً أو متعدّداً، فیؤخذ بالقدر المتیقّن، وهو تقیید المادّة .

فإنّ الأقوی عندنا هو القول الثانی، لما قد عرفت تفصیل الکلام من أنّ تقیید الهیئة مستلزمٌ لتقیید المادّة قطعاً، کما قاله الشیخ ، وکونه القدر المتیقّن، بلا فرق بین کونه متّصلاً أو منفصلاً .

فعلی هذا یثبت الإشکال علی کلام الشیخ الأعظم رحمه الله أیضاً، من عدم تمامیّة دلیله الأوّل المبنی علی أنّ ملاک تقدّم إطلاق الهیئة علی إطلاق المادّة، هو کونه

ص:71

شمولیّاً والآخر بدلیّاً، وأنّ الشمول أقوی ظهوراً فی الدلالة من البدلی، لما قد عرفت من أنّ ملاحظة هذه المرجّحات صحیحٌ فی التعارض الذاتی لا العرضی .

کما قد عرفت عدم تمامیّة کلام المحقّق الخراسانی أیضاً، حیث تمسّک فی أقوائیّة الظهور بکون الشمول فی العام بالوضع، وفی المطلق بالإطلاق ومقدّمات الحکمة ، لما ذکرنا أنّه یلاحظ فی المتعارضین بالذات دون غیره .

وأخیراً: ثبت أنّ الحقّ هو رجوع القید عند التردّد إلی المادّة والأخذ به ؛ لأنّه القدر المتیقّن وحفظ إطلاق الهیئة بحاله ، بلا فرق فیه بین الاتّصال والانفصال .

هذا کلّه لو لم نقل باستحالة رجوع القید إلی الهیئة عقلاً، کما قاله الشیخ قدس سره ، وإلاّ لما تصل نوبة إلی هذا، الوضوح أنّه لا تردّد حینئذٍ حتّی یحمل بالرجوع إلی المادّة ، بل یرجع إلیها قطعاً .

ومن هنا ظهر أنّ کلام الشیخ قدس سره - فی مقام التردّد من بیان الدوران واختیار الرجوع إلی المادّة - مبنیّ علی أحد الأمرین :

إمّا علی التنزیل عن مبناه، والمماشاة بذلک من باب الفرض .

أو أراد صورة ما کان القید راجعاً إلی الواجب المذکور علی نحو الجملة الاسمیّة، فیأتی البحث حینئذٍ عن أنّ القید هل یرجع إلی الوجوب أو إلی الواجب ؟

لکنّه بعید جدّاً ؛ لأنّه لا یناسب مع تعبیره بالهیئة أو المادّة ؛ لأنّه لا هیئة أمریة هاهنا حتّی یبحث فیها ، فوجه الأوّل کان أولی . وکیف کان، فالمسألة واضحة عندنا .

***

تکملة

ص:72

لا یخفی علیک أنّ القیود المأخوذة فی الأوامر :

1 - إن کانت بصورة القضایا الشرطیّة ومصدّرةً بأدوات الشرط، فإنّ مقتضی ظواهر القواعد العربیّة فی القضایا الشرطیّة، لزوم رجوع القید إلی الهیئة کما اعترف به الشیخ قدس سره .

2 - أمّا إن کانت علی نحو المفعول فیه أو به مثل : (صلِّ فی المسجد) ، و(طُف بالبیت) ، فهی راجعة إلی المادّة ، ولهذا لابدّ من تحصیل بناء البیت أوّلاً، بحیث لو کان خرباً لوجب بناءه لأجل ما هو الواجب من القید وهو الطواف بالبیت ، وهکذا فی المسجد لو کان الصلاة واجبةً فیه، وإلاّ کان تحصیله مستحبّاً ؛ باعتبار استحبابها فیه.

3 - فبقی هنا صورة ثالثة، یمکن فرض التردّد فیها، وهو کون القید مذکوراً علی نحو الحال فی الکلام، مثل قوله : (حجّ مستطیعاً) ، أو (صلِّ متطهِّراً) ، فهو یمکن أن یقع فیه البحث من جهة رجوع القید إلی الهیئة أو إلی المادّة ، ولکن الثانی أولی کما عرفت فلا نعید ذکره ، فلیتأمّل .

***

ص:73

فی الواجب النفسی والغیری

البحث عن الواجب النفسی والغیری

أقول: ومن تقسیمات الواجب تقسیمه إلی نفسی وغیری، والبحث یقع فی عدّة اُمور:

الأمر الأوّل: تعریف الواجب النفسی والغیری.

قال الشیخ قدس سره فی تقریراته : قد فسّر غیر واحد من الاُصولیّین الواجب النفسی بما أمر به لنفسه ، والغیری بما أمر به لأجل غیره ، فمثّلوا للأوّل بالمعرفة باللّه الکریم ، وللثانی بغیرها من الطهارات الثلاث .

ثمّ ذکر رحمه الله : بأنّه قد یرد علیه بعدم جامعیّة تعریف النفسی، وعدم مانعیّة تعریف الواجب الغیری ؛ لأنّ مثل الصلاة والصوم والحجّ تعدّ من الواجبات النفسیّة عندهم، ولیست من الغیریّة ، مع أنّ تعریف النفسی لا یشملها لأنّها واجبة لا لنفسها ، بل لأجل الغایات المترتّبة علیها من کونها ناهیة عن الفحشاء ومعراج المؤمن وجُنّةٌ عن النار وأمثال ذلک ، وعدم إخراج تعریف الغیری لمثلها بلحاظ ما قلنا .

ولذلک التجأ الشیخ بالعدول عن مثل هذا التعریف إلی آخر ، وقال :

(فالأولی فی تحدیدهما أن یُقال : إنّ الواجب الغیری ما أمر به للتوصّل إلی واجب آخر ، والنفسی ما لم یکن کذلک).

کما وقع هذا التعریف فی کلام صاحب «الکفایة» ، مضیفاً إلیه بقوله:

سواءً کان الداعی محبوبیّة الواجب بنفسه کالمعرفة ، أو محبوبیّته بما له من الفائدة المترتّبة علیه، کأکثر الواجبات من العبادات والتوصّلیّات .

ص:74

ولکن قد أشکل علیه: بأنّه أیضاً یلزم کون الواجبات النفسیّة غیریّة، لأنّها وجبت للغایة المترتّبة، وإلاّ لما کانت الواجبات واجبة .

ثمّ قال : لا یُقال : بأنّ هذه الغایات لا تکون تحت قدرة المکلّف، فلا یتعلّق بها الوجوب .

فأجاب: بأنّها مقدورة بالواسطة، وهو یکفی ، وإلاّ لما صحّ وقوع مثل التطهیر والتملیک والتزویج مورداً للحکم والإیجاب، مع کونها من المسبّبات .

وهکذا فرَّ عن هذا الإشکال بالتزامه بتعریف آخر وهو :

أنّ الأثر المترتّب علیه وإن کان لازماً - حیث التزم بوجوب الأثر - إلاّ أنّ ذا الأثر وذا الغایة وهی الصلاة لمّا کانت معنونة بعنوان حسن، یستقلّ العقل لمدح فاعله ، بل ویذمّ تارکه صار متعلّقاً للإیجاب بما هو کذلک، ولا ینافیه کونه مقدّمة لأمرٍ مطلوب واقعاً ، بخلاف الواجب الغیری مثل الطهارة، لتمحّض وجوبه فی کونه مقدّمة لواجب نفسی، وهو لا ینافی کونه بنفسه أیضاً معنوناً بعنوان حسن فی نفسه ، إلاّ أنّ حُسن عنوانه لا یکون دخیلاً فی وجوبه الغیری .

انتهی کلامه بتقریرٍ منّا(1) .

ولقد أورد علیه المحقّق النائینی قدس سره أوّلاً: وتبعه صاحب «المحاضرات» - بأنّ حسن هذه الواجبات لا یکون بلا ملاک قطعاً ، فإمّا یکون بلحاظ ما یترتّب علیه من الأثر، فیعود الإشکال ، وإن کان بلا ملاحظة ذلک أصلاً، فیوجب أن لا یکون لنا واجباً ممحّضاً للنفسی فقط ؛ لأنّ کلّ واجب مضافاً إلی مطلوبیّته نفسه فی حدّ ذاته، یترتّب علیه الغایة أیضاً ، فیصیر الواجب فی جمیع الموارد متّصفاً بوصفین من


1- الکفایة : ج1 / 171 .

ص:75

النفسی والغیری، کصلاة الظهر حیث تکون واجباً نفسیّاً بلحاظ نفسها ، وواجبة غیریّة بلحاظ کونها مقدّمة لصلاة العصر .

وثانیاً : إنّ دعوی کون الواجبات النفسیّة فی جمیع أقسامها مشتملة علی الحسن الذاتی مجازفة ؛ إذ کثیر من الواجبات لولا الغایة المترتّبة والأمر المتعلّق بها، لما کان فی حدّ ذاته مشتملاً علی الحسن، کترک الأکل والشرب للصوم لولا تعلّق الأمر به ، ومثل أفعال الحجّ وغیرها حیث لا حسن ذاتی فیها بنفسها .

نعم ، قد یکون فی بعض الأفعال کذلک ؛ أی ذات حُسن بنفسه کالسجود والرکوع وما شاکلهما ، انتهی کلامه(1) .

وثالثاً : نحن نزید فی الإشکال بأنّا لا نسلّم کون المعرفة باللّه الکریم محبوبة بنفسها لا لأجل غایة، لما قد قرّر فی محلّه فی علم الکلام بأنّ وجوب المعرفة کان بملاک وجوب شکر المُنعم، وأنّ شکره موقوف علی المعرفة، وإلاّ لما کان الشکر واجباً بنفسه فیکون وجوبها أیضاً غیریّاً لا نفسیّاً ، مع أنّ وجوبها نفسی قطعاً .

ورابعاً : أن یُقال إنّه ما المراد من الفائدة المترتّبة علی الواجبات النفسیّة التی بواسطتها صارت ذات حسن نفسی ومحبوباً ذاتیّاً وترتّبت علیها الفائدة؟

فإن کان المرادالفائدة المترتّبة ماهو من قبیل السبب والمسبّب،بحیث لایمکن التفکیک بینهما أصلاً ، فعلی هذا لا یمکن تعلّق حکمین علیهما ؛ أحدهما للسبب والآخر للمسبّب ؛ لأنّه لو تعلّق الأمر بالسبب وتحصیله لحصل المسبّب قهراً، ولا مجال لترکه مع فعل سببه ، فالغرض حاصل حتماً ، فلا یحتاج إلی إیجاب المسبّبات بوجوب مستقلّ .


1- المحاضرات : ج2 / 383 .

ص:76

وإن کان المراد من الفائدة المترتّبة هی الغایات لکن لا مطلقاً ، بل ومع وجود سائر مقتضیاتها الخارجة عن تحت قدرة المکلّف، وفقدْ الموانع بحیث کان فعل الواجب من أحد الاُمور الدخیلة فی ترتّب الفائدة ، فلا معنی حینئذٍ أن یتعلّق التکلیف بتلک الغایة، لعدم کونها مقدورة، کما لا یخفی .

فعلی هذا، لا یمکن جعل الواجب النفسی واجباً للغایات ، وبالنظر إلیها من الواجبات الغیریّة، سواءً قلنا بکونها بنفسها مطلوباً ذاتیّاً، أم لم نقل بذلک ، فمجرّد کون الواجب له حُسنٌ ذاتی لا یوجب حلّ الإشکال .

فالأولی أن یُقال: فی تعریف الواجب النفسی والغیری بما لا یستلزم الاعتراض، وهو :

الواجب الغیری: عبارة عن إیجاب واجب لکونه مقدّمة لتحقّق واجب تکلیفی آخر الذی وقع علیه حکمٌ تکلیفی مستقلّ، مع مقدّماته الستّة فی الأمر ، لا ما یکون مقدّمة لما هو الغرض للواجب ؛ لأنّه لا یتعلّق به الوجوب بنحو الاستقلال ، ولا یتوجّه إلیه الخطاب ، ولعلّ وجه عدم توجّهه هو ما عرفت فی الإشکال الرابع من عدم إمکان تعلّقه :

إمّا من جهة کونه بنحو السبب والمسبّب، وقد عرفت عدم إمکان انفکاکهما فیه ، فإذا تعلّق التکلیف بالسبب فإنّ ذلک یعنی تعلّقه بالمسبّب ، کما أنّ الأمر من العکس کذلک، فلیس هاهنا تکلیفان حتّی یکون السبب المسمّی بالواجب النفسی واجباً غیریّاً بالنظر إلی مسبّبه، لصدق أنّه واجب لأجل غیره ، کما لا نقول بمقالة صاحب «المعالم» قدس سره بأنّ الأمر المتعلّق بالمسبّب هو عین الأمر المتعلّق بالسبب، لأنّه ممنوع.

ص:77

أو من جهة أنّ الفائدة تکون من قبیل الغایات، حیث یکون الواجب بوجوده من أحد مقتضیاته، فترتّبها متوقّف علی وجود سائر شرائطها وفقدان موانعها ، وهما خارجان عن تحت قدرته ، ولذلک لا یلاحظ وجوب الغایات ملاکاً للواجب النفسی .

وکیف کان، إن کان الشیء المتعلّق به الخطاب والتکلیف واجباً بلحاظ إیجاد واجب آخر مثله، من حیث تعلّق الخطاب به، فهو واجب غیری، وإلاّ کان واجباً نفسیّاً .

ولا یرد علیه: النقض بصلاة الظهر مقدّمة للعصر .

لأنّ وجوبها لا یکون لأجل العصر ، بل صحّة العصر موقوفة علیه کما لا یخفی .

وبالجملة: ثبت من خلال ما ذکرناه صحّة تقسیم الواجب قسمین، کما ثبت صحّة تصریفهما من دون أن ترد علیهما الإشکالات السابقة.

فالصلاة والصوم والحجّ تعدّ من الواجبات النفسیّة، لعدم وقوعها مقدّمة لواجب آخر تکلیفی مستقلّ، بخلاف الطهارات الثلاث، حیث أنّها واجبة لأجل التوصّل إلی الصلاة التی هی بنفسها واجبة ومتعلّقة للخطاب .

ولعلّ هذا هو مراد من فسّر الواجب الغیری ؛ بأنّه واجب للتوصّل إلی واجب آخر، کما وقع فی عبارة الشیخ الأعظم حیث کان لفظ (الآخر) قرینة علی أنّ مراده ما هو واجب تکلیفی مستقلّ لا ما یکون تحصیله لازماً من جهة کونه غایة لواجب مثلاً، حیث أنّه لیس بواجب آخر کما عرفت توضیحه .

هذا تمام الکلام فی ما إذا علم أحد القسمین من الواجب من کونه نفسیّاً أو غیریّاً .

***

ص:78

الأمر الثانی: فیما لو شکّ فی الواجب أنّه نفسی أو غیری

والکلام فیه یقع فی مقامین :

الأوّل : فی ما تقتضیه الاُصول اللفظیّة .

والثانی : فی ما تقتضیه الاُصول العملیّة .

وأمّا المقام الأوّل: فقد قیل إنّ مقتضی التمسّک بالإطلاق، هو الحکم بالوجوب النفسی ، ولا إشکال فی أنّ المراد من الإطلاق هو مقدّمات الحکمة من کون المولی حکیماً ولم ینصب قرینةً، ولیس فی المقام ما یوجب کونه بیاناً بالقدر المتیقّن فی مقام التخاطب ، فیحمل علی الإطلاق .

وهذا بمقتضی مسلک المشهور القائل بأنّ الواجب الغیری هو الذی کان وجوبه مقیّداً بوجوب واجب آخر، بخلاف النفسی صحیح لا غبار علیه ، باعتبار أنّ مقتضی إطلاق الهیئة کونه نفسیّاً، لعدم استحالة التمسّک عندهم بالإطلاق لوجوده فی الهیئة.

وأمّا علی مسلک الشیخ الأعظم قدس سره حیث ذهب إلی استحالة الإطلاق فی الهیئة فإنّه لا طریق له لإثبات النفسیّة إلاّ بأحد من الطرق الثلاثة أو الأربعة :

1 - إمّا أن یکون الوجوب مذکوراً علی نحو الجملة الاسمیّة أو الفعلیّة لیصحّ التمسّک فیها بالإطلاق .

2 - أو یُقال بصورة الانصراف من حیث الإطلاق فی اللفظ ؛ لأنّ البعث النفسی یعدّ بعثاً حقیقیّاً بخلاف الحال فی البعث الغیری ، فإطلاق اللفظ ینصرف إلی ما هو المصداق له واقعاً لا مسامحةً .

وهذا هو الذی ذکره العلاّمة البروجردی قدس سره فی «نهایة الاُصول» .

ص:79

3 - أو یُقال بأنّ المراد من الإطلاق هو الذی ذکره صاحب «نهایة الدرایة» ، بأن یکون المراد من الإطلاق هو عدم تقییده بانبعاثه من داعٍ آخر غیر الواجب، لا أنّ المراد هو التوسعة فی وجوب ذلک من وجوب شیء آخر معه وعدمه، حتّی یُقال بأنّ البعث الحقیقی جزئی حقیقی، لا یجامع مع التقیید المقتضی لإطلاق البعث، فإنّه مُحالٌ علی مسلک الشیخ .

4 - أو یُقال بالانصراف إلی النفسی ، لا بمعنی انصراف الجامع الکلّی إلی أحد أقسامه ، بل من جهة کون الوجوب الغیری یعدّ أمراً نادراً بخلاف النفسی ، فلذلک ینصرف إلیه .

هذا کما عن المحقّق الخمینی، وإن ناقش فیما قبله فی أصل الحکم (باعتبار کونه أمراً إیجادیّاً جزئیّاً فلا یجتمع مع الجامعیّة ، فلا مناص أن یکون تقسیم الحکم إلیهما باعتبار مبادٍ متقدّمة علی الحکم، بأن یُقال إنّ الوجوب إمّا لأجل التوصّل إلی مبعوث إلیه فوقه ، وإمّا لا لأجل ذلک ، بل تعلّق بشیء من غیر أن یکون خطاب فوقه ، فحینئذٍ کلّ من النفسیّة والغیریّة متقوّم بقید زائد) . انتهی کلامه(1) .

هذا ما عرفت من الصور المتصوّرة فی کون الإطلاق مستلزماً لکون الواجب واجباً نفسیّاً .

أقول: ولکن المحقّق النائینی قدس سره ذکر للأصل اللفظی بیاناً، لا یخلو ذکره عن فائدة ، حیث ینبغی استعراضه ومن ثمّ ملاحظة ما أورد علیه المحقّق الخمینی سلّمه اللّه.


1- تهذیب الاُصول : ج1 / 191 .

ص:80

قال المحقّق النائینی: (وعلی کلّ حال لو شکّ فی واجب أنّه نفسی أو غیری :

فتارةً : یقع الکلام فیما یقتضیه الأصل اللفظی .

واُخری: فیما یقتضیه الأصل العملی .

أمّا الأوّل: فمجمل القول فیه هو أنّ الواجب الغیری لمّا کان وجوبه مترشّحاً عن وجوب الغیر، کان وجوبه مشروطاً بوجوب الغیر ، کما أنّ الغیر یکون مشروطاً بالواجب الغیری ، فیکون وجوب الغیر من المقدّمات الوجوبیّة للواجب الغیری ، ووجود الواجب الغیری من المقدّمات الوجودیّة لذلک الغیر ؛ مثلاً یکون وجوب الوضوء مشروطاً بوجوب الصلاة ، وتکون نفس الصلاة مشروطة بوجود الوضوء ، فالوضوء بالنسبة إلی الصلاة یکون من قیود المادّة ، ووجوب الصلاة یکون من قیود الهیئة بالنسبة إلی الوضوء وبالمعنی، المتقدّم من تقیید الهیئة، بحیث لا یرجع إلی تقیید المعنی الحرفی ، وحینئذٍ یرجع الشکّ فی کون الوجوب غیریّاً إلی شکّین :

أحدهما : الشکّ فی تقیید وجوبه بوجوب الغیر .

وثانیهما : الشکّ فی تقیید مادّة الغیر به .

إذا عرفت ذلک فنقول : إنّه إن کان هناک إطلاق فی کلا طرفی الغیر والواجب الغیری ، کما إذا کان دلیل الصلاة مطلقاً لم یأخذ الوضوء قیداً لها ، وکذا کان دلیل إیجاب الوضوء مطلقاً لم یقیّد وجوبه بالصلاة کما فی قوله تعالی : «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ»(1)، حیث أنّه قیّد الوضوء بالقیام إلی الصلاة ، فلا


1- سورة المائدة : الآیة 6 .

ص:81

إشکال فی حجّة التمسّک بکلّ من الإطلاقین، وتکون النتیجة هو الوجوب النفسی للوضوء، وعدم کونه قیداً وجودیّاً للصلاة ، فإنّ إطلاق دلیل الوضوء یقتضی الأوّل ، وإطلاق دلیل الصلاة یقتضی الثانی .

إلی أن قال : وعلی کلّ حال، ظهر صحّة التمسّک بإطلاق کلّ من الغیر والواجب الغیری لو کان لکلّ منهما إطلاق ، بل لو کان لأحدهما إطلاق یکفی فی المقصود من إثبات الوجوب النفسی، لأنّ مثبتات الاُصول اللفظیّة حجّة ، فلو فرض أنّه لم یکن لدلیل الوضوء إطلاق، وکان لدلیل الصلاة إطلاق، فمقتضی إطلاق دلیلها هو عدم تقیید مادّتها بالوضوء، ویلزمه عدم تقیید وجوب الوضوء بها، لما عرفت من الملازمة بین الأمرین ، وکذا الحال لو انعکس الأمر وکان لدلیل الوضوء إطلاق دون دلیل الصلاة .

وبالجملة : الأصل اللفظی یقتضی النفسیّة عند الشکّ فیها، سواءً کان لکلّ من الدلیلین إطلاق ، أو کان لأحدهما إطلاق ، ولا تصل النوبة إلی الاُصول العملیّة، إلاّ إذا فقد الإطلاق من الجانبین) ، انتهی کلامه(1) .

ولقد أورد علیه المحقّق الخمینی بقوله :

(وأنت خبیر بأنّ القول بکون وجوبها مشروطاً بوجوب ذیها، لا یجتمع مع القول بکون وجوبها مترشّحاً عن وجوبه، لاستلزامه أن یکون المعلول متقیّداً أو مشروطاً بعلّته، وهو باطل بالضرورة .

أمّا الملازمة: فلأنّ الإرادة الغیریّة إذا کانت مفاضة عن الإرادة النفسیّة علی


1- فوائد الاُصول : ج1 / 220 .

ص:82

نحو الإیجاد، تکون الأولی فی حدّ المعلول بالنسبة إلی الثانی، وتقیید وجود المعلول بعلّته :

إمّا فی حال وجوده، وهو یستلزم أن یوجد المعلول بتمام شؤونه، ثمّ یرتبط بعلّته بعد استقلاله .

وإمّا فی حال عدمه وهو باطلٌ بالبداهة، لأنّ المعدوم الباطل العاطل کیف یقع طرفاً للإضافة .

إلی أن قال : فتحصّل ممّا ذکر أنّه لا مجال للتمسّک بالإطلاق لرفع الشکّ المزبور .

أضف إلی ذلک أنّ عدّ الواجب الغیری من قیود المادّة فی الواجب النفسی مطلقاً، لا یصحّ إلاّ فی الشرائط دون غیرها من الغیریّات، کنصب السلّم بالنسبة إلی الصعود .

وأمّا القول بحجّیة المثبتات اللفظیّة من الاُصول، فإنّما یصحّ لو کانت من الطرق العقلائیّة الکاشفة عن الواقع، وهو محلّ تأمّل وتردّد) ، انتهی کلامه(1) .

أقول: ولکنّک خبیر أنّ ماذکره من الإشکالات الثلاثة لا یکون وارداً علی کلامه.

فأمّا الإشکال الأوّل: فممنوع باعتبار أنّ مقصود المحقّق النائینی رحمه الله من أنّ وجوب الواجب مشروط بوجوب واجب الغیر ، لیس هو الشرط الاصطلاحی بما یلزم من عدمه عدم المشروط، ویلزم من وجوده وجوده، حتّی یرد علیه بما ذکره بأنّ الشرطیّة مقتضیة لوجود المشروط الذی کان معلولاً أوّلاً ، ثمّ لحاظه مع علّته


1- تهذیب الاُصول : ج1 / 192 .

ص:83

مشروطاً ومقیّداً فیستحیل، لأنّه لا یجامع مع کون وجود المعلول بعد وجود العلّة لا قبله .

لا یُقال: بأنّ الوضوء مثلاً کان شرطاً للصلاة بالمعنی الاصطلاحی ، فکیف یمکن لکم إنکار ذلک؟

لأنّا نقول : إنّ المراد لیس نفی الشرطیّة عن ذات الوضوء مع الصلاة، حتّی یستشکل کذلک ، بل المقصود هو وجوب الوضوء مع وجوب الصلاة ، فلا إشکال أنّهما لیس حالهما معاً بنحو الشرطیّة الاصطلاحیّة ، بل کانا بنحو السببیّة، إذ من الواضح أنّ بوجوب الصلاة یجب الوضوء، وبعدمه لا یجب، فیکون معنی قوله : (إنّ وجوبها مشروط بوجوب ذیها) یعنی أنّه ما لم یجب ذیها لم یجب ذلک ، فإذا وجب وجبت، فیکون الشرط علی ما ذکرنا مناسباً مع کون وجوبه مترشّحاً عن وجوب الغیر، کما لایخفی .

وأمّا الجواب عن الإشکال الثانی: من عدم حجّة کون الواجب الغیری من قیود المادّة للغیر الواجب فی غیر الشرائط کنصب السلّم للصعود .

فنقول أوّلاً : إنّه فرق بین الشرط الذی یعدّ شرطاً عقلیّاً للواجب، وبین ما أُخذ شرطاً فی لسان نفس الدلیل ، ومقصود المحقّق النائینی من الواجب الغیری هو الثانی لا الأوّل ، مع أنّ نصب السلّم للصعود یعدّ من القسم الأوّل باعتبار کونه أحد أفراد ما یمکنه تحصیل الصعود .

وبعبارة اُخری : القدرة علی الصعود بأیّ وجهٍ اتّفق، کان شرطاً عقلیّاً لتحقّق الواجب .

وثانیاً : یمکن دعوی ذلک فی المثال، بأن یُقال المطلوب من مادّة الصعود

ص:84

هو إحداث ما یمکِّنه من الصعود به ، ومنه نصب السلّم لا خصوصه فقط ؛ لعدم خصوصیّة فیه إلاّ لإیصاله إلی المطلوب الذی یمکن حصوله بوسیلة اُخری مثل الطیّران والتوثّق ونظائرهما .

أمّا الإشکال الثالث: وهو إشکاله فی حجّیة الاُصول اللفظیّة بأنّها إنّما هی حجّة فی الطرق العقلائیّة الکاشفة عن الواقع دون غیرها.

فممنوع أوّلاً: بأنّ إجراء أصالة الإطلاق فی الهیئة أو المادّة تعدّ من الاُصول العقلائیّة ، ولذلک یُطلق علیه عنوان مقدّمات الحکمة، إذ من الواضح أنّ العقلاء یحکمون بواسطة إطلاق کلام المولی فی الهیئة أو المادّة أنّه هو المراد .

وثانیاً : لو سلّمنا عدم کونه من الطرق الکاشفة عن الواقع ، إلاّ أنّه قد ادّعی الملازمة بین هذین الإطلاقین، بحیث لو ثبت وجود الإطلاق فی أحدهما، ثبوت الإطلاق فی الآخر ، کما أنّ تقیید أحدهما استلزم ثبوت تقیید الآخر .

فالإشکال علی أنّه لیس من الطرق الکاشفة لیس بجوابه، کما لا یخفی علی المتأمِّل الدقیق .

وکیف کان، فإنّ إجراء أصالة الإطلاق فی الهیئة فی ناحیة الواجب الغیری، أو فی المادّة فی الغیر الواجب یکفی فی إثبات الإطلاق فی الآخر لوجود هذه الملازمة، وکون مقتضی کلّ واحدٍ منهما إثبات الوجوب النفسی فی کلّ من الواجبین بالنسبة إلی الآخر ، ولکن ذلک لا ینافی کون الواجب غیریّاً لأمرٍ آخر غیر ما یفرض معه .

فالأقوی عندنا - کما علیه المشهور - أنّ إجراء أصالة الإطلاق فی الهیئة فی نفس الواجب، یقتضی نفسیّته . کما أنّ مقتضی إجراء أصالة الإطلاق فی مادّة الغیر

ص:85

الواجب، یقتضی ذلک بالنسبة إلی ما هو المشکوک شرطیّته .

هذا تمام الکلام فی مقتضی الاُصول اللفظیّة وحجّیة مثبتاتها .

وأمّا المقام الثانی: وهو ملاحظة حال الاُصول العملیّة عند الشکّ فی النفسی والغیری ، وهو یتصوّر علی وجوه شتّی وأقسام مختلفة :

الوجه الأوّل : أن یکون حال وجوب الغیر فعلیّاً، ولکن قام الشکّ فی الغیری فی أنّه هل هو غیری أو نفسی، کما لو علم حال وجوب الصلاة بعد دخول الوقت، ولکن شکّ فی أنّ الوضوء هل هو واجب غیری حتّی تکون مقدّمةً للصلاة أو واجب نفسی؟

فهو ممّا لا إشکال ولا خلاف فیه، بکون الوضوء واجباً ومعلوماً بالوجوب، وإن لم تکن من جهة الوجوب من النفسیّة والغیریّة معلومة، إذ لا أثر فی معلومیّة الجهة إلاّ من حیث ترتّب الثواب والعقاب الواحد أو المتعدّد؛ لأنّ الواجب الغیری لا ثواب فیه ولا عقاب بخلاف النفسی .

قال صاحب «فوائد الاُصول» : ففی هذا القسم یجب رجوع الشکّ إلی الشکّ فی تقیید الصلاة بالوضوء، وأنّه شرطٌ لصحّتها ، حیث عرفت ملازمة الشکّ فی ذلک علی الشکّ فی تقیید الصلاة ، وحینئذٍ یرجع الشکّ بالنسبة إلی الصلاة إلی الشکّ بین الأقلّ والأکثر الارتباطی، وأصالة البراءة تقتضی عدم شرطیّة الوضوء للصلاة وصحّتها بدونه ، فمن هذه الجهة تکون النتیجة النفسیّة)(1) .

ولقد أورد علیه تلمیذه المحقّق الخوئی حفظه اللّه علی ما فی «المحاضرات» بما


1- فوائد الاُصول : ج1 / 223 الطبعة الجدیدة .

ص:86

خلاصته:

وغیر خفیّ أنّ ما أفاده قدس سره غیر تامّ، لمعارضة أصالة البراءة عن التقیید مع أصالة البراءة عن وجوب الوضوء بوجوب نفسی ؛ لأنّ أصل الوجوب معلوم تفصیلاً ، وأمّا خصوصیّة کونه نفسیّاً أو غیریّاً مشکوکة ، وبما أنّ العلم بوجود إحدی الخصوصیّتین موجود، وجریان أصالة البراءة عن کونه نفسیّاً معارضة مع أصالة البراءة عن کونه غیریّاً ، فلابدّ من الاحتیاط ؛ لأنّ إجراء کلا الأصلین یستلزم المخالفة القطعیّة ، فلابدّ أوّلاً من الإتیان بالوضوء ثمّ الصلاة ، وردّ هذا بحسب النتیجة إلی کون وجوب الوضوء غیریّاً لا نفسیّاً) ، انتهی کلامه(1) .

وفیه أوّلاً : أنّه إذا فرض معارضة أصالة البراءة عن کون الوجوب نفسیّاً، مع أصالة البراءة عن الوجوب الغیری، لاستلزم سقوطهما بالتعارض ، فلیس هاهنا أصلٌ آخر غیره یعارض مع أصالة البراءة عن التقیید المقتضی کون الوجوب للوضوء نفسیّاً .

اللّهُمَّ إلاّ أن یُقال : إنّ أصالة البراءة عن التقیید لیس شیئاً آخر غیر أصالة البراءة عن الوجوب الغیری، الذی کان معارضاً مع أصالة البراءة عن الوجوب النفسی .

أو یُقال : إنّه لو کان أصلاً آخراً غیرها ، إلاّ أنّه حیث کان فی عرض أصالة البراءة عن الوجوب الغیری، فیکون فی عرض التعارض مع أصالة البراءة عن الوجوب النفسی، ویتساقط معه، فلا تبقی لجریان أصل البراءة هاهنا وجه .

وثانیاً : إنّ قوله: (نتیجة وجوب الاحتیاط هو کون وجوب الوضوء واجباً


1- المحاضرات : ج2 / 392 .

ص:87

غیریّاً لا نفسیّاً).

غیر وجیه، لوضوح أنّ ما هو المعلوم فی مقام الثبوت هو أصل الوجوب ، وأمّا کونه غیریّاً بالخصوص فلا ، ولذلک یظهر أثره فیما لو عمل بمثل هذا الوضوء حیث لا یقطع بالوفاء بالنذر، إذا کان متعلّقاً بعدم فعل واجب غیری فی ذلک الیوم، لعدم العلم بعدم تحقّقه، لاحتمال أن یکون وجوبه غیر نفسی، کما لا یخفی .

فالأولی أن یُقال: فی الإشکال علی کلام المحقّق النائینی :

إنّ إجراء أصالة البراءة عن التقیید فی المادّة للصلاة، حتّی لو سلّمنا جریانه ولو بلا معارض، لما أمکن إثبات کون الوجوب فی الوضوء نفسیّاً، بواسطة الملازمة بین الشکّین ؛ لأنّ أصل الملازمة وإن کانت موجودة فی الواقع، لکنّها لیست بحجّة فی الاُصول العملیّة، بل هی ثابتة وحجّة فی مثبتات الاُصول اللفظیّة .

مضافاً إلی ما عرفت من الإشکال الآخر، هو إمکان أن یکون أصالة البراءة عن التقیید عبارة اُخری عن أصالة البراءة عن الوجوب الغیری المعارض، مع أصل البراءة عن الوجوب النفسی، کما لا یخفی .

فالحقّ أن یُقال : إنّ أصل الوجوب لکلا الواجبین مسلّم ، وأمّا إثبات الخصوصیّة من النفسیّة والغیریّة للوضوء، وإثبات التقیید وعدم الصلاة مشکوک غیر ثابت، کما لا یخفی ، فیکون مقتضی القاعدة هنا هو وجوب الاحتیاط عملاً بمقتضی الدلیل القائم علی لزوم الإتیان بالوضوء مقدّماً والصلاة بعده، وترتیب آثار النفسیّة والغیریّة کلیهما علی الوضوء، إن کان لعدم وجود أصل فیه بلا معارض ینفی خصوص أحدهما .

الوجه الثانی : هو ما إذا علم بوجوب کلّ من الغیری والغیر ، إلاّ أنّ وجوب

ص:88

الثانی کان مشروطاً بشرط غیر حاصل ، ولکنّ الأوّل مشکوک فی أنّه هل هو واجب مطلقاً أو أنّه واجبٌ مشروطٌ بذلک الشرط، حتّی یکون فی الاحتمال الأوّل واجباً نفسیّاً ، وفی الثانی واجباً غیریّاً ، وهو کالمثال المتقدِّم عند فرض الأمر فرض قبل الوقت فلا یعلم بأنّ الوقت کما هو شرط لوجوب الصلاة، هل هو شرط للوضوء أیضاً ، لیصبح وجوبه غیریّاً ، أو لا فیکون وجوبه نفسیّاً .

قال صاحب «الفوائد»:

(إنّه یکون من أفراد الشکّ بین المطلق والمشروط ، وقد تقدّم أنّ مقتضی الأصل العملی هو الاشتراط، للشکّ فی وجوبه قبل الزوال، وأصالة البراءة تنفی وجوبه ، کما تنفی شرطیّة الصلاة بالوضوء ، ولا منافاة بین إجراء البراءة لنفی وجوب الوضوء قبل الزوال، وإجراء البراءة لنفی قیدیّته للصلاة) ، انتهی کلامه(1) .

أقول: ولقد اعترض علیه تلمیذه فی «المحاضرات»، بعد أن جعل کلام اُستاذه لجریان البراءة فی ثلاث مواضع :

أحدها : فی تقیید الصلاة بالوضوء ، فالأصل البراءة عنه .

والثانی : فی وجوب الوضوء قبل الوقت ، فالأصل البراءة ، فنتیجته کون وجوبه وجوباً غیریّاً، فلا وجوب له حینئذٍ، لعدم تحقّق شرط وجوب الغیر وهو الصلاة .

والثالث : جریان البراءة عن وجوب الوضوء بعد الوقت لمن أتی به قبل الوقت ، فمرجع هذا الشکّ إلی الشکّ فی أنّ الوجوب للوضوء هل هو مطلق أو مشروط بعدم إتیانه قبل الوقت ، فلا مانع حینئذٍ من جریان البراءة عن وجوبه


1- فوائد الاُصول : ج1 / 223 .

ص:89

لاحقاً، لینتج من ذلک بأنّ المکلّف مخیّر بین الإتیان بالوضوء قبل الوقت وبعده قبل الصلاة وبعدها ، هذا .

والملاحظ عدم وجود الإشارة إلی القسم الثالث فی الکلام المنقول عن المحقّق النائینی، ولعلّ سقط من قلم مقرّر دروسه المحقّق الکاظمی رحمه الله .

وکیف کان ، حیث أنّ الثالث مذکور فی «أجود التقریرات» فقد ناقشه المحقّق الخوئی بقوله:

(إنّ وجوب الوضوء المردّد بین النفسی والغیری، إذا کان نفسیّاً لا یخلو عن:

أن یکون مقیّداً بإیقاعه قبل الوقت ، أو یکون مطلقاً .

وأمّا وجوبه الغیری، فهو مقیّد بما بعد الوقت علی کلّ تقدیر .

وعلی الأوّل: أی المقیّد بما قبل الوقت، فلا یمکن إجراء البراءة عن تقیید الصلاة بالوضوء ؛ لمعارضته بجریانها عن وجوبه النفسی قبل الوقت، للعلم بوجوبه نفسیّاً أو غیریّاً ، وجریان البراءة عن کلیهما یستلزم للمخالفة القطعیّة ، وقلنا فی محلّه بعدم الفرق فی تنجّز العلم الإجمالی بین کون أطرافه من الدفعیّات أو التدریجیّات ، فلابدّ من الاحتیاط بالإتیان بالوضوء قبل الوقت ، فإن بقی إلی ما بعد الوقت، فهو یکفی، وإلاّ یجب تحصیله بعد الوقت بحکم العقل بالاحتیاط ، فتکون النتیجة کون الوجوب هنا نفسیّاً وغیریّاً معاً من باب الاحتیاط .

وأمّا علی الثانی: ما لو کان وجوب الوضوء مطلقاً ، فلا معنی لإجراء البراءة عن إطلاق وجوب الوضوء قبل الوقت، لعدم احتمال تقیّده بما قبل الوقت ؛ لأنّ البراءة تجری لرفع التضییق لا لرفع الإطلاق والسعة ، وأمّا بعد الوقت فالعقل

ص:90

یحکم بوجوب الوضوء نفسیّاً أو غیریّاً للعلم الإجمالی، فلا یجری فیهما البراءة ، فیجب الاحتیاط .

نعم ، لو شککنا فی وجوب إعادة الوضوء بعد الوقت علی تقدیر کونه غیریّاً ، أمکن رفعه بأصالة البراءة، لأنّ تقیید الوضوء بوجوبه غیریّاً بعد الوقت کان مجهولاً ، فیجری فیه البراءة ؛ وذلک لأنّ وجوبه لو کان نفسیّاً فهو غیر مقیّد بذلک ، وإن کان غیریّاً فالمقدار المعلوم إنّما هو تقیید الصلاة به ، وأمّا تقیّدها به بخصوصیّة أن یؤتی به بعد الوقت فهو مجهول ، فیدفع بالبراءة ، فجری الاشتغال فی الجمیع إلاّ فی الأخیر فقط) ، انتهی کلامه(1) .

أقول: ونحن نناقش ما فصّله من جریان البراءة فی الصور المذکورة، فنقول:

أمّا الصورة الاُولی: وهی کون وجوب الوضوء نفسیّاً مقیّداً بما قبل الوقت .

فیرد علیه أوّلاً: إنّ عدم جریان البراءة عن تقیید الصلاة بالوضوء لمعارضته بجریان البراءة عن وجوبه النفسی قبل الوقت ، متوقّفٌ علی إثبات أحد الأمرین:

تنجّز العلم الإجمالی فی التدریجیّات، کما هو متنجّز فی الدفعیّات کما ذکره .

أو القول بالوجوب الفعلی فی الواجب المشروط قبل حصول شرطه .

أمّا تنجیز العلم الإجمالی فلا إشکال فیه ، ولو قلنا بکون العلم الإجمالی فی الدفعیّات فقط حجّة ومنجّزاً، حیث قد عرفت مختارنا فی السابق من فعلیّة الوجوب فیه، فلا إشکال حینئذٍ فیعدم جریان البراءة للمعارضة کما لایخفی، هذا.

مع أنّ الوضوء المقیّد بقبل الوقت لا یوجب تقیّد الصلاة به قطعاً، لعدم


1- المحاضرات : ج2 / 393 .

ص:91

وجوبها حینئذٍ ، إلاّ أن یکون عنواناً للوضوء مشیراً إلی الوضوء المطلق .

وثانیاً: إن جعل الاحتیاط فی هذا المورد مستلزماً للحکم بالوجوب النفسی والغیری ممّا لا یخلو عن إشکال ؛ لأنّه من الواضح أنّ الوضوء کما یکون وجوبه معلوماً قطعاً فی الواقع ، هکذا یکون عدم وجوبهما معاً فی الواقع ولو من باب الاحتیاط معلوماً ، فالحکم بالاحتیاط لا یوجب إلاّ الحکم بوجوب الإتیان قطعاً، لا بأنّه واجب نفسی وغیری معاً کما قاله، لأنّه یحتاج إلی الدلیلین لا دلیل واحد ، مع أنّ المفروض هنا وحدة الدلیل، ومفاده غیر معلوم بینهما کما لا یخفی .

وثالثاً : أنّ کلامه هنا لا یساعد مع ما ذکره فی القسم الأوّل، من أنّ مقتضی الاحتیاط کون وجوب الوضوء واجباً غیریّاً لا نفسیّاً، مع کون الملاک فی کلیهما هو وجوب الاحتیاط بالإتیان بهما .

فالأولی أن یُقال هنا: بعدم إمکان إثبات واحد بخصوصه فیه، ویکون ذلک مشتبهاً ومردّداً، وإن کان أصل وجوب الإتیان مسلّماً کما کان الأمر فی الاُولی کذلک .

وأمّا الصورة الثانیة: فعدم جریان البراءة عن وجوبه الإطلاقی للوضوء لما قبل الوقت، حتّی یوجب إثبات الوجوب النفسی المقیّد بما قبل الوقت، صحیحٌ لما قد ذکره بأنّ حدیث الرفع ورد للامتنان ورفع التضییق، لا رفع السعة والإطلاق.

وأمّا البراءة بلحاظ نفی أصل الوجوب النفسی سواءً کان قبل الوقت أو بعده لا مانع من جریانها لولا العلم الإجمالی ، غایة الأمر أنّ المشکلة التی تمنع جریانها هی نفس الموجودة فی الصورة السابقة، وهی تنجّز العلم الإجمالی المانع عن جریانها کما کان کذلک لما بعد الوقت أیضاً ، لا لما ذکره من عدم جریان

ص:92

البراءة لرفع السعة والإطلاق، کما لا یخفی ، فیعارض هذا مع أصل البراءة الجاری فی الوجوب الغیری، والأصل الجاری فی عدم کونه واجباً نفسیّاً مقیّداً بما قبل الوقت، فینجّز العلم الإجمالی فیه .

أمّا الصورة الثالثة: فإنّ ما یرد علیها هو أنّ الشکّ فی وجوب إعادة الوضوء بعد الوقت، باحتمال أن یکون مقیّداً بإیقاعه بعده فیما یکون واجباً غیریّاً ، یوجب الحکم بوجوب الإعادة قضیّةً للعلم الإجمالی، لأنّ المشکوک إذا أصبح أحد أطراف العلم الإجمالی، فیحتمل أن یکون وجوبه الغیری منوطاً بما إذا أوجده بعده ، فتحصیله قبله یصبح غیر کافیاً ، إلاّ أن یعلم من الخارج أنّ الملاک فی تقیید الصلاة هو وجوده ولو کان قبل الوقت لا تحصیله بعده ، فهو أمرٌ آخر وخروج عن فرض المسألة، وهو صورة الشکّ فیه لا العلم کما قلناه .

وبالجملة: وکیف کان ، فالأقوی عندنا - کما علیه بعض المحقّقین من الاُصولیّین - هو القول بالاحتیاط فی جمیع الصور المتصوّرة فی الثانی، حتّی فی الصورة الأخیرة کما عرفت، خلافاً للمحقّق النائینی حیث ذهب إلی البراءة عن تقیید الصلاة به .

الوجه الثالث : ما لو کان الواجب الغیری کالوضوء مردّداً بین کونه نفسیّاً أو غیریّاً، وکان الغیر - وهو الصلاة - مشکوکاً فی الوجوب ، فهو:

تارةً: یکون من جهة کونها أحد طرفی العلم الإجمالی .

واُخری: أن تکون مشکوکة بالشکّ البدوی .

والذی یظهر من کلام المحقّق النائینی هو الثانی، خلافاً للمحقّق الخوئی حیث قد فرض المسألة فی الأوّل وحمل کلام اُستاذه علیه .

ص:93

أقول: وکیف کان، لابدّ أن یلاحظ حکم کلیهما ، فیقول:

وأمّا الفرض الأوّل: کما لو نذر المکلّف إتیان واجب مردّد بین تعلّقه بالوضوء أو الصلاة، فیکون وجوب الوضوء نفسیّاً لو تعلّق به، وغیریّاً لو تعلّق بالصلاة ، فذهب صاحب «المحاضرات» إلی إجراء أصالة البراءة عن وجوب الصلاة ؛ لأنّ ذلک الأصل لا معارض له، لعدم جریانه فی طرف الوضوء، لأنّه واجبٌ، سواءً کان نفسیّاً أو غیریّاً، فلکونه معلوماً تفصیلاً بوجوبه والاستحقاق للعقوبة فی ترکه قطعاً ، فینحلّ العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی فی وجوب الوضوء، والشکّ البدوی لوجوب الصلاة، انحلالاً حکمیّاً لا حقیقیّاً، کما ینحلّ ذلک العلم فی الأقلّ والأکثر الارتباطی ، کما لو تردّد فی وجوب ما عدا السورة فی الصلاة، حیث أنّ وجوب بقیّة الأجزاء قطعی وما عداها بدوی ، فتجری البراءة فیه . غایة الأمر ، انحلاله فی الأقلّ والأکثر کان لعدم أثر للعلم الإجمالی، لعدم جریان الأصل فی الإطلاق وهو الماهیّة اللاّبشرط . فلا مانع من جریانه فی المقیّد ، فنتیجة هذا الانحلال هو التفکیک بین أجزاء الواجب فی التنجیز، مع عدم إمکان التفکیک بین الأجزاء فی مرحلتی السقوط والثبوت .

وهذا بخلاف الانحلال المتحقّق فی المقام، حیث أنّ الوضوء معلوم الوجوب، فلا یجری فیه البراءة، بخلاف الصلاة حیث أنّها مشکوکة الوجوب ، فالمرجع حینئذٍ البراءة لأنّ العقوبة علیها عقوبة بلا بیان ، فحیث لا یکون الأصل هنا له معارض، فلا أثر للعلم الإجمالی بالنسبة إلی الصلاة تنجیزاً ، فالانحلال هاهنا أیضاً حکمی ، إلاّ أنّ عدم التنجیز هنا کان لعدم تعارض الأصلین ، وفی هناک لعدم الأثر للعلم فی طرف الآخر ، انتهی کلامه(1) .


1- المحاضرات : ج2 / 389 .

ص:94

أقول: ولا یخفی أنّ ممنوعیّة کلامه ککلام اُستاذه النائینی، لأنّه:

إن أراد الاعتراض والإشکال علی هذه الصورة أو الصورة التی نذکرها لاحقاً فلا یصحّ ذلک، لوضوح أنّ العلم الإجمالی بکون وجوب الوضوء مردّداً بین النفسی والغیری، لا یجامع مع عدم وجوب الصلاة قطعاً أو عدمه بالأصل ؛ لأنّه إذا شکّ فی وجوبها وحکم أصل البراءة بعدم وجوبها ، فمعناه أنّ الصلاة لا تکون واجبة تعبّداً، فالوضوء أیضاً لا یکون واجباً غیریّاً لها تعبّداً . فإذا قطع بعدم وجوبه الغیری للصلاة، فیکون وجوبه النفسی مشکوکاً أیضاً، فتجری فیه البراءة، فیلزم حینئذٍ عدم وجوب الوضوء نفسیّاً أیضاً ، وهو لا یساعد مع العلم الإجمالی بوجوبه الذی فرضه صاحب «المحاضرات» فی صدر مسألته .

وهذا المحذور نشأ من تجویز إجراء أصالة البراءة فی وجوب الصلاة ، فالأولی فی مثل هذا الفرض من الحکم بعدم جواز إجراء أصالة البراءة فی الصلاة ، لأنّه یمکن فرض التعارض بین الأصلین فی الطرفین .

بتعبیر آخر: کون الأصل فی کلّ من الوضوء والصلاة، عدم تعلّق النذر بهما، فهو أمرٌ صحیح ولا نقاش فیه، حیث یقع التعارض بینهما أمّا الحکم بأصالة الوجوب للوضوء حتّی یُقال إنّه معلوم له بالتفصیل وللصلاة مشکوک ، فالأصل عدم وجوبها ، فأثر هذا التعارض الذی ذکرناه هو الحکم بوجوب الاحتیاط کأخویه فی الإتیان بالوضوء والصلاة .

نعم ، یمکن القول بإجراء البراءة فی وجوب الصلاة فی الفرض الثانی، وهو کون وجوبها بنفسها مشکوکاً بدویّاً من دون علم إجمالی، بأن لم یکن وجوب الصلاة فی أحد طرفیه ، بل کان العلم الإجمالی بطرفیه متعلّقاً للوضوء ، بأن یُقال

ص:95

بأنّ الوضوء إمّا أن یکون واجباً غیریّاً للصلاة، لو کانت الصلاة واجبة، أو واجباً نفسیّاً لنفسه ، فإذا جری أصل البراءة فی الصلاة، وحکمنا بعدم وجوبها، فینعدم العلم الإجمالی للوضوء حینئذٍ أیضاً ؛ لأنّه لو کان حینئذٍ واجباً کان نفسیّاً ، وهو أیضاً مشکوک بدوی، فیجری فیه أصل البراءة . فمردّ هذا القول إلی انکشاف عدم وجود علم إجمالی بوجوب الوضوء ، بل العلم المفروض کان علماً بدویّاً، ولا یلزم من إجراء هذین الأصلین البراءتین مخالفة قطعیّة لوجوب الوضوء ، فیکون الحقّ حینئذٍ مع ما عبّر عنه المحقّق النائینی بالقیل، من عدم وجوب الوضوء حینئذٍ ، لا وجوب الوضوء کما قاله المحقّق المذکور، تشبیهاً للمقام بالأقلّ والأکثر الارتباطیّین . مع أنّ التفاوت بین هذین الموردین واضح ؛ لأنّ العلم الإجمالی هناک مسلّم، للقطع بوجوب الصلاة فی تسعة أجزاء، والشکّ إنّما کان فی عاشرها ، بخلاف ما نحن حیث عرفت أنّ ظاهره هو العلم الإجمالی ، مع أنّه إذا دقّقنا نجد أنّ وجوب الوضوء لم یکن ثابتاً، مع الشکّ فی وجوب الصلاة وقابلیّتها لجریان البراءة فیها، إذ لا معارض له کما لا یخفی .

أقول: ولعلّ هذا هو مراد صاحب «الکفایة» من اعتبار الشکّ فی وجوب الوضوء بدویّاً ، أو یکون المراد أنّ وجوب الصلاة مشکوک بالشکّ البدوی، فیجری فیه البراءة ، فیصیر وجوب الوضوء عندئذٍ بدویّاً أیضاً .

فحمل صاحب «المحاضرات» کلام المحقّق الخراسانی علی الوجه القادم لیس فی محلّه .

الوجه الرابع : هو الذی فرضه صاحب «المحاضرات» وحَمَل علیه کلام المحقّق الخراسانی قدس سره فقال ما خلاصته:

ص:96

(أن یکون التردّد فی وجوب الوضوء بکونه نفسیّاً أو غیریّاً، فیما إذا علم أنّه لو کان واجباً غیریّاً ومقدّمةً لواجب آخر، لم یکن ذلک الواجب فعلیّاً، وذلک کما إذا علمت الحائض بوجوب الوضوء علیها، وتردّدت بین کونه واجباً نفسیّاً أو غیریّاً، وهی تعلم بأنّه لو کان مقدّمة للصلاة لم تکن الصلاة واجبة فعلاً .

ففی مثل هذا الفرض یجوز الرجوع إلی البراءة عقلاً ونقلاً، لعدم قیام علم فعلی عند المکلّف علی الوجوب علی کلّ تقدیرٍ، فتجری البراءة، لعدم فعلیّة وجوبه علی تقدیر کونه غیریّاً، وإن کان فعلیّاً علی تقدیر کونه نفسیّاً) ، انتهی حاصل کلامه .

أقول: لا یخفی ما فی کلامه من الإشکال، فإنّه کیف یطلق علی الوضوء بکونه معلوم التردّد فی الوجوب بین النفسی والغیری ، مع أنّه لیس بواجب غیری قطعاً ، فالأولی أن نقرّر البحث بهذه الصورة، بأن نقول:

لو شکّ فی الوضوء هل هو واجب نفسی أم لا ، فیکون عدله الآخر عدم الوجوب المطلق، لا الوجوب المضاف إلی الغیری، کما وقع فی کلامه ؛ لأنّ الوجوب الغیری یطلق فیما إذا کان الغیر واجباً فعلاً ، والمفروض عدمه ، فلا إشکال فی کونه مورداً للبراءة ، کما لا إشکال فی خروجه عن محلّ النزاع، وأنّه لیس بمراد لصاحب «الکفایة» ، فتأمّل .

***

ص:97

تنبیهات باب مقدّمة الواجب

تنبیهات باب مقدّمة الواجب

أقول: یتضمّن باب مقدّمة الواجب عدّة تنبیهات، یقتضی المقام التعرّض لها، وهی:

التنبیه الأوّل : لا إشکال فی أنّ إطاعة أوامر المولی یستلزم الأجر والثواب ، وعصیانه یوجب ترتّب العقوبة ، إنّما البحث فی أنّ المثوبة والعقوبة متعلّقان بفعل الأمر النفسی وترکه، أو أنّهما أعمّ منه لیشمل الأمر الغیری بأن یترتّب الثواب علی فعله والعقاب علی ترکه ؟

ثمّ إنّ الثواب الذی یترتّب علی الأمر النفسی، هل یکون بالاستحقاق أو التفضّل ؟

فهاهنا بحثان :

البحث الأوّل : فی أنّ الثواب هل بالاستحقاق أو التفضّل ؟

والبحث الثانی : هل الثواب والعقاب یختصّان بالواجب النفسی أم یعمّانه فیشملان الغیری أیضاً؟

فأمّا الأوّل: حیث کان معنی الاستحقاق - بحسب الظاهر فی الاصطلاح - هو کون الطرف المقابل ذا حقّ علی الآخر، بحیث لو لم یؤدّه عدّ ظالماً له ؛ لا أن یکون الشخص بالإتیان والامتثال ذا أهل ومحلّ للإنعام، کما وقع ذلک فی کلام المحقّق الحکیم قدس سره والسیّد الخوئی ؛ لأنّه من المعانی المستحدثة ولا یعدّ من معانیه الواقعیّة.

اللّهُمَّ إلاّ أن استعمله فراراً عن ما یترتّب علیه من المحذور، فهو حینئذٍ عبارة اُخری عمّن سلّم الإشکال القادم، ولابدّ علیه من اختیار القول الثانی، کما لایخفی .

ص:98

وعلیه نقول : اختلف الفقهاء والمتکلِّمین فذهب أکثرهم إلی أنّ الثواب المترتّب علی الامتثال استحقاقی یستحقّه المطیع، فقد استدلّ علیه فی علم الکلام:

1 - بأنّ تحمیل الغیر بالمشقّة بلا أجر قبیح .

2 - أو بأنّ المولی إذا وعد عبده بالثواب علی الامتثال کان التخلّف عنه قبیحاً من الحکیم ، فلابدّ له من الإعطاء بحسب جعله ، فالاستحقاق نشأ من جعله لا أن یکون بالذات وبالطبع الأوّلی .

أقول: وفی کلا الاستدلالین نظر، لا بأس بالإشارة إلیه :

فأمّا الأوّل: فإنّه یرد علیه:

أوّلاً: بأنّ القباحة إنّما تکون فیما إذا لم یکن الآمر والمکلِّف (بالکسر) مالکاً حقیقیّاً للغیر ، کما تری ذلک فی الموالی العرفیّة، حیث یکلّفون عبیدهم بالأعمال، ویحکمون العقلاء بوجوب امتثال أوامرهم، ولا یقولون بأنّ عمل الموالی بالأمر إلی عبیدهم من الأعمال القبیحة ، فإذا کان الأمر للموالی العرفیّة فکذلک ، فما ظنّک باللّه العلیّ العظیم الذی له ملک السماوات والأرض ویعدّ مالکاً حقیقیّاً لعباده، إذ من حقّ اللّه علی العباد تکلیفهم بذلک، واستحقاق اللّه منهم الامتثال للشکر الواجب علیهم بحسب کون شکر المُنعم واجباً ، فعلیه دعوی حکمهم بالاستحقاق فی الثواب علی نحو یکون ترکه موجباً للظلم القبیح، من جهة تحمیل الغیر بالمشقّة تعدّ ممنوعة وأمراً غیر وجیه قطعاً .

وثانیاً : إذا کان الإتیان بالأوامر والامتثال بها علی نحو لا یرجع للممتثل نفعاً ومصلحة ، فللاحتمال المذکور وجه بحسب الظاهر، وإن کان فی الواقع باطلاً .

وأمّا إذا کان الامتثال موجباً لرجوع المصالح والمنافع إلی نفس العبد ،

ص:99

وحیث أنّه لم یقف علی المصالح والمفاسد التی تتضمّنها الأوامر والنواهی لکی یقوم بتحصیلها أو الاجتناب عنها، فقد جعل الشارع تلک الأوامر والنواهی وسیلة لإفهام العباد علی ذلک، وإیصالها إلیهم بواسطة الامتثال ، فهل لعاقلٍ أن یحکم هنا بأنّه لابدّ للآمر أن یعطی عبده الأجر لذلک ، بل الأمر بالعکس فإنّ للمولی حقّ علیه حیث أرشده وتفضّل علیه ووفّقه للامتثال، لیصل إلی المصالح والمنافع الواقعیّة ، فاستحقاق العبد للثواب حینئذٍ یکون من قبیل أمر الطبیب للمریض بتحمّل تحصیل الدواء والاستفادة منه فی علاج نفسه، ومن ثمّ البرء والصحّة والسلامة، ومطالبته الطبیب بالأجر لامتثاله لأوامره، فإنّ هذا أمرٌ یستقبحه العقلاء ویذمّونه، ویحکمون بأنّ للطبیب حقٌّ علیه بالأجر لا للمریض ، فالمسألة واضحة بحمد اللّه .

قال الفیروزآبادی فی «عنایة الاُصول»: حیث قال فی ذیل کلام صاحب «الکفایة» من قوله: (نعم لا ریب فی استحقاقهما علیها عقلاً).

قال: (وفیه ما لا یخفی، فإنّ استقلال العقل باستحقاق العقاب علی عصیانه، وإن کان ممّا لا ریب فیه، ولکن استقلاله باستحقاق الثواب علی امتثاله، بحیث إذا امتثل العبد أمر مولاه، استقل العقل ثبوت حقّ له، فغیر معلوم ، بل من المعلوم خلافه، فإنّ المولی لیس إلاّ مَن له حقٌّ ثابت علی العبد أن یمتثل أوامره ونواهیه ، فإذا أطاع العبد أمر مولاه فقد أدّی حقّه إلیه . ومن المعلوم أنّ بأداء حقّه إلیه لا یصیر العبد ذا حقّ علیه وإلاّ لتسلسل ، فإنّ العبد علی هذا إذا امتثل أمر مولاه وأدّی حقّه إلیه، صار ذا حقٍّ علیه ، والمولی إذا أثاب عبده وأدّی حقّه إلیه صار ذا حقٍّ علی العبد وهلمّ جرّا ، وهذا باطل قطعاً ، وعلیه فالمثوبات کلّها تکون من التفضّل لا من باب الاستحقاق ، وهذا لدی التدبّر واضح ظاهر) ، انتهی کلامه(1) .


1- عنایة الاُصول : ج2 / 353 .

ص:100

وفیه: قد عرفت بأنّ الامتثال یعدّ من حقوق المولی علی العبد بمقتضی مالکیّته، وکونه شکراً للنعمة، وهو واجب عقلاً فإذا أدّاه فقد برء ذمّة العبد عن حقّ المولی بالنسبة إلیه لا مطلقاً ؛ لأنّ أصل وجوده کان لمولاه ، ولذلک قد اشتهر بأنّ العبد وما فی یده کان لمولاه، وهو فیما نحن فیه بمعناه الحقیقی ، فإذا برء ذمّته فللمولی إعطاء الثواب تفضّلاً ولطفاً ؛ لأنّ اللّه لطیفٌ بعباده، وبیده الفضل، «یُؤْتِیهِ مَنْ یَشَاءُ وَاللّه ُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِیمِ».

وأمّا کون المولی بإعطاء الثواب قد جدّد له حقّ علی العبد ثانیاً وبالعکس هکذا حتّی یتسلسل فلا ، ولم یلتزم به أحد حتّی من ذهب إلی الاستحقاق ؛ لأنّ معناه کون تمامیّة هذا الحقّ ومنتهاه هو إعطاء الثواب إلی العبد فقط، لا متابعة حقّ جدید بعده، کما لا یخفی .

أقول: فظهر من جمیع ما ذکرنا، أنّ ترتّب الثواب علی الامتثال فی الأوامر النفسیّة یکون بالتفضّل لا بالاستحقاق ، فإذا کان الأمر النفسی حاله کذلک ، فما ظنّک بالثواب مع الأمر الغیری، فلا یکون فیه أیضاً لو کان إلاّ تفضّلاً ومنّةً .

أمّا الاستدلال الثانی: من الواضح أنّ أصل الوعد والجعل کان تفضّلاً، فیعدّ الإعطاء بعد الجعل منةٌ اُخری وتفضّلاً آخر، لا أن یکون الحقّ مولوداً من ذلک الجعل للعبد .

نعم ، مقتضی سیادة السیّد هو الإعطاء وعدم التخلّف عن ما وعده، لأنّ اللّه هو أصدق الصادقین، ولا یخلف اللّه المیعاد کما هو کذلک حقّاً .

البحث الثانی : بأنّ الاستحقاق أو التفضّل مخصوص للنفسی فقط أم یشمل الغیری أیضاً؟

ص:101

والکلام فی العقوبة، هل هو کالمثوبة أو متفاوت عنها، أو لابدّ من التفصیل بین الوجوب الغیری وبین المستفاد من خطاب أصلی فیترتّب الثواب علیه استحقاقاً أو تفضّلاً وبین المستفاد من خطاب تبعی فلا یترتّب؟

أو التفصیل بین الثواب فلا یترتّب علی الغیری دون العقاب فیترتّب؟

وجوهٌ، بل أقوال کما فی تقریرات الشیخ قدس سره .

أقول: اختار صاحب «الکفایة» تبعاً لاُستاذه الشیخ قدس سره عدم الترتّب علی الأمر الغیری، حیث لا یستحقّ ثواباً فی فعله ولا عقاباً فی ترکه .

والدلیل علیه: استدلّ العلمین بحکم العقل بأنّ الثواب والعقاب هاهنا للموافقة والمخالفة لا یکون إلاّ واحداً ، هذا من ناحیة .

ومن ناحیة اُخری: لا إشکال فی أنّ الأمر النفسی بالموافقة والمخالفة قد اکتسب الثواب والعقاب، فلم یبق للأمر الغیری من الموافقة والمخالفة ثواب وعقاب ، وهذا هو المطلوب .

نعم ، افترقا رحمهماالله فی طریقة الاستدلال، حیث علّل صاحب «الکفایة» لحکم العقل بأنّ الثواب والعقاب یعدّان من تبعات القُرب والبُعد، والأمر الغیری لا قُرب فیه ولا بُعد ؛ لأنّه لا یوجب إطاعته قرباً ولا فی عصیانه بُعداً سوی القُرب والبُعد الحاصلین من الإتیان بالواجب النفسی أو من ترکه .

وأمّا صاحب «التقریرات»: فقد علّل حکم العقل بعدم الثواب :

(بأنّ الثواب من فروع الامتثال، والامتثال هو الإتیان بالمأمور به علی وجهٍ یکون الداعی إلی إیجاده هو الأمر، والأمر الغیری لا یصلح للداعویّة ، بل یصلح للتوصّل بالمقدّمة إلی ذی المقدّمة) ، ومع التوصّل بها إلیه یکون الامتثال امتثالاً

ص:102

لذی المقدّمة لا للمقدّمة ، انتهی حاصل کلامه(1) .

ولکن التحقیق أن یُقال : إنّ الثواب والعقاب أمران متفاوتان فی ذلک ؛ فینبغی البحث عن کلّ واحدٍ منهما مستقلاًّ:

أمّا العقاب: فهو أمرٌ متفرّع علی العصیان والمخالفة للأمر النفسی ؛ لوضوح أنّ مخالفة أمر الغیری لو استلزم العقوبة استلزم ما لا یلتزم به أحد، وهو تعدّد العقوبة بتعدّد مقدّمات الواجب ، فلو کان له مقدّمات عدیدة لزم ترتّب العقوبة علی ترک کلّ مقدّمة، فیکون فیها کذا عقوبات ، وفساده أوضح من أن یخفی .

ونزید فی الدلیل علی ذلک: أنّه لو عصی أمر غیری لمقدّمة واحدة فیها، فلا یخلو عن القول بترتّب العقوبة علی ترکها، مع الإتیان بغیرها من سائر المقدّمات ، فإن کان العمل بترکها باطلاً، لا إشکال فی کون العقوبة متعلّقة لذی المقدّمة قطعاً، فإنّ بقیّة المقدّمات الآتیة مع امتثال أمرها یکون بلا أثر، لعدم ترتّب أثر علیها ، فلابدّ أن یعاقب بعقوبتین إحداهما للمقدّمة ، والاُخری لذیها ، وإن کان ذو المقدّمة مع ترکها صحیحة، فلا أثر لوجودها وعدمها حتّی یوجب خلافه استحقاق العقوبة ؛ لأنّها إنّما وجبت للتوصّل إلی ذیها ، فإذا فرض صحّة ذیها بدونها فلا وجه للأمر بها .

أو القول بأنّ عدم ترتّب العقوبة علیها، فیما إذا ترکت مع قیامه بإتیان سائر المقدّمات وذی المقدّمة ، فیأتی حینئذٍ السؤال عن وجه التفات بینها وبین غیرها.

فالظاهر أنّ العقوبة لا تکون إلاّ فی مخالفة الأمر النفسی، ولو عوقب علی


1- مطارح الأنظار : 70 .

ص:103

ترک المقدّمة کان بلحاظ أنّ ترکها سبب لترک ذیها.

نعم ، یمکن القول بأنّ ترک المقدّمات فیما لا یعلم ترتّب ذی المقدّمة علیها، کان موجباً للتجرّی، المستلزم لنوع من الذمّ والتوبیخ ، کما لو ترک مقدّمة بزعم أنّه یقدر علی إتیان ذیها ، فانکشف بعده - بالموت أو بأمر أهمّ الموجب لترک ذیها - عدم وجوب مقدّمته ، حیث أنّ العقلاء یلومون العبد لتجرّیه علی ترک المقدّمة ، ولکن هذا غیر العقوبة المبحوث عنها فی المقام.

فحکم العقوبة واضح، والخلاف فیه قلیل، والبحث فیه أزید من ذلک قلیل الجدوی .

أمّا الثواب: فإنّه لابدّ أن یبحث عن کیفیّة ترتّبه، وهل الموجب له:

مطلق الامتثال والإطاعة الحاصلة من داعویّة الأمر کما علیه الشیخ .

أو أنّ الثواب من أثر حصول التقرّب والقُرب إلی المولی، کما علیه صاحب «الکفایة» .

أو أنّ الثواب من آثار عبادیّة الواجب بالخصوص دون نفسیّة الأمر أو الامتثال والطاعة، بمعنی أنّ عبادیّة الواجب المستلزم للثواب تحصل من خصوص قصد الأمر والامتثال، لا من مطلق الطاعة والامتثال ولو کان نفسیّاً ، هذا کما علیه العلاّمة الطباطبائی .

أقول: والأولی هو الإعراض عن نقل کلمات الأصحاب بألفاظها بل ینبغی التعرّض لمجمل أقوالهم، فنقول :

قد عرفت منّا سابقاً بأنّ ترتّب الثواب علی العمل لو کان ثابتاً، لم یکن علی نحو الاستحقاق حتّی فی الأوامر النفسیّة فضلاً عن الأوامر الغیریّة ، بل کان علی

ص:104

نحو التفضّل والامتنان من اللّه الملک المنّان ، فلهذا یمکن أن یُقال : إنّ المستفاد من لسان الأدلّة وکلمات الفقهاء فی الواجبات التوصّلیّة، من أنّ الممتثل للواجب التوصّلی إذا قصد بإتیانه امتثال أمر اللّه تبارک وتعالی وإطاعته، یوجب کسب الثواب ، کما ورد فی بعض الأخبار من ترغیب العباد بأن لا یکون غافلاً عن امتثال أمر اللّه وقصده حتّی فی التوصّلیّات، کالإنفاق علی العیال، وتجهیز المیّت حیث کان الثواب مترتّباً علی ما لو کان العبد قد قصد التقرّب للّه، وهو کون الثواب علی قصد الامتثال فی حال الإطاعة، فلو لم یقصد لم یکن العمل عبادیّاً مستلزماً للثواب.

فبناءً علی هذا التقریب، یلزم أن لا یکون إطاعة کلّ أمرٍ نفسیّ مستلزماً لکونه ذا ثواب ، إلاّ أن یقصد أمره حال الامتثال، فیصیر عبادیّاً ذا ثواب ، هذا فی الجملة حسن .

إلاّ أنّ التفضّل والإحسان، لا سیما من ربّ الأرباب، ربما کان أوسع من هذا ؛ لأنّ اللّه ربما یُعطی الثواب علی إطاعة کلّ أمرٍ نفسی، سواءً کان عبادیّاً إذا قصد امتثال أمره ، أو توصّلیّاً فیما إذا لم یقصده ، بل ربما یستفاد من أخبار باب التسامح فی أدلّة السنن بأنّ من أتی بشیء التماساً للثواب الذی بلغه، أعطاه اللّه ذلک الثواب، ولو لم یکن فی الواقع أمراً ولا ثواباً ، باعتبار کون الثواب مترتّباً علی مطلق الإطاعة والامتثال للأمر النفسی والانقیاد، ولو کان غیر واقعی .

بل ولعلّه من ذلک یمکن الاستظهار من ترتّب الثواب علی امتثال الأوامر الغیریّة أیضاً، من باب التوسعة فی الفضل ، ولعلّه کان من هذا الوجه قیام بعض الآیات والروایات الدالّة علی ترتّب الثواب علی مقدّمات بعض الواجبات

ص:105

والمستحبّات ، کما فی قوله تعالی : «مَا کَانَ لاَِهْلِ الْمَدِینَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الاْءَعْرَابِ أَنْ یَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّه ِ وَلاَ یَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ لاَ یُصِیبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِی سَبِیلِ اللّه ِ وَلاَ یَطَئُونَ مَوْطِئا یَغِیظُ الْکُفَّارَ وَلاَ یَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَیْلاً إِلاَّ کُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّه َ لاَ یُضِیعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِینَ قدس سره رضی الله عنه وَلاَ یُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِیرَةً وَلاَ کَبِیرَةً وَلاَ یَقْطَعُونَ وَادِیا إِلاَّ کُتِبَ لَهُمْ لِیَجْزِیَهُمْ اللّه ُ أَحْسَنَ مَا کَانُوا یَعْمَلُونَ»(1) .

حیث رتّب اللّه سبحانه الثواب علی المقدّمات التی یترتّب علیها الجهاد، من قطع البوادی، وإنفاق الأموال وصرف المؤونات، فظاهر الآیة الشریفة دالّة علی ذلک بما لا ینبغی إنکارها .

بل وما ورد من الثواب فی زیارة مولانا الإمام الحسین علیه السلام من أنّه لکلّ خطوة ثواب عتق عبد من أولاد إسماعیل علیه السلام .

وعلیه فلا إشکال فی اعتبار الثواب علی الأوامر الغیریّة علی نحو التفضّل من الربّ الکریم ، کما قد یؤیّد ذلک ترتّب الثواب علی ما لیس بمقدّمة، نظیر الثواب المترتّب علی الخطوات التی یخطوها الزائر بعد عودته من زیارة قبر الحسین علیه السلام ، فبالرغم من أنّها لا تعدّ من المقدّمات،لکن یصحّ فرض الثواب لها.

أقول: فیظهر من جمیع ذلک، أنّ ترتّب الثواب علی العمل لیس من قبیل الاستحقاق حتّی یلاحظ أیّ موضع فیه الحقّ حتّی یطالب به، بخلاف غیره من التفضّل والإحسان، فإنّ بابه واسعٌ لا یمکن حصره فی موضع بالخصوص دون


1- سورة التوبة : الآیة 120 - 121 .

ص:106

آخر، کما لا یخفی .

فلو تنزّلنا عن ذلک وأغمضنا عمّا قلناه من إنکار الاستحقاق، وقلنا بمقالة الشیخ ومَن تبعه بأنّ الثواب یکون بالاستحقاق، فلا یبعد القول بأنّ الأمر النفسی إذا قام بإتیانه المکلّف مع قصد أمره، ترتّب علیه الثواب، لکونه واجداً لجهات ثلاث: من الداعویّة، وکونه مقرّباً، وعبادیّاً بواسطة قصد الأمر ، فهذا هو القدر المتیقّن من ترتّب الثواب .

وأمّا امتثال الأمر النفسی بدون قصد الأمر، فهو أیضاً مستلزم للثواب لو کان ملاک استحقاق الثواب مجرّد الداعویّة أو التقرّب وإن لم یکن العمل عبادیّاً .

وقال العلاّمة الطباطبائی قدس سره : فی معرض الإشکال:

(والحقّ أنّ الملاک فی استحقاق الثواب علی الموافقة هو العبادیّة، دون الوجوب النفسی، ضرورة أنّ الواجبات التوصیلیّة لا ثواب علی مجرّد موافقتها، لو لم تأت بقصد القربة علی نحو العبادیّة ، فالواجب النفسی من حیث هو واجبٌ نفسیّ لا یوجب ثواباً ، إلاّ إذا أتی بها عبادة، ولا تفاوت فیها بین أن تکون مقدّمة، أو ذا مقدّمة لاستقلال العقل بکون الإتیان بقصد القربة موجباً للقرب والثواب) ، انتهی محلّ الحاجة من کلامه(1) .

فإنّه قدس سره جعل الملاک فی الاستحقاق العبادیّة لا ما ذکرناه .

ولکن یرد علیه أوّلاً: أنّه قد جعل فی بیان السرّ فیه بعد أسطر أنّ الملاک فی الاستحقاق فی الثواب والعقاب لیس إلاّ موافقة الأمر ومخالفتها ، غایة الأمر أنّه


1- حاشیة الکفایة للعلاّمة الطباطبائی : ج1 / 119 .

ص:107

یدّعی أنّ الموافقة للأمر فی الواجب النفسی التوصّلی لا یحصل إلاّ مع قصد الامتثال حتّی یصیر عبادة .

وهو ممنوعٌ، لوضوح أنّ الممتثلین للأوامر التوصّلیّة من دون قصد الأمر یعدّون ممتثلین للأمر ، والامتثال عقلاً لا یمکن تحقّقه إلاّ بالموافقة ، فکیف یصفه بأنّه لیس بموافقة .

وکیف کان، لا یجامع بین قوله فیما قبله بأنّ الملاک فی الاستحقاق هو العبادیّة دون الموافقة ، وبین قوله لاحقاً فی ذیل کلامه بأنّ ملاک الاستحقاق هو الموافقة ، ولا یحصل إلاّ بقصد الأمر ؛ لوضوح فساد هذه الدعوی قطعاً ، فلابدّ من الالتزام بأحد من الأمرین :

إمّا القول بأنّ ملاک الاستحقاق هو العبادیّة، وهو أخصّ من الموافقة .

أو القول بأنّ الملاک هو الموافقة للأمر النفسی ولو لم یکن عبادة .

وثانیاً : أنّ حکمه قدس سره بأنّ قصد الأمر فی المقدّمة یکون مثل ذی المقدّمة من حیث استقلال العقل بالاستحقاق.

لا یخلو عن وهن ؛ لوضوح أنّ الأمر الغیری لیس بأمر حقیقة، خصوصاً إذا کان تبعیّاً لا بخطاب أصلی ، لا سیما إذا قلنا بأنّ أمره یکون بحکم العقل لا بالملازمة الشرعیّة ، فاستلزام قصد مثل هذا الأمر الذی ظهر أنّ حاله کذلک الاستحقاق . بعیدٌ غایته، خصوصاً مع دعواه استقلال العقل بذلک .

وإن أراد أنّ قصد الأمر النفسی یجعل المقدّمة عبادةً موجباً للاستحقاق، فهو یستلزم:

إمّا أن یکون الثواب للمقدّمة دون ذی المقدّمة .

ص:108

أو لکلیهما فیتعدّد الثواب .

أو أنّ الثواب یکون لذی المقدّمة فقط دون المقدّمة .

وجوهٌ لا یخلو وجه الأوّل عن وهن جدّاً ؛ لأنّه یلزم مزیّة الفرع علی الأصل إذ لا یصحّ تسلیم أن یُقال بترتّب الثواب للمقدّمة دون ذیها .

کما لا یکون القول بتعدّد الثواب وجیهاً، لعدم وجود دلیل إثباتی له إلاّ فی بعض الموارد .

فیبقی الآخر هو المتعیّن، وهو کون الثواب لذی المقدّمة فقط، وهو مخالفٌ لما ادّعاه .

أقول: فثبت من جمیع ما ذکرنا عدم إمکان إثبات الاستحقاق للثواب .

نعم، لا یبعد أن یکون الملاک هو حصول أصل الموافقة للأمر النفسی ، سواءً کان حصولها من جهة داعویّته ، أو من جهة تقرّبه ، أو من جهة عبادیّته . وقد یتّفق اجتماع الثلاثة فی مورد ، کما لو أتی بأمر نفسیّ مع قصد امتثال الأمر ، وأمّا الافتراق بین الداعویّة والقُربیّة فمشکلٌ جدّاً .

ولکن لا یترتّب علی ما التزمنا به الإشکال، باعتبار أنّ المختار عندنا کون الثواب تفضّلیّاً، فیمکن الالتزام بوجود الثواب فی جمیع أقسامه ، بل أوسع من ذلک کما عرفت .

***

فرع: البحث عن تأثیر المشقّة فی کثرة الثواب.

أقول: یمکن أن تکون زیادة الثواب بلحاظ تعلّق الثواب علی نفس المقدّمات تفضّلاً کما قلناه ، أو کان الثواب الکثیر متوجّهاً إلی ذی المقدّمة بواسطة

ص:109

أحمزیّة مقدّماته کما قیل : (أفضل الأعمال أحمزها) . لا بأن یکون الثواب موزّعاً مع المقدّمات، کما وقع هذا فی بعض کلمات القوم ، بل کان ثواب موافقة الأمر النفسی - الذی کان متکفّلاً لمثل هذه المقدّمات - أزید وأشدّ من الثواب الذی لم تکن مقدّماته کذلک ، کما لا یبعد استفادة ذلک من نفس التعبیر الوارد فی الأخبار من أحمزیّة العمل الظاهر کونه لأجل ذی المقدّمة بواسطة مقدّماته ، لا بأن یکون وصف الأحمزیّة وصفاً لمقدّماته، وکون المراد من العمل هو المقدّمة ، فتأمّل .

واعلم أنّه إن قلنا بتعلّق الثواب علی المقدّمات تفضّلاً کما اخترناه، فلا یتوجّه إشکال بتعلّق الثواب علی بعض المقدّمات فی بعض الموارد، کالطهارات الثلاث، لما قد عرفت من إمکانه .

وإنّما علی القول بالاستحقاق، وکون الملاک فیه هو داعویّة الأمر، وکونه موجباً للقُرب .

فیرد الإشکال أوّلاً: فی مثل الطهارات الثلاث، حیث أنّ أمرها مع کونها غیریّاً کیف یکون مورداً للثواب وحصول الإطاعة والقُرب بموافقة أمرها .

وثانیاً: إلی أنّ الأمر الغیری عُدَّ توصیلیّاً، مع أنّ المعتبر فی صحّة هذه الطهارات هو الإتیان بقصد القُربة .

وثالثاً: لزوم الدور حینئذٍ، فإنّ الطهارات بما هی عبادات جعلت مقدّمة، وعبادیّتها متوقّفة علی الأمر الغیری، ولا یترشّح الأمر الغیری علیها إلاّ بما هی مقدّمة ، ومقدّمیّتها متوقّفة علی عبادیّتها وهو دور لأنّ العبادیّة المتوقّفة علی الأمر الغیری المتوقّف علی مقدّمتها المتوقّفة علی عبادیّتها، فیکون دوراً مضمراً لا مصرّحاً ، وهو باطل .

ص:110

وهذا الإشکال نشأ من جهة صیرورة عبادیّتها من الأمر الغیری.

أقول: هذه إشکالات ثلاث لابدّ من الفرار عنها.

فأجاب عن الإشکال المحقّق الخراسانی فی «الکفایة» بقوله :

(والتحقیق أن یُقال إنّ المقدّمة بها بنفسها مستحبّة وعبادة، وغایاتها إنّما تکون متوقّفة علی إحدی هذه العبادات ، فلابدّ أن یؤتی بها عبادة، وإلاّ فلم یؤت بما هو مقدّمة لها بقصد القربة فیها، إنّما هو لأجل کونها فی نفسها اُموراً عبادیّة، ومستحبّات نفسیّة ، لا لکونها مطلوبات غیریّة)(1) .

وقد اعترض علیه المحقّق النائینی أوّلاً:

(بأنّ کون الطهارة بنفسها مستحبّة لا تتمّ فی مثل التیمّم، فیبقی الإشکال فیه بحاله ، ولو سلّمنا عبادیّتها فی الوضوء والغسل)(2) .

وردَّ علیه المحقّق الخوئی فی «المحاضرات» : بإمکان استفادة استحباب التیمّم من قوله علیه السلام : (التراب أحد الطهورین) ، بضمیمة الإطلاقات التی تدلّ علی استحباب الطهور فی نفسه .

فالنتیجة أنّ التیمّم بما أنّه طهور فهو مستحبّ بمقتضی تلک الإطلاقات)(3) .

قال المحقّق الخمینی فی ردّ هذا الإشکال:

(قلت : یمکن أن یُقال ، بل یستکشف من احتیاجه إلی قصد التقرّب وترتّب المثوبة، کونه عبادة فی نفسه، إلاّ أنّه فی غیر حال المقدّمیّة ینطبق علیه مانع عن


1- الکفایة : ج1 / 177 .
2- فوائد الاُصول : ج1 / 229 .
3- المحاضرات : ج2 / 398 .

ص:111

عبادیّتها الفعلیّة .

أو یُقال : بأنّه عبادة فی ظرف خاصّ، وهو کونه مأتیّاً به بقصد التوصّل إلی الغایات، لا بأن تکون عبادیّته لأجل الأمر الغیری)(1) .

أقول: یرد کلام المحقّق الخمینی:

أوّلاً : أنّه لو کان التیمّم بنفسه عبادة، لابدّ أن یکون قصد التقرّب والامتثال فیه ضروریّاً سواءً ترتّب علیه الغایة لاقتضاء نفسه کالوضوء والطهارة أم لا ، ولو کان المفروض وجود المانع فیه فلا یؤثّر المقتضی فیه ، فلابدّ أن لا تکون عبادة أصلاً ، إلاّ إذا ترتّب علیه الغایة . فیمکن حینئذٍ أن یکون قصد التقرّب فیه من جهة قصد الأمر المتعلّق لذی المقدّمة الکافی فی کونه عبادة . غایة الفرق بین هذا الشرط وغیره من الشرائط، هو أنّه أُخذ بصورة العبادة مقدّمةً وشرطاً دون غیر الطهارة من الستر والاستقبال ، فلا یرد حینئذٍ نقضٌ.

لا یُقال: لو کان قصد الأمر النفسی لذی المقدّمة موجباً لعبادیّته، فلِمَ لا یکون کذلک فی غیرها من الشرائط؟

لأنّا نقول : إنّه أیضاً کذلک، إلاّ أنّه لم یعتبر فیه قصد التقرّب شرطاً ، بخلاف الطهارات الثلاث.

وهذا الجواب وإن لا یخلو عن تأمّل ، حیث تری قد یتحقّق بلا توجّه إلی ذلک الأمر النفسی ، لکن یکفی للردّ علی الإشکال.

وثانیاً : یرد علی کلامه الأخیر من إمکان أن یکون عبادیّته فی ظرف


1- تهذیب الاُصول : ج1 / 198 .

ص:112

خاصّ، وهو کونه مأتیّاً به بقصد التوصّل إلی الغایة، بأنّه:

إن کان قصد التوصّل دخیلاً فیها، فیلزم أن یکون عبادة ولو لم یترتّب علیه الغایة واقعاً ؛ لأنّ قصد التوصّل قد تحقّق .

وإن کان الترتّب الواقعی دخیلاً دون القصد فقط، فیلزم أن لا یکون ذلک إلاّ من جهة أمره الغیری، أو من جهة الأمر النفسی الذی تعلّق بذی المقدّمة .

فالأولی الالتزام بعبادیّته فی کلّ مورد ثبت العذر الشرعی من الطهارة المائیّة من الحدث الأکبر والأصغر، وکانت الطهارة فی تلک الموارد مطلوبة أیضاً، فلا محیص حینئذٍ إلاّ الالتزام بمطلوبیّة التیمّم، فیکون وجه لزوم قصد القربة هو حصول الطهارة المعنویّة التی من شرط تحصیلها قصد القربة والامتثال ، وهذا القصد کما یمکن حصوله من قصد الأمر النفسی المتعلّق لذی المقدّمة، لأنّه یعدّ من شؤون ذیها ومراتبه ، فکذا یمکن أن یکون بلحاظ محبوبیّته النفسیّة، کما عرفت وجودها فیما لو عجز عن تحصیل الماء من الموارد الخاصّة .

فثبت أنّ قصد الأمر الغیری لا دخالة له فی عبادیّته الطهارات الثلاث، کما لایخفی .

فإن قلت : إنّ الأمر المتعلّق بالصلاة إنّما تعلّق بأجزائها وتقیّدها بشرائطها ، وأمّا نفس الشرائط والقیود فهی خارجة عن متعلّق الأمر، وإلاّ لم یبق فرق بین الجزء والشرط .

ویؤیّد ذلک: أنّه قد یکون الشرط غیر اختیاری، علی أنّها لو کانت داخلة فی متعلّقه، فکیف تتّصف بالوجوب الغیری ، مع أنّه لا مقتضی لاتّصاف المقدّمات الداخلیّة بالوجوب الغیری ، هذا .

ص:113

قلت : إنّا لم ندّع کون الأمر المتعلّق بذیها قد تعلّق بالمقدّمات، حتّی یُقال بذلک ویشکل بهذین الإشکالین ، بل قلنا بأنّ قصد الأمر الذی کان مخصوصاً لذیها یکفی فی عبادیّة مقدّماته ؛ لأنّها کانت من شؤون ذلک الأمر باعتبار تعلّقه ، ولذلک یجوز الإتیان بالمقدّمات قبل دخول الوقت تهیئاً لذیها ؛ لأنّ العرف یری الشروع بالمقدّمات شروعاً للإتیان بالغایة المقصودة .

أقول: وممّا ذکرنا یظهر الجواب عمّا أورد علیه:

قیل: بأنّ الأمر المتعلّق لذیها لا یدعو إلاّ إلی متعلّقه، ومحالٌ أن یدعو إلی مقدّماته ، فکیف یمکن جعل قصد امتثال الأمر النفسی موجباً لعبادیّة المقدّمات؟

والجواب ما عرفت بأنّا لا ندّعی داعویّة الأمر إلی ذلک، حتّی یرد علینا بما سمعت ، بل المقصود عکس ذلک، وهو أنّ عبادیّة المقدّمات یکفی فیها قصد مثل ذلک الأمر الذی یعدّه العرف من متعلّقات الأمر النفسی وشؤونه .

مضافاً إلی ما عرفت من إمکان دعوی کونه محبوباً بنفسه ، فقصد ذلک الأمر یکفی فی صیرورتهما عبادة، فیجعل بعده مقدّمة للصلاة ونظائرها ، وهذا هو الأقوی .

هذا تمام الکلام فیما إذا قلنا بالاستحقاق ، وأمّا بناءً علی القول بالتفضّل فقد عرفت أنّه باب واسع، فلا مانع من إمکان تعلّق الثواب علی المأتی بالأمر الغیری، کما لا یخفی .

التنبیه الثانی: وهو إذا قلنا بأنّ الطهارات الثلاث یمکن أن تکون محبوبة فی نفسها ومستحبّة فی ذاتها، ویجوز ترتّب الثواب بواسطتها وصیرورتها عبادة بذلک ، فحینئذٍ لو لم تصادف مع الأمر الوجوبی الصلاة وغیرها من الغایات فلا

ص:114

غرو ، وأمّا لو صادفت کما إذا کان بعد دخول الوقت، حیث أنّ الطهارة حینئذٍ واجبة للصلاة قطعاً ، فمع وجوبها الغیری، کیف یمکن کونها مستحبّة مع فرض قیام التضادّ بین الأحکام، کما لا یخفی .

قال السیّد الطباطبائی صاحب «العروة» قدس سره : - علی ما هو فی المحاضرات - بأنّه لا مانع من اجتماع الوجوب الغیری والاستحباب النفسی فی شیء واحد من جهتین ؛ لأنّ مبناه جواز اجتماع الأمر والنهی فی شیءٍ واحد من جهتین ، وبما أنّ المقام أیضاً کان ذات جهة متعدّدة، لأنّ جهة الوجوب الغیری وهی المقدّمیّة غیر جهة الاستحباب النفسی وهی ذوات الأفعال ، فلا مانع من اجتماعهما ولا یوجب ذلک اندکاک الاستحباب فی الوجوب) ، انتهی کلامه(1) .

فأورد علیه الناقل لکلامه بقوله : (وغیر خفیّ أنّ تعدّد الجهة إنّما یجدی فی جواز اجتماع الأمر والنهی إذا کانت الجهة تقییدیّة ، وأمّا إذا کانت تعلیلیّة کما فی المقام فلا أثر لتعدّدها أصلاً) ، انتهی کلامه(2) .

أقول: ولکن یمکن أن نناقش علی کلام صاحب «المحاضرات»:

أوّلاً: بأنّ الکون الذی کان جزءاً للصلاة وللغصب کان بحمل الشایع الصناعی جزءاً لا ما یکون عنواناً للجزئیّة .

وبعبارة اُخری : إنّ وصف الجزئیّة یکون کوصف المقدّمیّة، فکما أنّ عنوان المقدّمیّة لا یکون متعلّقاً للأمر الغیری، حتّی تکون الجهة جهة تقییدیّة ، بل المقدّمة عبارة عن المعنون فی الخارج فتکون الجهة جهة تعلیلیّة ؛ أی یجب لأنّها مقدّمة


1- محاضرات فی الاُصول : ج2 / 402 .
2- المحاضرات : ج2 / 402 .

ص:115

هکذا یکون فی وصف الجزئیّة للکون فی الصلاة والغصب، حیث یکون وصف الجزئیّة حیثیّة تعلیلیّة لا تقییدیّة، فیکون المرجع فی کلا الموردین إلی شیء واحد ، فإذا قیل بجواز اجتماع الأمر والنهی فی شیء واحد، وکفایة تعدّد الجهة فی جواز الاجتماع، فلا فرق فی ذلک بین الأمر والنهی وبین غیره کما فیما نحن فیه . فما أجابه لا یخلو عن وهن .

وثانیاً : أنّ الظاهر کون حال الکون فی الغصب حال الطهارة، بکونها متعلّقةً للنهی النفسی بذاته ، وحال الکون الصلاتی بما أنّه جزء لها بجهة تعلیلیّة ، حال الطهارة کونها مقدّمة لجهة تعلیلیّة ، فالجهة التعلیلیّة تکون فی واحد منهما لا فی کلیهما .

وأجاب صاحب «المحاضرات» عن الإشکال تارةً بالتفصیل فی الجزء الثانی فی الصفحة 298، واُخری بالإجمال فی الصفحة 403، وحاصل کلامه فی الموردین:

إنّ حال المورد کغیره من موارد الاستحباب التی یعرض علیها الوجوب مثل النذر والعهد ، فکما یندکّ الأمر الاستحبابی فی ضمن الوجوبی، فیتحصّل منه أمرٌ واحدٌ وجوبیّ مؤکّد، ویکون ذلک الأمر الواحد أمراً عبادیّاً ؛ لأنّ کلاًّ منهما یکتسب من الآخر صفةً بعد عدم إمکان بقاء کلّ منهما بحدّه الخاصّ ، علی أنّه یکفی فی عبادیّتها محبوبیّتها فی أنفسها، وإن لم یبق أمرها الاستحبابی بإطاره الخاصّ .

أضف إلی ذلک: أنّه لا اندکاک ولا تبدّل فی البین، علی ضوء نظریّتنا من أنّه لا فرق بین الوجوب والاستحباب إلاّ فی جواز الترک وعدم جوازه ، وعلیه فعند

ص:116

عروض الوجوب یتبدّل الجواز بعدمه .

وإن شئت قلت : إنّ الأمر الغیری إن تعلّق بداعی أمرها الاستحبابی، کان متعلّق أحدهما غیر ما یتعلّق به الآخر ، وإن تعلّق بذواتها، فعندئذٍ وإن کان متعلّقهما واحداً، إلاّ أنّک قد عرفت أنّه لا تنافی بینهما، ولا یوجب زوال الاستحباب بالمرّة) ، انتهی کلامه .

فیرد علیه أوّلاً : بأنّ بین صدر کلامه وذیله تهافت ؛ لأنّه صرّح فی صدر کلامه بأنّه :

(فکما یندک الأمر الاستحبابی فی ضمن الوجوبی، فیتحصّل منه أمرٌ واحدٌ ووجوبی مؤکّد بالاندکاک) ، لکنّه یقول فی ذیل کلامه:

(أضف إلی ذلک أنّه لا اندکاک ولا تبدّل فی البین) .

حیث ذکر فی الذیل عدم تحقّق الاندکاک والتبدّل مع أنّ صریح کلامه فی الصدر هو الاندکاک والتبدّل ؛ لأنّه اختار بصیرورة الاستحباب وجوباً مؤکّداً إذا انضمّ إلی ما هو الواجب ، فکیف یمکن الجمع بینهما؟

وثانیاً : بأنّه إذا صار الجواز الذی هو فصل الاستحباب متبدّلاً إلی عدم الجواز الذی یعدّ فصلاً للوجوب، فکیف یمکن فرض عدم التبدّل؟ فصرف بقاء الجنس وهو رجحان الفعل لا یوجب بقاء الاستحباب بحدّه وعدم تبدّله ، مع أنّه قد عرفت فی سابقه من عدم بقائه بحدّه ؛ لأنّه إذا تعلّق الوجوب بذات شیء تعلّق به الاستحباب لا إشکال فی تحقیق الاندکاک والتبدّل وعدم بقاء الاستحباب حینئذٍ إلاّ بملاکه الواقعی فقط، وهو المصلحة المربوطة به مضافاً إلی المصلحة الملزمة للوجوب، کما لا یخفی .

ص:117

قال المحقّق النائینی ما خلاصته :

(ثمّ لو أغمضنا عن ذلک کلّه، کان لنا التفصّی عن الإشکالات بوجهٍ آخر یختصّ بالوضوء والغسل فقط، ولا یجری فی التیمّم .

وحاصل ذلک الوجه : أنّ الوضوء والغسل لهما جهة محبوبیّة ذاتیّة أوجبت استحبابهما قبل الوقت، وعروض الوجوب لهما بعد الوقت، لا ینافی بقاء تلک الجهة، وإن قربت بعد الوقت وحصلت لها شدّة أوجبت الوجوب .

والحاصل : أنّ عروض ملاک الوجوب علی ملاک الاستحباب، لا یوجب انعدام الملاک الاستحبابی، وحدوث ملاک آخر للوجوب ، بل غایته تبدّل الاستحباب بالوجوب، وفوات الرخصة من الترک التی کانت قبل الوقت مع اندکاک الملاک الاستحبابی فی الملاک الوجوبی، نظیر اندکاک السواد الضعیف فی السواد الشدید .

ولکن لا یخفی علیک، أنّ ما ذکرناه من تبدّل الاستحباب بالوجوب فإنّما هو بالنسبة إلی الوجوب النفسی الثابت للوضوء بعد الوقت، لا الوجوب الغیری ، فإنّ التبدّل بالوجوب الغیری لا یعقل لاختلاف المتعلّق .

ثمّ تعرّض لضابط تبدّل الأحکام بعضها مع بعض لیتّضح المقصود :

فقال : إنّ ضابط التبدّل هو أن یتعلّق الوجوب بعین ما تعلّق به الاستحباب، مثل وقوع النذر علی صلاة اللیل، فهو تعلّق بذاتها لا بما أنّها مستحبّة، ولا یمکن تعلّقه بعنوان الثانی لأنّها تصیر بالنذر واجبة، فلا یمکن إتیانها حینئذٍ مستحبّة ، فتعلّق الوجوب بعین ما تعلّق به الأمر الاستحبابی، فیتبدّل الاستحباب بالوجوب، ویکتسب الأمر الوجوبی التعبّدیّة، کما اکتسب الأمر الندبی وصف الوجوب،

ص:118

فالأمر النذری بعدما کان توصّلیّاً صار تعبّدیّاً ، فالتبدّل إنّما یتحقّق إذا کان متعلّقهما واحداً . وأمّا إذا لم یکن متعلّقهما واحداً ، بل الأمر الثانی قد تعلّق بالشیء بما أنّه کان مأموراً به بالأمر الأوّل ، ففی مثله لا یعقل التبدّل، وهو کما فی صلاة الظهر حیث اجتمع فیها أمران ؛ أمرٌ تعلّق بذاتها وهو الأمر النفسی العبادی الذی لا یسقط إلاّ بامتثاله والتعبّد به، ولمکان کون صلاة الظهر مقدّمة لصلاة العصر ، حیث أنّ فعلها شرط لصحّتها وقد تعلّق بها أمر مقدّمی . ولکنّه قد تعلّق بالظهر بما أنّه مأمور به بالأمر النفسی ، وقد تعدّد متعلّق الأمرین، فلا یتّحد فلا تبدّل فی مثله ، فلو قصد الأمر الغیری فی الظهر کان باطلاً لکونه توصّلیّاً ولا یکتسب التعبّدیّة به لاختلاف متعلّقهما .

إلی أن قال : إذا عرفت ذلک ، فنقول : إنّ الوضوء قبل الوقت کان أمره استحبابیّاً، وبعده وجوبیّاً بالأمر الصلاتی، ولمکان اتّحاد المتعلّق بتبدّل الأمر الاستحبابی بالأمر الوجوبی ، حیث أنّ الأمر الاستحبابی قد تعلّق بالذات، والأمر الوجوبی النفسی العارض من جهة الأمر بالصلاة بعده أیضاً قد تعلّق بالذات فیتبادلان .

وأمّا الأمر الغیری العارض له بعد الأمر بالصلاة، فلا یعقل أن یتّحد مع الأمر الاستحبابی أو النفسی ؛ لأنّ الأمر الغیری إنّما یعرض علی ما هو بالحمل الشایع مقدّمةً، والوضوء المأمور به بالأمر الصلاتی یکون مقدّمةً، فیکون حال الوضوء بالنسبة إلی الأمر النفسی والأمر الغیری کحال صلاة الظهر التی تکون مقدّمة لصلاة العصر، من حیث عدم تبدّل أمریها ، وبالنسبة إلی الأمر النفسی والأمر الاستحبابی کحال نذر صلاة اللیل من حیث التبدّل) . انتهی کلامه(1) .


1- فوائد الاُصول : ج2 / 229 .

ص:119

أقول: وفی کلامه مواقع للنظر :

أوّلاً : بما قد عرفت بأنّ الرخصة فی الاستحباب إذا صارت غیر جائزة ولا یجوز الترک فهو فی الحقیقة تبدّل ؛ لأنّ ملاک الامتیاز بین الأنواع إنّما هو بواسطة الفصل المقوّم للنوع لا الجنس ، فإذا زالت الرخصة فیزول الأمر الاستحبابی بتبعه، فلیس هاهنا اندکاک من هذه الجهة وإن کان بحسب نفس الأمر تکون المصلحة لکلا الأمرین موجودة . ولعلّه هذا هو المراد من کلامه وکلام تلمیذه من عدم الاندکاک، کما یشعر إلی ذلک عبارة (ملاک الأمر الاستحبابی) فی کلام النائینی قدس سره دون تلمیذه .

وثانیاً : أنّا لا نفهم حقیقة مراده من قوله: (الأمر الوجوبی النفسی للوضوء)وأنّه أیّ أمرٍ یقصده، هل هو غیر الأمر المقدّمی الذی کان یسمّی بالأمر الغیری الذی فرض مستقلاًّ؟

أم أراد منه الأمر النفسی الذی قد تعلّق بنفس الصلاة الذی قلنا بجواز قصده ، فقد عرفت أنّه لا یکون متعلّقاً إلاّ بنفس الصلاة دون الوضوء .

وإن فرض وجود أمر مستقلّ نفسی وجوبی علی الوضوء ، فإنّ منشأ وجوده مجهول لدینا.

وبعبارة اُخری : لیس لنا فی الوضوء إلاّ ثلاث أوامر، حیث لم یکن ذلک الأمر الذی فرضه فرداً منه . والأوامر الثلاثة هی: الأمر النفسی الاستحبابی ، وأمره الوجوبی المقدّمی ، والأمر النفسی الوجوبی المتعلّق بذی المقدّمة .

فما فرضه من الوجوب النفسیهنا - حتّی تکون نسبته مع النفسی الاستحبابی، من قبیل تبدّل الأحکام واکتساب التعبّدیّة منه - غیر مفهوم لنا فعلیه البیان .

ص:120

وثالثاً : أنّا لا نسلّم کون النذر متعلّقاً بصلاة اللیل بذاتها، لا بما أنّها مأموراً بها بالأمر الاستحبابی ، مع أنّه من المعلوم بأنّ النذر قد تعلّق أمره علی الوفاء بمتعلّقه، وهو قد تعلّق بصلاة اللیل التی تعدّ مستحبّة بنفسها ومأموراً بها بالأمر النفسی ، وصیرورتها واجبة بواسطة النذر، لا ینافی أنّ قصدها لأجل أمرها الاستحبابی مع کونه وفاءً للنذر وجوباً أیضاً ؛ یعنی إذا امتثل بالنذر کان ممتثلاً للأمرین من النفسی الندبی، والوجوب النذری الذی یعدّ مصداقاً للوفاء بالنذر ، غایة الأمر یجوز للمصلّی بعد النذر أن یقصد الأمر الذی تعلّق بنفسها، فیصیر بذلک عبادة ومصداقاً للوفاء بالنذر .

وأمّا لو قصد خصوص الأمر النذری من دون قصد أمر نفسه، ولم نقل بکفایة محبوبیّتها النفسیّة فی صحّة قصد التقرّب، کان صحّة ذلک محلّ إشکال، لعدم حصول عبادیّة ذلک بقصد خصوص الأمر النذری ؛ لأنّه أمرٌ توصّلی، ولیس بتعبّدی قربی ، إلاّ أنّه حیث کان الارتکاز عند المتشرّعة فی نذر مثل ذلک هو الإتیان بما هو مطلوب للشارع، فقهراً یقصد من خلال الإتیان امتثال أمر نفسه قضیّةً للوفاء بالنذر ، فعلی هذا لا یکون المتعلّق فی الأمرین واحداً حتّی یوجب القول بالتبدّل والاندکاک .

وهکذا نقول فی المقام : بأنّ الوضوء لیس حاله إلاّ حال صلاة اللیل فی کونه مستحبّاً فی نفسه ، والوجوب الغیری المقدّمی بالنسبة إلیه لیس إلاّ حال وجوب الوفاء بالنذر فی الأمر النذری ، فکما لا یکون المتعلّق فیها متّحداً فلا تبدّل ولا اندکاک . کذلک یکون فی الوضوء ، فلا ینافی أن یکون قصد المأمور به الذی قصد إتیانه بالأمر النفسی وکونه مأموراً به متعلّقاً للأمر الغیری المقدّمی ، فحیث کان

ص:121

الأمر الغیری توصّلیّاً لا یجوز أن یقصده لیصبح الوضوء عبادیّاً ، بخلاف قصد أمره النفسی ، أو قصد الأمر النفسی المتعلّق بذیها حیث یمکن جعله عبادیّاً .

وبالجملة: ثبت من خلال ما ذکرناه عدم لزوم التبدّل والاندکاک، وکما ثبت أنّ الأمر الاستحبابی بملاکه وبحدّه موجود لاختلاف متعلّقهما، وأنّ عبادیّته محفوظة بعد ذلک أیضاً، کما لا یخفی علی المتأمِّل.

التنبیه الثالث : فقد ظهر ممّا حقّقناه فی الطهارات الثلاث أنّ إتیانها علی نحو العبادة، منوطة :

إمّا بإتیانها بقصد الأمر النفسی الاستحبابی لنفسه، سواءً کان حال عدم انطباق واجب علیه کالوضوء قبل دخول الوقت ، أو انطبق علیه غایة من الغایات، کالوضوء لما بعد دخول وقت الصلاة، حیث قد عرفت جواز قصد هذا الأمر أیضاً فی هذه الحالة .

أو یقصد الأمر النفسی الوجوبی المتعلّق بذی المقدّمة، من جهة أنّ المقدّمة کانت من متعلّقاته وشؤونه، فیصدق أنّه شرع بذیها بالشروع بمقدّماته، فیصدق حینئذٍ أنّه قد تعبّد بذلک الأمر، فیصحّ قصد أمره لیصبح عبادة .

أو یُقال بکفایة محبوبیّة ذاته ونفسه فی جواز قصد القربة، ولو لم یکن الأمر الاستحبابی موجوداً :

إمّا من جهة القول بالاندکاک والتبدّل، وعدم بقاء الأمر الندبی مثلاً مع الأمر الوجوبی .

أو لوجود مزاحم آخر من تحقّق الأمر النفسی، کما اختاره بعض الفقهاء فی نظائره، فیمن اغتسل الجنابة للصلاة بزعم أدائها، فظهر أنّها کانت قضاءاً ، فقد قیل

ص:122

بصحّة الغسل لأنّ حسنه الفعلی وإتیانه مع قصد القربة، کافیان فی صحّته ولو لم یکن قد توجّه إلیه الأمر.

وکیف کان،فیصحّ عبادیّة الطهارات الثلاث بواحدٍ من هذه الطرق المذکورة.

وأمّا احتمال: کفایة قصد التوصّل إلی ذی المقدّمة فی عبادیّته، بمعنی کفایة قصد أمره الغیری فی عبادیّته .

ممّا لا یمکن أن یُصار إلیه، ولکن لا تکون صحّتها موقوفة علی قصد التوصّل ؛ لما قد عرفت عبادیّتها بنفسها من دون احتیاج إلی قصد التوصّل إلی ذیها .

نعم ، لو قصد بها ذلک، یکون حینئذٍ مقدّمة للصلاة أیضاً، فیتعلّق بها الأمر الغیری کما لا یخفی .

***

ص:123

فی الواجب النفسی والتهیّوئ

البحث عن الواجب النفسی والتهیّوئ

والمراد من الواجب التهیّئی، هو الذی وجب للتوصّل به إلی وجوب شیء، قبل حصول شرط ذلک الواجب، مثل تحصیل الطهارة قبل الوقت تهیّئاً للصلاة الواجبة فی ما بعد الوقت.

أقول: الغرض من هذا التقسیم هو الفرار عن شبهة المقدّمات المفوّتة للواجبات الموقّتة قبل وقتها، لأنّ الذی یبنی علی عدم وجوب ذی المقدّمة المشروطة بالوقت قبل دخول الوقت، یشکل علیه بوجوب مقدّماته الوجودیّة قبل حصول الوقت ، ولذلک التجأوا إلی القول بالوجوب التهیّئی لتصحیح وجوب هذه المقدّمات .

وأمّا علی مختارنا فی الواجب المشروط من الالتزام بفعلیّة الوجوب وإن کان الواجب استقبالیّاً ، فلا إشکال فی جواز الإتیان بالمقدّمات قبل دخول الوقت، ولذا لا حاجة - علی مسلکنا - إلی هذا التقسیم أصلاً ، ولذلک لا تری فی کلمات القدماء من هذا التقسیم عیناً ولا أثراً ، وإنّما وجد فی کلام المتأخّرین بسبب ما التزموه فی الواجب المشروط ، فالأولی الاقتفاء بآثارهم من ترک البحث حول هذا التقسیم، والرجوع إلی مطلب آخر کما انصرف عنه کثیر من المتأخّرین أیضاً .

***

ص:124

فی الواجب الأصلی والتبعی

البحث عن الواجب الأصلی والتبعی

أقول: ومن تقسیمات الواجب تقسیمه إلی الأصلی والتبعی:

فالأصلی: هو الواجب الذی کان إیجابه مقصوداً بخطاب مستقلّ کالصلاة والصوم والوضوء ، مثل قوله علیه السلام : (إذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور) .

والتبعی: ما کان إیجابه لا بخطاب مستقلّ ، بل بتبع خطاب متعلّق بواجب آخر .

والغرض من هذا التقسیم، بیان أنّ وجوب المقدّمة کیف یمکن الالتزام به مع أنّه تکون مقدّمة غیر ملتفت إلیها الآمر ، بل کثیراً ما تکون المقدّمة مغفولاً عنها، إذ ربما یقطع الآمر بعدم مقدّمیّة شیء لمطلوبه، کما کان نظیره فی الأوامر العرفیّة مثل قول المولی لعبده : (اشتر اللّحم) ، غافلاً عن أنّه لابدّ له من مقدّمة وهو الدخول فی السوق ، فمع ذلک کیف یمکن دعوی وجوب مطلق المقدّمة بقول مطلق ، ولذلک صاروا بصدد بیان هذا التقسیم، بأنّه لا یمکن أن یکون الشیء الواجب - نفسیّاً کان أم غیریّاً - أن یکون مورداً للخطاب استقلالاً ، بل یکفی کونه واجباً ولو بخطاب تبعی لإیجاب أمر آخر عند ثبوت الملازمة بینهما، کما فی المتلازمین فی الحکم ، حیث أنّه إذا ثبت الحکم فی أحدهما یثبت للآخر بالتبع من جهة قیام الملازمة، ولو کان الحکمان کلاهما نفسیّین ، فضلاً عن الغیری مع النفسی ، فتکون المقدّمات واجبة بوجوب ذیها، سواءً التفت إلیها الآمر أو کان غافلاً عنها، وسواءً تعلّق الخطاب بها مستقلاًّ واصلاً، کما لو قال : (ادخل السوق واشتر اللّحم) ، أو لم یذکره بخطاب أصلاً .

ص:125

وحیث لا ثمرة مهمّة مترتّبة علیه، فلذلک أسقط الاُصولیّون هذا التقسیم من کتبهم، ولم یبحثوا عنه ، فالأحسن الإعراض عن إطالة الکلام حوله ، والرجوع إلی أصل المطلب من بیان حالات أصل المقدّمة، وبیان ما هو الواجب علی فرض ثبوت الملازمة .

***

ص:126

المقدّمات المطلقة والموصولة

البحث عن المقدّمات المطلقة والموصولة

الأمر الخامس: فی المقدّمة المطلقة والموصلة

أقول: وقد وقع الخلاف بین الأعلام - بناءً علی ثبوت الملازمة بین وجوب ذی المقدّمة ووجوب مقدّماته - فی أنّ وجوبها هل هو تابع لوجوب ذیها فی الإطلاق والاشتراط ، أم لا؟

والذی یظهر من عبارة صاحب «المعالم» فی بحث الضدّ، أنّ المقدّمة وجوبها یکون فی ظرف کون المکلّف مریداً للإتیان بذیها .

وأیضاً: فحجّة القول بوجوب المقدّمة علی تقدیر تسلیمها إنّما تنهض دلیلاً علی الوجوب، فی حال کون المکلّف مریداً للفعل المتوقّف علیها کما لا یخفی علی من أعطاها حقّ النظر ، انتهی کلامه .

وفیه: وفساد کلامه من أوضح الواضحات ؛ لأنّه :

1 - إن أراد من ذلک أنّ وجوب ذی المقدّمة أیضاً مشروط بإرادة المکلّف، فهو فاسد قطعاً ؛ لأنّه :

أوّلاً: یکون الغرض من التکلیف هو إیجاد الداعی والإرادة له ، لا أن یکون التکلیف مشروطاً بها .

وبعبارة اُخری : إنّ تحصیل الإرادة تتحقّق من خلال التکلیف ، فکیف یمکن أن تکون الإرادة علّةً لوجود التکلیف .

وثانیاً : أنّه یلزم أن یکون لنا تکلیفاً مطلقاً ؛ لأنّه حینئذٍ یکون منوطاً باختیار نفس المکلّف، فمتی شاء الإتیان وأراد ، وجب، ومتی لم یشأ لم یکن واجباً. فلا

ص:127

یکون الکفّار الذین لا یریدون الامتثال حینئذٍ، بل المتخلّفین عصاةً، لإمکانهم بعدم إیجاد الشرط وهو إرادة الإتیان ، والحال أنّه واضح الفساد ، بل لا یلتزم بذلک القائل بنفسه أیضاً کما لا یخفی .

2 - وإن أراد أنّ إرادة الإتیان بالفعل هو شرط لوجوب المقدّمة دون ذیها ، کما هو الظاهر من کلامه .

فیرد علیه أوّلاً : أنّه یلزم التفکیک بین وجوب ذیها ووجوبها ، فیما إذا کان الفعل واجباً ، ولکنّه لم یرد إتیانه حتّی یجب مقدّمته ، وهو لا یجامع مع فرض ثبوت الملازمة بین وجوبها .

وثانیاً : أنّه لو کان إرادته شرطاً، فیلزم أن لا تکون المقدّمة مع عدم إرادته لها واجبة ، فإذا لم تجب فیکون له جواز ترکها ، فإذا ترکت لا یقدر علی الإتیان بذیها ، فکیف یمکن تعلّق الوجوب بذیها مع عدم القدرة علی إتیانه مع ترکها ، فذلک واضح الفساد، لأنّه إذا أصبح ذی المقدّمة واجباً فمعناه أنّه مقدور ولو بالواسطة، ویجب تحصیله ولو بإیجاد الإرادة له حتّی تکون المقدّمة حینئذٍ واجبة مطلقاً .

اللّهُمَّ إلاّ أن یکون مقصوده عدم وجوبها شرعاً، عند عدم الإرادة، لإیجاد الفعل لا عدم الوجوب عقلاً، فإنّه یجب مطلقاً کوجوب ذی المقدّمة ، فحینئذٍ لا وقع لما ذکرنا فی الإشکال الثانی دون الأوّل ، هذا علی القضیّة الشرطیّة .

3 - وإن کان مقصوده هو القضیّة الحینیّة، وأنّ وجوبها فی حال إرادة الفعل.

فهو أیضاً مخدوش، لعدم دخالته فی ملاک وجوبها .

أقول: إذا ظهر فساد کلام صاحب «المعالم» وثبتت تبعیّة وجوب المقدّمة

ص:128

لوجوب ذیها فی الإطلاق والاشتراط ، فیبقی السؤال عن حاله :

1 - هل المقدّمة بذاتها حینئذٍ واجبة مطلقاً - کما عن المحقّق الخراسانی - من دون انضمام قید معها .

2 - أو أنّها واجبة بقید ما قصد به التوصّل إلی ذیها، کما علیه الشیخ الأعظم علی ما فی تقریراته .

3 - أو أنّ المقدّمة الموصلة واجبة، کما علیه صاحب «الفصول» وصاحب «المحاضرات».

وجوهٌ وأقوال .

أقول: فلا بأس بذکر الأقوال، وما أقاموا لها من الأدلّة، حتّی یلاحظ ما فیها من الإشکال فینتخب ما هو الحقّ عندنا .

القول الأوّل: ذهب صاحب «الکفایة» و«العنایة» و«حقایق الاُصول» وغیرهم إلی القول الأوّل وهو کون مطلق المقدّمة واجبة، سواء رتّب علیها ذیها أم لم یترتّب ، وسواءً قصد بها الإیصال أو لم یقصد ، فتکون ذات المقدّمة واجبة .

واستدلّ صاحب «الکفایة» علی کلامه، أوّلاً :

(إنّ الوجوب لم یکن بحکم العقل إلاّ لأجل المقدّمیّة والتوقّف، وعدم دخل قصد التوصّل فیه واضح . ولذا اعترف بالاجتزاء بما لم یقصد به ذلک فی غیر المقدّمات العبادیّة لحصول ذات الواجب ، فیکون تخصیص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصّل من المقدّمة بلا مخصّص .

نعم ، إنّما اعتبر ذلک فی الامتثال، لما عرفت من أنّه لا یکاد یکون الآتی بها بدونه ممتثلاً لأمرها، وآخذاً فی امتثال الأمر بذیها ، فیثاب بثواب أشقّ الأعمال

ص:129

فیقع الفعل المقدّمی علی صفة الوجوب، ولو لم یقصد به التوصّل کسائر الواجبات التوصّلیّة، لا علی حکمه السابق الثابت له لولا عروض صفة توقّف الواجب الفعلی المنجّز علیه، فیقع الدخول فی ملک الغیر واجباً إذا کانت مقدّمةً لإنقاذ غریق أو إطفاء حریق واجبٌ فعلیّ لا حراماً، وإن لم یلتفت إلی التوقّف والمقدّمیّة .

غایة الأمر ، یکون حینئذٍ متجرّیاً فیه ، کما أنّه مع الالتفات یتجرّی بالنسبة إلی ذی المقدّمة فیما لم یقصد التوصّل إلیه أصلاً ، وأمّا إذا قصده ولکنّه لم یأت بها بهذا الداعی ، بل بداعٍ آخر أکّده بقصد التوصّل، فلا یکون متجرّیاً .

وبالجملة : یکون التوصّل بها إلی ذی المقدّمة من الفوائد المترتّبة علی المقدّمة الواجبة ، لا أن یکون قصده قیداً وشرطاً لوقوعها علی صفة الوجوب، لثبوت ملاک الوجوب فی نفسها، بلا دخل له فیه أصلاً، وإلاّ لما حصل ذات الواجب ولما سقط الوجوب به کما لا یخفی) . انتهی محلّ الحاجة(1) .

واستدلّ ثانیاً فی جواب کلام صاحب «الفصول» بقوله :

(وأمّا عدم اعتبار ترتّب ذی المقدّمة علیها فی وقوعها علی صفة الوجوب ، فلأنّه لا یکاد یعتبر فی الواجب إلاّ ما له دخلٌ فی غرضه الداعی إلی إیجابه، والباعث علی طلبه، ولیس الغرض من المقدّمة إلاّ حصول ما لولاه لما أمکن حصول ذی المقدّمة ، ضرورة أنّه لا یکاد یکون الغرض إلاّ ما یترتّب علیه من فائدته وأثره ، ولا یترتّب علی المقدّمة إلاّ ذلک ، ولا تفاوت فیه بین ما یترتّب علیه الواجب، وما لا یترتّب علیه أصلاً ، وأنّه لا محالة یترتّب علیهما کما لا یخفی .

وأمّا ترتّب الواجب فلا یعقل أن یکون الغرض الداعی إلی إیجابها،


1- الکفایة : ج1 / 182 .

ص:130

والباعث علی طلبها، فإنّه لیس بأثر تمام المقدّمات، فضلاً عن إحداها فی غالب الواجبات ، فإنّ الواجب - إلاّ ما قلّ - فی الشرعیّات والعرفیّات فعلٌ اختیاریّ یختار المکلّف:

تارةً: إتیانه بعد وجود تمام مقدّماته .

واُخری: عدم إتیانه .

فکیف یکون اختیار إتیانه غرضاً من إیجاب کلّ واحدة من مقدّماته، مع عدم ترتّبه علی تمامهما، فضلاً عن کلّ واحدة منها .

نعم ، فیما کان الواجب من الأفعال التسبیبیّة والتولیدیّة، کان مترتّباً لا محالة علی تمام مقدّماته، لعدم تخلّف المعلول عن علّته . ومن هنا قد انقدح أنّ القول بالمقدّمة الموصلة یستلزم إنکار وجوب المقدّمة فی غالب الواجبات ، والقول بوجوب خصوص العلّة التامّة فی خصوص الواجبات التولیدیّة .

فإن قلت : ما من واجبٍ إلاّ وله علّة تامّة ، ضرورة استحالة وجود الممکن بدونها ، فالتخصیص بالواجبات التولیدیّة بلا مخصّص .

قلت : نعم ، وإن استحال صدور الممکن بلا علّة ، إلاّ أنّ مبادئ اختیار الفعل الاختیاری من أجزاء علّته، وهی لا تکاد تتّصف بالوجوب، لعدم کونها بالاختیار وإلاّ لتسلسل) .

ثمّ استدلّ ثالثاً: (بأنّه لو کان الترتّب فیه معتبراً، لما کان الطلب یسقط بمجرّد الإتیان بها من دون انتظاره لترتّب الواجب علیها، بحیث لا یبقی فی البین إلاّ طلبه وإیجابه، کما إذا لم یکن هذه بمقدّمة، أو کانت حاصلة من الأوّل قبل إیجابه ، مع أنّ الطلب لا یکاد یسقط إلاّ بالموافقة أو بالعصیان والمخالفة، أو بارتفاع موضوع

ص:131

التکلیف، کما فی سقوط الأمر بالکفن أو الدفن بسبب غرق المیّت أحیاناً أو حرقه ، ولا یکون الإتیان بها بالضرورة من هذه الاُمور غیر الموافقة .

إن قلت : کما یسقط الأمر بتلک الاُمور، کذلک یسقط بما لیس بالمأمور به فیما یحصل به الغرض منه، کسقوطه فی التوصیلیّات بفعل الغیر أو المحرّمات .

قلت : نعم ، ولکن لا محیص عن أن یکون ما یحصل به الغرض من الفعل الاختیاری للمکلّف متعلّقاً للطلب، فیما لم یکن فیه مانع، وهو کونه بالفعل محرّماً، ضرورة أنّه لا یکون بینهما تفاوت أصلاً ، فکیف یکون أحدهما متعلّقاً له فعلاً دون الآخر) ، انتهی کلامه(1) .

ویرد علیه أوّلاً : بأنّ دعواه بعدم مدخلیّة قصد التوصّل فی اتّصاف المقدّمة بالوجوب صحیحة ، إلاّ أنّه لا یوجب کون ما هو الواجب هو مطلق المقدّمة، سواءً کان فی الخارج موصلة إلی ذیها أم لا ؛ لوضوح أنّ ما لا یکون کذلک، فلا یکون ما یتوقّف علیه الواجب فعلاً ، وإن کان کذلک بحسب الإمکان، بمعنی قابلیّة کلّ واحدٍ بما یتوقّف علیه المقدّمیّة موجودة لجمیع ما هو الموجود فی الخارج یترتّب علیه ذیها ، إلاّ أنّ ما هو المتّصف بالوجوب الفعلی فی الواقع، لیس إلاّ ما هو المشیر إلی الخارج ممّا یوصل إلی ذیها .

ویتفرّع علیه حینئذٍ: أنّ ما ینطبق علیه الواجب، هو الذی یوجب تغییر کلمة السابق لولا المقدّمیّة، فلا یکون جمیع ما یمکن أن یکون مقدّمة واجبة ، بل یکون خصوص ما یترتّب علیه الواجب خارجاً بحسب الواقع . غایة الأمر ، قد لا یکون


1- الکفایة : ج1 / 187 - 184 .

ص:132

المکلّف عالماً بما هو کذلک ، بل ربما یتوهّم أو یعلم غیره إلی حین الإتیان فینکشف الخلاف .

ومن الواضح أنّ علمه وجهله بذلک، لا یوجب التغییر لما هو الواقع، ولا یؤثّر إلاّ فی حکم ثبوت التجرّی وعدمه ؛ لأنّه إذا علم أنّه مقدّمة لواجب ویترتّب علیه ، فمع ذلک ترکها ولم یأت بها مع عدم کونها فی الواقع مقدّمة فعلیّة لا إمکانیّة ، فإنّه حینئذٍ یکون متجرّیاً بالنسبة إلیها، فیستحقّ اللّوم لترکها بما هو مختصّ للمقدّمة عند العقلاء ، لا مثل الملازمة والعقوبة الموجودة فی ذی المقدّمة، کما لا یخفی .

کما أنّه لو علم خلاف ذلک، وعلم أنّه مصداق لما هو الحرام ، فمع ذلک أتی بما أنّه محرّم عنده ولیس بمقدّمة ، مع کونها فی الواقع مقدّمة واجبة ولیست بحرام، فإنّه یکون متجرّیاً بالنسبة إلی الحرام بخلاف المقدّمة .

وثانیاً : أنّه لیس الغرض من إیجاب المقدّمة، إمکان التحصیل لذی المقدّمة ، بل کان الغرض هو حصول ذیها ، فکما أنّ وجوب المقدّمة یکون فعلیّاً، کذلک کان المقصود هو تحقّق ذیها لا إمکان حصوله ، فعلیه یکون ترتّب ذی المقدّمة علیها مؤثّراً فی فعلیّة حصول ذلک الأمر .

ودعوی: أنّ جعل الاختیار من قید صفة الوجوب مستلزم لأمرٍ محال .

فمخدوش: بما قد عرفت منّا سابقاً فی بحث الطلب والإرادة، بأنّ الإرادة والاختیار أمران اختیاریّان لاختیاریّة بعض مبادیها، وهو یکفی فی اتّصافها بذلک ، فلایستلزم التسلسل المحال، فلابأس بجعله جزءاً أو قیداً لصفة الوجوب للمقدّمة.

ص:133

غایة الأمر - بما سیتّضح لک إن شاء اللّه - کون المقدّمة الموصلة المشیرة إلی ما هو کذلک فی الخارج، واجبة لا ذات المقدّمة کما قاله صاحب «الکفایة» .

فعلی هذا لا فرق فی وجوب المقدّمة الموصلة، بین کونها من الأسباب التولیدیّة التی کانت من قبیل العلّة والمعلول، أو غیرها مثل سائر الواجبات المباشریّة التوصّلیّة أو التعبّدیّة، بکون المقدّمة الخاصّة واجبة لا مطلقاً .

وثالثاً نقول : بأنّ الإتیان بالمقدّمة من دون ترتّب ذیها علیها، وأنّه موجب لسقوط الطلب المتعلّق بالمقدّمة أوّلاً ، متفرّع علی إثبات المبنی فی وجوب المقدّمة، فإنّه لو التزمنا بأنّ المقدّمة بذاتها واجبة ، فلا إشکال حینئذٍ فی کون سقوطه کان من جهة موافقة أمره بالامتثال .

وأمّا لو التزمنا بأنّ المقدّمة لیست ذات الشیء، بل بما أنّها موصلة لذیها، فمن المعلوم أنّ الطلب بعد الإتیان بذات المقدّمة، من دون ترتّب ذیها لا یکون ساقطاً لأمرها، لعدم تحقّق الامتثال حینئذٍ .

فظهر ممّا قلناه : أنّ جعل ذلک دلیلاً فی المسألة، مع کونه من فروع أصل المدّعی، یکون شبیهاً بالمصادرة، إذ المدّعی صار دلیلاً .

مضافاً إلی ما عرفت من أنّ الغرض من إیجابها لیس هو إمکان الترتّب، حتّی یحکم بتحقّق الامتثال بذلک ، بل الغرض من إیجابها هو نفس فعلیّة الترتّب، فتکون المقدّمة أیضاً بفعلیّتها واجبة لا بإمکانها .

ورابعاً : قوله (إنّ إیجاب المقدّمة کان لغرض التمکّن من الإتیان بذیها بواسطة إتیان المقدّمة).

لا یخلو عن وهن ؛ لوضوح أنّ التمکّن من الإتیان بذیها یعدّ من آثار

ص:134

التمکّن بالإتیان بالمقدّمة، لا من آثار نفس الإتیان ؛ یعنی إذا کان المکلّف قادراً علی الإتیان بالمقدّمة، ولو لم یأت بها بعدُ، کان قادراً علی الإتیان بذیها ؛ لأنّ المقدور بالواسطة مقدور أیضاً .

مع أنّ القدرة علی إتیان الواجب النفسی، الذی کان شرطاً له قطعاً، لو کانت متوقّفة علی إتیان المقدّمة لا علی تمکّنها، فیکون معناه حینئذٍ أنّه لولا الإتیان بالمقدّمة لما کان شرط الواجب - وهو القدرة - حاصلاً ، فلا یکون الواجب حینئذٍ واجباً، فیخرج الواجب عن کونه واجباً مطلقاً بالنسبة إلی إتیان المقدّمة، والتالی باطل قطعاً ، فالمقدّم مثله ، فیثبت کون القدرة موقوفة علی القدرة علی إتیان المقدّمة، لا علی نفس الإتیان، کما لا یخفی ، فتکون القدرة بالنسبة إلی ذیها حاصلة بواسطة وجود القدرة علی المقدّمة ، بخلاف الآخر حیث أنّ القدرة لمّا لم تکن واجبة التحصیل، فیلزم أن یکون تفویت الواجب للمکلّف جائزاً ، وفساده واضح کما لا یخفی .

أقول: بعدما ثبت اندفاع کلام المحقّق الآخوند ومن تبعه، یصل الدور إلی بیان ما هو المختار وذکر أدلّته ، والجواب عمّا یمکن أن یورد علیه ، فنقول ومن اللّه الاستعانة :

لا إشکال فی أنّ المقدّمة بناءً علی ثبوت الملازمة کان وجوبها لأجل الغیر وهو ذیها ، کما لا إشکال فی کون وجوبها غیریّاً لا نفسیّاً ، فحینئذٍ کما یکون ذلک موقوفاً علیه للغیر، کان واجباً له أیضاً، وإن لم یکن کذلک، فلا وجوب له حینئذٍ قضیّةً لغیریّة وجوبها ، فیعدّ الإتیان بما لا یرتبط بذیها أصلاً . غایة الأمر إمکان کونها مقدّمة لا أثر له فی جعلها واجباً، لأنّه قد عرفت کون وجوبها لأجل

ص:135

وجود الغیر .

نعم ، کان التوقّف الموجب لتحقّق الوجوب أمرٌ واقعیّ تابع لنفس الأمر، لا لما علمه أنّه موقوفٌ علیه ، إذ ربما یمکن أن یزعم بکونها موقوفة علیها مع عدم کونها کذلک فی الواقع، فلا وجوب لها ، کما قد ینعکس ویکون واجباً وهو لا یعلم، وقد علمت سابقاً وجه التفاوت بین صورتی العلم والجهل فی التجرّی وعدمه وتحقّق العصیان للأمر الغیری وعدمه .

وبالجملة: فثبت من خلال ما ادّعیناه کون المقدّمة الموصلة المشیرة إلی ما هو فی الواقع والخارج، موصلةً واجبةً لا مطلقاً .

والدلیل: ویدلّ علیه - مضافاً إلی شهادة الوجدان کما ادّعاه کثیراً ممّن خالفنا فی أصل الدعوی - اُمور :

الأمر الأوّل : أنّ الحاکم بثبوت الملازمة بین وجوب ذیها ووجوبها لیس إلاّ العقل، وهو لا یحکم بالوجوب أزید ممّا هو واقع فی سلسلة علل وجود ذی المقدّمة، بحیث یکون وجودها ملازماً لوجود الواجب فی الخارج ، وأمّا ما لیس کذلک فلا وجوب له أیضاً .

الأمر الثانی : أنّ العقل لا یأبی عن تصریح الآمر بعدم إرادة غیر المقدّمة الموصلة ، بل قد یجوّز النهی عنه لعلّة اُخری ، مع أنّه لو کان واجباً لما جاز ذلک التصریح ولا النهی ، إلاّ أن تکون جهة النهی أهمّ من غیرها ، فعدم امتناع العقل عن ذلک بنفسه دلیلٌ علی عدم الوجوب ، کما یمتنع ذلک عقلاً بالنسبة إلی المقدّمة الموصلة ، فیدلّ علی کونها واجبة ، إلاّ أن یزاحمها بأمرٍ أهمّ ، فهو شیءٌ آخر خارج عن الغرض .

ص:136

ولا یذهب علیک أنّ صاحب «المحاضرات» جعل جواز التصریح بعدم الإرادة، مع التصریح بالنهی عنه وجهین مستقلّین ، ونسب الثانی منهما إلی السیّد الطباطبائی صاحب «العروة» ، ولکنّ الإنصاف کون الملاک والمناط فی الموردین هو شیء واحد، وهو عدم تعلّق الوجوب لذلک الغیر الموصل .

وإن نقل الإشکال عن صاحب «الکفایة» للثانی منهما فقط، وهو أنّه خارج عن مورد الکلام فی المسألة ، فإنّ محلّ الکلام کان فی المقدّمات المباحة فی أنفسها . وأمّا إذا کان بعضها محرّماً، فعدم اتّصاف المحرم بالوجوب الغیری، إنّما هو لوجود مانع ، لا لأجل عدم المقتضی له . فعلی هذا لا یعدّ نهی المولی عنه علی أنّها لا تقتضی الاتّصاف بالوجوب ، إذ من المحتمل أن یکون عدم الاتّصاف لوجود مانع عنه فیه ، لا لأجل عدم الاقتضاء.

هذا وقد ذهب صاحب «المحاضرات» إلی اعتباره من الإشکالات المتینة.

مع أنّه مخدوش جدّاً ، لوضوح أنّ الغرض من هذا الدلیل، بیان جواز النهی عن غیر الموصل، من دون أن یمنعه مانع من وجوبها من باب المقدّمة، کما کان کذلک فی المقدّمة الموصلة ، فجواز النهی عنه دون غیره، دلیلٌ علی عدم کونه واجباً لأجل المقدّمیّة .

نعم ، وجود هذا المانع عن النهی فی الموصلة، إنّما یکون فیما إذا کان أمر ذیها أهمّ من النهی الواقع فیه ، وإلاّ لما کان وجوبه لأجل المقدّمیّة أیضاً مانعاً عن تعلّق النهی به، وهو واضح .

وبالجملة : کون المقدّمات من الاُمور المباحة، أو من المنهی عنه، لا تکون مؤثّرة فی المقدّمة الغیر الموصلة، بخلاف الموصلة حیث تؤثّر فیها من جهة أنّ

ص:137

وجوبها صحیح فی المباحة منها ، والمنهی عنه الذی کان مهمّاً بالنسبة إلی أمر ذیها لا الأهمّ، وإلاّ یمنع عن تعلّق الوجوب به لوجود مانع فیه، لا لأجل عدم المقتضی .

فما ذکره صاحب «الکفایة» واستجوده صاحب «المحاضرات» کان صحیحاً فی خصوص هذا القسم وهو الأهمّ، دون ما ذکرا هما من المقدّمة الغیر الموصلة .

الأمر الثالث : لا یخفی أنّ هناک فرق واضح بین القوانین الجعلیّة من الأحکام الشرعیّة، وبین الأحکام العقلیّة ، حیث أنّ الاُولی یصحّ فیها جعل الحکم علی عنوان یمکن أن یترتّب علیه الغایة لا علی نفس وجود الغایة والملاک، لجهل المکلّف بما هو الملاک والمناط ، کما تری من جعل الحکم علی الصلاة التی هی عبارة عن مجموعة من الأفعال مع جهل العباد بالملاک الواقعی المترتّب علیها.

هذا بخلاف الأحکام العقلیّة، فإنّ الحکم یترتّب لخصوص ما کان فیه الملاک والمناط، ولا یتعلّق لغیر ما فیه ذلک ، بل قد یستحیل ذلک باعتبار قیام العقل بتحلیل ما هو دخیل فیه عمّا لیس فیه کذلک ، ولذلک اشتهر وقیل بأنّ الجهات التعلیلیّة فی الأحکام العقلیّة ترجع إلی الحیثیّات التقییدیّة ، فحینئذٍ إذا کان الملاک فی شیء موجوداً دون الآخر، یتعلّق الحکم بما فیه الملاک دون الفاقد له، وإلاّ لزم الحکم بجواز صدور حکم العقل بلا ملاک ومناط ، وهو مُحال.

إذا عرفت هذه المقدّمة، نقول:

لا إشکال بأنّ المقدّمنة الموصلة تتضمّن الملاک والمناط وهو ترتّب ذیها علیها ، فیصحّ الحکم بوجوبها عقلاً ، وأمّا ما لیس فیه التوصّل إلی ذیها، لو کان واجباً للزم حکم العقل بوجوب شیء لیس فیه الملاک والحیثیّة، وهو محال، کما قد

ص:138

عرفت ، هذا .

ولکن لا یخفی أنّ هذا الدلیل لا یثبت إلاّ وجوب المقدّمة الموصلة عقلاً، لا شرعاً ، إلاّ بناءً علی القول بثبوت الملازمة بین الوجوب العقلی والشرعی، أی کلّما حکم العقل بوجوبه حکم به الشرع أیضاً کذلک ، وقلنا بعدم الفرق فی ثبوت الملازمة بین الوجوب النفسی والغیری ؛ یعنی إن قلنا بالثبوت فیثبت الوجوب الشرعی الغیری أیضاً من جهة ثبوت وجوبه الغیری العقلی ، وإن لم نقل بالملازمة ففی کلیهما کذلک .

أقول: إذا تأمّلنا فی هذا الدلیل المسمّی بالدلیل الثالث، فإنّه یمکن إرجاعه إلی الدلیل الأوّل بحیث یکون الثالث تفصیلاً للدلیل الأوّل المجمل، أی کأنّه قد ذکر فیه جهة حکم العقل بوجوب الموصلة دون غیرها، کما لا یخفی .

فإذا ثبت بالأدلّة السابقة وجوب المقدّمة الموصلة لا مطلقاً، فعندئذٍ قد أورد علیه إشکالات متعدّدة ومحاذیر عدیدة ، بل قد ادّعی استحالة بعضها، فلا بأس بذکرها ومحاولة الجواب عنها .

الإشکال الأوّل : هو الذی تعرّض له المحقّق النائینی قدس سره بقوله:

إنّ قید التوصّل هل هو قید للوجوب أو للواجب، وفی کلیهما إشکال لأنّه:

لو کان قیداً للوجوب، فیلزم أن یکون وجود ذی المقدّمة من شرائط وجوب المقدّمة، لأنّ قیدیّة التوصّل إنّما تحصل بحصول ذی المقدّمة ، وهو کما تری أردأ من طلب الحاصل، إذ یلزم أن یتأخّر الطلب عن وجود المقدّمة، ومن وجود ذیها المتأخّر عن وجودها .

وإن کان قیداً للواجب کما صرّح بذلک صاحب «الفصول» قدس سره ، فیرد علیه:

ص:139

أنّه یلزم حینئذٍ أن یکون وجود ذی المقدّمة من شرائط وجود المقدّمة، وإن لم یکن من شرائط وجوبها ، إلاّ أنّه لا فرق فی الاستحالة، ضرورة أنّه لا یعقل أن یکون وجود ذی المقدّمة من شرائط وجود المقدّمة، لاستلزامه الدور، فإنّه یلزم أن یکون وجود کلّ من المقدّمة وذی المقدّمة متوقّفاً علی الآخر )، انتهی موضع الحاجة(1) .

وفیه: الإشکال غیر وارد، سواءً قلنا بکون التوصّل قیداً للوجوب أو للواجب .

فأمّا علی الأوّل: فلأنّ معناه لیس کون تحقّق الوجوب للمقدّمة متأخّراً فی الخارج عن ترتّب ذی المقدّمة علیها، کما فرضه وأورد علی ما فرضه ، بل المقصود أنّ الوجوب مترتّب علی المقدّمة قبل وجود نفسها فضلاً عن ذیها ، إلاّ أنّه بما کان فی الواقع موصلة إلی ذیها، وکان ذلک معلوماً فی الواقع ونفس الأمر، یکون مقدّمة ولو لم یعلمه المکلّف، نظیر الشرط المتأخّر فی وجوب العبادة، کغسل المستحاضة فی اللیلة اللاّحقة، حیث یکون شرطاً لصحّة صوم یوم السابق ، وکالإجازة اللاّحقة حیث تکون شرطاً لتحقّق وجوب الوفاء بالعقد السابق ، فما یحصل الشرط فی موضعه، کان المشروط من أوّل الأمر حاصلاً، وإن کان لا یعلمه الإنسان وجوده خارجاً .

کما قد ینعکس الأمر، بأن یزعم ویطمئن وجوده فی موضعه وترتّبه علیه، ویتخیّل وجوبه ، ولکن فی الواقع لا یکون واجباً، لعدم الوصول إلیه من جهة تحقّق


1- فوائد الاُصول : ج1 / 290 .

ص:140

الموت قبله، أو زوال التکلیف بعارض وأمثال ذلک ، وقد عرفت منّا سابقاً بما لا مزید علیه بأنّ علم المکلّف وجهله لا یکون دخیلاً إلاّ فی تنجّز الحکم علیه وعدمه، لا فی أصل وجود الحکم وعدمه .

هذا لو قلنا بقیدیّة التوصّل للوجوب، فضلاً عن الواجب، فلا یستلزم محذوراً أصلاً، کما لا یخفی .

مضافاً إلی أنّه یمکن أن یُقال: بأنّ التوصّل لم یکن علی نحو الشرطیّة والقیدیّة ، بل کان علی نحو القضیّة الحینیّة ؛ بأن یکون وجوب المقدّمة ثابتاً فی حال تحقّق الإتیان بها فی الخارج لا مطلقاً حتّی لا یرد علیه ما توهّم وروده فی القیدیّة والشرطیّة .

وأمّا علی الثانی: فهو أیضاً قد اُجیب عنه بما ذکرناه فی الواجب، باعتبار أنّه أسهل عن الوجوب فی الإشکال ؛ لأنّ من الواضح أنّه یکون علی نحو الشرط المتأخّر للواجب وهو المقدّمة ؛ أی المقدّمة المترتّبة علیها ذیها واجبة .

وأمّا إشکاله باستلزامه الدور، للزوم توقّف وجود کلّ من ذی المقدّمة والمقدّمة علی الآخر .

فمدفوع، لاستلزام ذلک فیما إذا فرض کون الواجب - وهو وجود المقدّمة - أو نفس الوجوب تحقّق بعد وجود ذی المقدّمة المترتّبة علی المقدّمة کما فرضه . وأمّا إذا قلنا بوجود الوجوب أو وصف الواجب بوجود المقدّمة، فإنّه لا دور حینئذٍ کما لا یخفی .

نعم ، قرّر صاحب «المحاضرات» الدور بتقریب آخر غیر ما فی «الفوائد» حیث یقول فی بیان ذلک:

ص:141

(إنّ تخصیص الوجوب بخصوص الموصلة یستلزم أحد محذورین :

إمّا الدور أو التسلسل ، وکلاهما محال .

أمّا الأوّل: فلأنّ مرجع هذا القول إلی کون الواجب النفسی مقدّمة للمقدّمة، لغرض أنّ ترتّب وجوده علیها قد اعتبر قیداً لها ، وعلی هذا یلزم کون وجوب الواجب النفسی ناشئاً من وجوب المقدّمة، وهو یستلزم الدور، فإنّ وجوب المقدّمة علی الفرض إنّما نشأ من وجوب ذی المقدّمة ، فلو نشأ وجوبه من وجوبها لدار) ، انتهی محلّ الحاجة(1) .

ولکن یمکن أن یُجاب عنه أوّلاً : بأنّ توقّف وجوب المقدّمة علی وجوب ذیها أمرٌ مسلّم، لکون وجوبها ترشّحیّاً ومتولّداً منه ، وأمّا وجوب ذی المقدّمة لا یکون موقوفاً علی وجوب المقدّمة، حتّی یوجب الدور ، بل وجوبه موقوف علی قیام الدلیل علیه.

نعم ، وجود ذی المقدّمة فی المقدّمیّة، یکون موقوفاً علی وجوب المقدّمة علی فرض المتوهّم، یعنی لو أغمضنا عمّا ذکرنا من فرضنا علی نحو الشرط المتأخّر ، وإلاّ لما کان وجوده أیضاً موقوفاً علی وجوبها ؛ لأنّ وجوبها علی ما افترضنا کان متحقّقاً قبل تحقّق وجود ذی المقدّمة وترتّبه علیها .

وثانیاً : أنّه یکون وجوب ذی المقدّمة بعنوان المقدّمیّة للمقدّمة متأخّراً عن وجوب نفس المقدّمة ، کما أنّ وجوبها بنفسه متأخّرٌ عن الوجوب النفسی لذی المقدّمة ، فذی المقدّمة یکون مرکزاً للوجوبین فی المرتّبتین، إذ فی المرتبة السابقة کان وجوبه نفسیّاً ، وفی المرتبة اللاّحقة عن وجوب المقدّمة کان وجوبه غیریّاً ،


1- المحاضرات : ج2 / 413 .

ص:142

فلا مانع من جمع الوجوبین النفسی والغیری فی شیءٍ واحد، وهو وجوب ذی المقدّمة ، فلا دور لتأخّر رتبة الوجوبین .

هذا تمام الکلام فی الإشکال الأوّل وهو الدور بتقریبیه .

الإشکال الثانی : أنّه لو کانت المقدّمة الموصلة واجبة، لزم التسلسل.

قال صاحب «فوائد الاُصول» فی تقریب ذلک:

(مضافاً إلی أنّه یلزم القول بمقدّمیّة الذات أیضاً، فإنّ المقدّمة حینئذٍ تکون مرکّبة من أمرین ، أحدهما : الذات ، والآخر : قیدیّة التوصّل ، ولو علی وجه دخول التقیید وخروج القید، فتکون الذات مقدّمة لحصول المقدّمة المرکّبة، کما هو الشأن فی جمیع أجزاء المرکّب، حیث یکون وجود کلّ جزء مقدّمة لوجود المرکّب، مثلاً لو کان الوضوء الموصل إلی الصلاة مقدّمة ، أو السیر الموصل إلی الحجّ مقدّمة ، فذات الوضوء والسیر یکون مقدّمة للوضوء الموصل والسیر الموصل،وإنّما اعتبر قید الإیصال فیه أیضاً لأنّه یلزم التسلسل، ولامحیص بالأخرة من أن ینتهی إلی ما یکون بالذات مقدّمة، فإذا کان الأمر کذلک فلتکن الذات من أوّل الأمر مقدّمة لذیها من دون اعتبار قید التوصّل) ، انتهی محلّ الحاجة .

ولقد أجاب عنه المحقّق العراقی: (بأنّه یمکن أن یدفع هذا بدعوی قصور الوجوب الغیری حینئذٍ فی سرایته، وعوده إلی ذی المقدّمة بعد سرایته منه إلی المقدّمة، إذ حینئذٍ وإن کان ملاک المقدّمیّة متحقّقاً فی ذی المقدّمة، ولکنّه بعد قصور الوجوب الغیری، وعدم قابلیّته لا یکاد اتّصاف ذی المقدّمة إلاّ بوجوب واحد وهو الوجوب النفسی) ، انتهی کلامه(1) .


1- نهایة الأفکار : 1 / 339 .

ص:143

ولکنّه لا یخلو عن إشکال ، أوّلاً : لأنّه إذا قلنا بأنّ المقدّمة الموصلة واجبة لا فرق فی السرایة من الوجوب المتعلّق لشیء إلی شیء آخر، الذی کان مقدّمة لذلک الوجوب، بین کون الوجوب نفسیّاً أو غیریّاً، إذ الغیریّة لا تکون مانعة عن السرایة ، کما لا یخفی .

وثانیاً : أنّا لا نسلّم عدم قابلیّة ذی المقدّمة بالاتّصاف بالوجوب إلاّ واحداً ؛ لأنّه لا مانع من تعلّق الوجوبین، فیما إذا کان رتبتهما متفاوتین، ونوعهما متغایرین، وکون أحدهما نفسیّاً والآخر غیریّاً .

نعم ، قد یشکل هنا من جهة اُخری، وهی أنّ هذا الوجوب بنفسه کان مترشّحاً عن وجوب ذی المقدّمة ، فکیف یمکن أن یرشّح وجوب آخر من هذا الوجوب المقدّمی ولو بالواسطة، فیتعلّق بذی المقدّمة، وإن کان هذا الوجوب غیریّاً، فهو إشکال آخر، ستعرف جوابه إن شاء اللّه تعالی عن قریب .

والأولی فی الجواب هو أن یُقال:

أوّلاً : یمکن أن یُقال بأنّ المقدّمة الموصلة إلی الواجب النفسی، واجبة لا إلی الواجب الغیری ، فعلی هذا لا یکون الإیصال إلی نفس المقدّمة واجباً آخر حتّی یوجب التسلسل .

هذا هو الجواب الذی ذکره المحقّق الخمینی حفظه اللّه ، لکنّه لا یخلو عن تأمّل .

وثانیاً : أنّ وجوب ترتّب ذی المقدّمة لیس إلاّ عبارة عن وجوب وجود ذی المقدّمة، وهو بنفسه یعدّ واجباً ، فلا یحتاج إلی وجوب آخر غیری، حتّی یلزم منه التسلسل ، هذا إذا قلنا بصورة القیدیّة والشرطیّة .

ص:144

مع أنّک قد عرفت بإمکان أن یکون علی نحو القضیّة الحینیّة، فیکون عنوان الموصل عنواناً مشیراً إلی ما هو الموصل فی الخارج، فلا یلزم شیئاً من تلک المحاذیر، کما لا یخفی .

الإشکال الثالث: هو الذی طرحه صاحب «نهایة الأفکار» بقوله:

(لو کانت المقدّمة الموصلة واجبة، استلزم محذور تقدّم الشیء علی نفسه، وتأخّره عنه رتبةً، نظراً إلی ما هو المفروض من مقدّمیّة المقیّد لوجود ذی المقدّمة، ومقدّمیّة ذی المقدّمة لتحقّق التقیّد المزبور .

ثمّ قال بعد الجواب عن سائر الإشکالات : وأمّا الإشکال الثالث فله وجهٌ ، بل لا محیص عنه لو قیل بمقدّمیّة التقیید أیضاً کذات المقدّمة، لما هو الواجب والمطلوب النفسی .

ولکنّه لیس کذلک ، بل ولا یظنّ أیضاً التزام القائل بدخل حیث الإیصال والترتّب فی الواجب به ، وذلک من جهة وضوح أنّ تمام همّه من أخذ الإیصال قیداً فی الواجب، إنّما هو إثبات أنّ موضوع الوجوب الغیری ومعروضه، هی الذات الخاصّة، دون الذات المجرّدة عن القید المزبور، مع تسلیمه لأنّ ما هو المقدّمة وما فیه ملاک الوجوب الغیری، عبارة عن ذات المقدّمة لا هی مع وصف التقیید بالإیصال، بأن کان للوصف المزبور دخل فی تحقّق الواجب کما هو واضح) ، انتهی کلامه(1) .

أقول: ولا یخفی ما فی کلامه، إذ قد عرفت منّا سابقاً بأنّ إشکال تقدّم الشیء


1- نهایة الأفکار : ج1 / 339 .

ص:145

علی نفسه إنّما یلزم لو قلنا بکون الترتّب بما له من الوجود فی المتأخّر، مأخوذاً جزءاً للتقیید، فیستلزم للمحال .

وأمّا إن قلنا علی نحو الشرط المتأخّر الذی کان هو موجود بالفعل، لو کان فی الواقع حاله کذلک، فلا یوجب ذلک ؛ لأنّ المقدّمة حینئذٍ کانت حاصلة هاهنا إذا کان الترتّب موجوداً ، فوجوب هذا القید لحصول المقدّمة الموصلة والخاصّة، لا یوجب تقدّم الشیء علی نفسه کما لا یخفی .

مضافاً إلی ما عرفت من أنّه لو سلّمنا الإشکال، کان فی التقیید علی نحو القیدیّة والشرطیّة، لا علی نحو القضیّة الحینیّة .

فظهر من جمیع ما ذکرنا صحّة هذا القول أی بأنّ الموصلة کانت واجبة، وعدم توجّه إشکال لا یمکن الذبّ عنه .

وعلیه، ثبت من خلال ما ذکرناه:

1 - أنّ المقدّمة الموصلة واجبة لا ذات المقدّمة، کما یقول به صاحب «الکفایة» رحمه الله .

2 - کما لا تکون المقدّمة بقصد التوصّل واجبة ، کما نسب ذلک إلی الشیخ الأعظم قدس سره .

3 - وظهر فرقه مع کلام صاحب «المعالم» حیث أنّه یقول بأنّ المقدّمة لمن یرید الفعل واجبة ، فیکون فی مرحلة الوجوب والواجب، حیث یرجع القید من الإرادة وقصد التوصّل إلی الأوّل فی الأوّل وإلی الثانی فی الثانی ، فالواجب - وهو المقدّمة - یکون مقیّداً بقصد التوصّل، وإن کانت عبارته غیر واضحة لاضطراب کلام الشیخ قدس سره فی تقریراته حیث یظهر من بعض کلامه:

ص:146

تارةً: أنّه أراد من ذلک بیان أنّ قصد التوصّل دخیلٌ فی جعل المقدّمة مصداقاً للامتثال وعبادةً، حتّی یترتّب علیهما الثواب، فهو متین فی غایة المتانة ولا إشکال فیه ؛ لوضوح أنّه لولا قصد التوصّل والأمر لا یصیر العمل عبادیّاً، وما لم یکن عبادیّاً لا یترتّب علیه الثواب .

واُخری : یظهر أو ینسب إلیه أنّه أراد من قوله، من لزوم قصد التوصّل فی وجوب المقدّمة، اعتباره فی حال المزاحمة مع حرام، کما إذا کانت المقدّمة محرّمة - کالدخول فی الأرض المغصوبة - حیث یکون مع قصد التوصّل إلی الإنقاذ الواجب المتوقّف علی الدخول واجباً، لا ما إذا کان بدواعٍ اُخر من التنزّه واللّعب .

هذا وقد نقل المحقّق النائینی عن اُستاذه السیّد محمّد الأصفهانی قدس سره أنّه کان جازماً فی إسناده إلی الشیخ بهذا الوجه ، ولکن المحقّق النائینی کان متردّداً فی کونه استنباطاً عن السیّد إذ کان نقله عن اُستاذه السیّد الشیرازی .

وکیف کان ، إن کان مقصوده هو هذا، ففیه بحثٌ وکلامٌ سیأتی الإشارة إلیه عن قریب إن شاء اللّه تعالی .

وثالثة : ینسب إلیه بأنّ مراده کان المقدّمة الواجبة واجبة مطلقاً من دون تقیید بتلک القیود الماضیة إذا قصد التوصّل بها إلی ذیها دون غیرها، سواءً کان لها مزاحم أم لا ، وسواءً کانت المقدّمة من التعبّدیّات أو من التوصّلیّات .

أقول: فالآن نستعرض کلامه المنسوب إلیه فی القسم الأخیر فی تقریراته، وإن کان البحث فی جمیع احتمالات الثلاثة حسناً ، فنقول :

أمّا الوجه الأوّل: فقد عرفت صحّته، إلاّ أنّه حینئذٍ لا یکون مرتبطاً بما نحن بصدده، وکان هذا الحمل من أحسن المحامل، ویناسب مع وجاهة الشیخ قدس سره

ص:147

وخبرته فی العلم والکمال .

وإن أراد الوجه الثانی: بأن یکون مقصوده أنّ المقدّمة إذا کانت مباحة فتکون مطلقها واجبة، لأنّ وجوبها لمجرّد توقّف واجب علیها، وکان ما یتوقّف علیه هو الذات ، وحیث لم تکن الذات مقتضیة لشیء ، بل لا اقتضاء فیها علی الفرض، فتکون الذات واجبة من دون اعتبار قصد التوصّل ؛ لأنّ اللامقتضی لا یزاحم مع ما فیه الاقتضاء .

هذا بخلاف المقدّمة المحرّمة، حیث أنّها کانت مقتضیة للحرمة، فتزاحم مع الوجوب الذی فیه الاقتضاء، فیقع التزاحم بین الاقتضائین ، فحیث کان اقتضاء الوجوب أهمّ، فیقدّم ذلک علی الآخر بشرط أن تکون المقدّمة مأتیّاً بها بقصد التوصّل، لا بقصد آخر مثل التنزّه واللّعب والتصرّف فی ملک الغیر عدواناً .

فلازم هذا التوجیه لکلام الشیخ نسبة التفصیل إلی الشیخ فی وجوب المقدّمة، بین ما کانت مباحة فتجب مطلقاً، وبین ما کانت محرّمة فالموصلة منها بالقصد واجبة ، هذا غایة ما یمکن أن یوجّه به لکلام الشیخ قدس سره .

ولکن یرد علیه أوّلاً : بأنّ ظاهر کلام الناسبین هذا القول إلیه هو أنّ الشیخ قدس سره التزم بوجوب المقدّمة بقصد التوصّل مطلقاً، لا فی خصوص مورد مزاحمته مع الحرام، کما یظهر ذلک عند ملاحظة کلامهم .

وثانیاً : أنّ ملاحظة وجود التزاحم وعدمه، کان فرع إثبات ما هو الواجب من المقدّمة أوّلاً، بأنّه هل کانت بذاتها واجبة أو بقصد ما یتوصّل إلی ذیها، لعدم تأثیر وجود الحرام وعدمه فی أصل ما هو الملاک فی وجوب المقدّمیّة ؛ لأنّه:

إن کان ملاکها موجوداً فی ما کان حراماً، فالوجوب فیه ثابت، سواءً کانت

ص:148

المقدّمة من أجل أمر آخر حراماً أم لا .

وإن لم یکن فیه ملاک المقدّمیّة ثابتاً، فلا یکون واجباً، سواءً کانت محرّمة أم لا .

فالتفصیل المذکور المنسوب إلیه لیس فی محلّه .

وثالثاً : بأنّ وجوب المقدّمة فی صورة الحرام، وإن کان له مزاحماً ، إلاّ أنّ المزاحمة الواقعة بین وجوب الإنقاذ، الموقوف علی دخول ملک الغیر، وبین حرمة الدخول لکونه تصرّفاً فی ملک الغیر ، لا یکون موقوفاً علی وجود قصد التوصّل له ، بل هذه المزاحمة متحقّقة بأصل جعل الوجوب للإنقاذ، الموقوف علی الدخول، وجعل الحرمة علی الدخول المنطبق علیه التصرّف فی ملک الغیر .

غایة الأمر ، لو قصد التوصّل إلی الإنقاذ، کان بالنسبة إلی أمره ممتثلاً ، وبالنسبة إلی النهی عن الدخول مبنیّاً علی ما هو المختار فیه من السقوط، لکونه مهمّاً ، أو کان موجوداً ، أو کان من قبیل جواز اجتماع الأمر والنهی فی موضوع واحد، مع کفایة تعدّد الجهة عن ذلک، فیکون حینئذٍ عاصیاً بالنسبة إلی النهی عن الدخول، کما کان ممتثلاً بالنسبة إلی الأمر الوجوبی .

وأمّا لو لم یقصد به التوصّل بل قصد شیئاً آخر، فکان حینئذٍ عاصیاً للأمر المتعلّق للإنقاذ وللنهی أیضاً، لو لم نقل بسقوطه وکونه من باب الترتّب، حیث یکون النهی موجوداً فی طرف المهمّ أیضاً، مع فرض عصیان الأمر بالأهمّ ، أو عدم العصیان لو لم نقل بالترتّب، وقلنا بسقوط النهی حینئذٍ .

فما ذکره من التوجیه المذکور لا یُسمن ولا یُغنی عن جوع، کما لا یخفی .

وأجاب عنه رابعاً صاحب «المحاضرات» بقوله : وغیر خفیّ أنّ المزاحمة فی

ص:149

الحقیقة إنّما هی بین الحرمة النفسیّة الثابتة للمقدّمة، وبین الوجوب النفسی الثابت لذیها، وإن لم نقل بوجوب المقدّمة أصلاً، فالتزاحم فی المثال المزبور إنّما هو بین وجوب إنقاذ الغریق، وحرمة التصرّف فی الأرض المغصوبة، سواءً کانت المقدّمة واجبةً أم لا .

وبکلمة اُخری : أنّ التزاحم المذکور لا یتوقّف علی القول بوجوب المقدّمة، فإنّه سواءً قلنا بوجوبها مطلقاً، أو فی خصوص الموصلة منها، أو ما یقصد به التوصّل إلی الواجب، أم لم نقل به أصلاً علی الاختلاف فی المسألة ، فالتزاحم بینهما موجود) ، انتهی موضع الحاجة(1) .

ولا یخفی ما فیه من الإشکال : لأنّه لولا وجود المقدّمیّة فی الطریق الواقع فی الأرض المغصوبة، لما کاد أن یقع التزاحم أصلاً بین وجوب الإنقاذ وحرمة التصرّف فی ملک الغیر ، فلابدّ أن یکون الدخول مقدّمةً، فإذا صارت کذلک، فلابدّ حینئذٍ من الالتزام بوجوبها، لأجل وجوب ذیها ولو عقلاً لو لم نقل بذلک شرعاً . فإذا کانت واجبة لأجل الإنقاذ تحقّق التزاحم، وإلاّ لولا وجوبها ولو عقلاً لزم حینئذٍ جواز ترکها، فضلاً عن وجوب ترکها لأجل الحرمة .

ومع جواز الترک وترکها یعجز عن القیام بالإنقاذ، سواءً کان ترکها واجباً لأجل الحرمة أم لا ، فقبل تحقّق وجوب الترک لأجل الحرمة، کان غیر قادر لفعل الإنقاذ وهو باطلٌ قطعاً ، لوضوح أنّ العقل حاکم بالوجوب لتحصیل الإنقاذ، فیکون التزاحم حینئذٍ حاصلاً، فیقدّم الأهمّ علی المهمّ .


1- المحاضرات : ج2 / 409 .

ص:150

وخامساً : أنّ ما هو المقدّمة فی الواقع، أی ما کانت موصلة إلی الإنقاذ کان واجباً ، سواء قصد التوصّل به إلی الواجب أم لم یقصد ، وسواءً کان عدم قصده لأجل عدم التفاته إلی مقدّمیّته أو لأجل الإعراض عنه حتّی یکون عاصیاً عن التکلیف، لو کان فی الواقع قادراً علی الإتیان ولم یأت به ، أو متجرّیاً لو لم یکن فی الواقع قادراً لأجل تحقّق مانع من الموت، أو عروض عارضٍ آخر .

وکیف کان ، فقصد التوصّل لا یکون دخیلاً فی إیجاد المزاحمة فی المقدّمة المحرّمة، کما عرفت توضیحه.

هذا کلّه بالنسبة إلی الاحتمال الثانی لکلام الشیخ قدس سره وتوجیه مرامه ومقصوده .

وإن أراد الاحتمال الثالث: وهو کون قصد التوصّل مطلقاً دخیلاً فی وجوب المقدّمة، کما هو الظاهر من کلام الناسبین إلی الشیخ قدس سره .

ففساده أوضح من أن یخفی لمن کان له أدنی تأمّل، فضلاً عن مثل الشیخ الأنصاری قدس سره الذی هو یعدّ فی المرتبة العالیة من العلم والکمال.

وعلی کلّ حال، یظهر جوابه ممّا ذکرنا فی سابقه، بأنّ قصد التوصّل لا یکون دخیلاً فی وجوب المقدّمة ، فلا بأس بأن نوضّح ذلک بأزید ممّا ذکر وهو:

إنّ المقدّمة لو کانت من الاُمور والعناوین القصدیّة کالتعظیم والتأدیب فلدخالة القصد فیه وجه ، ولکنّها لیست کذلک ؛ لأنّ الذات الخارجة عن المقدّمة بحسب ما تقع فی الخارج موصلة تکون واجبة، سواءً قصد بها ذلک أم لم یقصد ، وفی مثل ذلک لایمکن أن یکون القصد محقّقاًلوجوبه کما لایخفی،وحیث لا دلیل آخر یدلّ علی لزوم قصد التوصّل فی وجوبه،فکیف یمکن الذهاب إلی هذا القول؟

ص:151

مع أنّا نشاهد کثیراً أنّ المقدّمة تتحقّق من دون أن یکون حال الإتیان قاصداً للتوصّل إلی ذیها ، فهذا أدلّ دلیل علی العدم کما لایخفی .

نعم ، قد یوجّه کلام الشیخ بتوجهین آخرین لتصحیح کلامه ، والموجّه هو المحقّق الأصفهانی فی «نهایة الدرایة» قال ما خلاصته:

(لا یخفی أنّ الوجه فی اعتبار قصد التوصّل فی مصداقیّة المقدّمة للواجب، مرکّب من أمرین :

الأمر الأوّل: أنّ الحیثیّات التعلیقیّة فی الأحکام العقلیّة راجعة إلی التقییدیّة ، فإذا کانت مطلوبیّة المقدّمة لا لذاتها، بل لحیثیّة مقدّمیّتها والتوصّل بها، فالمطلوب الجدّی والموضوع الحقیقی للحکم العقلی، هو نفس التوصّل .

ومن البیّن أنّ الشیء لا یقع علی صفة الوجوب، ومصداقاً للواجب بما هو واجب ، إلاّ إذا أتی به عن قصد وعمد، حتّی فی التوصّلیّات، لأنّ البعث تعبّدیّاً کان أو توصّلیّاً لا یتعلّق إلاّ بالفعل الاختیاری ، فالغسل الصادر بلا اختیار، وإن کان مطابقاً لذات الواجب، ومحصّلاً لغرضه ، لکنّه لا یقع علی صفة الوجوب ؛ أی مصداقاً للواجب بما هو واجب، بل یستحیل أن یتعلّق الوجوب بمثله ، فکیف یکون مصداقاً له ، فاعتبار قصد التوصّل فی وقوع المقدّمة علی صفة الوجوب مطلقاً، کان من جهة أنّ المطلوب الحقیقی بحکم العقل هو التوصّل .

الأمر الثانی: أنّ التوصّل إذا کان بعنوانه واجباً، فما لم یصدر هذا العنوان عن قصد واختیار لا یقع مصداقاً للواجب، وإن حصل عنه الغرض مع عدم القصد والعمد إلیه) ، انتهی کلامه(1) .


1- نهایة الدرایة : ج1 / 347 .

ص:152

ولکن یرد علیه بما فی الأوّل : بأنّا وإن سلّمنا کون الغرض الجدّی والمطلوب الحقیقی للحکم العقلی، توصیلیّة المقدّمة إلی المطلوب وذی المقدّمة، بحیث لولا ذلک لما صارت المقدّمة واجبة ، إلاّ أنّه لا یوجب ولا یقتضی کون صیرورة المقدّمة مصداقاً للواجب، أن یأتیها بقصد التوصّل، بحیث لو لم یقصد کان محصّلاً للغرض دون الواجب ، مع أنّه من الواضح أنّ مصداقیّتها للواجب لم تکن إلاّ لتحصیل الغرض ، فکیف یمکن التفکیک بینهما بحصول الغرض بذلک دون الواجب .

نعم ، یصحّ هذا التفکیک بین کونه مصداقاً للواجب، وبین کونها عبادة یترتّب علیها الثواب، إذ مع قصد التوصّل إلی ذی المقدّمة وقصده امتثال الأمر تصبح عبادة مستحقّة للثواب، ومصداقاً للواجب ، وأمّا لو لم یقصد فلا تصبح عبادة وإن صدق علیه الواجب ، فحصول التوصّل إلی ذیها بواقعه موضوع لمصداقیّة الواجب، سواءً قصده أم لم یقصده .

مضافاً إلی أنّ الوجوب الذی نبحث فی أطرافه، علی فرض ثبوت الملازمة، کان وجوباً شرعیّاً والحاکم لوجوده العقل، لا الوجوب العقلی بمعنی اللابدّیّة، فهو ممّا لا خلاف ولا إشکال فی لزومه ؛ لعدم إمکان الحکم بوجوب ذیها من دون وجوب مقدّمته ، فحینئذٍ یصیر الوجوب المتعلّق علی المقدّمة من الأحکام الشرعیّة، حیث لا تکون الحیثیّات التعلیلیّة راجعة إلی التقییدیّة ، بل الحکم یتعلّق بما هو الواجب بالعمل الشائع الصناعی عن الواجب، وهو ذات المقدّمة بما أنّها موصلة فی الخارج إلی ذیها، کما أوضحناه سابقاً .

وأمّا عن الثانی: فبأنّه إذا عرفت فی الجواب عن الوجه الأوّل، أنّ التوصّل بعنوانه لم یکن واجباً بل بحمله الشایع الصناعی کان واجباً ، فلا نحتاج فی جعل

ص:153

ذلک مصداقاً للواجب قصد هذا العنوان عن عمدٍ واختیار ، بل الملاک هو الوصول إلی ما هو المقصود، وهو وجود ذی المقدّمة . غایة الأمر ، حیث کان التکالیف من جملة شرائطها هی القدرة علی الإتیان ، فکان الاختیار والعمد دخیلین فیها، فإذا فرض أنّه کان فی الخارج قادراً علی ذلک ، فالتکلیف متوجّه إلیه، وإن لم یکن المکلّف حین الامتثال والإتیان ملتفتاً إلی اختیاره . بل کان غافلاً عن کون ذلک محصّلاً للغرض، ومقدّمةً لمطلوبه ؛ لأنّ الملاک فیه موجود ، فیکفی فی فعلیّة ذلک توجّه التکلیف إلیه ولو لم یقصد التوصّل بذلک . وقد عرفت الآثار المترتّبة علی قصده والتفاته، من الامتثال والعصیان والتجرّی فی موارده المتصوّرة، فلا نعیدها حذراً من الإطناب وخوفاً من الإطالة .

وبالجملة: ثبت بحمد اللّه أنّ المقدّمة الموصلة واجبة بعنوانها المشیر إلی فردها الخارجی، دون لا ذات المقدّمة، ولا هی مع قصد التوصّل .

***

ص:154

فی الثمرات المترتّبة علی وجوب المقدّمة وعدمه

بحثٌ عن الثمرات المترتّبة علی وجوب المقدّمة وعدمه

أقول: رتّب الاُصولیّون علی کون المقدّمة الموصلة أو غیرها واجبة أو غیر واجبة، ثمرات لا بأس بذکرها، والنظر إلیها من الصحّة والفساد، وذکر ما یمکن أن یستدلّ به لإثبات الثمرة علیها .

فنقول ومن اللّه الاستعانة وعلیه التکلان :

الثمرة الاُولی: جعلوا صحّة العبادة التی وقعت ضدّاً لواجب أهمّ کإزالة النجاسة عن المسجد ثمرةً، علی فرض کون المقدّمة الموصلة واجبة ، بخلاف ما لو کانت المقدّمة المطلقة واجبة، حیث تکون العبادة - کالصلاة فی الفرض المزبور - فاسدة .

وجه ذلک: لأنّ الضدّ وهو الإزالة إذا کان واجباً مطلقاً، فیکون ما هو ضدّه المطلق أیضاً حراماً ، وضدّه المطلق عبارة عن فعل الضدّ - ومنه الصلاة - فتکون منهیّاً عنها ، والنهی المتعلّق بالعبادة یوجب الفساد .

هذا ، بخلاف ما لو قلنا بمقالة صاحب «الفصول» قدس سره من کون المقدّمة الموصلة واجبة ، فعلی هذا لا یکون ترک المطلق حراماً ، بل الترک الذی لا یوجب الوصول یکون حراماً ، فالترک حینئذٍ یکون له فردان :

تارةً: ینطبق علیه فعل الضدّ، وهو الصلاة.

واُخری : ینطبق علیه غیرها من سائر الأضداد الخاصّة، من الأکل والشرب والنوم .

فحینئذٍ إذا کانت الإزالة واجبة لأهمّیتها، فیکون ترک الضدّ واجباً ، ولکنّه

ص:155

لیس مطلق الترک واجباً ، بل الترک الموصل إلی الإزالة ، فمن لم یأت بالإزالة ولو ترک الصلاة، فلا تکون الصلاة حینئذٍ منهیّاً عنها، لأجل أن ترکها لا تکون فاسدة .

وهذه ثمرة مهمّة فقهیّة مترتّبة علی هذین القولین، قد ذکرها صاحب «الفصول» فی کتابه، والتزم بمقتضاها بصحّة العبادة عند مزاحمتها لواجب أهمّ.

قال الشیخ الأنصاری: فی معرض ردّه علیه بما خلاصته:

(إنّ فعل الصلاة وإن لم یکن حینئذٍ نقیض الترک الموصل، لأنّ نقیض کلّ شیء رفعه، ونقیض الترک المطلق یکون ترک هذا الترک لا الفعل، کما أنّ نقیض الترک الموصل الذی کان ترکاً خاصّاً لا یکون فعلاً ؛ لأنّ نقیض الأخصّ أعمّ کما أنّ نقیض الأعمّ أخصّ ، کما أنّ نقیض الإنسان وهو اللا إنسان یعدّ أعمّاً من لا حیوان، ولا حیوان یعدّ أخصّاً من لا إنسان، لأنّه ربما یصدق فی بعض الموارد لا إنسان ولا یصدق علیه لا حیوان، کالحیوان غیر الناطق .

وعلی کلّ حال، فنقض الترک الموصل یکون أعمّ من الفعل ؛ لأنّ نقیض الترک الموصل عبارة عن ترک الترک الموصل، وترک الترک الموصل له أفراد من الأکل والشرب والنوم ومنها الصلاة ، فالصلاة تکون أحد أفراد النقض المنهی عنه ، ومعلوم أنّ النهی عن الکلّی یسری إلی أفراده، فتکون الصلاة منهیّاً عنها ، غایته أنّه لا بخصوصها ، بل بما أنّها أحد أفراد النقیض الواجب .

والحاصل : لو کان مطلق ترک الصلاة واجباً بالوجوب المقدّمی لإزالة النجاسة عن المسجد ، فنقیض مطلق الترک ترک هذا الترک، وهو متّحدٌ خارجاً مع فعل الصلاة ، فتکون الصلاة بما أنّها نقیض الترک الواجب منهیّاً عنها .

وأمّا لو کان الترک الخاصّ واجباً أی الترک الموصل للإزالة ، فنقیض الترک

ص:156

الموصل، هو ترک ترک الموصل، وهو الذی یکون منهیّاً عنه، لکونه نقیض الواجب، وترک الترک الموصل المنهی عنه له أفراد منها الصلاة ، فلا فرق فی فساد الصلاة حینئذٍ بین أن نقول مطلق الترک واجبٌ ، أو خصوص الترک الموصل ، بعد البناء علی مقدّمیّة ترک أحد الضدّین لفعل الضدّ الآخر .

وبالجملة: فما ذکروه من الثمرة بین القولین لیس بصحیح ، بل العبادة فی کلا الوجهین باطلة إذا وقعت طرفاً للضدّ، وقلنا بوجوب المقدّمة واللاقتضاء) . انتهی کلامه(1) .

قال المحقّق الخراسانی: فی معرض ردّه لکلام الشیخ وإثباته للثمرة المذکورة:

(قلت: وأنت خبیر بما بینهما من الفرق، فإنّ الفعل فی الأوّل - والمقصود هو الترک الخاصّ - لا یکون إلاّ مقارناً لما هو النقیض من رفع الترک المجامع معه تارةً ، ومع الترک المجرّد اُخری ، ولا یکاد یسری حرمة الشیء إلی ما یلازمه، فضلاً عمّا یقارنه أحیاناً .

نعم ، لابدّ أن لا یکون الملازم محکوماً فعلاً بحکم آخر علی خلاف حکمه، لا أن یکون محکوماً بحکمه ، وهذا بخلاف الفعل فی الثانی، فإنّه بنفسه یعاند الترک المطلق وینافیه، لا ملازم لمعانده ومنافیه ، فلو لم یکن عین ما یناقضه بحسب الاصطلاح مفهوماً ، لکنّه متّحد معه عیناً وخارجاً ، فإذا کان الترک واجباً فلا محالة یکون الفعل منهیّاً عنه قطعاً ، فتدبّر جیّداً) ، انتهی کلامه(2).


1- مطارح الأنظار للشیخ : ص80 وفی قوامع الفضول : 152 تقریرات الشیخ قدس سره .
2- کفایة الاُصول : ج1 / 193 .

ص:157

ووافقه فی ذلک المحقّق النائینی فی «فوائده»(1) وتبعه علی ذلک الخوئی والخمینی حفظهما اللّه .

والتحقیق أن یُقال: وضوح صحّة هذا الفرق بین القولین وعدمها، موقوف علی إثبات مقدّمات لا بأس بالإشارة إلیها :

المقدّمة الاُولی: قیام الملازمة بین وجوب ذی المقدّمة ووجوب مقدّمته کما هو المفروض .

المقدّمة الثانیة : ممنوعیّة کون ترک الضدّ بنفسه مقدّمة لفعل ضدّ آخر، کما سیأتی بحثه إن شاء اللّه فی مبحث الضد ؛ لأنّ ما یکون موجباً لترک الواجب الأهمّ، لیس هو فعل الضدّ الآخر، حتّی یکون ترک الضدّ مقدّمة لفعل الواجب ، بل الموجب لترکه هو الصارف والإعراض عن إتیان الواجب، الذی کان مقدّماً علی فعل الضدّ، فیکون ترک الواجب مستنداً إلی الصارف قبل استناده إلی فعل الضدّ، فیکون الصارف والإعراض حراماً لا نفس الفعل الخارجی الواقع بعد الصارف ، وتفصیل ذلک موکول إلی محلّه .

المقدّمة الثالثة : لو سلّمنا کون المقدّمة واجبة ، وسلّمنا کون فعل الضدّ نفسه موجباً لترک الواجب الأهمّ، فیکون فعله حراماً ، إلاّ أنّ فساد ذلک لو کان عبادة موقوف علی تسلیم کون النهی الغیری المتعلّق للعبادة، کالنهی النفسی موجب لفسادها ، وإلاّ لما أوجب حرمته الغیری مع تسلیمه مؤثّراً فیما هو المقصود، کما لایخفی .


1- فوائد الاُصول : ج1 / 298 .

ص:158

المقدّمة الرابعة: وهی العمدة والمقصود الأعلی، هی أن یکون متعلّق النهی وما هو المتحقّق فی الخارج واحداً ذاتاً، ومتّحداً معه عیناً ، وإلاّ لو لم یکن کذلک بل کان منطبقاً علیه عَرَضاً لا ذاتاً لما سرت الحرمة المتعلّقة به إلی ما هو الموجود فی الخارج .

توضیح ذلک: موقوف علی بیان ما هو المراد من کلمة (النقیض) المشهورة علی الألسنة بقولهم : اجتماع النقیضین وارتفاعهما محال :

فنقول: والذی وقع تفسیره فی علم المنطق، واشتهر بینهم، هو أنّ نقیض کلّ شیء رفعه ، وهذا المعنی معنی عام یجری فی جمیع الموارد، من دون ذکر تفصیل فیما بین أن یکون متعلّق الرفع شیئاً عامّاً أو خاصّاً ، وبلا فرق بین:

أن یتعلّق الرفع بشیء وجودی وحقیقی، الذی کان إطلاقه علیه حقیقیّاً ؛ لأنّ رفع الشیء یستلزم تعلّقه إلی الوجود حتّی یناسب مع معناه وهو الرفع .

أو یتعلّق إلی عدم شیء، فیکون رفعه هو عدم عدمه، حیث یکون الإطلاق بالرفع فیه نوعٌ من المسامحة والعنایة ؛ لعدم وجود شیء حتّی یلاحظ فیه الرفع ، فنقیض وجود زید هو عدمه ، ونقیض عدم وجوده، هو عدم عدمه المنطبق بالعَرَض علی وجوده، لعدم إمکان اتّحاد العدم مع الوجود ؛ لإباء حیثیّة الوجود عن ترتّب العدم علیه ذاتاً .

نعم ، ینطبق علیه عَرَضاً أی عنواناً کالاُمور الاعتباریّة، حیث یلاحظه الذهن بنحو عدم المضاف لا عدم المطلق ؛ لأنّ الثانی لا مَیْز فیه ؛ إذ لا میز فی الأعدام من حیث العدم ، هذا بخلاف عدم المضاف، فإنّ له حظّاً من الوجود ولو ذهناً بالإضافة إلی ما یضاف إلیه ذلک العدم .

ص:159

وکیف کان، فانطباق العدم علی الوجود یکون عَرَضیّاً .

فإذا کان الأمر کذلک، فلا اتّحاد بین الوجود والفعل مع العدم والترک ذاتاً ، ولا یتّحد معه خارجاً نحو اتّحاد الکلّی الطبیعی مع أفراده، حیث یکون اتّحاده ذاتیّاً، والسرایة فی الحکم من الکلّی إلی أفراده، إنّما یکون فی الکلّی الذاتی علی أفراده، لا العَرَضی بعدم الاتّحاد فیه حقیقةً ، فلا منافاة بین الالتزام بحکم خاصّ للکلّی العَرَض دون فرده، أی بأن لا یکون متّصفاً بذلک الحکم، لعدم اتّحاده معه حقیقةً .

فبناءً علی هذا، یلزم أن یکون التعبیر بأنّ الوجود والعدم متناقضان تعبیراً مسامحیّاً لعدم کون الوجود نقیض العدم حقیقةً ، بل نقیضه هو عدم العدم ، ونقیض الشیء هو رفعه المساوق هذا مع الوجود، أی ینطبق علیه عَرَضاً ، فحینئذٍ إذا فرضنا کون ترک الترک - المسمّی بعدم العدم - حراماً، لم یستلزم ذلک کون الوجود المنطبق علیه بالعرض حراماً أیضاً، لعدم الاتّحاد بینهما ذاتاً ، بلا فرق فی ذلک بین کون الترک مفروضاً بنحو الإطلاق ، أو مفروضاً علی نحو خاصّ، لعدم تأثیر هذا التفاوت فیما هو المقصود منه .

کما لا فرق فی عدم سرایة حکم الکلّی إلی أفراده العَرَضی، بین أن یکون للکلّی أفراد متعدّدة أو منحصراً فی فردٍ واحد ، لعدم دخالة التعدّد والوحدة فیما هو المهمّ فی المسألة .

فبناءاً علیه یلزم أن لا تکون العبادة کالصلاة مثلاً التی أصبحت مزاحمة لواجب أهمّ کالإزالة فاسدة أصلاً ، لا علی القول بکون التعدیة المطلقة واجبة، کما علیه صاحب «الکفایة» ، ولا علی القول بکون المقدّمة الموصلة واجبة، کما علیه

ص:160

صاحب «الفصول» ، ولو سلّمنا جمیع المقدّمات الثلاثة السابقة، لأنّ المقدّمة الرابعة فیهما مفقودة، وهو الاتّحاد بین الکلّی وفرده ذاتاً، حتّی یوجب السرایة فی الحرمة، لما قد عرفت أنّ فعل الضدّ - وهو الصلاة - لا یعدّ نقیضاً لترک الصلاة، حتّی یُقال إنّ ترک الصلاة إذا کان واجباً للإزالة، فیکون فعلها حراماً لأنّه نقیضه . إذ قد عرفت أنّ نقیض ترک الصلاة هو ترک ترکها، وهو یکون حراماً المنطبق هذا عَرَضاً علی فعل الصلاة، والانطباق العَرَضی لا یوجب سرایة حکم التحریم منه إلی فعلها ، بلا فرق فی ذلک بین أن یجعل الترک المطلق مقدّمة للإزالة، أو ترک الموصل، کما عرفت توضیحه .

وبالجملة: فالقول ببطلان الصلاة مطلقاً - کما علیه الشیخ - أو بطلانه علی مسلک صاحب «الکفایة» دون صاحب «الفصول»، لیس فی محلّه .

هذا إن قلنا فی النقیض أنّه عبارة عن رفع الشیء، أعمّ من أن یکون الشیء وجودیّاً أو عدمیّاً بعدم المضاف .

أقول: ولکن فی المسألة احتمالان آخران، ذکر أحدهما المحقّق السبزواری فی «المنظومة» فی الصفحة 59 فی (غوص التناقض) فی قوله : (نقیض کلّ رفع أو مرفوع «تعمیم رفع لهما مرجوع») :

بأن یکون المراد من الرفع القدر المشترک بین المبنی للفاعل کاللاإنسان الذی کان رافعاً للإنسان، والمبنی للمفعول کالإنسان نقیضه لکونه مرفوعاً بالرفع ، فعلی هذا التقدیر یکون کلّ من الوجود والعدم نقیضاً للآخر ، کما یساعد ذلک مع النسبة الموجودة، مثل التناقض الظاهر فی کونه من الطرفین ؛ أی إذا صدقت النسبة فی أحد الطرفین یصدق فی الآخر، نظیر التضادّ والتمانع والتماثل .

ص:161

أقول: وقد ردّ السبزواری هذا الاحتمال بقوله :

(تعمیم رفع لهما برجوع) لما قال بعضهم نقیض کلّ شیء رفعه ، وفهم منه التخصیص بمثل اللاإنسان ولم یشمل عین الشیء ، ولذلک بدّل بعضهم هذه الجملة بقوله (رفع کلّ شیء نقیضه) ، وبعضهم عمّم الرفع کما قلنا فی صدر المسألة ، فلا نعید .

أو یُقال باحتمال ثالث بأنّ الاصطلاح المعروف فی بیان النقیض کان علی ما هو علیه، من أنّ نقیض کلّ شیء رفعه، الصادق بحسب إطلاقه الحقیقی علی نقیض الوجود، کما یدلّ ویشعر به لفظ الشیء علیه ونقیضه کان هو العدم، فلیس النقیض إلاّ هذا . إلاّ أنّه حیث کان هذا الوصف من الأوصاف ذات الإضافة عند العرف ، فکذلک یطلق بالمسامحة نقیض العدم علی الوجود ، مع أنّه لیس بنقیض حقیقةً، لعدم کون العدم شیئاً حتّی یرفع ویصدق علیه النقیض ، فینضمّ إلیه أنّ العرف یطلقون لکلّ من الوجود والعدم نقیضاً، ویجعلهما مقابلاً لهما فی الحکم . بقی إذا صار وجود شیء واجباً فیکون عدمه حراماً ، وإذا کان عدمه وترکه واجباً فیقال إنّ وجوده کان حراماً ، فینتزع من ذلک الإطلاق أنّ التقابل بین عدم المطلق والوجود، هو تقابل الإیجاب والسلب ، فإذا کان أحدهما مشتملاً لحکمٍ، فیکون نقیضه مشتملاً علی حکم فی مقابله ، فیلزم علی هذا التقدیر أن یکون الترک المطلق واجباً، فیکون نقیضه وهو فعل الضدّ وهو المسمّی بالصلاة حراماً، لکون التقابل حینئذٍ تقابل الإیجاب والسلب ، فیوجب فسادها، فیکون مرکز النهی علی هذا التقریب نفس وجود الصلاة، لا ما یلازمه، ولا ما یتّحد معه خارجاً وعیناً ؛ لأنّه من الواضح أنّ عنوان ترک الترک أمرٌ عدمیّ، لا یعقل اتّحاده ذاتاً مع أمر

ص:162

وجودیّ حتّی یقال بالسرایة فی الحکم وعدمه .

هذا بالنسبة إلی الترک المطلق الذی کان مقدّمة للإزالة، وصار واجباً لها، فیکون نقیضه وهو فعل الصلاة حراماً بالتقریب الذی عرفته آنفاً .

وأمّا علی القول بکون المقدّمة الموصلة واجبة لا المطلق: فیکون ترک الصلاة الموصل إلی الإزالة واجباً ، فنقیضه علی الفرض الأوّل - من جعل کلّ رفع سواء تعلّق بالوجود أو العدم نقیضاً - یلزم أن یکون هو ترک الترک الموصل، فیصیر کلام الشیخ الأعظم هنا صحیحاً، بأنّ ترک ترک الموصل یکون لازماً أعمّاً للفعل والترک المجرّد ، ولیس الفعل بنفسه نقیضاً والترک المجرّد نقیضاً آخراً ؛ لأنّ نقیض الواحد لابدّ أن یکون واحداً ، وإلاّ استلزم إمکان اجتماع النقیضین وارتفاعهما ؛ لأنّه لو فرض أنّه لا یکون آتیاً بفعل من الصلاة ولا بترک الصلاة الموصل ، بل کان متلبّساً بالترک المجرّد ؛ أی ترک ترک الصلاة الموصل، ولم یشتغل بشیء آخر، فإنّه قد ارتفع النقیضین، وهو عدم الفعل وعدم الترک الموصل ، والحال أنّ ارتفاع النقیضین محال عند أهل المعقول ، فهو دلیل علی کون الفعل أحد فردی لازم النقیض، وفرده الآخر هو ترک المجرّد، فیکون الانطباق حینئذٍ الترک الترک الموصل علی الفعل عَرَضیّاً لا ذاتیّاً، نظیر ما قلنا فی الاحتمال الأوّل ، فلازمه صحّة العبادة حینئذٍ فی الموصلة، کصحّتها فی المطلقة علی الاحتمال الأوّل أیضاً ، خلافاً لما التزم به الشیخ، لأنّه ادّعی وحدة الاستدلال فی کلا الموردین .

غایة الأمر ، أنّه یدّعی بأنّ الملازمة یکفی فی السرایة، فیکون الحکم فی کلا الموردین فساد الصلاة .

فالإشکال کان فی المبنی لا البناء، وهو کفایة الاتّحاد العرضی للسرایة، کما

ص:163

قاله الشیخ، أو عدم الکفایة کما قلنا وبیّناه .

وأمّا فی البناء من وحدة الحکم فی الموردین، من کون الموصلة واجبة أو مطلقة فی عدم صحّة العبادة علی مبنی الشیخ، والصحّة علی مسلکنا کان صحیحاً کما لا یخفی .

وأمّا علی القول بالاحتمال الثالث: بأن یکون النقیض مستعملاً لکلّ من الوجود والعدم بالتقریب الذی ذکرناه، فلا یکون نقیض ترک الموصل، إلاّ نفس الفعل الذی یکون اتّصافه بالعدم قهریّاً، ویکون ترک الترک لازماً له، وهکذا ترک المجرّد . فعلی هذا، ما ترتّب علیه الحرمة بواسطة وجوب ترک الموصل، لیس هو ترک الترک الموصل، لعدم کونه نقیضاً ، بل المحرّم نقیضه وهو نفس الفعل، فیکون العمل حینئذٍ فاسداً لکونه متعلّقاً للنهی حتّی بناءً علی الموصّلیّة ، فلازم هذا التقریب هو فساد العبادة المزاحمة مطلقاً، سواءً قلنا بکون المقدّمة الموصلة واجبة أو مطلقة .

أقول: ولکن حیث قد عرفت عدم تمامیّة بعض المقدّمات الأربعة، کما سیأتی البحث عنه فی محلّه إن شاء اللّه، فنقول بصحّة العبادة فی کلا التقدیرین، ولا تکون الثمرة المذکورة ثمرة علی اعتقادنا علی کلّ تقدیر، کما لا یخفی ، فنحن نوافق الشیخ فی بعض الفروض والتقادیر دون بعض ، واللّه العالم .

الثمرة الثانیة: من الثمرات المترتّبة علی ثبوت الملازمة ووجوب المقدّمة، هو برء النذر بالإتیان بالمقدّمة علی القول بوجوبها، فیما إذا تعلّق النذر بإتیان فعل واجب ، وهذا بخلاف ما لو لم نقل بوجوبها، حیث لا یحصل البُرء إلاّ بإتیان واجب نفسی .

ص:164

أقول: ولکن لا یخفی ما فیه :

أوّلاً : لا یمکن عدّ البرء المذکور من الثمرات المترتّبة علی المسألة الاُصولیّة ولا یکون بحثاً اُصولیّاً ، بل هو بحثٌ فرعی فقهی من باب انطباق الکبری فی الحکم الفرعی علی صغراه ؛ لأنّ المسألة الاُصولیّة عبارة عمّا تقع نتیجتها فی طریق استنباط الحکم الکلّی الإلهی، وتنقیح کبری من کبریات الفقه، سواءً کانت إیجابیّة أو سلبیّة ؛ کما فی البحث عن حجّیة الاستصحاب أو خبر الثقة حیث یثبت بذلک وجوب صلاة الجمعة، إذا فرض قیام خبر الثقة علیه ، أو وجوبها لأجل استصحاب ذلک من زمان الحضور إلی الغیبة وأمثال ذلک ، وهذا الإشکال عام یجری نوعاً فی الثمرات التی تذکر بعد ذلک، کما لا یخفی .

وثانیاً : أنّ الإتیان بالمقدّمة الموجب لبُرء النذر والوفاء به، إنّما یصحّ إذا قلنا بوجوب مطلق المقدّمة لا خصوص الموصلة منها ، وإلاّ لا یکون الإتیان بالمقدّمة فقط من دون ترتّب ذی المقدّمة علیها إتیاناً بواجب أصلاً، ولا وفاءاً بالنذر ثمرة بین القولین .

وثالثاً : إنّ صدق الوفاء بإتیانها وعدمه موقوف علی کیفیّة نذر الناذر، لأنّه إن جعل نذره بالإتیان بالواجب مطلقاً، أعمّ من الغیری والنفسی فللوفاء بذلک وجه ، وإلاّ لو جعل نذره لخصوص الواجب النفسی ، أو قلنا بأنّ الإطلاق فی الصیغة ینصرف إلی النفسی، فلا یکون الإتیان بها وفاءاً ، کما لا یکون الإتیان بالواجب النفسی وفاءاً، إذا خصّص نذره تصریحاً بالواجب الغیری ، فالوفاء بها وعدمه یتّبعان لقصد الناذر فی نذره، بلا ربط بالمسألة التی قلناه .

نعم ، لو لم نقل بوجوب المقدّمة أصلاً ، فلا یبقی حینئذٍ لصدق الوفاء بالنذر

ص:165

مورداً ، لو لم نقل بإمکان ذلک من جهة تعمیم مورد النذر، حتّی یشمل ما لو کان واجباً عقلاً دون الشرع ، وقلنا بأنّ المقدّمة من اللابدّیة عقلاً للإتیان بذی المقدّمة الواجب، فیکون الوفاء له موردٌ حینئذٍ ، إلاّ أنّه لابدّ من التصریح فی الصیغة لعدم شمول إطلاقها لمثله، کما هو واضح لمن کان له أدنی تأمّل .

الثمرة الثالثة : أنّ الفسق یحصل بترک واجبٍ له مقدّمات عدیدة، إذا قلنا بوجوب المقدّمة، لحصول الإصرار بالذنب بترکها متعدّدة، بخلاف ما لو لم نقل بوجوبها حیث لم یترک إلاّ واجباً واحداً، وهو الواجب النفسی، فلا یصدق الإصرار، وبالتالی فلا فسق حینئذٍ ، هذا .

وقد أورد علیه أوّلاً: جماعة منهم صاحب «الکفایة» و«النهایة» والمحقّق النائینی وغیرهم، بأنّ الفسق لا یحصل ولو قلنا بوجوب المقدّمة ؛ لأنّ بترک أوّل مقدّمة من المقدّمات یسقط وجوب الواجب النفسی، ووجوب سائر المقدّمات ، فلا تکلیف للمقدّمات بعد ترک أوّل المقدّمة، حتّی یکون ترکه موجباً لصدق الإصرار ، هذا .

لکن یرد علیه أوّلاً : کما أنّ ترک أوّل المقدّمة یوجب سقوط التکلیف عن ذی المقدّمة ولکن یعدّ عاصیاً ، فهکذا یکون بالنسبة إلی سائر المقدّمات لوحدة الملاک بینهما وبین الواجب النفسی، وهی عدم القدرة، لأنّ الواجب النفسی حینما سقط وجوبه بترکه، لعدم قدرته بإتیانه للأجزاء اللاحقة، ولکن ذلک لا یوجب عدم صدق العصیان ؛ لأنّ الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار، إذ بسوء اختیاره ترک المقدّمة الاُولی ، فهکذا یکون بالنسبة إلی تکلیف سائر المقدّمات ، فسقوطه لا یوجب عدم صدق العصیان .

ص:166

وثانیاً : أنّه إذا فرض صدق الإصرار بتحقّق معصیتین، فهو یکفی هاهنا بتحقّق ذلک ، ولو سلّمنا عدم صدق العصیان لترک سائر المقدّمات، لوضوح أنّ ترک أصل الواجب بذلک کان عصیاناً قطعاً، لعدم إمکان القول بعدم العصیان به، وإلاّ لزم ما لا یلتزم به أحد ، وهو کون العصیان والعقوبة حاصلان لترک أمر غیری لا نفسی . إن قلنا بالعقوبة لترک المقدّمة ، وإن لم نقل بالعقوبة علیه أیضاً، لزم جواز ترک جمیع الواجبات النفسیّة بترک مقدّمة منها من دون تحقّق معصیة أصلاً ، وهو ممّا لایقول به أحد. فثبت تحقّق العصیانین ، فثبوته یُثبت الإصرار فیحصل الفسق.

والنتیجة هی أنّه لو قام بترک أوّل مقدّمة وکانت واجبةً أیضاً، فهو عاصٍ، فیلزم تحقّق تعدّد المعصیة ممّا یستلزم الإصرار ، وهذا بخلاف ما لو لم نقل بوجوب المقدّمة، حیث لا إصرار لعدم تعدّد المعصیة حینئذٍ .

ولقد أورد علیه صاحب «المحاضرات» : بأنّ هذه الثمرة مبنیّة مضافاً علی کون معصیة الواجب النفسی معصیة صغیرة لا من الکبائر ، أنّها موقوفة علی إثبات أمرین:

أحدهما : ثبوت التفصیل بکون الفسق حاصلاً بالإصرار فی الصغیرة دون مرّة واحدة ، بخلاف الکبیرة .

وثانیهما : أن یکون الإصرار حالاً بارتکاب معاص عدیدة، ولو فی زمان واحد ودفعة واحدة .

وفی کلیهما إشکال :

أمّا عن الأوّل: فلأنّ الفسق هو الخروج عن جادّة الشرع إلی الیمین والشمال، ولو کان فی الصغیرة ، والعدل فی قباله هو الاستقامة فی جادّة الشرع ، فالخروج

ص:167

بأیّ صورة تحقّق فسق ، فلا ثمرة فی کون المقدّمة واجبة أم لا ، إذ هنا قد عصی بترک الواجب النفسی ففسق .

وأمّا عن الثانی: فلأنّ الإصرار علی المعصیة عرفاً، هو إتیانها مرّةً بعد مرّة ، وأمّا تحقّقها فی دفعة واحدة متعدّدة، لا یوجب صدق الإصرار ؛ لوضوح أنّه لو نظر إلی جماعة من النسوان وإن کان یرتکب معاصی متعدّدة ، إلاّ أنّه لا یصدق علیه الإصرار) ، انتهی محصّل کلامه(1) .

أقول: ولا یخفی ما فی بعض کلامه ؛ لأنّ کون معصیة ترک الواجب النفسی من الصغائر أمرٌ مسلّم ، وإلاّ لما بقی للإصرار مورد وموضوع .

وأمّا کون الفسق هو العدول عن جادّة الشرع یمیناً وشمالاً ولو لمرّة واحدة ، فممنوعٌ، وتفصیله فی مقامه، لکن نقول مجملاً بإمکان القول بالفرق بین الفسق المصطلح عند الفقهاء والشرع المستفاد من الأخبار ، وبین ما هو المستفاد من اللغة والعرف، حیث أنّ فی الأوّل منه لابدّ فی تحقّقه وجود الإصرار فی الصغیرة، وإن لم یکن کذلک علی اللغة والعرف .

کما أنّ إشکاله فی الإصرار بإطلاقه لا یخلو عن تأمّل ؛ لأنّه إن قلنا بأنّ الإصرار عبارة عن تکرار المعصیة وتعدّدها فی أزمنة متعدّدة، لا تعدّدها فی زمان واحد ، لزم أن لا یکون الإصرار محقّقاً ، فیما لو ارتکب معصیة متعدّدة بالعین بالنظر إلی الأجنبیّة، ولمسها بیده وتقبیلها بشفتیه، ووطئها فی زمان واحد لا بالتعاقب وأن لا یکون مضرّاً بعدالته ، مع أنّ الالتزام بذلک مشکل ؛ لأنّه یستلزم عدم تفاوته مع شخص لا یرتکب إلاّ اللّمس بیده، وهو کما تری .


1- المحاضرات : ج2 / 429 - 430 .

ص:168

وما مثّله من النظر إلی جماعة من النسوان فی زمان واحد لا یبعد أن یکون المجموع بالنظر إلی النظر معصیةً واحدة لو لم یتعدّد نظره إلی کلّ واحدة مستقلاًّ ؛ لأنّه نظرةٌ واحدة لهذا المجموع ، فمعصیته واحدة ، لا أن تکون متعدّدة، ولا یصدق الإصرار کما قاله .

وکیف کان ، فلا إشکال فی الجملة بأنّ العرف یفهم من الإصرار وقوع المعصیة عقب المعصیة ، أو علی نحو یصدق علیه التعدّد الناشئة من تعدّد الدواعی فی ارتکاب المعاصی، وإن کانت دفعة واحدة وفی زمان واحد .

ولکن الإشکال الواقعی: إنّما هو من جهة أنّ ترک المقدّمة التی کانت واجبة بوجوب غیری، لا یکون عصیاناً وموجباً للعقوبة والتبعّد ، بل ما یکون کذلک إمّا یکون فی مخالفة الواجب النفسی، فإذا کان الأمر کذلک فلا ثمرة حینئذٍ للقول بوجوب المقدّمة وعدمه فی تحقّق الفسق وعدمه ، والعلّة فیما ذکرناه هو أنّ العصیان فی ترک الواجب، إنّما یکون بجهة ترک غرض المولی ، فکما أنّ الغرض مترتّب علی ذی المقدّمة وهو واحد ، فکذلک یکون العصیان مربوطاً له وواحداً وکانت العقوبة له أیضاً کما لا یخفی .

الثمرة الرابعة : أنّ المقدّمة لو کانت واجبة، فعلی فرض کونها عبادة، أمکن الإتیان بها بقصد التقرّب ، وأمّا علی القول بعدم وجوبها، فلا یمکن قصد التقرّب فیه لعدم وجود أمر لها حتّی یقصد به الامتثال .

هذا کما ذکره الشیخ الأعظم فی «التقریرات» والمحقّق العراقی فی «النهایة» خلافاً للآخرین ومنه صاحب «المحاضرات» تبعاً لاُستاذه النائینی قدس سره .

أقول: إنّ هذه الثمرة لیست مختصّة بوجوب المقدّمة ، لوجود جهات اُخری

ص:169

الموجبة لصیرورة المقدّمة عبادةً ، ولو قلنا علی الفرض بصحّة قصد التقرّب بالأمر الغیری ، لما قد عرفت منّا سابقاً من إمکان قصد أمر نفسها الاستحبابی إذا کانت من الطهارات الثلاث ، أو قصد الأمر النفسی المتعلّق بذی المقدّمة إذا قصد التوصّل بها إلیه ، بل وکفایة قصد محبوبیّتها الذاتیّة مع قصد القربة، ولو لم یکن الأمر لها موجوداً لأجل المزاحمة ، ومنها یکون قصد الأمر الغیری المقدّمی ، لو قلنا بصحّته ، ولکن قد حقّقناه فی محلّه أنّه لا یکون نفسه مقرّباً فلا نعید .

فثبت أنّ الثمرة من جهة أنّ الأمر المقدّمی قد یکون مقرّباً ، متوقّفة علی تسلیم قابلیّة أمر الغیری علی التقرّب بالامتثال والتعبّد بالعصیان ، ولکنّه محلّ تأمّل ، فعلیه لا تأثیر فی وجوب المقدّمة وعدمه فی إمکان التقرّب وعدمه، کما لایخفی .

الثمرة الخامسة : واعتبر الأصحاب من الثمرات المترتّبة علی وجوب المقدّمة، عدم جواز أخذ الاُجرة علیها ، بخلاف ما لو لم نقل بوجوبها، فیجوز أخذ الاُجرة ، هذا بناءً علی القول بعدم جواز أخذ الاُجرة علی الواجبات .

وقد أجاب عنه صاحب «المحاضرات» لسیّدنا الخوئی بما هو حاصله :

(أوّلاً : أنّا قد حقّقنا فی محلّه أنّ الوجوب بنفسه لا یکون مانعاً من أخذ الاُجرة علی الواجب، سواءً کان وجوبه عینیّاً أم کفائیّاً، توصّلیّاً کان أم عبادیّاً ، إلاّ إذا قام الدلیل علی لزوم الإتیان بالواجب مجّاناً، کتغسیل المیّت ودفنه ونحو ذلک ، وحیث أنّه لا دلیل علی لزوم الإتیان بالمقدّمة مجّاناً، فلا مانع من أخذ الاُجرة علیها، وإن قلنا بوجوبها .

وثانیاً : لو تنزّلنا عن ذلک ، فلابدّ من التفصیل بین المقدّمات العبادیّة

ص:170

کالطهارات، وبین غیرها، لإمکان أن تکون المانعیّة هی عبادیّتها، سواءً کانت واجبة أم لم تکن ، فلا دخل للوجوب فی ذلک، إذ ربما لا یکون الشیء واجباً مع ذلک لا یکون أخذ الاُجرة له جائزاً مثل الأذان .

فالنتیجة: أنّه لا ملازمة بین وجوب شیء وعدم جواز أخذ الاُجرة علیه أصلاً ، بل النسبة بینهما عموم من وجه) . انتهی کلامه(1) .

أقول: ولا یخفی ما فی کلامه من المناقشة :

أوّلاً : من الواضح أنّ المانع من جواز أخذ الاُجرة، إنّما هو الوجوب ؛ لأنّ مقتضی الوجوب کون الإتیان بذلک حقّاً للآمر، وکان الإتیان حتمیّاً إلزامیّاً علیه ، فحینئذٍ سواء أخذ شیء فی قِباله أم لا ، لامحیص عن لزوم الإتیان به ، فحینئذٍ إذا کان العمل مستحقّاً للغیر، فلا یجوز أن یجعله حقّاً للآخر لذلک العمل، نظیر ما لو استأجره لعملٍ کالخیاطة أو البناء وغیرهما، فتعلّق حقّ شخص بذلک العمل ، فلا یجوز بعد ذلک جعله حقّاً للآخر لعدم کونه بعد الإجازة مالکاً لذلک الحقّ ، فالواجبات سواءً التعبّدیّات أو التوصّلیّات جمیعها من هذا القبیل ، ولذلک ناقش الفقهاء فی أخذ الاُجرة علی الواجبات ، بلا فرق فی ذلک بین کون الوجوب عینیّاً أو کفائیّاً ، تعیینیّاً أو تخییریّاً ، لوحدة الملاک فی الجمیع، من حتمیّة العمل ووجوبه علیه، وکون العمل حقّاً للآمر علی المأمور، فلا یجوز إجارته للغیر.

لا یُقال : بناءً علی هذا یلزم أن لا یکون أخذ الاُجرة علی الصناعات التی وجبت کفایةً أو عیناً فی بعض الموارد - کما إذا لم یکن من یقوم بها، وانحصر


1- المحاضرات : ج2 / 429 .

ص:171

القیام به بشخص واحد - جائزاً ، مع أنّه من الواضح جوازه ، بل قد یکون أخذ الاُجرة واجباً لأجل حفظ نظام المعاش ، فیظهر منه أنّ الوجوب بنفسه لا یکون مانعاً لذلک، وإلاّ لکان الجری فی مثلها کونه کذلک .

لأنّا نقول : بأنّ الواجب فی مثل الصناعات والحِرَف لیس هو نفس العمل مجرّداً ، بل کان متعلّق الوجوب هو العمل مع أخذ الاُجرة المسمّی بالبیع والإجارة واجباً، ویجب علی الإنسان إیقاع المعاملة المتعارفة بأخذ الثمن فی مقابل المثمن ، أو بأخذ الاُجرة فی مقابل العمل کالخیاطة والحیاکة، سواءً کان وجوبه کفائیّاً أو عینیّاً .

هذا وینبغی أن لا یتوهّم بأنّ أخذ الاُجرة بنفسه واجب، بحیث لو عمل الإنسان من دون أخذ الاُجرة منه لکان تارکاً للواجب وعاصیاً ، لوضوح أنّ أخذ الاُجرة کان وجوبه منوطاً بوجوب الصناعة، وهو إنّما یکون فیما لو انحصر الوصول إلی الصنعة بأخذ الاُجرة ، فلا إشکال فی أنّه أیضاً واجب ، کما أنّ أصل الصنعة واجبة ، أمّا لو فرض إمکان الوصول إلی الصنعة من دون أخذ الاُجرة أیضاً، کما لو فعلها تبرّعاً أو مجّاناً أو کانت حاصلة، فحینئذٍ کما لا تکون الصنعة فی تلک الموارد واجبة، کذلک لا یکون أخذ الاُجرة علیها واجباً أیضاً، وهو واضح .

وبالجملة: فعلی ما ذکرنا یلزم القول بأنّ القاعدة والأصل الأوّلی فی الواجبات، هو عدم جواز أخذ الاُجرة ، إلاّ أن یقوم دلیل علی الجواز کما فی الصناعات، حیث یجوز بنحو خاصّ باعتبار أنّها من الواجبات التوصّلیّة .

کما قد ورد الدلیل علی جواز أخذ الاُجرة علی الواجبات التعبّدیّة کالحجّ والصلوات الاستحبابیّة، حیث أنّه لابدّ من إثبات طریق لجواز أخذ الاُجرة علیها،

ص:172

ولذلک استدلّ الفقهاء لإثبات الجواز بأدلّة، سوف نتعرّض لها لاحقاً، وهی مذکورة فی المطوّلات الفقهیّة.

وکیف کان ، فلا إشکال فی أنّ کون الفعل واجباً یعدّ مانعاً لأخذ الاُجرة علی الواجبات، وإن کان هناک مانع آخر یمنع عن جواز أخذ الاُجرة فی بعض الواجبات کالتعبّدیات وهو منافاتها مثلاً مع قصد القربة المعتبر فیها، کما لا یخفی ، أو لأجل وجود دلیل شرعی علی عدم الجواز، ولو لم یکن تعبّدیّاً کاُجرة القاضی.

لا یُقال : إنّه لو لم یکن أخذ الاُجرة علی الواجبات التعبّدیّة جائزاً، فلِمَ یحکم بجواز أخذ الاُجرة علی قضاء الصلوات الواجبة الاستیجاریّة ، مع أنّها تتضمّن مانعین: أحدهما وجوبها ، والآخر کونها قُربیّاً عبادیّاً .

لأنّا نقول : یمکن الجواب عن هذا الإشکال بجوابین:

الأوّل: کما عن صاحب «الکفایة» وبعض الأکابر من الاُصولیّین، من أنّه علی نحو الداعی علی الداعی ؛ بأن تکون الاُجرة علی الداعی بالإتیان بقصد امتثال الأمر، لا علی نفس العمل حتّی لا یجوز.

خلافاً للشیخ الأعظم وصاحب «العنایة» و«الحقایق» القائلین بأنّه لو أخذ الاُجرة علی ذلک، فلا یکون الداعی للامتثال إلاّ الاُجرة دون طلب الآمر ، فلا یُقال لمن لا یکون أمر الآمر محرّکاً له ، بل کان محرّکه الاُجرة أنّه امتثل أمر المولی ، بل یُقال : إنّه قام بأداء العمل لأخذه الاُجرة .

مع إمکان إجراء ما هو المانع فی الواجب التوصّلی، من جواز أخذ الاُجرة هنا وهو الوجوب .

فالأولی أن یُجاب عنه بوجه آخر ثانیاً: وهو أنّ الاُجرة فی الصلوات

ص:173

الاستیجاریّة لا تکون فی قِبال الواجب، حتّی یرد فیه الإشکال ، بل الاُجرة وقعت فی قِبال ما یکون محبوباً للمؤمن أن یفعله لمؤمن آخر تبرّعاً، وهو جعل نفسه نائباً عن مؤمن میّت لإتیان الصلوات القضائیّة تقرّباً ، فما یکون حاله کذلک وکان توصّلیّاً وکان عمله محرّماً عند الشرع ، یجوز له أن یأخذ الاُجرة فی مقابل العمل له والتقرّب به ، لأنّه عمل المؤمن وهو محرّم ولیس بذاته واجباً علیه، لکن یکون أخذ الاُجرة علیه حراماً ، هذا بخلاف ما لو کان المکلّف من ولد المیّت، ووجب علیه قضاء صلوات أبیه، حیث یکون ذلک علیه واجباً ، فلا یجوز له أخذ الاُجرة علیها ، ولکن یجوز له أن یأخذ نائباً لأبیه فی الإتیان بالصلاة الواجبة علی ذمّته، وحینئذٍ یحصل للنائب التقرّب إلی العمل ؛ لأنّ الاُجرة لیس فی قبال أصل العمل ، بل کان فی قبال جعل نفسه نائباً، والتقرّب للمنوب عنه أیضاً یحصل بقصد النائب، وإن لم نسلّم حصول التقرّب للنائب لأجل الاُجرة ؛ لعدم وجود مانع من حصول القربة للمنوب عنه ، مع أنّک قد عرفت حصول القربة للنائب أیضاً .

وبالجملة: فظهر من جمیع ما ذکرنا عدم حصول نقض بمثل أخذ الاُجرة فی الواجبات التعبّدیّة علی ما صرّح به بعض الفقهاء من عدم جواز أخذ الاُجرة علی الواجبات .

ویرد علی کلامه ثانیاً: بما فی جوابه الثانی بأنّ العبادیّة إن کانت بنفسها مانعة - لا کما قاله من أنّ المانع هو جهة الوجوب - فیلزم أن لا یکون أخذ الاُجرة علی الصلوات اللیلیّة من النوافل جائزاً ، بل وهکذا سائر المستحبّات العبادیّة کالوضوء والصوم ، مع أنّ الفقهاء أفتوا بعدم جوازه ، إلاّ ما قام الدلیل علی عدم جوازه، کما فی مثل الآذان وغُسل المیّت ونظائرهما من الواجبات والمستحبّات .

ص:174

نعم ، ربما یمکن أن یکون أخذ الاُجرة فی قِبال المندوبات أن یسقطها عن کونها موجبة لمطالبة الثواب فی قبالها ؛ لأنّ أجرها قد أخذ من غیر المولی ، لکنّه یصحّ علی فرض القول بالاستحقاق فی المثوبات . وأمّا إن قلنا بالتفضّل منه سبحانه وتعالی علی العباد ، فلا مانع من فضل اللّه تعالی أن یؤتیه من یشاء ، ولو کان قد أخذ أجراً فی قِبال صلاة اللیل عن أبیه ؛ لأنّ اللّه ذو فضلٍ عظیم .

وخلاصة الکلام: فظهر من جمیع ما ذکرنا، أنّ المانع لیس إلاّ الوجوب کما عرفت توضیحه .

نعم ، فیه إشکال من جهة عدم حصول منفعة دنیویة للمستأجر، حتّی تصحّ منه الإجارة، وتفصیل الکلام عنه فی مقامه.

قال المحقّق النائینی: ما خلاصته إنّه (جعل ملاک عدم جواز أخذ الاُجرة علی مقدّمة الواجب منوطاً علی حکم ذیها ، إن کان أخذ الاُجرة لذیها حراماً فلمقدّمته کذلک ، وإلاّ فلا ، وجعل ملاک عدم جواز أخذ الاُجرة علیه فلا یجوز أیضاً لمقدّماته ، وإن کان الواجب علی نحو الفعل بمعناه المصدری، فیجوز أخذ الاُجرة علیه ، فیجوز لمقدّماته بالتبع) . انتهی محصّل کلامه(1) .

وقد جاء تفسیر کلامه فی (منیة الطالب) بحمل کلامه فی الفعل بالمعنی المصدری والاسم المصدری بقوله:

(ووجه ذلک حصول کلا الشرطین ، فإنّ الأجیر مالک لعمله، والمستأجر یمکن الحصول له :


1- فوائد الاُصول : ج1 / 299 .

ص:175

أمّا الثانی: فواضح .

وأمّا الأوّل: فلأنّ الواجب علی الأجیر هو بذل عمله، أی تعلّق التکلیف والوضع له بالمعنی المصدری، لا نتیجة عمله التی هی المعنی الاسم المصدری ، فإنّ الطبیب وإن وجب علیه الطبابة عیناً، إلاّ أنّه مالک لعمله، والاُجرة تقع بإزاء العمل الذی هو مناط مالیّة المال لا بإزاء قوله من حیث الإصدار ، وهما وإن لم یکونا أمرین خارجیّین متمایزین ، إلاّ أنّهما شیئان اعتباراً ، فللشارع التفکیک بین وجوب المصدر وملکیّة اسم المصدر، ولیس الطبیب والصبّاغ والخیّاط کالقاضی، فإنّ فی باب القضاء تعلّق التکلیف بنتیجة عمله ، وهو فصله الخصومة ، وهذا إذن خرج عن ملکه، فلا یجوز له أخذ الاُجرة علیه . وأمّا الصبّاغ ونحوه فما وجب علیه هو بذل عمله لا أثره) ، انتهی محلّ الحاجة من کلامه(1) .

أقول: ولکن الإنصاف أن یُقال إنّه علی فرض تسلیم ما ذکره فی الواجبات، من التفصیل بین کون الواجب هو الفعل بمعنی المصدر، أو اسم المصدر فی الجواز وعدمه ، لإمکان الإشکال فیه فی مثل القضاء أیضاً، إذ لیس الواجب فیه إلاّ الحکم الذی کان بنفسه فعل وقول لا الفصل فی الخصومة ، إذ هو أثرٌ قد یترتّب علیه واقعاً وقد لا یقع لعللٍ وعوارض خارجیّة ، وعلیه فالجواز وعدمه فی المقدّمة یدوران مدار أن یعلم أنّ الوجوب الذی جعله الشارع مانعاً لأخذ الاُجرة ، هل هو وجوب نفسی فقط، أو أنّه أعمّ منه ومن الغیری ؟

فإن قلنا بالأوّل: فلازمه جواز أخذ الاُجرة للمقدّمات ؛ لأنّ وجوبها غیری .

وإن قلنا بالأعمّ: فلازمه عدم الجواز .


1- منیة الطالب ، تقریراً للنائینی : ص16 .

ص:176

وبالتالی فلا یدور جواز الأخذ للمقدّمة وعدمه علی کون الواجب کما قاله ، بل کیف یمکن الالتزام بما ذهب إلیه المحقّق النائینی من دعوی أنّه فرع إثبات تبعیّة المقدّمة لذیها فی جمیع الجهات، من الإطلاق والتقیید والوجوب وعدمه، وجواز أخذ الاُجرة وعدمه، وقصد القربة وعدمه، وغیر ذلک من الخصوصیّات ؟!

مع أنّه أوّل الکلام إذ لیس لنا دلیل واسع یدلّ علی ذلک ، هذا فضلاً عن أنّ المحقّق الخوئی أنکر التبعیّة فی «المحاضرات» .

وکیف کان لا یبعد دعوی عدم الجواز، من جهة فهم العرف، أنّه إذا کان الشیء بأصله حقّاً للإنسان، فیستحقّ مقدّماته أیضاً، لعدم القدرة علی إعطاء الحقّ إلاّ بتلک المقدّمات ، إلاّ أن یدلّ دلیلٌ من الخارج علی جواز أخذ الاُجرة علی المقدّمات .

وبالجملة: فعلی ما ذکرنا یلزم أن تکون هذه الثمرة صحیحة، من جهة أنّ المقدّمة إذا کانت واجبة شرعاً ، فلا یجوز له أخذ الاُجرة فی قبالها، وإلاّ یکون جائزاً ، إلاّ أنّ الإشکال فی أنّ هذه الثمرة لا تعدّ ثمرة فی مسألة اُصولیّة، بل هی حینئذٍ من قبیل تطبیق کبری منع أخذ الاُجرة علی الواجبات، الذی یعدّ مسألة فقهیّة علی الصغری، وهی کون المقدّمة کذلک، کما لا یخفی .

فظهر من جمیع ما ذکرنا أنّ خروج الصناعات الواجبة والصلوات الاستیجاریّة من الواجبات التعبّدیّة، عن حرمة أخذ الاُجرة علی الواجبات، لیس تخصیصاً لها أصلاً ، بل کانا خارجین موضوعاً وتخصّصاً، لعدم کون الاُجرة فی قبال عمل واجب فیهما أصلاً کما حقّقناه .

الثمرة السادسة : ما نسب إلی الوحید البهبهانی قدس سره من لزوم اجتماع الأمر

ص:177

والنهی فی المقدّمة المحرّمة، لو قلنا بوجوب المقدّمة ، وإلاّ فلا .

أقول: ولکن أورد علیه فی «الکفایة» وغیرها بإیرادات، لا بأس بالإشارة إلیها وملاحظة صحّتها وسقمها ، فنقول :

قیل یرد علیه أوّلاً : إنّ عنوان المقدّمیّة حیث کان من الحیثیّات التعلیلیّة التقییدیّة، أی المقدّمة بالحمل الشائع الصناعی تکون مقدّمة، فتکون المقدّمیّة واسطة فی ثبوت الوجوب للذات الخارجی، لا أن یکون نفس العنوان مرکزاً للحکم، حتّی یکون من قبیل اجتماع الأمر والنهی فی مجمع العنوانین ، بل یکون حال الأمر والنهی فی المتعلّق هنا، من قبیل تعلّق النهی بالعبادات الموجب للفساد، أو بالمعاملات المستلزم للفساد، أو للحرمة دون الفساد علی الاختلاف الموجود فیها ، هذا .

لکنّه مخدوش أوّلاً : بأنّ مجرّد کون عنوان المقدّمة من الحیثیّات التعلیلیّة، لا یوجب کون النهی متعلّقاً بخصوص الفرد الخارجی الذی یکون مقدّمة، لوضوح أنّ مرکز الأوامر والنواهی فی الأحکام الکلّیة، لیس هو الفرد الخارجی ، بل یکون المصداق من أفراد هذا الکلّی الذی یکون مرکزاً للأمر والنهی، فیرجع البحث إلی کونه من فروع جواز اجتماع الأمر والنهی وعدمه، فتکون النسبة حینئذٍ هی نسبة العامین من وجه .

وثانیاً : یمکن أن یُجاب عنه أیضاً، بأنّه علی فرض تسلیم کون ذات المقدّمة وفردها متعلّقاً للوجوب دون الکلّی المنطبق علی الفرد ، فمع ذلک نقول :

یکفی فی المغایرة تعدّد الجهة فی واحدٍ منهما، وهو التعدّد الموجود فی العنوان والمعنون فی الحرمة، وإن کان العنوان الآخر من الجهات العلیلیّة جزئیّاً،

ص:178

فیصبح الوجوب المتعلّق بالعنوان الجزئی مع الحرمة الواقعة للعنوان الکلّی، من قبیل نسبة العام والخاص المطلق، فیکون هذا من قبیل النهی فی العبادات من حیث النسبة فیکون من قبیل العموم والخصوص المطلق ، لکنّه یصحّ جریان البحث فیه علی القول بالجواز بخلاف الانتفاعی .

وعلیه فلا مجال لورود الإشکال الأوّل علی الوحید قدس سره .

وأورد علی کلام الوحید ثانیاً: أنّه لا مجال للجمع بین الوجوب والحرمة فی المقام أصلاً ؛ وذلک لأنّ المقدّمة إمّا أن تکون منحصرة أو غیر منحصرة :

فعلی الأوّل: فإن کان ملاک الوجوب أقوی من ملاک الحرمة وأهمّ منها، فلا حرمة حینئذٍ فی البین، فیکون الوجوب هاهنا فقط موجوداً دون الآخر .

وإن کان بالعکس، کانت الحرمة فقط موجودة دون الوجوب ، فلا اجتماع بینهما علی هذا الفرض .

وأمّا علی الثانی: فلا محالة یختصّ الوجوب بغیر المحرّم من المقدّمة ، لوضوح أنّ العقل لا یحکم بالملازمة إلاّ بین وجوب شیء ووجوب خصوص مقدّماته المباحة .

فالنتیجة : أنّ المقدّمة لا تکون مجمعاً للحکمین المتضادّین أصلاً، حتّی تنتج فی المسألة .

وقد اختار المحقّق النائینی فی فوائده الشقّ الأوّل منها، وسلّم کونه من مورد الاجتماع، وکذا إذا کان غیر منحصرة، لو لم یتعلّق بخصوص فردٍ منها، وإلاّ أصبح من قبیل النهی عن العبادة، لو کانت المقدّمة من العبادیّات ، فیوجب الفساد وإلاّ فلا .

ص:179

وأمّا إن تعلّق النهی بالعنوان الکلّی الذی له أفراد، فیکون من قبیل الاجتماع(1) ، هذا تمام ما أورد علی الوحید قدس سره فی المرحلة الثانیة .

أقول: ولکنّه مخدوش جدّاً ؛ لوضوح أنّه لا فرق بین الوجوب الغیری والنفسی فی هذا الأمر ، فکما أنّه یقع التعارض بین إطلاق دلیلی وجوب الصلاة وحرمة الغصب سواء فرض الانحصار فی کون الصلاة المأتی بها فی الأرض المغصوبة، بحیث لیس له أرض غیرها ، أو کانت غیر منحصرة ووقعت فیها ، حیث أنّه لا فرق فی جهة الإطلاق بین الصورتین ، والمزاحمة إنّما تکون فی الأرض المغصوبة التی أراد إیقاع الصلاة فیها ، فکما أنّه یکون علی القول بالجواز مجمع الحکمین الفعلیّین من الوجوب والحرمة، والمثوبة والعقوبة، لتعدّد الجهة فیهما، وقلنا بکفایة رفع التزاحم والتعارض ، هکذا تکون فی المقدّمة والواجب الغیری مع الحرمة النفسی، حیث أنّ إطلاق کلّ من الدلیلین یزاحم ویعارض مع الآخر فی مورد التصادق والتجامع بینهما، سواءً کان المورد والمقدّمة منحصرة أو غیر منحصرة، والوجوب الغیری لأجل الوجوب المتعلّق بذی المقدّمة، یعارض مع الحرمة ، وعلی القول بالامتناع فیکون أحد الحکمین من الوجوب والحرمة فعلیّاً دون الآخر ، والتقدّم یکون بالأمر أو النهی ، یکون علی خلاف فی مورده .

فخروج المقام عن تلک المسألة لیس علی ما ینبغی ؛ لوضوح أنّ ملاک المقدّمة موجودٌ فی الفردالمحرّم والمباح والمنحصر وغیره، فلا وجه لاختصاص الحکم لأحدهما دون الآخر .

أقول: فما ذکره فی المنحصر من وجود أحد الحکمین الأهمّ دون الآخر، فلا اجتماع .


1- فوائد الاُصول : ج1 / 299 .

ص:180

لا یخلو عن اشتباه ، لوضوح أنّ ذلک یکون موافقاً للقول بالامتناع .

وأمّا علی القول بالجواز، فیحکم بوجود کلا الحکمین وتنجّزهما فی مورد التصادق، من دون تقدیم أحدهما علی الآخر، کما لا یخفی .

الإیراد الثالث: وهو الإیراد المذکور فی «المحاضرات»:

(أنّ الغرض من المقدّمة هو التوصّل بها إلی الواجب النفسی ، فإن کانت توصّلیّة أمکن التوصّل بها إلی ذیها ، ولو کانت محرّمة، سواء قلنا بوجوبها أو لم نقل، ضرورة أنّه لا أثر لها فی ذلک ، وإن کانت تعبّدیّة کالطهارات الثلاث ، فحینئذٍ إن قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهی صحّت العبادة فی مورد الاجتماع، سواءً قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل ، وإن قلنا بامتناع الاجتماع وتقدیم جانب النهی علی جانب الأمر، فلا مناص من الحکم بفسادها، من دون فرق بین القول بوجوب المقدّمة وعدمها ، فإذن لا ثمرة للقول بالوجوب من هذه الناحیة) ، انتهی(1) .

وفی «الفوائد» زیادة فی التعبّدیّة من المقدّمة وهی:

(أنّها لمّا کان وجوبها مترشّحاً عن وجوب ذیها، وکان لها أفراد مباحة ، فالوجوب إنّما یترشّح إلی المقدّمة المباحة لا محالة، ومعه لا یصحّ التعبّد بها علی کلّ حال فتأمّل) ، انتهی(2) .

أقول: ولا یخفی ما فی کلام المحقّق الخراسانی قدس سره ومن تبعه من صاحب «المحاضرات» و«عنایة الاُصول» و«الفوائد» وغیرهم، حیث لم یستشکلوا علیه بعد نقل الاعتراض فی کتبهم .


1- المحاضرات : ج2 / 432 .
2- فوائد الاُصول : ج1 / 300 .

ص:181

ولکنّ الحقّ أن یُقال: إنّه یرد علی کلامهم فی جمیع الفروض التی فرضوها .

وأمّا فی المقدّمة التوصّلیّة: فقولهم بأنّ التوصّل بها إلی ذیها حاصل ولو کانت المقدّمة محرّمة، سواءً قلنا بوجوبها أم لم نقل، ولا أثر لوجوبها حینئذٍ .

ففیه: أنّه لا منافاة بین کون المقدّمة مجمعاً للحکمین الفعلیّین لو قلنا بجواز اجتماعهما ، وبین کونها واصلة إلی ذیها بالإتیان بها ، غایة الأمر یکون أثره ظاهراً فیما لو أجزنا العقوبة والمثوبة للمقدّمات أیضاً .

کما یجوز فی ذیها بأن یکون الآتی بهذه المقدّمة المتّصفة بهذین الوصفین ممتثلاً وعاصیاً بالنسبة إلی الأمر الغیری والنهی النفسی .

وأمّا لو قلنا بعدم الجواز، فلیس هنا حکمان بل لابدّ أن یقال بوجود أحد الحکمین من الوجوب أو الحرمة ، فبالضرورة یرجع إلی ما هو الأقوی ملاکاً ومناطاً، فیحکم ببقائه دون الآخر ، هذا إن قلنا بوجوب المقدّمة .

وأمّا ما لو لم نقل بذلک، فلیس فی الفرض المذکور إلاّ حکماً واحداً، وهو الحرمة فقط، فلا مزاحم لها حتّی یُقال بملاحظة جواز الاجتماع وعدمه، کما لا یخفی ، فأیّ ثمرة وأثر أقوی من ذلک ، وبالتالی فلا مجال للاعتراض علی الوحید البهبهانی رحمه الله .

وأمّا الکلام فی المقدّمة التعبّدیّة: کالطهارات الثلاث، فقالوا:

إن قلنا بجواز الاجتماع صحّت العبادة، سواءً قلنا بوجوب المقدّمة أم لا .

وإن لم نقل بالجواز، وقلنا بتقدیم جانب النهی علی الأمر، فتکون فاسدة، سواءً قلنا بوجوبها أم لم نقل .

ففیه أوّلاً : أنّه إن لم نقل بوجوب المقدّمة أصلاً، فلیس لنا حینئذٍ حکمان حتّی

ص:182

یُفرض اجتماعهما ومن ثمّ البحث عن أنّه هل یجوز أم لا ؛ لأنّه من الواضح حینئذٍ لیس للمقدّمة إلاّ حکماً واحداً، وهو الحرمة المستفادة من النهی الشرعی فقط، لأنّ المفروض عدم وجوبها شرعاً، وإن کانت واجبة عقلاً ، لکنّه خارج عن فرض الکلام ، هذا بخلاف ما لو قلنا بوجوبها، فحینئذٍ یصحّ النزاع عن جواز الاجتماع حتّی یکون ممتثلاً وعاصیاً ، أو عدم جوازه حتّی لا یکون العصیان والإطاعة ملحوظاً إلاّ بأحد الحکمین دون الآخر .

فالکلام فی جواز الاجتماع وعدمه، یکون فرع إثبات الوجوب للمقدّمة، حتّی فی العبادات، لعدم دخالة عبادیّتها وتوصّلیّتها فی ذلک کما لا یخفی .

وثانیاً : أنّ عبادیّة المقدّمة لا تکون متحقّقة من الأمر الغیری والوجوب الترشّحی عن وجوب ذی المقدّمة، حتّی یلاحظ ملاک جواز الاجتماع وعدمه مع هذا الوجوب فی المقدّمة العبادیّة ، لما قد عرفت فی محلّه أنّ عبادیّتها تکون:

إمّا بالأمر المتعلّق لذیها .

أو من الأمر النفسی الاستحبابی لنفس المقدّمة فی مثل الطهارات الثلاث .

أو من محبوبیّتها الذاتیّة .

فإن لوحظ التعارض، لابدّ أن یلاحظ بین الحرمة النفسیّة مع الأمر النفسی المتعلّق بالطهارات .

ومن الواضح عدم إمکان المعارضة بین التحریم النفسی مع الاستحباب النفسی ؛ لتقدّم الحکم الإلزامی علی غیره قطعاً، کما هو واضح .

اللّهُمَّ إلاّ أن یُقال: بجریان قاعدة اجتماع الأمر والنهی فی الإلزامین وغیرهما، وهو المرکّب من الإلزامی وغیره .

نعم ، لو وقع التعارض بین التحریم للمقدّمة وبین الوجوب لذیها، فلیس التعارض إلاّ فی أصل الوجوب، لو قلنا بوجوب المقدّمة لا فی مقدّمیّتها ، وأمّا کون

ص:183

المقدّمة العبادیّة مع تعلّق النهی بها فاسدة أم لا ، فموقوف علی الوجوه السابقة فی الجواب الأوّل عن الإشکال الأوّل ، فلاحظ وتأمّل.

فظهر من جمیع ما ذکرنا دفاعاً عن الوحید البهبهانی قدس سره صحّة کلامه فی الثمرة علی القول بوجوب المقدّمة ، إلاّ أنّ إشکال عدم کون المسألة اُصولیّة باقٍ بحاله کما عرفت سابقاً .

الثمرة السابعة : قد نُقل عن بعض أهل التحقیق - کما جاء فی «تهذیب الاُصول» - أنّ من الثمرات المترتّبة علی وجوب المقدّمة، أنّه إذا أمر الآمر إنساناً بما له مقدّمات عدیدة کبناء البیت، فامتثل المأمور به ولم یأت بذی المقدّمة، حیث کانت المقدّمات واجبة وتعلّق بها الأمر، یکون الآمر ضامناً للمأمور اُجرة المقدّمات المأمور بها.

ولکن یرد علیه أوّلاً : بأنّ الضمان وعدمه لا یدوران مدار وجوب المقدّمة ، بل الملاک فی الضمان صدق کونه مطیعاً لأمره، ولو کان الأمر إرشادیّاً لا مولویّاً، وکون الإطاعة لکلامه صادقاً عرفاً، ولو لم یکن الإطاعة لأمرٍ نفسیّ، لأنّه عمل المسلم والمؤمن ، فإذا قام بإحضار العمل إطاعةً لأمره ولو کان من جهة اللابّدیّة العقلیّة حتّی یکون أمره المتعلّق به إرشادیّاً کانت الاُجرة علیه واجباً، لأنّه عملٌ محترم لابدّ له من الأجر، بلا فرق فی ذلک بین کون المقدّمة واجبة أم لا .

ودعوی المحقّق الخمینی: (بأنّ الضمان الآتی من قبل الآمر یکون فرع إطاعته، فهو أیضاً یکون فرع باعثیّته إذ لو أتی بمتعلّق الأمر بلا باعثیّة لم یستحقّ شیئاً کما لو أتاها لدواعٍ اُخر ، أو کان جاهلاً بالحکم ، فمع عدم صلوح الأمر المقدّمی للباعثیّة لا یوجب الضمان) .

لیس بوجیه: لما قد عرفت من أنّ الضمان لا یدور مدار الأمر الوجوبی ، بل یحصل ولو بأمر غیر وجوبی، کما لو قیل لشخص برفع مال عن نقطة إلی نقطة

ص:184

اُخری، وصدق عرفاً أنّه فعله استجابةً لکلامه، حتّی ولو لم یکن قد أمره بذلک بل قال من فعل کذا فله کذا، فیوجب الضمان علیه لو فلعه إنسان مع عدم کونه بأمر أصلاً ، فالمعتبر فی الضمان إسناد الفعل عرفاً إلی کلامه وقوله ولو کان من جهة کونه مقدّمة لموضوع آخر، سواء ترتّب علی إتیان المقدّمات ذی المقدّمة أم لم یترتّب .

وقیاس المقام بمورد جهله بالحکم قیاسٌ مع الفارق ؛ لأنّه مع الجهل به لایصدق عرفاً أنّ إتیانه مستندٌ إلی کلامه وقوله، هذا بخلاف صورة العلم حیث کان قوله السبب فی قیامه بالعمل وما ترتّبت علیه من المشقّة، فیحکم العرف حینئذٍ بالضمان، ویری أنّ من حقّ العاقل المطالبة بالاُجرة لما قام به، کما أنّ المحاکم أیضاً تحکم له لو اُقیمت فیها الدعوی.

وثانیاً : لو تنزّلنا عن ذلک وسلّمنا عدم الضمان فی صورة عدم الوجوب، ولکنّه یصحّ هذا علی القول بکون المقدّمة الموصلة واجبة، حیث لا وجوب مع عدم ترتّب ذیها علیها ، وأمّا علی القول بکون المقدّمة المطلقة واجبة ، فلا أثر لترتّب ذی المقدّمة وعدمه فی وجوبها .

اللّهُمَّ إلاّ أن یُقال: بعدم وجود أصل الملازمة فی الوجوب ، فلازمه عدم الضمان مطلقاً، أی سواءً ترتّب علیها ذیها أم لم یترتّب .

وهذا فساده أوضح من أن یخفی . فیصحّ أن نجعل ذلک مؤیّداً آخر لصحّة ما قلناه سابقاً من عدم دوران الضمان وعدمه مدار وجوبها وعدمه، کما لا یخفی .

***

ص:185

فی تأسیس الأصل فی مسألة الملازمة

فی تأسیس الأصل فی مسألة الملازمة

أقول: یقع البحث فیه من ناحیتین :

تارةً: من حیث مقتضی الأصل العملی .

واُخری: من حیث مقتضی الأصل اللفظی .

فأمّا الاُولی فتارةً : یبحث فی أنّ الملازمة المدّعاة بین المقدّمة وبین ذیها من حیث الوجوب وعدمه ، هل هی من لوازم الماهیّة، کما علیه صاحب «الکفایة» و«عنایة الاُصول» والمحقّق العراقی والنائینی والبروجردی وصاحب «المحاضرات» وکثیر من الاُصولیّین حتّی تکون حینئذٍ من قبیل استحالة اجتماع النقیضین والضدّین، ومثل الزوجیّة للأربعة .

أم لیس من لوازم الماهیّة، ولا من لوازم الوجود کما علیه المحقّق الخمینی .

واُخری: یبحث فی أنّه سواء التزمنا بأنّهما من قبیل اللوازم للماهیّة أو لم نلتزم ، هل فیها أصل یجری ویثبت به الملازمة أو لا؟

فأمّا الکلام فی المرحلة الاُولی، فنقول : لابدّ أوّلاً من أن نستعرض کلام المحقّق الخمینی حفظه اللّه، فإن استطعنا الجواب عنه، ثبت الطرف الآخر بالضرورة:

قال: (اعلم أنّ الملازمة الواقعة بین إرادة ذی المقدّمة وبین إرادة ما یراه مقدّمة علی فرض ثبوتها، لیست من قبیل لوازم الوجود، لما عرفت من إرادة ذیها غیر مؤثّرة فی إرادة المقدّمة، تأثیر العلّة فی المعلول ؛ لأنّ کلاًّ من الإرادتین تحتاج إلی مبادئ برأسها ، کما أنّه لیس من قبیل لازم الماهیّة وهو واضح .

وما یُقال: بل إنّه من هذا القبیل، ویُراد منه ما یکون له تقرّر وثبوت فی نفس

ص:186

الأمر، غیر صحیح جدّاً حتّی فی الحقائق الخارجیّة ؛ لأنّ الماهیّة مع قطع النظر عن الوجود، لا حقیقة لها فضلاً عن أن یکون لها لازم ، ومعنی لازم الماهیّة هو ما یکون تبعاً لها عند تجریدها عن کافّة الوجودات ، وإن کانت موجودة بهذا اللحاظ المغفول عنه ، ویری العقل حینئذٍ نفس الماهیّة بل توجّه إلی وجودها وموجودیّتها مزدوجة مع لازمها . ومن المعلوم أنّ إرادة المقدّمة لیست لازمة لإرادة ذیها بهذا المعنی) ، انتهی کلامه(1) .

أقول: لا یخفی ما فی کلامه من الإشکال :

أوّلاً : إنّ معنی لوازم الماهیّة لیس إلاّ أنّه إذا کان الشیء تابعاً لشیء آخر مطلقاً - أی سواء لوحظ فی الوجود الخارجی، أو فی الوجود الذهنی کالزوجیّة للأربعة - تکون معها سواءً تحقّقت الأربعة فی الخارج أو فی الذهن، فی قِبال لوازم الوجود الخارجی الذی هو ما یکون لازماً فی الخارج فقط دون الذهن کالإحراق للنار ، وفی قبالها لوازم الوجود الذهنی، وهو ما یکون تابعاً له فی الذهن فقط دون غیره مثل الکلّیة للإنسان ، فإذا لم یکن اللاّزم من هذین القسمین، بل کان تابعاً لشیء لا من حیث لزوم لحاظ وجود له ، بل کان بحسب واقعه، بأیّ حالٍ وجد کان معه، عُدّ ذلک لازماً للماهیّة .

ومن الواضح أنّ التلازم الملحوظ عند العقل بین المقدّمة وذیها، لیس فی خصوص الخارج فقط ، کما لا یکون کذلک فی خصوص الذهن فقط ، بل یکون حکم المقدّمة لذیها حکم الزوجیّة للأربعة، من حیث أنّه کلّما لوحظ بأیّ وضع کان کانت المقدّمة معه مع فرض وجود المقدّمیّة ووصف ذیها بین الشیئین، لوضوح أنّ


1- تهذیب الاُصول : ج / 219 .

ص:187

تصوّر وصف ذی المقدّمة بالوصف العنوانی لشیء کالصلاة مثلاً، ملازمٌ لتصوّر المقدّمیّة للطهارة أیضاً ، ولا ینفک تصوّر الأوّل عن تصوّر الثانی عقلاً إذا فرض تصوّره بالوصف العنوانی .

نعم ، لو تصوّر ذا المقدّمة بذاته من دون الوصف، فمن المعلوم حینئذٍ عدم لزوم تصوّر المقدّمة معه، لکنّه خارج عن الفرض .

فإذا عرفت ذلک فی معنی لازم الماهیّة، تجد بأنّ ذلک موجود فی المقدّمة وذیها ، ولیس معنی لازم الماهیّة إلاّ هذا، کما لا یخفی . إذ لایکون التلازم بین تصوّیریه إلاّ من جهة وجود الملازمة بینهما فی الواقع، ولا یکون التلازم فی الواقع مجعولاً لا بالجعل البسیط - وهو الجعل بمفاد کان التامّة - ولا بالجعل التألیفی، وهو الجعل بمفاد کان الناقصة .

وثانیاً : أنّ من یدّعی قیام التلازم بینهما، وکونه من قبیل اللوازم للماهیّة، لا یدّعی ذلک بین إرادة ذیها وإرادة المقدّمة ؛ لوضوح أنّ الإرادة تعدّ من الوجودات النفسانیّة للإنسان، ولکلّ منها وجوداً مستقلاًّ منحازاً عن الآخر، محتاجاً إلی مبادٍ مستقلّة ، ولا یمکن تحقّق الآخر قهراً بتحقّق إرادة ذیها، وهو کلامٌ متین . بل المقصود من ادّعائهم هو التلازم الواقعی والنفس الأمری بین ذیها والمقدّمة، وغیر ذلک کما عرفت توضیحه آنفاً؛ لوضوح عدم إمکان التفکیک بین التصوّرین مع ملاحظة وصفه العنوانی، حیث أنّه فی الواقع نفس هذه الملازمة موجودة ، ولذلک یُدّعی أزلیّتها ثبوتاً أو نفیاً ؛ حیث لیس لهما حالة سابقة منفکّة عن الآخر واقعاً ، هذا لمن یدّعی ثبوت الملازمة بینهما .

فثبت من جمیع ما ذکرنا صحّة کلام المحقّقین، من دعوی التلازم بینهما

ص:188

واقعاً، وکون التلازم من قبیل اللّوازم للماهیّة، بحیث تکون النسبة بین المقدّمة وذیها، اللابدیّة العقلیّة .

ومن هنا یظهر ما فی کلام المحقّق الحکیم فی «حقائق الاُصول» من إنکار ذلک، حیث أنّه لاحظ التلازم بین الوجوب الغیری والوجوب النفسی، فقال :

(أقول : أمّا حال الإرادة الغیریّة بالإضافة إلی الإرادة النفسیّة ، فلیس حال لازم الماهیّة بالإضافة إلیها ، فإنّهما معاً أمران حقیقیّان خارجیّان . غایة الأمر ، أن یکون أحدهما معلولاً للآخر . وقد عرفت أنّ لازم الماهیّة دائماً یکون من الاعتباریّات .

وأمّا حال الوجوب الغیری بالإضافة إلی الوجوب النفسی :

فإن اُرید من الوجوب، نفس إظهار الإرادة بداعی البعث، فإظهار الإرادة الغیریّة أجنبی عن إظهار الإرادة النفسیّة، فإنّه مثله، وهما أمران حقیقیّان معلولان للإرادتین اللّتین إحداهما معلولة للاُخری .

وإن اُرید من الوجوب الأمر الاعتباری المنتزع عن مقام إظهار الإرادة، فهو وإن کان أمراً اعتباریّاً، لکنّه أجنبی عن الوجوب النفسی ، بل جعله بجعل منشأ اعتباره ، کما أنّ الوجوب النفسی کذلک .

وبالجملة : التوهّم المذکور لا أساس له ظاهر یبتنی علیه لنتکلّف الجواب عنه) ، انتهی کلامه رفع مقامه(1) .

وجه الإشکال فی کلامه: ما قد عرفت من ملاحظة دعواه بالنسبة إلی


1- حقائق الاُصول : ج1 / 295 .

ص:189

الإرادتین، لأنّهما من الموجودات النفسانیّة، وکلّ واحدٍ منهما محتاج إلی مبادٍ بنفسه ، ولا یمکن دعوی التلازم بینهما إلاّ علی نحو لازم الوجود، کما عن المحقّق الأصفهانی فی «نهایة الدرایة» حیث یقول:

(إنّ جعل الملازمة بین المقدّمة وذیها، من قبیل لوازم الوجود ، أی الغرض الأصلی یتوجّه أوّلاً وبالذات إلی إرادة ذیها ، وثانیاً وبالتبع إلی إرادة المقدّمة ، فلیس هما من قبیل لوازم الماهیّة ولکنّه غیر معلوم) ، انتهی(1) .

ولیس فی کلام من ادّعی ذلک تصریح بهذه الخصوصیّات من قیام وجود الملازمة بین الإرادتین ، بل أکثرهم یدّعون لقیام الملازمة بین وجوب ذیها مع وجوب مقدّمته .

کما أنّه لا یمکن ملاحظة دعوی التلازم بینهما من جهة الوجوب الشرعی الذی لابدّ له من إرادة فی کلّ من المقدّمة وذیها ، وإن کان لا یبعد دعوی هذا التلازم عند من یدّعی الملازمة بین وجوب ذیها شرعاً ووجوب مقدّمته کذلک ، ولکنّ الإشکال یرد علی دعواه من أنّه لا یمکن تحقّق أحدهما إلاّ بأنّه یحتاج کلّ واحدٍ منهما من إظهار الإرادة والبعث . غایة الأمر ، أحدهما فعلی وهو المتعلّق لذیها والآخر تقدیری وهو المتعلّق للمقدّمة .

وأمّا لو اُرید من الوجوب للمقدّمة تبعاً لذیها من باب اللاّبدیّه العقلیّة، فهو صحیح حیث أنّ العقل یری الملازمة بین وجوب ذی المقدّمة ووجوب مقدّمته ؛ علی نحو لا یمکن له التفکیک بین وجوبیهما ؛ یعنی إذا صار ذو المقدّمة وجوده واجباً ولازماً فی الخارج، فالعقل یحکم بوجوب مقدّمته ولزومها فی التحقّق ، ولا


1- نهایة الدرایة : ج1 / 371 طبع القدیم .

ص:190

یمکن التفکیک بینهما ، لا فی مقام التصوّر والذهن، ولا فی الخارج .

فهذا المعنی من الدعوی فی التلازم بینهما یعدّ من قبیل سنخ لوازم الماهیّة، من جهة عدم انحصار الملازمة لأحد الوجودین فی الخارج والذهن فقط ، بل کان التلازم موجوداً فی کلا الموردین .

نعم، برغم أنّ ما نحن فیه یختلف مع الزوجیّة للأربعة، من جهة کون الزوجیّة من الاُمور الاعتباریّة الانتزاعیّة من الأربعة، ولیس لها وجود تأصّلی فی الخارج ، بل له وجود اعتباری وکان جعله بجعل واحد للأربعة لکونه مجعولاً بالعرض ، وهذا بخلاف الوجوب للمقدّمیّة - أی اللّزوم عند العقل - حیث یکون جعله جعلاً وجودیّاً تابعاً لجعل الوجوب لذی المقدّمة ، لا مجعولاً بالعَرَض، کما توهّمه المحقّق الخراسانی حیث جمع بین المجعول بالعرض مع المجعول التبعی، إذ الجعل فی العرض مع جعل منشأ انتزاعه یکون جعلاً واحداً ، أحدهما یُطلق علیه بالذات اعتباراً ، والآخر بالعرض، کجعل الزوجیّة حیث یکون بالعرض بالنسبة إلی جعل الأربعة ، هذا بخلاف الجعل بالتبع مع الجعل بالذات، حیث یکون فی مقام الجعل فردین من الجعل، یتّصف أحدهما بالذات کذی المقدّمة، والآخر بالتبع کالمقدّمة .

وبالجملة: فظهر من جمیع ما ذکرنا أنّ الأولی أن یُقال، إنّه یکون من قبیل لوازم الماهیّة، وأنّه من سنخها بالمعنی المذکور فی تفسیره من أنّ لوازم الماهیّة إمّا بمعنی کونه معها فی کلا الموردین والوجودین ، أو أنّه معها حتّی مع قطع النظر عن الوجود علی اختلاف فی تفسیرها ، فارجع واطلب توضیحه فی محلّه .

نعم ، إن اُرید دعوی الملازمة بین الإرادتین المتعلّقتین بهما، فیکون الحقّ

ص:191

حینئذٍ مع المحقّق الخمینی القائل بعدم وجود التلازم بینهما لا فی الوجود ولا فی الماهیّة ، کما کان کذلک أیضاً إن اُرید اللّحاظ فی التلازم بین الوجوبین الشرعیّین فیهما، حیث أنّه أیضاً یمکن دعوی الافتراق بینهما بأن یجعل الشارع مثلاً ذا المقدّمة واجباً دون مقدّماته .

هذا بخلاف الوجوب بمعنی اللاّبدیّة العقلیّة، حیث أنّ الملازمة بین ذی المقدّمة والمقدّمة موجودة قطعاً، ویکون من قبیل لوازم الماهیّة - أی من سنخها - مع تفاوت یسیر بین المقام وبین سائر اللّوازم للماهیّة، کما عرفت فلا نعید .

وخلاصة الکلام: ثبت ممّا ذکرنا أنّ هذه الملازمات، وإن لم تکن من الموجودات الحقیقیّة من الجواهر والأعراض ، إلاّ أنّها اُمور واقعیّة أزلیّة، وتشابه استحالة اجتماع النقیضین والضدّین ونظائرهما ، فعلیه إن کان التلازم بین وجوب المتبوع - وهو ذو المقدّمة - ووجوب التابع - وهو المقدّمة - موجوداً کان ثابتاً أزلیّاً وله واقع موضوعی ، وإن لم یکن التلازم موجوداً فلا یکون کذلک من الأزل . فبناءً علیه لا مجال لاعتبار الملازمة هی الأصل فی المسألة الاُصولیّة حتّی نتمکّن من إثبات الملازمة أو نفیها.

هذا تمام الکلام فی الأصل بالنظر إلی المسألة الاُصولیّة، وفی المرحلة الاُولی .

وأمّا الکلام فی المرحلة الثانیة: أی ملاحظة إمکان إجراء الأصل فی ثبوت الملازمة أو عدمها، بالنظر إلی الوجوب الشرعی بین المقدّمة وذیها، وملاحظة کلام الاُصولیّین فی المقام.

فنقول : فقد أفاد صاحب «الکفایة» قدس سره وتبعه صاحب «عنایة الاُصول» بأنّه

ص:192

لا مانع من الرجوع إلی أصل عدم وجوب المقدّمة، لأنّه کان حادثاً شرعاً ، إذ قبل إیجاب الشارع لذیها لم تکن المقدّمة أیضاً واجبة، وبعد إیجابه یشکّ فی وجوبها فنرجع إمّا إلی الاستصحاب أو إلی البراءة عنه ، هذا .

ولقد اعترض علیه صاحب «المحاضرات»: بصحّة دعواه فی المسألة الاُصولیّة، دون ما قاله فی المسألة الفرعیّة، فإنّ دعواه ممنوعة:

(لأنّ الأصل المقصود هنا إمّا استصحاب أو براءة ، وکلاهما غیر جارٍ فی المورد .

فأمّا البراءة إمّا عقلیّة أو شرعیّة .

فالأوّل: لا تجری لأنّها واردة لنفی المؤاخذة والعقاب، والمقدّمة لا عقاب فیها علی ترکها وإن قلنا بوجوبها ، والعقوبة إنّما کانت لترک الواجب النفسی .

وأمّا الشرعیّة: لأنّها وردت للامتنان، فیکون موردها مختصّاً بما فیه کلفة التکلیف، والمقدّمة لا عقاب فیها، فلا کلفة فلا امتنان فی رفع وجوبها ، علی أنّ العقل یحکم بلزوم إتیانها، لتوقّف الواجب علیها سواءً قلنا بوجوبها أم لم نقل ، فإذن أیّ أثرٍ وهنّةٍ فی رفع الوجوب عنها بعد عدم إمکان ترکها حیث لا یجوز عقلاً .

وأمّا الاستصحاب: فهو أیضاً لا یجری ؛ لأنّ موضوعه وإن کان تامّاً ، إلاّ أنّه لا أثر له بعد استقلال العقل بلزوم الإتیان بها .

وبالجملة، فلا یترتّب أی أثر علی استصحاب عدم وجوبها بعد لابدیّة الإتیان بها علی کلّ تقدیر، ومعه لا معنی لجریانه .

نعم ، لا مانع من الرجوع إلی الأصل من ناحیة اُخری، وهی ما ذکرناه سابقاً

ص:193

من الثمرة فیما إذا کانت المقدّمة محرّمة ، وقد توقّف علیها واجب أهمّ ، فعندئذٍ لابدّ من ملاحظة دلیل حرمة المقدّمة ، فإن کان لدلیلها إطلاق أو عموم لزم التمسّک به فی غیر مقدار الضرورة، وهو خصوص المقدّمة الموصلة .

وإن شئت قلت: إنّ القدر المتیقّن هو رفع الید عن تحریم خصوص تلک المقدّمة .

وأمّا غیرها، فإن کان إطلاق فی البین، فلا مناص من التمسّک به لإثبات حرمتها، لعدم ضرورة تقتضی رفع الید عنها، وإن لم یکن إطلاق فالمرجع هو أصل البراءة عن حرمة المقدّمة غیر الموصلة، للشکّ فیها وعدم دلیل علیها .

فالنتیجة : هی سقوط الحرمة عن المقدّمة مطلقاً، سواءً کانت موصلة أم لم تکن ، أمّا عن الاُولی فمن ناحیة المزاحمة ، وأمّا عن الثانیة فمن ناحیة أصالة البراءة .

هذا علی القول بوجوب مطلق المقدّمة .

وأمّا علی القول بوجوب خصوص الموصلة ، أو خصوص ما قصد به التوصّل، فالساقط إنّما هو الحرمة عنه فحسب دون غیره، کما سبق) ، انتهی کلامه(1) .

قلنا : ولا یخفی علیک أنّ الإشکالات التی قد ذکرت فی کتب الاُصولیّین بالنسبة إلی جریان الأصل من الاستصحاب أو البراءة فی المقدّمات، تکون علی أقسام ، فینبغی التعرّض لها أوّلاً لیتبیّن ما فی کلام صاحب «المحاضرات».

أمّا الإشکال الأوّل: فهو الذی ذکرناه آنفاً نقلاً عن «الکفایة». وقد ردّ علیه


1- المحاضرات : ج2 / 434 .

ص:194

صاحب «الکفایة» وقبله صاحب «نهایة الاُصول».

أمّا الإشکال الثانی: ما تعرّض له صاحب «نهایة الاُصول» قائلاً:

وأمّا ثانیاً: فلأنّ وجوب المقدّمة بناءً علی الملازمة، أمرٌ لا یعقل انفکاکه عن وجوب ذیها، فإنّ القائل بالملازمة یدّعی أنّ المولی إذا بعث بعثاً مولویّاً نحو شیء، فلا محالة یترشّح منه وجوبات تبعیّة ظلّیة بعدد المقدّمات، بحیث یستحیل صدور البعث عنه من دون ترشّح هذه الوجوبات والتحریکات التبعیّة ، فالأمر المتعلّق بذی المقدّمة مستتبع لهذه الأوامر الغیریّة، من دون أن یکون لإرادة المولی دخل فی ذلک .

وهذا من غیر تفاوت فی مراتب الحکم من الإنشائیّة والفعلیّة والتنجّز ، فإنّ هذا القائل یدّعی أنّ وجوب المقدّمة کالفیء لوجوب ذیها ، والفئ من لوازم الشیء لا ینفکّ منه أبداً .

إلی أن قال : فتفکیکهما غیر ممکن ، فلا محالة کان وجوبها أیضاً فعلیّاً منجّزاً بناءً علی الملازمة .

غایة الأمر ، الشاکّ فی أصل الملازمة شاکّ فی فعلیّة وجوبها، من جهة الشکّ فی أصل الملازمة ، ولکن هذا الشکّ لا یضرّ بفعلیّته علی فرض ثبوت الملازمة واقعاً ، فالشاکّ فی الملازمة أیضاً عالم بکون المقدّمة واجباً فعلیّاً علی فرضٍ، وغیر واجبٍ علی فرضٍ آخر .

وعلی هذا، فلا مجال لجریان استصحاب العدم فی وجوب المقدّمة، أی علم وجوب ذیها فإنّ الاستصحاب بعد جریانه یوجب القطع بفعلیّة مؤدّاه، وعدم فعلیّة الحکم الواقعی المشکوک فیه علی فرض ثبوته، فلا تجری فی الموارد التی

ص:195

لا تنفکّ الحکم الواقعی علی فرض ثبوته من الفعلیّة ، بل اللاّزم علی الشارع حینئذٍ إیجاب الاحتیاط کما فی باب الأموال والأعراض والنفوس) ، انتهی موضع الحاجة من کلامه(1) .

ویرد علیه أوّلاً : أنّا لا نسلّم کون مثل وجوب المقدّمة لذیها مثل الفئ والظلّ لذی الظلّ، لأنّهما یعدّان من لوازم الوجود ؛ حیث لا یقبل الانفکاک فی الوجود الخارجی بینهما ، بخلاف الوجوبین الثابتین للمقدّمة وذیها حیث یمکن وقوع التفکیک بینهما، إن کان المراد هو الوجوب الشرعی ؛ لأنّ الوجوب أمرٌ منتزع عن الأمر المتعلّق بالشیء، والأمر تابع لوجود الإرادة ، وقد حقّقنا سابقاً بعدم قیام التلازم بین الإرادتین المتعلّقتین أحدهما بالمقدّمة والاُخری بذیها ؛ لأنّ کلّ إرادة یحتاج إلی مبادٍ مستقلّة ولا تتحقّق الإرادة المتعلِّقة بالمقدّمة بلا اختیار وقهراً بعد تحقّق الإرادة لذیها ؛ لأنّه یستلزم خروجها عن الاختیاریّة ، مع أنّه قد عرفت منّا سابقاً فی محلّه بأنّ الإرادة أمرٌ اختیاری من دون لزوم تسلسل، فلا نعید وارجع واطلب ذلک من مظانّه .

فإذا انفکّت الإرادة للمقدّمة عن إرادة ذیها، فمن الضروری انفکاک أمرها عن أمره أیضاً ، فإذا انفکّ أمرها عن أمره فینفکّ وجوبها عن وجوبه ؛ لأنّه تابع للأمر أیضاً ، فثبت أنّه لیس من قبیل اللّوازم التی لا ینفکّ عن ملزومه وجوداً .

فظهر ممّا ذکرنا أنّ دعوی استحالة تفکیکهما ممنوعة، لما قد عرفت من إمکان تفکیکهما ، بل ندّعی عدم إمکان خلافه کما قلنا فلا نعید .


1- نهایة الدرایة : ج1 / 181 .

ص:196

وإن أراد أنّ الوجوب یتحقّق من الوجوب النفسی قهراً .

ففیه : أنّ الوجوب أمرٌ انتزاعی واعتباری ولابدّ له من منشأ الانتزاع ، فإن کان هذا الأمر النفسی فهو غیر صحیح ؛ لأنّه لا ینتزع منه إلاّ الوجوب النفسی ، وإن کان ینتزع من نفس وجوب النفسی ففیه أنّه لیس بوجود حقیقی حتی تنزع منه ، بل هو أمرٌ اعتباری فلا یجوز کما لا یخفی .

وثانیاً : لو سلّمنا ما قلتم والتزمنا بقیام الملازمة بین وجوب ذی المقدّمة والمقدّمة ، ولکن مع ذلک إنّما یفید ذلک فی إثبات الوجوب للمقدّمة بمجرّد إثبات الوجوب لذیها، فی صورة العلم بوجود الملازمة بینه ووجوب ذیها کما یثبت عدم وجوبها أیضاً بمجرّد ثبوت عدم وجوب ذیها، إذا علمنا بالملازمة مع عدم وجوب ذیها . ولکن هذا لا ینافی الحکم بعدم ثبوت الوجوب للمقدّمة فی صورة الشکّ فی أصل الملازمة، حیث أنّ العلم بوجوب ذیها لا یوجب العلم بوجوب مقدّماته ؛ لأنّ المفروض قیام الشکّ فی أصل ثبوت الملازمة، سواءً کان الشکّ فی ثبوت الملازمة بحسب أصل الملازمة الواقعیّة بین الحکمین الواقعیّین ، أو کان الشکّ فی الملازمة بین العقلیّین من الحکم، وإن کانت الملازمة فی الواقعی منهما ثابتةً، فهذا المقدار من الشکّ فی الملازمة یکفی فی إثبات إمکان الانفکاک بین وجوبیهما فی مقام فعلیّة الحکم ، فیحکم بوجوب ذیها فعلاً، بخلاف المقدّمة بواسطة جریان استصحاب العدم أو البراءة فیه .

وبالجملة: ثبت أنّ هذا الإشکال غیر وارد، وأنّ الحقّ مع صاحب «الکفایة» من إمکان إجراء الأصل فیه، کما لا یخفی .

وأمّا الإشکال الثانی: الذی تصدّی لذکره المحقّق العراقی فی «نهایة الأفکار»

ص:197

حیث قال: (وأمّا نفس وجوب المقدّمة، فهو وإن کان مسبوقاً بالعدم، حیث یکون حادثاً بحدوث وجوب ذی المقدّمة ، إلاّ أنّه من جهة عدم قابلیّة المورد لا یجری فیه الأصل أیضاً ؛ لأنّ جریان مثل هذه الاُصول إنّما کان فی موردٍ قابلٍ للوضع والرفع، ومع کون فعلیّة الوجوب علی الملازمة من اللّوازم القهریّة لوجوب ذی المقدّمة، لا یکون المحلّ قابلاً للرفع کی یجری فیه الأصل، فیقتضی عدم فعلیّة وجوبها .

ولئن شئت قلت بالعلم التفصیلی حینئذٍ بعدم جریان الأصل فیه ، إمّا لعدم وجوبها واقعاً علی تقدیر عدم ثبوت الملازمة ، وإمّا لعدم قابلیّة المورد للرفع علی تقدیر ثبوت الملازمة کما هو واضح) ، انتهی محلّ الحاجة(1) .

أقول: ولا یخفی ما فی کلامه ؛ لأنّه :

إن أراد من الوجوب للمقدّمة، هو الوجوب العقلی، فکلامه بعدم قابلیّة المورد للرفع والوضع حسنٌ ، إلاّ أنّه خارج عن مورد البحث ، فالصغری ممنوعة وإن کانت الکبری مقبولة .

وإن أراد الوجوب الشرعی، فقد عرفت بعدم وجود الملازمة بین وجوب المقدّمة ووجوب ذیها ؛ لأنّ الوجوب المولوی أو غیره تابع للأمر، وهو تابع للإرادة المحتاجة إلی المبادئ المستقلّة فی الموالی العرفیّة ، کما أنّه تابع للإرادة التشریعیّة بالنسبة إلی الشارع ، فکما أنّه قابل للوضع بواسطة إمکان تحقّق الإرادة فیه، فهکذا هی قابلة للرفع أیضاً فی عالم الفعلیّة، ولو کان الوجوب ثابتاً للمقدّمة


1- نهایة الأفکار : ج1 / 351 .

ص:198

فی عالم نفس الأمر والواقع .

فما قاله من العلم التفصیلی بعدم وجوبها واقعاً، إمّا علی تقدیر عدم ثبوت الملازمة ، وإمّا لعدم قابلیّته للرفع علی تقدیر ثبوتها وکلامه قریب إلی ما ذهب إلیه المحقّق البروجردی قدس سره .

لا یخلو عن إشکال ؛ لأنّ هذا العلم کان بملاحظة حال واقعه، لا بملاحظة حال فعلیّة الحکم ؛ لأنّ فی مورد الفعلیّة یمکن التفکیک بین وجوب ذیها ووجوب مقدّمته شرعاً، بأن یکون وجوب ذی المقدّمة منجّزاً دون مقدّمته ، وهذا المقدار من التفکیک ممکن وکافٍ فی إثبات المطلوب .

وأمّا الإشکال الثالث: فهو الذی ذکره وتقدّم من صاحب «المحاضرات»(1) من دعواه بعدم جریان البراءة العقلیّة، لعدم ترتّب العقوبة علی ترک المقدّمة حتّی یجری فیها قبح العقاب بلا بیان ، ولا الشرعیّة لعدم الامتنان فی رفعه لعدم الکلفة فیه، إذ لا عقوبة فیه ، ولا الاستصحاب لعدم ترتّب أثر علیه بعد لزوم الإتیان بها عقلاً .

لکنّه مخدوش: إمّا عن البراءة العقلیّة فعدم الجریان یکون فی محلّه .

وإمّا الشرعیّة، فنقول : إنّ الرفع لا یکون دلیلها منحصراً فی حدیث الرفع، حتّی یکون جریانها مخصوصاً فیما فیه الامتنان فی رفعه ؛ لأنّ من أدلّته أیضاً ما ورد من قوله علیه السلام : «الناس فی سعةٍ ما لم یعلموا» المعروف بحدیث التوسّع ، أو حدیث الإطلاق : «کلّ شیء مطلق حتّی یرد فیه نهی» وأمثال ذلک .


1- المحاضرات : ج2 / 434 .

ص:199

مع أنّ رفع الوجوب الشرعی الذی لا عقاب فی ترکه أیضاً امتنانٌ لمن کان متعبّداً بإتیان ما هو الواجب مطلقاً، نفسیّاً کان أو غیریّاً، وإن کان العقل هنا حاکماً بلزوم الإتیان للمقدّمة .

وأمّا عن الاستصحاب: فیکفی فی ترتّب الأثر علیه ما أجاب عنه المحقّق العراقی قدس سره علی ما فی «نهایة الأفکار» بأنّه لو قلنا بوجوب المقدّمة شرعاً فیمکن التقرّب بأمرها أیضاً ، بخلاف ما لو لم نقل به، فیکفی فی الأثر التوسّع فی التقرّب بإتیان المقدّمة بداعی أمرها، حیث أنّه لو نفی الوجوب یترتّب علیه نفی هذا الأثر فتضیق بذلک دائرة التقرّب .

أقول: ولکن الإنصاف عدم تمامیّة هذا الجواب ؛ إلاّ علی تقدیر تجویز التقرّب بالأمر الغیری ، ولا یُقال بانحصار ذلک فی الإطاعة للأوامر النفسیّة، کما هو المتعارف عند الاُصولیّین ، فالالتزام بکونه أثراً مطلقاً محلّ إشکال ، مضافاً إلی أنّه أثر للحکم الاستصحابی لا أثراً للمستصحب حتّی یصحّ جریان الاستصحاب بلحاظ هذا الأثر، کما لا یخفی للمتأمّل .

نعم ، یترتّب علی مثل هذا الوجوب أثر المزاحمة مع الحرام فیما إذا اجتمع کما أشار إلیه فی ذیل کلامه ، بخلاف ما لو لم نقل بالوجوب فلا مزاحمة، فیجری دلیل الحرمة بلا معارض وأثرٌ آخر من حیث صدق الوفاء بالنذر والعهد إذا تعلّق بامتثال أمر وجوبی ، ولم نقل بانصراف إطلاقه إلی الوجوب النفسی، وإن کان یمکن الجواب عنه أیضاً بأنّه متعلّق بحدود نذر الناذر من جهة السعة والضیق، کما قلنا سابقاً فی مثله .

الإشکال الرابع: وهو العمدة حیث لا یمکن الجواب عنه برغم أنّه قد تصدّی

ص:200

للجواب عنه کثیرٌ من الأصحاب هو :

إنّ الاُصول العملیّة إنّما وضعت للشاکّ بحسب حال العمل بالوظیفة، أی تجری فی الموارد التی یکون لجریانه فیها الأصل أثرٌ عملیّ لا علمیّ فقط ، ولذلک تسمّی بالاُصول العملیّة دون العلمیّة ، والحال أنّ المقام لیس کذلک ؛ لأنّ المقدّمة إن کان لابدّ الإتیان بها لذیها عقلاً، فلا أثر عملی مهمّ یترتّب علی الحکم بعدم وجوب المقدّمة شرعاً ، ولعلّه لذلک ذهب جلّ الأصحاب من الاُصولیّین إلی عدم جریان الاُصول فی وجوب المقدّمة، وهذا کما هو معلوم کلام متین فی غایة المتانة .

هذا تمام الکلام فی الناحیة الاُولی من مقتضی الاُصول العملیّة من جهة المسألة الاُصولیّة أو الفقهیّة .

وأمّا الناحیة الثانیة: وهی مقتضی الاُصول اللفظیّة أو العقلائیّة أو العقلیّة علی وجوب المقدّمة مطلقاً .

فقد استدلّ علی وجوبها شرعاً باُمور لابأس بذکرهاتفصیلاً،والجواب عنها:

منها : ما ذکره أبو الحسن البصری رئیس الأشاعرة - المتوفّی سنة 436 للهجرة - من أنّ المولی إذا أوجب شیئاً لابدّ له من إیجاب مقدّمته ؛ لأنّه لو لم یوجبها لجاز ترکها ، وعلیه حینئذٍ یستلزم أحد المحذورین ، لأنّه:

إن بقی الواجب علی وجوبه، لزم التکلیف بما لا یطاق .

وإن لم یبق وجوبه بعد ترکه، فیلزم خروج الواجب عن کونه واجباً مطلقاً ، وهو خلفٌ لأنّ المفروض کونه واجباً مطلقاً وإلاّ لزم جواز ترک کلّ واجب بواسطة

ص:201

عدم الإتیان بمقدّمته، لعدم تحقّق شرط وجوبه وهو باطل قطعاً ، هذا .

ولکنّه مخدوش: بأنّ ما المراد من جواز ترکها المسمّی بالتالی للشرطیّة الاُولی، وهو قوله لو لم یوجبها :

1 - إن اُرید منه الإباحة الشرعیّة، فإنّه یلزم بقاء صدق القضیّة الشرطیّة الثانیة، من عدم إمکان بقاء الواجب بوجوبه، مع ترخیص الشارع فی ترک مقدّمته ، إلاّ أنّ الملازمة ممنوعة ، أی لا یقتضی عدم وجوب المقدّمة شرعاً الحکم بجواز ترکها - أی ترخیصها - شرعاً ، بل ساکت عن حکمه حینئذٍ، والمرجع هو العقل .

2 - وإن اُرید من الجواز عدم المنع الشرعی عن الترک، من جهة عدم اقتضاء المرام فی الحکم بالالتزام فی المقدّمة شرعاً ، فهو من حیث التالی صحیح، ولکن نمنع لزوم أحد المحذورین من لزوم التکلیف بما لا یُطاق ، أو خروج الواجب المطلق عن إطلاقه ؛ لأنّ عدم المنع الشرعی عن ترک المقدّمة لا یقتضی سلب القدرة عن إتیان الواجب، ولو بإتیان مقدّمته من باب حکم العقل بوجوبه تحصیلاً للواجب، والغرض الموجود فیالواجب،فلذلک یحکم بوجوب المقدّمة عقلاً لا شرعاً .

اللّهُمَّ إلاّ أن یُدّعی: الملازمة بین حکم العقل وحکم الشرع ؛ أی کلّما حکم العقل بالوجوب فحکم الشرع بذلک .

إلاّ أنّه أیضاً لو أثبت الملازمة کانت فی الأحکام العقلیّة المستقلّة لا مطلقاً ، أی دون ما یحتاج إلی إثبات حکمه إلی انضمام مقدّمة اُخری معه کما فی المقام ، حیث أنّ حکم العقل بوجوب المقدّمة لیس لذاته ، بل کان من جهة انضمام مقدّمة اُخری معه ، وهو أنّه یستلزم من عدم وجوبه جواز ترکه، فیلزم من جواز ترکه مع

ص:202

نفس الترک عصیان الواجب بترکه، وهو مستلزم للعقوبة ، فیحکم بوجوبها عقلاً ، ففی مثل هذه الأحکام العقلیّة لا تکون الملازمة المذکورة ثابتة .

3 - وإن اُرید من لفظ جواز الترک نفس الترک، فعلیه وإن کان هذا خلاف الظاهر من لفظ (الجواز) الظاهر فی الحکم دون الفعل وبدیله ، إلاّ أنّه یلزم بترک المقدّمة فی آخر الوقت ترک ذیها، ولا یبقی معه وجوب الواجب ، إلاّ أنّه لا یوجب سقوط العقوبة والعصیان عنه ، لأنّه کان قادراً علی إتیان الواجب ولو بالواسطة ، لأنّ المقدور بالواسطة مقدورٌ ، هذا فضلاً عن حکم العقل أیضاً بإتیانها فکیف ترکها ، ولا یقبل منه الاعتذار بأنّ الشرع لم یوجبه، لأنّ نفس العقل یعدّ له بیاناً وحجّة فیکون ترک الواجب حینئذٍ بسوء اختیاره، کما لا یخفی ، فیمکن للشارع التفکیک بین وجوب ذی المقدّمة ووجوب مقدّمته من دون أن یلزم محذور أصلاً .

وبالجملة: فجواب المسألة واضح، وقد تصدّی لجوابها أوّلاً صاحب «المعالم» إجمالاً وتبعه بعد ذلک عدّة من الأصحاب ، ولکثرة وضوح بطلان کلامهم انصرف بعض من الاُصولیّین کالمحقّق النائینی عن التعرّض لها، فلیس فیها ما یحتاج إلی بیان أزید ممّا سمعته .

ومنها : ما حکی عن المحقّق السبزواری کما نسبه إلیه المحقّق الحائری عن «درر الاُصول» وخلاصته:

(أنّها لو لم تکن واجبة لزم عدم کون تارک الواجب المطلق مستحقّاً للعقاب .

بیان الملازمة: أنّه إذا کلّف الشارع بالحجّ ، ولم یصرّح بإیجاب المقدّمات، فتارک الحجّ بترک قطع المسافة الجالس فی بلده :

إمّا أن یکون مستحقّاً للعقاب فی زمان ترک المشی .

ص:203

أو فی زمان ترک الحجّ فی موسمه المعلوم .

لا سبیل إلی الأوّل، لأنّه لم یصدر منه فی ذلک الزمان إلاّ ترک الحرکة والمفروض أنّها غیر واجبة علیه .

ولا إلی الثانی، لأنّ الإتیان بأفعال الحجّ فی ذی الحجّة ممتنع بالنسبة إلیه .

فکیف یکون مستحقّاً للعقاب بما یمتنع صدوره عنه ؟ ألا تری أنّ الإنسان إذا أمر عبده بفعلٍ معیّن فی زمان معیّن فی بلدٍ بعید، والعبد ترک المشی إلی ذلک البلد، فإن ضَرَبه المولی عند حضور ذلک الزمان، معترفاً بأنّه لم یصدر منه إلی الآن فعل قبیح یستحقّ به التعذیب ، لکن القبیح أنّه لم یفعل فی هذه الساعة هذا الفعل فی ذلک البلد، لنسبه العقلاء إلی سخافة الرأی ورکاکة العقل ، بل لا یصحّ العقوبة إلاّ علی الاستحقاق السابق قطعاً .

ثمّ نقول : إذا فرضنا أنّ العبد بعد ترک المقدّمات کان نائماً فی زمان الفعل ، فإمّا أن یکون مستحقّاً للعقاب أو لا ؟

لا وجه للثانی، لأنّه ترک المأمور به مع کونه مقدوراً ، فثبت الأوّل .

فإمّا أن یحدث استحقاق العقاب فی حالة النوم ، أو حدث قبل ذلک ؟

لا وجه للأوّل لأنّ استحقاق العقاب إنّما یکون لفعل القبیح، وفعل النائم والساهی لا یتّصف بالحسن والقبح بالاتّفاق .

ولا وجه للثانی، لأنّ السابق علی النوم لم یکن إلاّ ترک المقدّمة والمفروض عدم وجوبها) ، هذا حاصل ما أفاده قدس سره ملخّصاً(1) .

أقول: وفیه ما لا یخفی، فی کلا الموردین والفرضین من کلامه :


1- درر الفوائد للمحقّق الحائری بتعلیقة الأراکی رحمهماالله : ج1 / ص127 .

ص:204

فأمّا فی الأوّل: فنقول إنّ ترک المقدّمة قد لا یکون موجباً لترک ذیها، لبقاء وقت الواجب ، فلا إشکال فی عدم ترتّب العقاب علی ترک مثل هذه المقدّمة، لا لنفسه ولا لترک ذیها لبقاء القدرة علیه بإتیان المقدّمة فی وقت آخر، یمکن فیها تدارک الواجب بها .

وأمّا لو فرض أنّ ترک مقدّمة موجب لحصول عدم القدرة علی إتیان الواجب بعده ، کما فی آخر الوقت ، فحصول ترک ذی المقدّمة لا یحتاج إلی حصول وقت نفس الواجب ؛ لأنّ إیجاد الامتناع وإزالة القدرة عن إتیانه فی وقته قد حصل فی زمان ترک المقدّمة ، فحصل الاستحقاق من هنا لترک ذیها فی وقته ، فکما لا یکون العصیان بسلب القدرة عن إتیان ذیها إلاّ فی وقت ترک المقدّمة لا وقت ذیها ، فهکذا استحقاق العقوبة لذلک، لا یکون إلاّ فی هذا الوقت، فلا تکون العقوبة حینئذٍ إلاّ لخصوص ترک الواجب لا ترک المقدّمة ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : نجیب عنه بالحلّ، بأنّه:

لو سلّمنا عدم صحّة العقاب حال ترک المقدّمة، لعدم کونه له، وعدم وصول ترک الواجب بعدم وصول وقت فعله .

ولکن نقول : لا قبح ولا مانع للعقوبة حال وقت الواجب الذی ترک فیه بواسطة عدم إتیان المقدّمة .

ودعواه: بأنّه غیر مقدور فی حال ترک المقدّمة .

فممنوعة: بجریان قاعدة الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار ، فالعقوبة علی ترک ذیها بواسطة وجود القدرة علی إتیانه بإتیان مقدّمته لا یکون عند العقلاء قبیحاً .

ص:205

فأمّا الثانی: فإنّه یظهر ممّا ذکرنا الجواب عن کلامه الثانی بالنسبة إلی حال النوم فی وقت الواجب ، لوضوح أنّ ما هو السبب لترک الواجب یعدّ بنفسه ترک مقدّمته لا نومه ، فحدوث حال النوم وعدمه، لا یؤثّران فی عدم وجود القدرة لإتیان الواجب بعد ترک المقدّمة بالترک الغیر القابل للتدارک ، وبذلک ثبت إمکان إجراء العقوبة حال ترک المقدّمة من دون استهجان عرفی .

نعم ، قد یشکل فی الفرض الأخیر من جهة اُخری ، وهو أنّ ترک الواجب الذی کان تنجّزه فی وقته مفروضاً لولا سلب القدرة عن ناحیة ترک المقدّمة ، موجبٌ لاستحقاق العقوبة ، لا ما کان غیر واجب فیه من غیر تلک الناحیة من عروض النوم أو الجنون أو حدوث الحیض والنفاس، الموجب جمیعها لسقوط التکلیف فی هذه الاُمور .

وعلیه فالحکم بجواز العقوبة من جهة ترک مقدّمته وفی زمانه، مع کون حاله کذلک حال وقت الواجب ، مشکلٌ فی غایة الإشکال . فعلی هذا یمکن إنکار العقوبة وفی الفرض المزبور فی کلا الوقتین، من جهة ما عرفت، من دون أن یلزم نقضاً لما اخترناه من عدم وجوب المقدّمة شرعاً .

أقول: ولکن الظاهر أنّه یقصد الواجب الذی تنجّز بدخول وقته، فترک مقدّمته، فعرض له النوم بعد الإعراض عن إتیان المقدّمة، حیث أنّ العقوبة تکون لأجل ترک الواجب، وهو بحسب ذاته ممکن.

وثالثاً : نجیب عنه نقضاً بأنّه :

لو سلّمنا کون المقدّمة واجبة وترکها المکلّف، فحینئذٍ نقول أیضاً معترضاً علیه بأنّ العقوبة لا تخلو إمّا مترتّبة علی ترک المقدّمة أو علی ترک ذیها ، وفی

ص:206

کلیهما إشکال .

فأمّا فی الأوّل: فإنّ ترک الواجب الغیری وهو المقدّمة، لا عقوبة فیه أصلاً .

وأمّا الثانی: فلأنّ الواجب النفسی بعد ترک مقدّمته علی مسلک الخصم یکون غیر مقدور، فلا تصحّ العقوبة علیه لذلک، کما لا یخفی .

وعلیه فمجرّد القول بوجوب المقدّمة لا یوجب حلّ الإشکال ، بل الجواب هو ما عرفت بأنّ العقوبة متعلّقة بترک ذیها ، غایة الأمر أنّ الاستحقاق حاصلٌ بواسطة ترک مقدّمته، لأنّه السبب لإزالة القدرة عن إتیان الواجب النفسی، ولا یترتّب علیه إشکال أصلاً .

ومنها : هو الذی ذکره المحقّق الحائری أیضاً فی «درر الاُصول» وهو:

(لو لم تکن المقدّمة واجبة لزم أن لا یستحقّ تارک الفعل العقاب أصلاً .

وبیانه: أنّ المرید للشیء إذا تصوّر أحوالاً مختلفة، یمکن وقوع کلّ واحدٍ منها :

فإمّا أن یرید الإتیان بذلک علی أیّ تقدیرٍ من تلک التقادیر .

أو یرید الإتیان به علی بعض تلک التقادیر ، وهذا ممّا لا إشکال فیه .

وحینئذٍ نقول : إذا أمر أحدٌ بالإتیان بالواجب فی زمانه وفی ذلک الزمان یمکن وجود المقدّمات، ویمکن عدمها ، فإمّا أن یرید الإتیان به علی أیّ تقدیر من تقدیریّ الوجود والعدم، فیکون فی قوّة قولنا إن وجدت المقدّمة فافعل وإن عدمت فافعل .

وإمّا أن یرید الإتیان به علی تقدیر الوجود .

والأوّل مُحالٌ لأنّه یستلزم التکلیف بما لا یُطاق ، فثبت الثانی، فیکون

ص:207

وجوبه مقیّداً بحضور المقدّمة، فلا یکون تارکه بترک المقدّمة مستحقّاً للعقاب لفقدان شرط الوجوب ، والمفروض عدم وجوب المقدّمة فینتفی استحقاق العقاب رأساً) ، انتهی کلامه(1) .

وفیه أوّلاً : ما قد عرفت أنّ وجوب المقدّمة لا یحلّ هذا الإشکال ، لأنّ وجوبه غیری لا یمکن الالتزام باستحقاق ترکها العقوبة، ولو قلنا بوجوب المقدّمة کما لا یخفی .

وثانیاً : أنّه یلزم علی ذلک رجوع الواجبات المطلقة إلی المشروطة، بأن تکون وجوبها مشروطاً باختیار المکلّف بإتیان المقدّمة، لأنّه قد قیّد وجوب الواجبات بصورة حضور المقدّمة، بحیث لو کان تارکاً للمقدّمة لما کان الواجب حینئذٍ واجباً لعدم القدرة بإتیانه ، مع أنّه قد عرفت منّا سابقاً أنّ التقیید بذلک لا یوجب سلب القدرة عن الواجب، علی نحو لا یصحّ العقوبة معه، لأنّه کان بسوء اختیاره، فلا نعیده .

وثالثاً : أنّ الواجب المسمّی بذی المقدّمة، یکون الوجوب متعلّقاً به من دون أن یلاحظ معه من المقدّمة إطلاقاً أو تقییداً من حیث وجودها الخارجی . نعم ، یمکن أن یکون الملحوظ من المقدّمة فی حال إنشاء الوجوب علی ذی المقدّمة، من جهة ملاحظة إمکان إیجادها ، لأنّ الوجوب المتعلّق بذی المقدّمة لا یمکن أن یکون له إطلاق من حیث المقدّمة بأنّها کانت ممکنة أو غیر ممکنة ، لوضوح أنّ المقدّمة الغیر الممکنة توجب سرایة عدم الإمکان منها إلی عدم إمکان الواجب أیضاً .


1- درر الفوائد للحائری ، المحشی بحاشیة آیة اللّه الأراکی : ج1 / 128 .

ص:208

وأمّا من حیث الوجود والإیجاد فیالخارج،لایکون الواجب من تلک الناحیة له إطلاق ولا تقیید، حتّی یستلزم المحذور الذی ذکره ، فکلامه لإثبات الوجوب للمقدّمة لا یخلو عن وهن ، ولعلّ لذلک أعرض من تأخّر عنه عن الردّ علیه.

ومنها : ما فی «دُرر الاُصول» للحائری قدس سره ، من التمسّک باتّفاق أرباب العقول کافّة علی وجوبها، علی نحو یکشف ذلک عن ثبوته عند العقل ، نظیر الإجماع المدّعی فی علم الکلام علی وجود الصانع وحدوث العالم ، فإنّ اتّفاقهم کاشف قطعی إجمالاً عن حکم العقل ، فالإیراد بأنّ المسألة عقلیّة لا یجوز التمسّک بها بالإجماع لعدم کشفه عن رأیالمعصوم، غیر صحیح،لأنّه واردٌ لو اُرید من الإجماع هو الإجماع الاصطلاحی لدی الفقهاء، لا الإجماع بالمعنی الذی قرّرناه، هذا(1) .

ولکنّه رحمه الله قد أورد علیه بقوله :

(ولکن الشأن فی إثبات مثل هذا الاتّفاق) .

ونحن نضیف إلیه: بأنّ المراد من هذا الدلیل :

إن کان هو إثبات الوجوب للمقدّمة عقلاً ، فلا إشکال فیه، لکنّه غیر منوط بإثبات الاتّفاق منهم ، لأنّ عقل کلّ عاقل یحکم باللاّبدیّة للمقدّمة عند وجوب ذیها .

وإن اُرید إثبات الوجوب شرعاً للمقدّمة بالاتّفاق :

ففیه أوّلاً : عدم ثبوت الاتّفاق لمشاهدة کثرة المخالفین لا سیما فی المتأخّرین .


1- الدرر للحائری ، الطبع القدیم : ج1 / ص38 .

ص:209

وثانیاً : مع أنّه خلاف ظاهر ما استدلّ به بقوله : (یثبت الحکم عند العقل) مع دعواه أنّ الوجوب الشرعی لا یثبت بالاتّفاق والإجماع ، إلاّ إذا کان إجماعاً اصطلاحیّاً کاشفاً عن رأی المعصوم لأنّه الذی یثبت به الحکم الشرعی دون غیره .

ومنها : ما ذکره الشیخ المرتضی الأنصاری قدس سره فی «الدرر» فهو أمتن الوجوه وأسدّها ، وقد تبعه صاحب «الکفایة» و«نهایة الدرایة» وبعض آخر من الاُصولیّین ، وهو أنّ شهادة الوجدان شاهد علی وجوبها ، ببیان:

(أنّ من راجع وجدانه والضعف من نفسه یقطع بثبوت الملازمة بین الطلب المتعلّق بالفعل والمتعلّق بمقدّماته، لا نقول بتعلّق الطلب الفعلی بهما ، کیف والبداهة قاضیة بعدمه، لجواز غفلته عن المقدّمة ، إذ لیس النزاع منحصراً فی طلب الصادر من الشارع حتّی لا یتصوّر فی حقّه الغفلة ، بل المقصود أنّ الطالب للشیء إذا التفت إلی مقدّمات مطلوبه، یجد من نفسه حالة الإرادة علی نحو الإرادة المتعلّقة بذیها ، کما قد یتّفق هذا النحو من الطلب النفسی أیضاً، فیما إذا غرق ابن المولی ولم یلتفت إلی ذلک ، أو لم یلتفت بکونه ابنه ، فإنّ الطلب الفعلی فی مثله غیر متحقّق لابتنائه علی الالتفات . لکن المعلوم من حاله أنّه لو التفت إلی ذلک لأراد من عبده الإنقاذ ، وهذه الحالة وإن لم تکن طلباً فعلیّاً، إلاّ أنّها تشترک معه فی الآثار ، ولهذا نری بالوجدان فی المثال المذکور أنّه لو لم ینقذ العبدُ ابنَ المولی عُدَّ عاصیاً ویستحقّ العقاب) . انتهی کلام صاحب «الدُرر»(1) .

ولکن صرّح صاحب «الکفایة» فی بیان هذا الدلیل بقوله:


1- الدرر للحائری : ج1 / 38 الطبع القدیم .

ص:210

(إنّ الأمر المتعلّق إلی المقدّمات لو التفت یکون مولویّاً، لأنّه قال ما هو لفظه ویقول مولویّاً ادخل السوق واشتر اللّحم مثلاً، بداهة أنّ الطلب المنشأ بخطاب (ادخل) مثل المنشأ بخطاب (اشتر) فی کونه بعثاً مولویّاً...)(1) .

فیرد علیهم أوّلاً : أنّ الالتزام بوجود الإرادة للمقدّمة تقدیراً - أی لو التفت إلیها لأرادها - موجب لإنکار الملازمة العقلیّة بین الإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة والإرادة المتعلّقة بالمقدّمة ، مع أنّه قد ادّعی القطع بثبوت الملازمة لو أراد من الملازمة هی العقلیّة، لأنّ الملازمة :

1 - إن کانت ثابتة، فلازمها ثبوت الإرادة الفعلیّة فی المقدّمة لا التقدیریّة .

2 - وإن أراد منها ثبوت الملازمة شرعاً، کما هو الظاهر من کلامه، فلازم ذلک - لو سلّمناه - هو ثبوت الوجوب للمقدّمة تقدیراً لا فعلاً ؛ لأنّ الوجوب الفعلی تابع لإرادة فعلیّة ، فإذا کانت الإرادة تقدیریّة لزم کون الوجوب أیضاً تقدیریّاً ، ومعه لا مجال لثبوت الوجوب شرعاً للمقدّمة فعلاً .

3 - وإن أراد من الملازمة هی الملازمة العقلائیّة بین وجوب ذی المقدّمة ووجوب مقدّماته تقدیراً .

ففیه: - مضافاً إلی ما عرفت أنّه لا یثبت الوجوب الفعلی - أنّه لا یثبت الوجوب شرعاً لأنّ الوجوب الشرعی، یستلزم دلیلاً شرعیّاً لا عقلائیّاً ، إلاّ أن یکون من قبیل بناء العقلاء المُمضی عند الشارع، وهو غیر ثابت هنا، کما لایخفی .

وثانیاً : أنّ قیاس ما نحن فیه بمثل الوجوب المتعلّق لإنقاذ الابن، یعدّ قیاساً


1- الکفایة : ج1 / 200 .

ص:211

مع الفارق ؛ لأنّ الواجبات النفسیّة تجب بلحاظ الملاکات والمصالح الموجودة فی متعلّقها ، وکان الذی واجباً واقعاً علی العبد هو تحصیل غرض المولی والمصالح الملزمة . غایة الأمر ، هذه المصالح لا طریق إلی ثبوتها إلاّ بواسطة الأوامر، فیعدّ امتثال الأمر فی الحقیقة امتثالاً لتلک المصالح .

فعلی هذا لو علم العبد بوجود المصلحة الملزمة من غیر طریق الأمر ، بل من علم لدنی إلهی الحاصل لبعض عباده ، أو من طریق علوم غیر متعارفة کعلمی الجفر والاسطرلاب مثلاً، کان للعبد أن یمتثل ویأتیه، سواءً کان الأمر موجوداً أم لا ، وسواء کانت الإرادة متحقّقة فی المولی أو لم تکن متحقّقة أصلاً، لکونه نائماً ، فتوبیخ العقلاء لتارک ذلک فی هذا المورد کان بواسطة ذلک ، ولذلک یعدّ تارکه عاصیاً ویستحقّ العقوبة ، وکان إنقاذ الابن أیضاً من هذا القبیل، وهو صحیح، ولو لم تکن الإرادة متحقّقة أصلاً لغفلته ، أو لنومه ، أو غیر ذلک من العوارض .

هذا بخلاف المقدّمة، حیث أنّ الملاک فیها لیس إلاّ الإیصال إلی ذیها ، فإذا حصل ذلک بحکم العقل بالوجوب واللاّبدیّة، فالغرض حاصل بالضرورة، فلا یحتاج حینئذٍ إلی أمر غیری مستقلّ إلی نفس المقدّمة ، ولو فرض وجود أمر کان الأمر إرشادیّاً لا مولویّاً ؛ لأنّه إرشاد إلی ما هو واجب بحکم العقل ، فکلّ مورد یکون العقل بنفسه حاکماً علی الوجوب، والإلزام لا یکون الأمر من الشارع هنا إلاّ إرشادیّاً لا مولویّاً، نظیر وجوب الإطاعة للمولی ونظائره .

وثالثاً: وممّا ذکرنا ظهر وجه الإشکال المتوجّه إلی کلام صاحب «الکفایة» حیث صرّح بکون البعث المتوجّه إلی المقدّمة یعدّ بعثاً مولویّاً ، فالوجدان الذی ادّعوه لا یکون شاهداً علی وجوب المقدّمة شرعاً ، بل یکون شاهداً علی وجوبها

ص:212

عقلاً کما لا یخفی .

ومنها : ما فی «الکفایة» بقوله قدس سره :

(ویؤیّد الوجدان، بل یکون من أوضح البرهان وجود الأوامر الغیریّة فی الشرعیّات والعرفیّات ، لوضوح أنّه لا یکاد یتعلّق بمقدّمة أمر غیری ، إلاّ إذا کان فیها مناطه ، وإذا کان فیها کان فی مثلها، فیصحّ تعلّقه به أیضاً، لتحقّق ملاکه ومناطه) انتهی کلامه(1) .

أقول: ولا یخفی ما فی کلامه من شباهته بالمصادرة للمطلوب، حیث جعل المدّعی فی المسألة دلیلاً ، لوضوح أنّ مجرّد وجود الأوامر الغیریّة فی العرف والشرع لا یثبت به المدّعی، من کون البعث فیها مولویّاً ، لعلّه کان إرشادیّاً إلی الشرطیّة والمانعیّة ، کما یکون الأمر باجزاء المرکب أمراً إرشادیّاً إلی جزئیّته ، لا أن یکون بعثاً مستقلاًّ مولویّاً بحیث یترتّب علیه الثواب والعقاب، کما هو المقصود فی البحث من تصوّر الوجوب الشرعی للمقدّمة، کما هو الأمر کذلک فی الواجبات النفسیّة ، فیعدّ المقام نظیر الأوامر الموجودة فی باب المعاملات ، فکما أنّها تکون إرشادیّة ، فهکذا یکون فیما نحن فیه .

بل ربما یمکن أن یُقال : بأنّ الوجه والسرّ فی کون الأوامر فی مثل هذه إرشادیّة، هو أنّ الوجوب المترتّب منه فی تلک الموارد کان مسلّماً بحکم العقل ؛ أی أنّه یحکم بلزوم الإتیان بالمقدّمة عند وجوب ذی المقدّمة ، فمع وجود هذا الحکم یکون أمر الشارع بالمقدّمة ولو تصریحاً، نظیر قوله : «إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاَةِ


1- الکفایة : ج1 / 201 .

ص:213

فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ» وقوله : (اغسل ثوبک من أبوال ما لا یؤکل لحمه) ؛ أمراً إرشادیّاً ، إمّا إلی إفهام المخاطب بذلک، بأنّه شرط حیثُ ربما لا یکون ملتفتاً فی بادئ الأمر إلیه ، أو یکون لإفهام أهمّیة ذلک من سائر الشرائط وأمثال ذلک .

فظهر ممّا ذکرنا أنّ مجرّد وجود ملاک المقدّمیّة فی شیء، لا یوجب إثبات کون الوجوب فی المقدّمة وجوباً شرعیّاً وبعثاً حقیقیّاً مولویّاً ، کما ادّعاه صاحب «الکفایة»، لأنّه لازم أعمّ من ذلک، لإمکان أن یکون إرشاداً إلی الشرطیّة والمانعیّة والجزئیّة، کما لا یخفی .

أقول: نعم ، قد یختلج بالبال فی المقام شیء لا بأس أن نشیر إلیه وهو:

أنّ الأوامر الإرشادیّة هل تکون مختصّة بموارد کان العقل فی ذلک حاکماً بالوجوب مستقلاًّ ، أو یجری الإرشاد حتّی فیما یکون العقل حاکماً ولو بواسطة انضمام مقدّمة اُخری معه ؟

وبعبارة اُخری : هل الإرشاد یکون مخصوصاً بالمستقلاّت العقلیّة ، أو یکون فی غیرها أیضاً ؟

المعروف فی الألسنة هو الأوّل ، إلاّ أنّ مقتضی ما اختاره المحقّقون من الاُصولیّین کالسیّد الخمینی والخوئی وغیرهما ممّا تقدّم علیهما کالعلاّمة الأصفهانی فی «نهایة الدرایة» والسیّد الحکیم فی «حقائق الاُصول» هو جریان ذلک فی الأحکام العقلیّة الغیر المستقبلة ، لما قد عرفت منّا سابقاً أنّ حکم العقل بوجوب المقدّمة لیس لنفسه ولذاته ، بل من جهة انضمام ما یستلزم ترکها ما لا یجوز الالتزام به من التکلیف بما لا یطاق، کما لا یخفی .

اللّهُمَّ إلاّ أن یُقال : إنّ حکم العقل بلزوم إتیان المقدّمة، وإن کان من جهة حال

ص:214

ذیها، من حیث أنّ ترک المقدّمة مستلزمٌ لترک ذیها، المستلزم لتحقّق استحقاق العقوبة ، إلاّ أنّ هذا لیس من الأحکام غیر المستقلّة، لأنّ طبع المقدّمیّة مقتضٍ لذلک، لا أن یکون حکم العقل بالوجوب لأجل الغیر أمراً خارجاً عن ذات المقدّمیّة، حتّی یستلزم کونه من الأحکام غیر المستقلّة، کما لا یخفی علی المتأمّل .

وبالجملة: ظهر من جمیع ما ذکر فی الأجوبة عن الأدلّة المذکورة، فساد کلام المحقّق العراقی فی «نهایة الأفکار» والسیّد الحکیم فی «حقائق الاُصول» حیث جعلا المقدّمة فی الأوامر کالمقدّمة فی الإرادات التکوینیّة، من أنّه إذا التفت إلیها لأرادها بنفسها ، فهکذا الأمر فی الإرادة التشریعیّة ، فتکون المقدّمة واجبة بوجوب شرعی إرشادی .

وجه الفساد: هو ما عرفت من أنّ المولی یمکنه عدم إرادته للمقدّمة، حتّی مع التوجّه إلیها، فضلاً عن کونه غافلاً عنها .

أقول: فالأقوی عندنا إلی الآن هو عدم وجوب المقدّمة وجوباً شرعیّاً مولویّاً ولا إرشادیّاً ، بل کان وجوبها وجوباً عقلیّاً ، بلا فرق فی ذلک بین کون المقدّمة سبباً أو شرطاً،أو وجودها مانعاً،لاشتراک الجمیع فیما هو المقصود والملاک فی المقدّمیّة.

هذا تمام الکلام فی ما استدلّ به علی وجوب المقدّمة مطلقاً .

وأمّا بیان دلیل القائلین بالتفصیل فی وجوب المقدّمة :

فهم علی طائفتین :

الطائفة الاُولی: التفصیل بین السبب وغیره، بالوجوب فی الأوّل دون الثانی .

ص:215

الطائفة الثانیة: التفصیل بین الشرط الشرعی بالوجوب فیه، وبین غیره بعدم الوجوب .

وأمّا دلیل القول الأوّل: فله تقریبان :

أحدهما : علی ما فی «نهایة الأفکار» بأنّ القدرة لمّا کانت غیر حاصلة علی المسبّبات فقط ، فلابدّ من انضمام الأسباب إلیها فی حال لحاظ الآمر، وحال تکلیفه بالمسبّبات، من جهة بعدُ کون التکلیف مختصّاً بالمسبّبات وخروج الأسباب عن حیّز التکلیف رأساً .

ثانیهما : کما فی «الکفایة» و«نهایة الأفکار» بأنّ التکلیف لمّا کان لا یمکن تعلّقه إلاّ بأمرٍ مقدور للمکلّف، ولا یکون المقدور له إلاّ الأسباب لا المسبّبات، لأنّها من الآثار المترتّبة علی الأسباب من غیر اختیار ، فالتکلیف إن کان بظاهره متوجّهاً إلی المسبّبات ، لابدّ صرفه إلی الأسباب ، فالمقدّمة إن کانت من قبیل السبب ، فلابدّ من وجوبها قطعاً وإلاّ فلا ، لما قد عرفت حال دخالة السبب فی التکلیف ، هذا .

ولکن یمکن المناقشة فی الدلیل الأوّل :

أوّلاً : بأنّ لازم ما ذکرتم لیس هو إمکان تعلّق التکلیف بالمسبّب الغیر المقدور ؛ لأنّ انضمام المقدور إلی غیر المقدور، لا یستلزم رفع استحالة تعلّق التکلیف بغیر المقدور، لأنّ القدرة کما أنّها شرطٌ فی أصل متعلّق التکلیف، هکذا تکون شرطاً فی أجزاء متعلّقه ، فلا محیص إلاّ الالتزام بصرف التکلیف عن المسبّب إلی سببه، فیکون حینئذٍ مرجع الدلیل الأوّل هو الثانی ، کما لا یخفی .

وثانیاً : أنّ لازم ما ذکر هو صیرورة السبب متعلّقاً للتکلیف النفسی الضمنی،

ص:216

من قبیل تعلّق التکلیف بالأجزاء فی المرکّب، لا أن یکون وجوبه وجوباً شرعیّاً مقدّمیّاً، المنصرف إلی ما یکون مقدّمةً لواجب آخر، کما هو مورد البحث فی المقام .

وثالثاً : أنّ هذا الدلیل لو تمّ لا یثبت وجوب المقدّمة السببیّة ، بل لازمه إثبات وجوب سائر المقدّمات من الشرطیّة والمعدّیة أیضاً ، لوضوح أنّ الملاک المذکور فیالسبب والمسبّب یجریفیهماأیضاً،لوضوح أنّ المشروط لایمکن إیجاده إلاّ من خلال إتیان شرطه .

غایة الأمر، الفرق بینهما أنّ المسبّب یترتّب علی السبب بعد تحقّقه قهراً، بخلاف غیره من المشروط وذی المعدّ، حیث أنّه بعد إیجاد الشرط یحتاج المشروط إلی إرادة إیجاده مستقلاًّ ، فالدلیل المذکور لا یخلو عن وهن .

ویرد علی الدلیل الثانی أیضاً:

أوّلاً: إذا التزمنا بانصراف التکلیف المتوجّه إلی المسبّب إلی سببه استلزم خروج المقدّمة السببیّة عن محلّ النزاع ، لأنّ مورد البحث کان فی الوجوب الغیری الشرعی للمقدّمة ، والحال أنّه یکون السبب حینئذٍ واجباً نفسیّاً لا وجوباً غیریّاً ، لأنّ التکلیف الموجود للمسبّب کان نفسیّاً لا غیریّاً ، فإذا صرف التکلیف إلی السبب، فلازمه عدم وجوب المسبّب أصلاً، وتوجّه الوجوب إلی سببه کما لایخفی .

وثانیاً : سبق وأن ذکرنا عدّة مرّات أنّه غیر مراد بأنّ المقدور بالواسطة مقدور أیضاً، إذ من الواضح أنّ المسبّب وإن لم یکن بنفسه مقدوراً من دون وجود سببه ، إلاّ أنّه مقدور بواسطة إیجاد سببه المقدور، فیکون مقدوراً ، وهذا المقدار من

ص:217

القدرة یکفی فی صحّة توجیه التکلیف .

مضافاً إلی أنّه لو لم یکن هذا المقدار من القدرة کافیاً فی صحّته، لزم عدم صحّة کثیر من الواجبات، لوضوح أنّه کثیراً ما یکون الشیء الواجب الذی تعلّق به الوجوب، غیر مقدورٍ بدون وجوده شرائطه وأسبابه ومقتضیاته . وهذا فساده أوضح من أن یخفی .

مضافاً إلی جریان الإشکال الثالث فی الفرض السابق هنا أیضاً ؛ باعتبار أنّ الدلیل أعمّ من المدّعی، لوضوح أنّ المشروط أیضاً یکون کذلک .

أقول: ثمّ لا یخفی علیک أنّه قد قیل فی وجه عدم إمکان تعلّق التکلیف بالمسبّب ما لا یخلو عن إشکال ، فلا بأس بالتعرّض لهذا القول وهو:

قیل إنّ المسبّب التولیدی علی وجود سببه یکون واجب الصدور ، ومع عدمه ممتنع الصدور، وشیء منهما غیر ممکن لصدور ، فما لا یکون ممکن الصدور فلا یکون مقدوراً ، فما لیس کذلک لا یجوز أن یتعلّق به التکلیف ، هذا بخلاف غیر السبب من سائر المقدّمات، فإنّه مع وجوده یکون ذو المقدّمة علی حاله کالشرط بالنسبة إلی المشروط، حیث لا یخرج المشروط عن تحت اختیار المکلّف بوجود شرطه ، هذا .

وفیه: إنّ التکلیف المتوجّه إلی المسبّب أن توجّه إلیه مقیّداً بوجود سببه، فلا إشکال فی وجوب صدوره ولا مقیّداً بعدمه، حتّی یکون ممتنع الصدور ، بل یتعلّق التکلیف بذاته من دون ملاحظة حالتی السبب معه ، فإذا کان فی نفس الأمر مقدوراً ولو بواسطة سببه، کان ذلک کافیاً فی صحّة تعلّقه به، إذ القدرة المشروطة فی صحّة تعلّق التکلیف لا یکون أزید من هذا .

ص:218

أقول: قد نقل التفصیل فی المقدّمة السببیّة عن بعض الأجلّة - وهو المحقّق النائینی فی «فوائد الاُصول»(1) وتبعه المحقّق البجنوردی فی «منتهی الاُصول» ، وقد أشرنا إلی کلامهما سابقاً ، وأجبناه ، فلا بأس بالإشارة إلیه هنا، لکونه من مظانّ ذکره ، وخلاصة کلامهما علی ما فی «نهایة الأفکار»: (إنّ العلّة والمعلول علی قسمین :

أحدهما: ما کان لکلّ واحدٍ منهما وهو ممتاز مستقلّ عن الآخر مثل شرب الماء ورفع العطش ، ففی مثله یکون التکلیف أوّلاً یتعلّق بالمعلول والمسبّب ثمّ بسببه وعلّته ، کما أنّ الأمر فی مقام الإرادة الفاعلیّة والتکوینیّة یکون کذلک .

هذا بخلاف قسمه الآخر وهو ما کان وجود المعلول عین وجود علّته، ووجود المسبّب عین وجود سببه ؛ أی لا یکون لکلّ واحدٍ منهما وجودٌ مستقلّ عن الآخر، کالإلقاء فی النار والإحراق حیث أنّ وجودها واحد، فیکون تعلّق التکلیف بالمسبّب عین تعلّقه بسببه ، فلیس هما شیئان حتّی یقال بوجود الملازمة بین وجوبهما، أو عدم وجوبهما، کما لا یخفی)(2).

أقول: وما ذکراه لا یخلو عن إشکال، لوضوح أنّ إطلاق العلّة والمعلول إنّما یصحّ فیما إذا کان التعدّد والاثنینیّة بینهما موجوداً، لأنّ الشیء الواحد لا یصحّ القول بأنّه علّة ومعلول، لأنّ العلّة إنّما هی علّة فی مرحلة المؤثّر والمعلول فی مرحلة الأثر ، فدعوی أنّ التکلیف المتعلّق للمسبّب هو عین التکلیف المتعلّق لسببه، بعیدٌ عن الصواب .


1- فوائد الاُصول : ج1 / 269 - 271 .
2- نهایة الأفکار: 1 / 354 .

ص:219

نعم ، یکفی فی صحّة الإطلاق التعدّد الاعتباری، أی فرضه فی عالم الاعتبار متعدّداً وإن کان فی عالم الوجود واحداً، بشرط أن یکون التکلیف بالنسبة إلی ذلک لا بلحاظ وجوده الخارجی ، وإلاّ لابدّ من التعدّد فی الوجود أیضاً ، وحیث کان محلّ النزاع هو المقدّمة وذیها بحسب وجودهما الخارجی، اُطلق علیهما هذا الوصف ، فلابدّ من التعدّد فی هذا الوجود أیضاً، کما لا یخفی .

هذا تمام الکلام فیما إذا کان تعلّق التکلیف بالمسبّب علی ما یکون مقدوراً لنفس المکلّف وحده، نظیر الوضوء إذا قلنا بأنّه محصّل للطهارة لا کونه بنفسه طهارة .

وأمّا إذا رفضنا کون المسبّب أمراً مولّداً من المکلّف نفسه ومن فعل الغیر، نظیر الملکیّة والزوجیّة فی البیع والنکاح، ففی مثل ذلک لا یمکن تعلّق التکلیف بالمسبّب من ناحیة المکلّف المخاطب فقط ؛ لأنّه غیر قادر علی إیجاده وحده، لمدخلیّة قبول الآخر فی تحقّقه .

وإن قلنا بکون التکلیف فی الحقیقة متوجّهاً إلی السبب، فإنّ مجرّد ذلک لایحلّ الإشکال ، فلابدّ أن یُقال فی مثل ذلک بأنّ المقصود من التکلیف بالمسبّب هو الحکم بلزوم الإتیان بالسبب من ناحیة الأوّل، حتّی یصلح المورد، لوقوع قبول القابل علیه من الجانب الآخر، أی یجب علی الموجب إیقاع الإیجاب من جانبه، حتّی یصحّ أن یستتبعه القابل بالقبول، فیحصل الملکیّة بذلک ، فهو أمرٌ معقول وإلاّ لا یکون التکلیف بالمسبّب، ولو مع التوجّه إلی سببه بهذا الشخص وحده کافیاً فی صحّة وقوع التکلیف، لعدم کونه مقدوراً ، بل بالدقّة یظهر أنّ مجرّد إتیان المکلّف بالعقد من الإیجاب من ناحیة نفسه وهو البایع، لا یوجب صدق

ص:220

السبب علیه ، بل یکون هو جزء من السبب، إذ السبب فی الحقیقة یطلق علی مجموع الإیجاب والقبول، کما لا یخفی .

هذا تمام الکلام فی التفصیل الأوّل فی المقدّمة بین السبب وغیره .

وأمّا القول الثانی: وهو التفصیل بین الشرط الشرعی فیجب وبین غیره فلا یجب ، فقد استدلّوا بما فی «الکفایة» بأنّه :

(لولا وجوب الشرط الشرعی شرعاً، لما کان شرطاً، لأنّه لیس ممّا لابدّ من الإتیان به عقلاً وعادة)(1) .

فإثبات شرطیّته شرعاً یقتضی وجوبه شرعاً .

أقول: ولکن یرد علیه باُمور :

أوّلاً : بأنّ الشرطیّة الشرعیّة إذا ثبتت خارجاً للمکلّف بأیّ طریق - أی فهم أنّه یکون شرطاً لواجب شرعاً - فلا إشکال حینئذٍ لوجود حکم العقل بلزوم الإتیان به، بناءً علی أنّ وجوب الامتثال للواجب متوقّف علی تلک المقدّمة وهی الشرط . فعلی هذا لا تکون شرطیّته موقوفة علی کونه واجباً شرعاً ، بل إن أوجب العقل لزوم إتیانه، کانت شرطیّته للواجب محفوظاً ، غایة الأمر یسمّی أنّه شرط عقلاً فی حال لحاظ الشارع بأخذه شرطاً لواجب .

نعم ، إن صرّح الشارع بذلک، کان الشرط حینئذٍ متّصفاً بالوصفین، أی یکون شرطاً عقلاً وشرعاً، وإلاّ ینحصر الأمر فی کونه شرط عقلاً ، ولعلّه هذا هو المراد من کلام صاحب «الکفایة» بقوله : (مضافاً إلی ما عرفت من رجوع الشرط


1- الکفایة : ج1 / 203 .

ص:221

الشرعی إلی العقلی) .

وبالجملة: فما استشکله صاحب «نهایة الدرایة» علی «الکفایة» بقوله :

(ولیعلم أنّ وجه رجوع الشرط إلی العقلی ما ذکرناه، لا ما سبق منه قدس سره فی أوائل المبحث من استحالة وجود المشروط من دون شرطه عقلاً، بعد أخذه شرطاً شرعیّاً، لأنّ العقلیّة بهذا المعنی مؤکّدة للشرعیّة وفی طولها ، لا أنّها یقابلها وفی عرضها ، فلا ینافی الاستدلال المبنیّ علی کون أصل التوقّف والتقیّد شرعیّاً، کما لا یخفی)(1) .

لیس فی محلّه، لأنّ الشرط الشرعی المقابل للعقلی وفی عرضها، إنّما یکون فی الشرائط التی تکون بحسب حکم العقل شرطاً لشیء دون الشرع لا عکسه ؛ لوضوح أنّ ما یکون شرطاً لشیء، وإن لم یسمّ بذلک أنّه شرط عقلی ، إلاّ أنّه لا ینافی أن یحکم العقل بلزوم إتیانه بلحاظ وجوب الإتیان بالواجب ، ففی ذلک یصحّ أن یُقال إنّه شرط عقلاً فی حال لحاظ الشارع شرطاً له ، فلا یکون هذا شرطاً عقلیّاً مطلقاً، أی لا یکون الشرط العقلی المصطلح فی الألسن هو هذا القسم ، إلاّ أنّه یصحّ أن یُقال إنّ الحکم بوجوب الإتیان بهذا الشرط یکون بالعقل ، وهذا المقدار من الإطلاق یکفی فی صحّة إثبات المقصود من عدم لزوم الحکم بثبوت الملازمة بین وجوب المشروط ووجوب شرطه شرعاً .

ثمّ أورد علیه صاحب «الکفایة» ثانیاً : (بأنّ الأمر الغیری لا یتعلّق إلاّ بما هو مقدّمة للواجب، ولو کانت مقدّمیّة متوقّفة علی تعلّق الأمر الغیری بها لدار ، والشرطیّة وإن کانت منتزعة عن التکلیف، إلاّ أنّه عن التکلیف النفسی المتعلّق بما


1- نهایة الدرایة : ج1 / 379 .

ص:222

قیّد بالشرط، لا عن الغیری ، فافهم) . انتهی کلامه(1) .

وفیه: الإنصاف عدم تمامیّة کلامه المفرض فی کلا الموردین من الدور، وکون الشرطیّة منتزعة عن التکلیف النفسی المقیّد بالشرط لا من الأمر الغیری .

أمّا الأوّل: أی عدم تمامیّة الدور: لأنّ الشرط الشرعی قد یلاحظ بالنسبة إلی عالم الثبوت والمصلحة ؛ أی الشارع یلاحظ أنّ الشیء الفلانی له دخل فی المصلحة واقعاً ، فبالنسبة إلی ذلک یکون الشرط متّصفاً بالوجوب المقدّمی، أی یکون الوجوب المقدّمی متوقّفاً علی الشرط بهذا المعنی، من کونه دخیلاً فی المصلحة واقعاً . وأمّا ما یتوقّف علیه الوجوب المقدّمی، یکون الشرطیّة فی مرحلة الطلب والبعث، حیث یکون الشرط قیداً فی مرحلة الطلب ، ففی هذه المرتبة تکون الشرطیّة موقوفة علی الوجوب المقدّمی ، وبالتالی فلا دور ؛ لأنّ الوجوب المقدّمی متوقّفٌ علی الشرطیّة بحسب الواقع ونفس الأمر، والوجوب المقدّمی یکون متوقّفاً علیه للشرطیّة بالمعنی الطلب والبعث علی المقیّد فی عالم الإثبات ، فتوقّف الوجوب المقدّمی علی الشرطیّة ثبوتی ، وتوقّف الشرطیّة الشرعیّة علی الوجوب المقدّمی إثباتی ، فلا دور .

وأمّا الثانی: فلأنّ من الواضح أنّ مجرّد کون الشرطیّة منتزعة عن التکلیف النفسی المتعلّق للواجب المقیّد بقید، لا یوجب رفع محذور الدور لو سلّمناه ، بخلاف ما لو کان منتزعاً عن الأمر الغیری .

والسرّ فیه: أنّه لو لم نقل بما قلناه فی جواب الدور، فلا فرق فی ثبوت الدور بین جهة التوقّف بین الأمر الغیری أو النفسی المقیّد ، لأنّه کما أنّه ما لم یکن واقعاً


1- الکفایة : ج1 / 203 .

ص:223

شرطاً، لما تعلّق به الوجوب الغیری ، فلو کان الوجوب الغیری أیضاً موقوفاً علیه للشرط لاستلزم الدور، حیث لا یمکن إحراز الشرطیّة إلاّ بعد ثبوت کون الوجوب الأمر الغیری وهذا مستلزم للدور . هکذا یکون فی التکلیف النفسی المقیّد، لأنّه ما لم یکن واقعاً شرطاً، لما تعلّق به النفسی المقیّد بذلک القید ، فلو کان إثبات کون التکلیف هنا مقیّداً بذلک القید، وموقوفاً علی إثبات کونه فی الواقع شرطاً لکان دوراً .

فالأولی أن یُقال فی الإشکال الثانی: إنّه لا ملازمة بین ثبوت الشرطیّة الشرعیّة واقعاً، وبین عدم ثبوت الوجوب الشرعی لذلک الشرط ؛ لأنّ الشرطیّة ینتزع عن دخالة الشیء واقعاً فی تحقّق شیء، فهو یکفی فی صحّة تحقّق الشرطیّة ، إلاّ أنّ الوجوب الشرعی موقوف علی ثبوت أمرٍ شرعی مولوی لذلک الشرط بالأمر الاستقلالی، لو لم یکن العقل بنفسه حاکماً بوجوبه ، وإلاّ کان حکم الشرع حینئذٍ إرشادیّاً لا مولویّاً ، أو ینتزع الوجوب الشرعی عن التکلیف النفسی المقیّد بذلک القید، مثل أن یُقال : (صلِّ مع الطهارة) ، فینتزع منه الوجوب الشرعی أیضاً، لو لم یکن الفعل بنفسه حاکماً بالوجوب کما کان الأمر کذلک .

وثالثاً : أنّ الکلام فی المسألة کان فی الوجوب الغیری من باب ثبوت الملازمة بین وجوب ذی المقدّمة مع وجوب المقدّمة ، أی فی الوجوب الترشّحی للمقدّمة، لا ما یکون وجوب المقدّمة ثابتاً عن أمر استقلالی غیری، مثل قوله تعالی : «فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ» حیث یستفاد منه الوجوب الشرطی الشرعی، حتّی یُقال إنّه لولاه لما کان شرطاً ، فکلامهم فی التفصیل خارج عن مورد النزاع والبحث .

ص:224

ورابعاً : أنّه لو سلّمنا تمام هذه المذکورات، ولکن نقول إنّ الدلیل أعمّ من المدّعی أیضاً، لأنّ ما ذکرتم بأنّه لولا وجوبه لما کان شرطاً شرعاً، یجری فی الشرط العقلی والعادی أیضاً ، أی لولا وجوبهما لما کان شرطاً عقلاً ولا عادةً مع أنّه خلاف المفروض .

وبالجملة: ثبت من خلال جمیع ما ذکرنا، أنّ التفصیل فی وجوب المقدّمة بین الشرط الشرعی وغیره ممنوعٌ لا یُسمن ولا یُغنی عن جوع .

فالأقوی عندنا عدم وجوب مقدّمة الواجب مطلقاً ، سواء کان سببیّاً أو شرطیّاً ، أو مانعیّاً أو غیرها .

***

ص:225

فی مقدّمة ما عدا الواجب

البحث عن مقدّمة ما عدا الواجب

القسم الأوّل: البحث عن مقدّمة المستحبّ

لا یخفی أنّ حکم مقدّمة المستحبّ کحکم مقدّمة الواجب، لاشتراک ما هو الملاک بینهما من جهة المحبوبیّة ، إذ لا فرق بینهما من جهة ثبوت الملازمة بین المقدّمة وذیها ، وعدم ثبوتها ، فکلّ من التزم بوجوب المقدّمة من باب الملازمة، یلتزم باستحبابها من هذا الباب ، ومن لا یلتزم بثبوت الملازمة فی الوجوب، فلا یلتزم فی استحبابها أیضاً ، والمسألة واضحة لا خلاف فیها .

***

القسم الثانی: فی مقدّمة الحرام والمکروه

أقول: یقع البحث فی أنّه هل مقدّمة الحرام والمکروه تکون حراماً ومکروهاً أم لا ؟

فحیث کان المکروه حکمه مشترکاً مع الحرام فی ذلک کالمستحبّ مع الواجب، فلذلک ینحصر البحث فی خصوص الحرام فقط ، فنقول ومن اللّه الاستعانة :

فصّل صاحب «الکفایة» فی مقدّمة الحرام بین ما کانت المقدّمة من الأسباب التولیدیّة فتکون محرّمة، وبین ما لم یکن کذلک ، بل کان الحرام من الأفعال المباشریّة، فلا تکون محرّمة .

فقال فی وجهه : (بأنّ مقدّمة الحرام لا تتّصف بالحرمة ، إذ منها ما یمکن معه من ترک الحرام أو المکروه اختیاراً ، کما کان ممکناً قبله ، فلا دخل له أصلاً فی

ص:226

حصول ما هو المطلوب من ترک الحرام أو المکروه ، فلم یترشّح من طلبه طلب ترک مقدّمتهما .

نعم ، ما لم یتمکّن معه من الترک المطلوب لا محالة یکون مطلوب الترک، ویترشّح من طلب ترکهما طلب ترک خصوص هذه المقدّمة ، فلو لم یکن للحرام مقدّمة، لا یقتضی اختیار ترکه لما اتّصف بالحرمة مقدّمة من مقدّماته .

لا یُقال: کیف ولا یکاد یکون فعلٌ إلاّ عن مقدّمة لا محالة معها یوجد، ضرورة أنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد .

فإنّه یُقال : نعم ، لا محالة یکون من جملتها ما یجب معه صدور الحرام ، لکنّه لا یلزم أن یکون ذلک من المقدّمات الاختیاریّة ، بل من المقدّمات الغیر الاختیاریّة کمبادئ الاختیار التی لا تکون بالاختیار وإلاّ لتسلسل، فلا تغفل وتأمّل) ، انتهی کلامه(1) .

أقول: وفی کلامه مواضع من الإشکال :

أوّلاً : بأنّ الملازمة إذا لم تکن بین ذی المقدّمة والمقدّمة فی الوجوب والاستحباب ، فلیکن الأمر کذلک فی الحرمة والکراهة لوحدة الملاک فی جمیعها من جهة الحکم الشرعی ، إذ کما أنّ ذا المقدّمة کان وجوده مطلوباً إلزاماً، والعقل والشرع یحکمان بوجوب الإطاعة ، ومع ذلک کان حکم العقل - لا الشرع - بوجوبها ولزومها کافیاً فی تحقّق ما هو اللاّزم فی الإطاعة، کذلک الأمر فی جانب الحرمة ، إذ العقل یحکم بأنّ الفعل المنهی وهو ذو المقدّمة، لابدّ أن لا یتحقّق فی الخارج، لکونه مبغوضاً للمولی، وفاعله وموجده مستحقّ للعقوبة ، وهذا الترک


1- الکفایة : ج1 / 205 .

ص:227

المطلوب والفعل المنزجر عنه قد یتحقّق تارةً بإیجاد المقدّمات دفعةً واحدة وفی عرض واحد . واُخری قد یکون بإیجادها مترتّباً وفی الطول ، ففی الأوّل یحکم العقل بلزوم ترک جمیعها، حتّی لا یتحقّق ما یستحقّ العقوبة، فتکون وجود جمیع المقدّمات من حیث الوجود لازم الترک ، بخلاف الثانی حیث یکون ما هو المستلزم لوجود الفعل فی الخارج منهیّاً عنه ، وهو أیضاً علی قسمین ، لأنّه:

1 - قد یکون فی وجود نفس المقدّمات ترتیب من الأولویّة والثانویّة والثالثیّة ؛ یعنی نفس المقدّمات تکون علی نحو لو لم یوجد الأوّل لما تحقّقت الثانیة بالضرورة ، ولو لم توجد الثانیة لما أمکن وجود الثالثة وهکذا ، ففی هذه الصورة یکون آخر مقدّمةٍ من حیث الوجود المستلزم لتحقّق الفعل المبغوض فی الخارج لازم الترک عقلاً ، وهو عبارة عن آخر فعل إرادی یترتّب علیه ذلک الأثر من تحریک العضلات الذی قد تعلّقت به الإرادة والاختیار ، فلیس آخر المقدّمات نفس الإرادة فی شیء من الأفعال المنهیّ عنها أو المأمور بها ، دون سائر المقدّمات المتحقّقة قبل ذلک التی لا یترتّب علیها وجود الفعل المنهی عنه بلا واسطة المقدّمة الأخیرة .

2 - وقسم آخر هو ما لو لم تکن نفس المقدّمات کذلک ؛ أی یجوز إیجاد کلّ واحدٍ منها متقدّماً ومتأخّراً من دون وجود ترتیب بینهما ، ولکن لا یمکن إیجادها دفعةً واحدة . فعلی هذا یکون المنهی عنها أحدها وهو الذی یقع أخیراً من حیث الوجود ؛ أی ما کان من جهة نفس المقدّمات بصورة التخییر، یکون منهیّاً عنه عقلاً ، لإمکان جعل کلّ واحدٍ منها متأخّراً فی مرحلة الوجود . وأمّا غیر ذلک الذی لا یترتّب ذو المقدّمة علیه فلا حرمة فیها .

ص:228

هذا بخلاف مقدّمة الواجب، حیث یکون متعلّق اللّزوم بحسب العقل فیها هو جمیع المقدّمات، سواءً کانت طولیّة أو عرضیّة ، وسواء کانت فی الوجود بین أنفسها بترتیب أم لا .

والسرّ فی هذا التفاوت هو أنّ الفعل المنزجر عنه کان وجوده مبغوضاً، وهو لا یتحقّق إلاّ بوجود جمیع المقدّمات ، حیث أنّ وصف الجمیع لا یتحقّق ، إلاّ بعد وجود آخر ما یکون مستلزماً لترتّب ذیها علیها ، فیکون الآخر منها مبغوضاً عقلاً .

هذا بخلاف المقدّمة فی الواجب، حیث یکون المطلوب فیه خصوص وجود ذیها، وهو موقوف علی وجود کلّ المقدّمات ، فیصحّ أن یُقال بأنّ وجود کلّ من مقدّمةٍ یکون مطلوباً لدخالته لوجود ذی المقدّمة ، بلا فرق فیه من جهة طولیّتها وعرضیّتها ، أو من جهة وجود الترتیب بین المقدّمات بنفسها وعدمه .

إذا عرفت ذلک فنقول : یکفی فی لزوم الحکم بترک وجود ذی المقدّمة فی مقدّمة الحرام، حکم العقل بلزوم ترک مقدّمته بالتفصیل الذی عرفت من دون احتیاج إلی نهی الشارع عن ذلک ، کما لا نحتاج فی وجوب ذی المقدّمة إلی أمر الشارع بوجوب المقدّمات ، بل یکتفی بحکم العقل بذلک .

غایة الأمر ، لو حکم الشارع أیضاً وصرّح به، یکون حکماً إرشادیّاً إلی شرطیّته من حیث الوجود ومانعیّته ورادعیّته عن تحقّق ذیها من حیث الترک ، فالحکم بحرمة المقدّمة شرعاً ولو فی قسم واحد منهما وهو فی السببیّة فقط، کما عن «الکفایة» ومن تبعه ، لیس بوجیه . هذا أوّلاً .

وثانیاً : لو أغمضنا عمّا ذکرنا، وسلّمنا وجود نهی شرعی وحکمٌ تحریمی من عند الشارع فی طرف مقدّمة الحرام، وإن لم یکن کذلک فی طرف الوجوب ، فمع

ص:229

ذلک نقول : لا نسلّم التفصیل الذی ذکره صاحب «الکفایة»:

فیما بین الأفعال المباشریّة من شرب الخمر والقمار وأمثال ذلک، من عدم الحرمة، لکون المقدّمة الأخیرة وهی الإرادة غیر اختیاریّة وإلاّ لتسلسل .

وبین الأفعال التولیدیّة کالمسبّبات المنهی عنها بواسطة النهی عن أسبابها، حیث یکون آخر المقدّمة منها حراماً، لأنّه فعلٌ خارجیّ وهو المسمّی بالسبب ، فلا مانع لتعلّق النهی به .

وذلک لما قد عرفت منّا فی الجواب الأوّل، بأنّ الأفعال کلّها - سواء کانت مباشریّة أو تولیدیّة - یکون آخر مقدّماتها فعلٌ إرادی، وهو تحریک العضلات المتولّد والمتحقّق عن الإرادة ، فلیست الإرادة آخرها حتّی یُقال بهذا التفصیل، کما لا یخفی .

وثالثاً : لو سلّمنا ذلک أیضاً، ولکن قد عرفت منّا کراراً بأنّ الإرادة أیضاً اختیاریّة ؛ لأنّ بعض مبادیها أیضاً کذلک، وهو یکفی فی کونها اختیاریّة ، وفی صحّة تعلّق الأمر والنهی بها من دون أن یلزم التسلسل ، فلا نعید حذراً من الإطالة .

وبالجملة: من هنا ظهر فساد بعض التفاصیل الذی صدر عن الأعاظم رحمة اللّه علیهم أجمعین ، منها ما عن صاحب «نهایة الأفکار» حیث قال بمقالة بعض الاُصولیّین:

(إنّ المقدّمة الأخیرة محرّمة إذا قلنا بمقالة المشهور من وجوب مطلق المقدّمة .

وأمّا علی القول بمقالة صاحب «الفصول»، من تخصیص الوجوب بالمقدّمة الموصلة علی نحو التقیید ، أو القول بحسب ما اختاره من کون الواجب ولو بلحاظ

ص:230

قصور فی أمره عبارة عن الذات التوأمة مع وجود بقیّة المقدّمات اللاّزمة للإیصال قهراً .

فلا إشکال حینئذٍ أن یکون حال مقدّمات الحرام کحال مقدّمات الواجب ، فتکون کلّ مقدّمة من مقدّماته متّصفة بالحرمة الغیریّة فی ظرف انضمامها لبقیّة المقدّمات، الملازم لترتّب الحرام علیها .

ومن ذلک أیضاً نقول: بأنّه لو أتی بمقدّمة الحرام ولولا بقصد التوصّل بها إلی المحرّم ، بل بقصد التوصّل بها إلی أمرٍ واجب، واتّفق بعد ذلک ترتّب الحرام علیها، کان ما أتی به حراماً فعلیّاً فی الواقع .

کما أنّه لو اتّفق عدم ترتّب الحرام علیها لا یکون ما أتی به حراماً، وإن کان قاصداً به التوصّل إلی الحرام ، فالمدار حینئذٍ فی اتّصاف المقدّمة بالحرمة وعدم اتّصافها بها، علی ترتّب الحرام علیها وعدمه) . انتهی محلّ الحاجة من کلامه(1) .

وجه الفساد أوّلاً : بما قد عرفت منّا سابقاً من عدم وجوب المقدّمة شرعاً أصلاً، لکفایة حکم العقل بوجوبها ، فهکذا یکون الأمر فی مقدّمة الحرام .

وثانیاً : لو أغمضنا عنه والتزمنا بوجوب المقدّمة شرعاً، فإنّه لا فرق فی مسألتنا اختلاف النظر فی طرف الوجوب من کون مطلق المقدّمة واجبة ، أو خصوص الموصلة بأیّ وجهٍ من الاحتمالین الذین ذکرهما فی الصدر ، للاختلاف فی الملاک بینهما ؛ لأنّ وجوب المقدّمة کان بلحاظ وجوب ذیها، وهو لا یکون إلاّ بإیجاد کلّ واحد من المقدّمات ، فکان کلّ واحد منهما مطلوباً ومحبوباً تبعاً ، هذا


1- نهایة الأفکار : ج1 / 357 .

ص:231

بخلاف مقدّمات الحرام، إذ المبغوض فیها لیس إلاّ وجود الحرام، وهو لا یکون إلاّ بوجود مجموع المقدّمات دفعةً أو تدریجاً . غایة الأمر یکون الآخر منها هو المحصّل، فیکون هو مبغوضاً وحراماً فی الثانی لا غیره من سائر المقدّمات .

ولو التزمنا بکون المقدّمة الموصلة هی الواجبة لا مطلقاً، لعدم دخالة ذلک فی طرف الحرمة، لتفاوت الملاک بینهما ، فقصد التوصّل من دون ترتّب الحرام لا یکون مستلزماً لحرمة المقدّمة الأخیرة ، بخلاف ما لو ترتّب علیها، حیث یکون المحرّم أیضاً هو الأخیرة لو کانت المقدّمات مترتّبة، أو یکون مجموع المقدّمات محرّمة لو کانت المقدّمات دفعیّة کما لا یخفی .

ومنها: ما عن صاحب «درر الاُصول» للمحقّق الحائری قدس سره ما حاصله :

(أنّ المقدّمات الخارجیّة للحرام هل تتّصف بالحرمة نظیر المقدّمات فی الواجب، أم لا تتّصف مطلقاً، أم یجب التفصیل بینهما؟

إنّ العناوین المحرّمة علی ضربین :

أحدهما : ما هو العنوان مبغوضاً من دون تقیّده بالاختیار وعدمه، من حیث المبغوضیّة ، وإن کان له دخل فی استحقاق العقوبة، إذ لا عقوبة إلاّ علی الفعل الصادر عن اختیار الفاعل .

ثانیهما : أن یکون صدور الفعل عن اختیار مبغوضاً، بحیث لو صدر عن غیر اختیار لا یکون منافیاً لغرض المولی .

فالقسم الأوّل تکون علّة الحرام هی نفس المقدّمات الخارجیّة، من دون مدخلیّة الإرادة، بل هی علّة لوجود علّة الحرام ، بخلاف الثانی حیث تکون الإرادة من أجزاء العلّة التامّة .

ص:232

إذا عرفت هذا فنقول : نحن إذا راجعنا وجداننا نجد الملازمة بین کراهة الشیء وکراهة العلّة التامّة له، من دون سائر المقدّمات ، کما نجد هذه الملازمة بالوجدان فی ظرف الإرادة لجمیع المقدّمات ، مع إرادة الشیء ، ولیس فی هذا الباب دلیل أمتن وأسدّ منه وما سوی ذلک ممّا أقاموه غیر نقیّ عن المناقشة .

ثمّ یستنتج من ذلک بأنّ فی القسم الأوّل منهما لو کانت علّة التامّة مرکّبة من اُمور یتّصف المجموع منها بالحرمة، وتکون إحدی المقدّمات لا بشخصها محرّمة ، إلاّ إذا وجدنا فی الأجزاء وانحصر اختیار المکلّف فی واحدة منها، فتحرم معیّناً من تشخّص أحد أفراد الواجب التخییری بالعَرَض إذا تعذّر الباقی .

هذا بخلاف قسم الثانی، حیث لا تتّصف الأجزاء الخارجیّة بالحرمة ؛ لأنّ العلّة التامّة للحرام هی المجموع المرکّب منها ومن الإرادة، ولا یصحّ استناد الترک إلاّ إلی عدم الإرادة ، لأنّه أسبق رتبةً من سائر المقدّمات الخارجیّة) ، انتهی محصّل کلامه(1) .

وجه فساده أمّا أوّلاً : بما قد عرفت من توسّط فعل اختیاری بین الإرادة ونفس العمل فی جمیع الموارد، ولیست الإرادة هی آخر جزء من أجزاء العلّة التامّة حتّی یُقال بهذا التفصیل، فیکون المحرّم فی القسمین هو الفعل الاختیاری الذی یترتّب علیه الحرام، بلا فرق بین القسمین اللّذین ذکرهما ، إلاّ بالفرق الذی ذکرناه من حیث الدفعی والتدریجی، من کون المجموع حراماً أو خصوص الأخیر منها .


1- درر الاُصول : ج1 / 40 الطبع القدیم .

ص:233

وثانیاً : أنّ مجرّد کراهة وجود الشیء للمولی فی الواقع لا أثر له، إذا لم یکن إظهار مبغوضیّته قابلاً لتوجّهه إلی المکلّف، لفقد الإرادة والاختیار، لأنّه رحمه الله قد فرض دخالة الإرادة فی استحقاق العقوبة ، فمعناه أنّه لا یکون صدور الفعل المکروه علی الفرض مورداً لتکلیف المولی ، فإذا لم یکن فعله مورداً لاستحقاق العقوبة فکیف یکون حراماً؟ إذ من الواضح بأنّ الاستحقاق للعقوبة من آثار التخلّف عن التکلیف ، فمعنی عدم الاستحقاق عدم التکلیف وعدم الحرمة، فلا یخلو کلامه الشریف عن تهافت فی الجملة ، واللّه العالم .

ومنها : ما عن العلاّمة البروجردی قدس سره فی تقریراته «نهایة الاُصول»(1) حیث قد فصّل فی مقدّمة الحرام للأفعال المباشریّة أیضاً من حیث معنی النهی فقال :

فالتحقیق فیها أن یُقال: إنّه قد اختلف فی معنی النهی :

فقد یُقال: إنّه عبارة عن طلب الترک بمعنی أنّه یشترک مع الأمر فی کون کلیهما من مقولة الطلب والبعث ، غایة الأمر أنّ المتعلّق فی النهی هو الترک، وفی الأمر هو الفعل .

وقد یُقال : إنّ النهی لیس من مقولة الطلب والبعث ، بل هو عبارة عن الزجر عن الفعل ، فالمتعلّق فی کلّ من الأمر والنهی واحدٌ، وهو الفعل .

فإن قلنا : إنّ النهی عبارة عن طلب الترک، فالترک فیه مبعوث إلیه، فیصیر واجباً من الواجبات الشرعیّة، ویکون مقدّماته - أعنی التروک المتوقّف علیها هذا الترک - أیضاً واجباً بناءً علی الملازمة ، وحکمه حینئذٍ حکم مقدّمة الواجب.

وأمّا إذا قلنا: بأنّه عبارة عن الزجر عن الفعل، فلو کان وجود هذا الفعل فی


1- نهایة الاُصول: 1 / 188 .

ص:234

الخارج متوقّفاً علی وجودات اُخر، فلا یستلزم الزجر عنه الزجر عن هذه الوجودات .

نعم ، إن کانت المقدّمة مقدّمة سببیّة للحرام، بأن کان وجودها علّة تامّة لوجوده، کانت محرّمة أیضاً .

أمّا علی القول بأنّ المسبّبات فی الأفعال التولیدیّة غیر مقدورة فظاهرٌ، إذ النهی یتعلّق حقیقة بالنسبب وإن تعلّق بحسب الظاهر بالمسبّب .

وأمّا بناءً علی القول المختار من أنّ النهی یکون تعلّقه بالمسبّب لکونه مقدوراً بالواسطة ، فإنّه یتعلّق بالسبب أیضاً ، ولکن بالعَرَض والمجاز، بحیث یکون الزجر عن المسبّب عین الزجر عن السبب أیضاً کما عرفت بیان ذلک فی البعث والطلب ، انتهی کلامه .

أقول: وفی کلامه رحمه الله مواضع للنظر:

أوّلاً : بأنّ الاختلاف فی معنی النهی لا یوجب التفاوت فیما هو الملاک . والسرّ فی اختلاف کیفیّة الحکم فی الوجوب والحرمة فی المقدّمات، من کون جمیع المقدّمات فی الواجب واجبة ، بخلاف المقدّمات فی المحرّمة، حیث یکون ما هو المحقَّق للشیء المبغوض حراماً لا جمیعها، هو لما قد عرفت من کون وجه الاختلاف هو الاختلاف فی حقیقة الشیء المحبوب والمبغوض من جهة الوجود والعدم، حیث یکون محبوبیّته موجباً لمحبوبیّة جمیع مقدّماته، بخلاف ترک الشیء المبغوض، حیث یکتفی فی ترکه ترک أحد مقدّماته کما لایخفی .

وثانیاً : ما عرفت من الإشکال بالفرق بین الأفعال المباشریّة والتولیدیّة حیث قد عرفت من عدم الفرق بینهما فی الخارج لتوسّط الفعل الاختیاری بین

ص:235

الشیء المکروه وبین المقدّمات ، فلا نعید .

وثالثاً : أنّه قد عرفت فیما سبق فساد القول بکون الأمر أو النهی عن المسبّب، هو عین الأمر والنهی عن سببه ، بل یکون کلّ واحدٍ منهما شیئاً مستقلاًّ من حیث الأمر والنهی، کما لا یخفی، لتعدّد العلّة والمعلول ، ونفس التعدّد یوجب صدق عنوان العلّة لأحدهما والمعلول للآخر . غایة الأمر یکفی فی التعدّد بین أن یکون بحسب الوجود أو أنّه بحسب العنوان والاعتبار .

أقول: فثبت من جمیع المباحث السابقة، عدم وجوب مقدّمة الواجب شرعاً وإن کانت واجبة عقلاً ، وهکذا الأمر فی طرف الحرام مطلقاً، بلا فرق بین الأفعال التولیدیّة والتسبیبّة، وبین الأفعال المباشریّة .

هذا تمام الکلام عن مباحث مقدّمة الواجب، سیتلوها البحث عن أنّ الأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضدّه أم لا .

***

ص:236

فی اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن ضدّه وعدمه

البحث عن اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن ضدّه وعدمه

هل الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه أم لا؟

وربما یتوهّم: عدم لزوم ذکره منفرداً، عند من ذهب إلی وجوب مقدّمة الواجب لأنّه یستلزم حرمة ضدّه قطعاً .

لکنّه مندفع أوّلاً : بأنّ ذلک منوط علی إثبات کون ترک الضدّ مقدّمة للضدّ الواجب، وإلاّ فلا وجه للقول بحرمة ضدّه .

وثانیاً : أنّ البحث فی المقام لیس منحصراً فی الضدّ العام فقط ، بل یجری البحث فی الضدّ بقول مطلق من العام والخاصّ، فذاک البحث لا یکون مغنیّاً عن تمام خصوصیّة البحث هاهنا .

إذا عرفت ذلک فنقول: قبل الخوض فی أصل المطلب وإثبات ما هو المختار ، لابدّ من تقدیم اُمور :

الأمر الأوّل : فی أنّ هذه المسألة هل تعدّ من المسائل العقلیّة أو النقلیّة؟

فقد قیل بالثانی ؛ لأنّه :

أوّلاً : قد ذکر البحث فی مباحث الألفاظ، الظاهر کونه من المباحث اللغویّة والنقلیّة .

وثانیاً : أنّه قد استدلّ المتقدّمون فی کتبهم لإثبات حرمة الضدّ بالدلالات الثلاثة من المطابقة والتضمّن والالتزام ، والنافین منهم بانتفائها، کما لا یخفی علی مَن راجع کتبهم .

أقول: ولکن یمکن المناقشة فی کلیهما بما قد اُجیب عنهما :

ص:237

فأمّا عن الأوّل: بأنّه کان من جهة أنّ المباحث الاُصولیّة لم تکن متمحّضة فی المسائل العقلیّة، وحیث کانت بحسب النوع من الألفاظ، فلذلک ذکروه فیها، لا من جهة کونه منها قطعاً کما توهّم .

وأمّا عن الثانی: بأنّ البحث فی الاقتضاء لیس فی مقام الإثبات فقط حتّی یکون البحث عنه نقلیّاً ، إذ ربما یمکن دعوی کون الاقتضاء ثبوتیّاً ؛ أی وإن لم یکن بالدلالات الثلاث، بل کان الاقتضاء بحسب حکم العقل بوجوب شیء، الثابت بالإجماع أو السیرة وأمثال ذلک، حیث تکون الحرمة لضدّه ثبوتیّاً لا إثباتیّاً .

ولذلک ذهب آخرون إلی الأوّل منهما، مستدلّین بأنّ الاقتضاء قد لا یکون إلاّ بالملازمة العقلیّة، أی العقل یحکم بذلک ، بل قد یدّعی العینیّة فی ذلک ، فعلی هذا لا یکون حینئذٍ من قبیل الألفاظ أصلاً .

والذی ینبغی أن یُقال: هو أنّ ذلک منوط بما یختاره الاُصولی من حیث أنّه ینتخبه من الدلالات، وکون الاقتضاء منها، فیکون البحث فیه حینئذٍ من النقلیّة .

أو یُقال : بأنّه یکون عن حکم العقل إلزاماً أو غیره، فیکون من المسائل العقلیّة المجرّدة.

وحیث أنّ الثانی أولی عندنا، وعند کثیر من الاُصولیّین، فیکون من المسائل العقلیّة الاُصولیّة ، کما لا یخفی .

الأمر الثانی : فی أنّ هذه المسألة هل تعدّ من المسائل الفقهیّة، أو من المبادئ التصدیقیّة، أو من المبادئ الاحکامیّة، أو من المسائل الاُصولیّة ؟

وأمّا کونها من القسم الأوّل، فغیر وجیه، لأنّها عبارة عن حکم فرعی فقهی

ص:238

کالخمر حرام والصلاة واجبة، ولیس حکم قضاء الأمر بالشیء لحرمة الضدّ حکماً من الأحکام الشرعیّة الفرعیّة، وهو واضح .

کما أنّ عدم کونها من المبادئ التصدیقیّة أیضاً واضح ، لأنّه منوط بدوران البحث فیه عن موضوع علم الاُصول وهو البحث عن الأدلّة الأربعة ، مع أنّک قد عرفت بأنّه ربما لا یکون للدلالة فیه أثر ؛ لاحتمال کون البحث فیه ثبوتیّاً لا إثباتیّاً .

کما أنّ توهّم کونها من المبادئ الاحکامیّة - کما ادّعاه صاحب «نهایة الاُصول»، واحتمله المشکینی رحمهماالله - لیس علی ما هو علیه ؛ لأنّه اعتبار منها مرتبط باعتبار البحث عن لوازم الأحکام وملازماتها، والبحث عن اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن ضدّه وإن احتمل کونه من البحث عن لوازم وجوب الشیء، الذی یعدّ حکمیّاً، إلاّ أنّه قد یدّعی - کما عن بعض - کون الأمر بالشیء هو عین النهی عن ضدّه ، فعلیه لا یمکن عدّها حینئذٍ من اللّوازم والملازمة.

أقول: فثبت من جمیع ما ذکرنا أنّ الحقّ هو الاحتمال الأخیر، وهو کونها من المسائل الاُصولیّة ؛ لأنّ نتیجتها تقع فی طریق استنباط الأحکام الشرعیّة الفرعیّة ، إذ من الواضح أنّه إذا قلنا بالاقتضاء، فلازمه حینئذٍ هو الحکم بفساد الصلاة إذا کانت ضدّاً لوجوب الإزالة وأمثال ذلک ، وعلیه فالوجه الأخیر هو الأقوی، کما علیه الأکثر .

الأمر الثالث : کلّ شیء إذا لوحظ مع شیء آخر من الاعراض :

إمّا أن یکون کلّ منهما من نوع واحد، فیُقال لهما المتماثلان کالسوادین .

أو لا یکونان من نوع واحد، بل کلٌّ من نوع علی حدة ، فحینئذٍ أیضاً :

ص:239

قد یکونان غیر آبیین عن الاجتماع فی موضوع واحد ، فهما متخالفان کالسواد والحلاوة .

وقد یکونان آبیین عنه، فهو المسمّی بالمتقابلین .

إلی هنا قد لوحظ حال وجود العرض فی کلّ من الشیئین .

وأمّا المتقابلان بنفسه ینقسم إلی قسمین، لأنّه :

إمّا أن یکون فی أمرین وجودیّین .

أو فی أمر وجودی وأمر عدمی .

وأمّا التقابل فی الأمرین العدمین غیر ممکن .

فالتقابل فی الأمرین الوجودیّین: ینقسم إلی قسمین، لأنّه :

قد یکون تصوّر کلّ واحد من المتقابلین الوجودین مستلزماً لتصوّر الآخر، ولا ینفکّ تصوّر کلٍّ واحدٍ منهما من الآخر، وهو المسمّی بالتضایف کالاُبوّة والبنوّة .

وقد لا یکون کذلک، فهو المسمّی بالتضادّ والمتضادّین کالسواد والبیاض .

کما أنّ التقابل بین الوجودی والعدمی أیضاً منقسم إلی قسمین، لأنّه:

قد یکون تصوّر العدم فیه موقوفاً علی قابلیّة المحلّ لصدق بدیله وضدّه ، فهو المسمّی بالعدم والملکة، کالعمی والبصر، حیث لا یطلق الأعمی إلاّ علی ما یمکن صدق البصر علیه کالإنسان والحیوان دون الجدار والبحار .

وقد لا یکون کذلک فهو المسمّی بالإیجاب والسلب تارةً ، وبالتناقض اُخری .

فهذه أقسامٌ أربعة للمتقابلین أو خمسة .

ص:240

أقول: إذا عرفت ذلک، فاعلم أنّ التضادّ عند أهل المعقول والفلسفة لا یُطلق إلاّ علی الأمرین الوجودین المتضادّین فقط ، هذا بخلاف التضادّ عند أهل الاُصول حیث یُطلق علی الأعمّ من المتضادّین ؛ لإمکان إطلاق التضادّ علی المتناقضین ، والشاهد علی ذلک ملاحظة کلامهم فی هذا الباب، حیث أنّ المراد من بحثهم فی أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن الضدّ، هو الضدّ الأعمّ من العام والخاصّ . ومن المعلوم أنّ ضدّ المعلوم وهو ترک الشیء یکون متناقضاً للشیء لا ضدّاً اصطلاحیّاً .

فظهر من ذلک أنّ المقصود من بحث الضدّ هنا یکون هو الضدّ الاُصولی لا المعقولی .

الأمر الرابع: وقد أهمله کثیرٌ من الاُصولیّین وهو البحث عن محلّ النزاع ومورده فی الباب، فنقول:

یقع البحث فی أنّ النزاع بین الاُصولیّین هل یدور حول أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه أو لا فیما إذا کان الأمر المتعلّق بالشیء مضیّقاً والآخر موسّعاً کإزالة النجاسة عن المسجد، مع وجوب الصلاة إذا کان موسّعاً ؟

أو أنّ النزاع یدور فی الأعمّ حتّی یشمل المضیّقین والموسّعین ، بل وللموسّع والمضیّق للضدّ الآخر ، بل یشمل حتّی ما لو لم یکن للضدّ الآخر حکماً وجوبیّاً أصلاً، حتّی یلاحظ فیه السعة والضیق، کالحرمة للسفر والمعاملة فی وقت النداء ظهر الجمعة إذا کانت واجبة تعییناً کعصر حضور المعصوم علیه السلام ، حیث أنّ السفر والمعاملة لا یکونان إلاّ مباحاً أو مستحبّاً أو مکروهاً، فالنزاع عام یشمل جمیع هذه الصور ؟ فیه خلاف بین الاُصولیّین:

ص:241

والذی ذهب إلیه المحقّق القمّی قدس سره هو الأوّل، حیث قال :

(موضع النزاع ما إذا کان المأمور به مضیّقاً والضدّ موسّعاً، ولو کانا موسّعین فلا نزاع ، وأمّا لو کانا مضیّقین فیلاحظ ما هو الأهمّ) . انتهی کلامه .

خلافاً للشیخ الأنصاری قدس سره فی تقریراته حیث قال :

(ویمکن المناقشة فی هذا الکلام أوّلاً بأنّ إخراج الموسّعین عن محلّ النزاع ممّا لا وجه، له فإنّ الملازمة التی أثبتوها بین الأمر بالشیء والنهی عن ضدّه عقلیّة ساریة فی جمیع الأوامر ، فکما أنّ الأمر المضیّق یقتضی النهی عن ضدّه الموسّع، کذلک الأمر الموسّع یقتضی ذلک من غیر فرق ، والحاکم بذلک هو العقل علی القول بالاقتضاء . غایة الأمر أنّ النهی فی الموضعین یختلف حسب اختلاف الأمرین ، فالأمر المضیّق یقتضی النهی عن ضدّه علی جهة التضیّق والتعیین ، والأمر الموسّع یقتضیه علی جهة التوسعة والتخییر .

إلی أن قال : وهکذا الکلام فی المضیّقین المتساویین فی الأهمّیة، فإنّ قاعدة الاقتضاء المزبورة قاضیة باقتضاء کلّ منهما النهی عن الآخر علی سبیل التخییر العارض للأمرین، باعتبار التزاحم والتکافؤ .

إلی أن قال: بعد ذکر الوجوه والمحتملات وجوابها :

وثانیاً : بأنّ حصر النزاع فیما إذا کان الضدّ من الواجبات الموسّعة غیر جیّد ؛ لأنّهم یفرّعون علی هذه المسألة حرمة السفر وفساد المعاملات مع عدم کونهما من الواجبات جدّاً، فضلاً عن کونهما موسّعین .

فالتحقیق: إرخاء عِنان البحث إلی أودیة المباحات والمکروهات والمستحبّات أیضاً ؛ لأنّ اقتضاء الأمر المضیّق النهی عن الضدّ لا اختصاص له بما

ص:242

إذا کان الضدّ واجباً) . انتهی کلام الشیخ قدس سره (1) .

أقول: ولا یخفی أنّ ما ذکره الشیخ صدراً وذیلاً جواباً عن المحقّق المذکور لا یخلو عن إشکال ؛ لأنّ التبعیّة فی السعة والضیق إنّما یکون بین الأمر بالشیء والنهی عن الضدّ ، لا بین الأمر بالشیء وبین الأمر المتعلّق بالضدّ ، إذ من الواضح أنّه لو کانت التبعیّة فی هذه المرحلة موجودة ، فکیف یمکن أن یجامع مع کلامه فی ذیله بإمکان أن لا یکون للضدّ الآخر حکماً وجوبیّاً، فضلاً عن سعته وضیقه . والحال أنّ المحقّق قد لاحظ مسألة النزاع بین الأمرین المتعلّقین للضدّین، لا بین الأمر بالشیء وبین النهی عن الضدّ، حتّی یُجاب عنه بذلک الجواب .

إلاّ أنّ أصل المطلب فی کلامه یعدّ صحیحاً ؛ یعنی أنّ النزاع الواقع بین الأعلام فی الضدّ لا یلاحظ بین الأمرین من حیث السعة والضیق فی وجوبهما ؛ لأنّه قد یفرض بأن لا یکون لأحد الضدّین حکماً وجوبیّاً أصلاً ، بل النزاع واقع فی أصل الاقتضاء بین الأمر بالشیء وبین النهی عن الضدّ، حتّی تکون نتیجته هو بطلان العمل العبادی الذی کان مزاحماً له .

غایة الأمر یأتی الکلام فی أنّ المزاحمة :

هل هی ثابتة بین الأمرین، إذا کان أحدهما مضیّقاً - وهو الأمر بالشیء - والآخر موسّعاً وهو الأمر المتعلّق بالضدّ .

أو یکون التزاحم موجوداً ولو کان کلّ منهما مضیّقاً أو موسّعاً ؟

فلا یبعد أن یُقال: بأنّ التزاحم إنّما یکون بین المضیّقین، وبین مضیّق وموسّع


1- مطارح الأنظار : ص117 - 118 .

ص:243

بکلا قسمیه من الأصل والعکس ، بخلاف الموسّعین وبین ما له حکم الوجوب وبین ما لیس له إلاّ الإباحة أو الاستحباب أو الکراهة ، لتقدّم ما هو الواجب قطعاً فی الأخیر، وعدم وجود تزاحم من حیث الزمان فی الأوّل منهما، لإمکان الامتثال فی الزمانین طولاً، کما هو مقتضی التوسعة الموجب للتخییر الطولی .

هذا بالنسبة إلی التزاحم .

وأمّا بالنسبة إلی التبعیّة بین الأمر بالشیء والنهی عن الضدّ، فیکون الحقّ مع الشیخ الأعظم ، ولعلّه متّفق فی ذلک مع المحقّق القمّی أیضاً ، لأنّه رحمه الله لاحظ حیث التزاحم لا حیث التبعیّة بین الأمر والنهی ، فالأمر واضح لا خفاء فیه .

الأمر الخامس : فی بیان المقصود من مفردات الجملة المصدرة بها عنوان البحث وهو: (الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه) 1 - الأمر: أنّ المراد من (الأمر) هو الأعمّ من النفسی والغیری والأصلی والتبعی .

بل قد یُقال : إنّ الأمر اللفظی غیر مقصود ، لوضوح أنّ النزاع جارٍ حتّی فی الوجوب المستفاد من دلیل لبّی کالإجماع والسیرة والعقل ، أو من لفظی غیر أمری کالجمل الخبریّة من الفعلیّة والاسمیّة ک- (یجب) أو (واجب) وأمثال ذلک ، فلفظ الأمر فی العنوان مشیر إلی کلّ ما یستفاد منه الوجوب بأیّ طریقٍ کان .

2 - الشیء: کما أنّ المراد بالشیء هو الأعمّ من الفعل والترک لا خصوص الفعل فقط .

3 - یقتضی: المراد من الاقتضاء هنا یکون هو الأعمّ من دعوی العینیّة بین الأمر بالشیء مع النهی عن الضدّ، أو الجزئیّة، أو الالتزام اللفظی فیما إذا کان اللاّزم هو البیّن بمعنی الأخصّ، أی ما إذا کان تصوّر الملزوم مستلزماً لتصوّر اللاّزم أو

ص:244

الالتزام العقلی، وهو اللاّزم البیّن بالمعنی الأعمّ، أی کان تصوّر اللاّزم بعد تصوّر الملزوم، وتصوّر النسبة وهی الملازمة .

أو کان اللاّزم غیر البیّن ؛ أی ما لا یلزم تصوّر اللاّزم کذلک أیضاً .

والظاهر أنّ المقصود فی العقلی هنا هو البیّن بالمعنی الأعمّ کما لا یخفی .

أو کان الاقتضاء بمعنی المقدّمیّة، وهو علی وجهین:

تارةً: کون عدم وجود الضدّ مقدّمة لوجود الضدّ الآخر .

واُخری: أن یکون وجود الضدّ مقدّمة لعدم الضدّ الآخر .

4 - الضدّ: کما أنّ المقصود من لفظ الضدّ قد یکون هو الضدّ العام ، وقد یکون الضدّ الخاصّ . والضدّ العام یتصوّر علی وجهین :

تارةً: بمعنی ترک الشیء کما هو المشهور منه .

واُخری : أحد الأضداد الوجودیّة لا بعینه .

والمراد من الضدّ الخاصّ هو أحد الأضداد الوجودیّة علی نحو التعیین کالأکل والشرب وغیرهما بالنسبة إلی الصلاة .

فالضدّ الذی وقع فیه النزاع کثیراً، کان فی أحد من الأمرین من الضدّ العام بمعنی الترک ومن الضدّ الخاصّ .

فالأقوال فی الأوّل منهما تکون خمسة :

قولٌ: ینفی الاقتضاء رأساً، وهذا هو صریح العضدی والحاجبی والمنسوب إلی العمیدی وجمهور المعتزلة، وکثیر من الأشاعرة .

والثانی: الاقتضاء علی وجه العینیّة، علی معنی أنّ الأمر بالشیء والنهی عن

ص:245

ترکه عنوانان متّحدان ممتازان بحسب المفهوم .

والثالث: الاقتضاء علی وجه التضمّن بأن یکون الأمر بالشیء متضمّناً لطلب الفعل ، مع المنع من الترک .

والرابع: الالتزام اللفظی، أی لفظ الأمر یدلّ بالملازمة علی النهی عن ترکه .

والخامس: الالتزام العقلی أی هو یحکم بذلک بعد ورود الأمر، کما سیتّضح لک تفصیل ذلک لاحقاً.

أقول: إذا عرفت الاُمور الخمسة المتقدِّمة، فلنشرع فی أصل المسألة، ونقول :

کلامنا فی الضدّ یکون فی مقامین :

تارةً : فی الضدّ الخاصّ .

واُخری : فی الضدّ العام .

والمراد من الخاصّ هنا، هو أحد الأضداد الوجودیّة تعییناً ، أو الجامع بینها لا بعینه الذی قد عرفت أنّه قد یسمّی بالضدّ العام .

***

الکلام فی المقام الأوّل: فقد استدلّ جماعة علی الاقتضاء فی الضدّ الخاصّ بأحد معنییه بوجهین :

الوجه الأوّل : أنّ ترک أحد الضدّین یکون مقدّمة للضدّ الآخر ، فإذا کان أصل الضدّ واجباً، فمقدّمته - وهو ترک الضدّ - أیضاً واجب، لأنّ مقدّمة الواجب واجبة ، فإذا کان الترک واجباً فالفعل لا محالة یکون محرّماً ، وهذا معنی النهی عن الضدّ.

ویمکن أن یوجّه الاستدلال بأحسن من ذلک بأن یُقال :

ص:246

إنّ العلّة التامّة لوجود شیء لا تتحقّق إلاّ بعد تحقّق مقتضاها وشرائطها وعدم مانعها ، وکان الاقتضاء حینئذٍ مؤثّراً فی التأثیر فی المقتضی ، والشرط مصحّحاً لتأثیر الفاعلیّة فی اقتضائه ، وعدم المانع هو الذی له دخل فی فعلیّة تأثیر المقتضی ، فإذا حصلت تلک الثلاثة ، فالعلّة التامّة تؤثّر فی المعلول وتوجده . وأمّا بانتفاء إحدی هذه الثلاثة فیزول التأثیر .

إذا عرفت ذلک، ثبت أنّ عدم الضدّ المسمّی بعدم المانع یعدّ من مقدّمات وجود الضدّ ، لأنّ کلّ منهما یکون مانعاً عن الآخر، وإلاّ لم یکن بینهما تمانع وتضادّ .

وأمّا وجوب مقدّمة الواجب، فقد مضی بحثه فی البحوث السابقة فلا نعید . فإذا کان الترک واجباً فیکون ترک هذا الترک المسمّی بفعل الضدّ حراماً ، فهذا معنی قولنا إنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه ، فبوجوب الإزالة تحرم الصلاة، والنهی فی العبادة موجب لفسادها ، وهذا هو المطلوب .

أقول: ولکن الاستدلال بکلتا مقدّمتیه ممنوعة . واُجیب عنهما وهو المستفاد من حاصل کلام صاحب «الکفایة» قدس سره :

أوّلاً : أنّ مجرّد استحالة الاجتماع فی الضدّین فی موضوع واحد، لا یوجب التمانع بینهما، بأن یعدّ کلّ منهما مانعاً عن الآخر لیکون عدم کلّ واحد منهما مقدّمة لوجود الآخر ، لأنّ المانع والممنوع أیضاً یستحیل اجتماعهما، مع عدم کون الضدّ من المانع الذی لابدّ من عدمه مقدّمة لوجود الضدّ، إذ لا منافاة بین أحد المعنیین وما هو نقیض الآخر وبدیل له یعدّان فی مرتبة واحدة .

وفیه: الإنصاف عدم تمامیّة هذا الجواب، لوضوح أنّ وقوع التضادّ بین

ص:247

الأمرین، واستحالة اجتماع کلٌّ مع الآخر کان من جهة وجود التمانع بینهما ، إذ من الواضح أنّ المانع والممنوع أیضاً لا یمکن اجتماعهما ، فنفی التمانع بینهما لیس بمتین .

فالأولی فی الجواب أن یُقال : إنّا لا نسلّم أنّ کلّ مانع وممنوع لابدّ أن یکون عدم أحدهما متقدِّماً علی الآخر فی جمیع الموارد ، بل إذ ینقسم التمانع إلی قسمین :

1 - ما یکون عدم ذلک المانع مقدّمةً لوجود شیء لو سلّمنا تقدّمه فی أصله .

2 - ما یکون التمانع بینهما من جهة استحالة وجودهما معاً، من دون أن یکون له تقدّم فی أحدهما علی الآخر ، نظیر التمانع الموجود بین الضدّین ، بل وهکذا بین النقیضین حیث لا تقدیم لأحدهما علی الآخر ، بل یکون وجود أحد الضدّین وأحد النقیضین فی مرتبة عدم الضدّ الآخر ، وبدیل النقیض الآخر مع وجود التمانع فیهما .

مع أنّ التأمّل فی التمانع ربما یمکن أن یوصلنا إلی أنّا لا نسلّم کون عدم المانع مقدّماً علی وجود الممنوع رتبةً أصلاً ، بل مقتضی التمانع لیس إلاّ استحالة الاجتماع فی زمان واحد ومحلّ فارد ، فلا غرو بالالتزام بأنّ المتضادّین بینهما تمانع من دون لزوم أن یکون أحدهمامتقدّماًعلی الآخر،ولعلّه مرادصاحب «الکفایة» من إنکار أصل لزوم تقدّم عدم الضدّ علی وجود الضدّ الآخر ، واعتبارهما فی مرتبة واحدة، إذ لا یکون ذلک مقتضی التمانع لا إنکار أصل التمانع .

وثانیاً : قد اُجیب عن الاستدلال بأنّ الوجدان حاکم بأنّه مهما حصل له

ص:248

الإرادة لإتیان ضدّ وهو المأمور به یحصل له فی هذا الزمان إرادة ترک ضدّه، أی المکلّف فی زمان إرادة إتیان إزالة النجاسة عن المسجد، یحصل بها ترک إتیان الصلاة ، فیکون الإزالة وترک الصلاة معاً معلولین لعلّة واحدة، وهی الإرادة من دون تقدّم لأحدهما علی الآخر حتّی یکون مقدّمة له ، وکذلک الأمر فی النقیضین حیث أنّه فی زمان إرادة وجود النقیض، یحصل له ترک الآخر أی بدیله وهو عدمه فی عرض واحد، من دون تقدّم لأحدهما علی الآخر ، مع أنّه لو کان التقدّم فیه مفروضاً لما أمکن أن یکونان معلولین لعلّة واحدة، لاستحالة انفکاک أحد المعلولین عن علّته ولو بلحظة .

وثالثاً : أنّه لو کان التنافر والتعاند بین وجود الضدّ وعدم الآخر مستلزماً لتقدّم عدم الضدّ علی وجود الضدّ، من جهة تقدّم عدم المانع علی وجود الممنوع ، فلابدّ من الالتزام أیضاً بأنّ وجود أحد الضدّین یکون مقدّماً علی عدم الضدّ الآخر ؛ لأنّ التعاند والتنافر إن کان موجوداً کان من الطرفین ، والالتزام بجوازه یستلزم أمراً محالاً ؛ لأنّ معناه حینئذٍ أن یکون شیء واحد من جهة فی مرتبة سابقة ، واُخری فی مرتبة لاحقة ؛ لأنّ وجود الضدّ بما أنّه معلول لابدّ أن یکون فی رتبة متأخّرة عن عدم الضدّ الذی کان فی رتبة عدم المانع الذی کان سابقاً ، وبما أنّ وجود الضدّ یکون مقدّماً علی عدم الضدّ لأجل المطاردة ، فلابدّ أن یکون فی رتبةٍ سابقة . وکیف یمکن فرض وجود شیء فی رتبتین متفاوتتین سابقاً ولاحقاً ، وهو أمرٌ مُحال ، فلابدّ أن یکون کلاهما فی عرض واحد ومرتبة واحدة، حتّی لا یوجب هذا الإشکال .

ورابعاً : أنّه لو کان وجود الضدّ - وهو الإزالة - موقوفاً علی عدم الضدّ

ص:249

الآخر، من باب توقّف وجود المعلول علی عدم المانع ، فیلزم أن یکون عدم الضدّ الآخر أیضاً موقوفاً علی وجود الضدّ وهو الإزالة، من جهة توقّف عدم کلّ شیء علی وجود المانع لذلک الشیء . وهذا هو الدور المحال، لأنّه یلزم أن یکون الشیء الموقوف علیه موقوفاً علی شیء آخر ، وهذا هو الذی استشکله المحقّق السبزواری قدس سره ونقله صاحب «الکفایة» عنه، وتبعه علیه المتأخّرین فی کتبهم .

أقول: ولکن قد أجاب عن هذا الإشکال المحقّق الخوانساری قدس سره ، وأیّده وأکّده صاحب «الکفایة» قدس سره وحاصله :

إنّ التوقّف وإن کان من الجانبین إلاّ أنّه فرق بینهما ، إذ التوقّف من جانب وجود الضدّ وهو الإزالة علی عدم الصلاة فعلیّ ، لأنّ توقّف وجود کلّ معلول علی عدم المانع یکون فعلیّاً ؛ لأنّ عدم المانع إنّما یکون مرتبة بعد تمامیّة وجود المقتضی والشرط، فهو یکون فعلیّاً ، هذا بخلاف التوقّف من جانب العدم إذ هو تقدیری، بمعنی أنّه لو فرض ثبوت المقتضی فی الضدّ مع بقیّة شرائطه غیر عدم المانع، کان عدمه حینئذٍ مستنداً إلی وجود هذا الضدّ ومتوقّفاً علیه ، ولعلّ فرض وجود المقتضی لذلک الضدّ مع وجود هذا الضدّ مُحال ، إذ لیس المقتضی لذلک الضدّ کالصلاة مثلاً إلاّ الإرادة، وإرادة الصلاة مع وجود الإزالة المضادّة لها ممّا لا یجتمعان ، فإنّ وجود الإزالة فرع الإرادة المتعلّقة بها ، ومع وجود الإرادة المتعلّقة بها وتحقّقها فی الخارج، کیف یعقل تحقّق وجود الإرادة المتعلّقة بالصلاة؟

لا یُقال: هذا إنّما یصحّ إذا کانت الإرادة من شخص واحد، إذ لا یعقل تعلّق الإرادتین عن شخص واحد إلی أمرین متضادّین فی عرض واحد، بخلاف ما لو کان فی الطول، حیث أنّه ممکن کما لو تعلّقت إرادته إلی حرکة شیء فی زمان

ص:250

وإرادته إلی سکونه فی زمان آخر .

وأمّا تعلّقهما إلی الحرکة والسکون فی عرض واحد فمحال ، وهذا بخلاف ما لو کانت الإرادة منتسبةً إلی شخصین ، فحینئذٍ کما یصحّ تعلّق إرادة کلّ واحدٍ منهما بالحرکة والسکون فی الطول وفی الزمانین ، هکذا یصحّ تعلّقهما إلی کلّ منهما فی زمان واحد وعرض فارد ، فإذا أراد أحدهما حرکة شیء مثلاً والآخر سکونه، فالمقتضی لکلّ من الضدّین موجود ، فإذا تحقّق أحد الضدّین لغلبة الإرادة المتعلّقة به، کان عدم ذاک الضدّ حینئذٍ مستنداً إلی وجود هذا الضدّ لا إلی فقد المقتضی ، فیعود المحذور وهو الدور .

لأنّه یُقال: هاهنا أیضاً مستند عدم ذاک الضدّ إلی عدم قدرة المغلوب فی إرادته، إذ القدرة هی شرط فی تحقّق المراد ، لوضوح عدم معقولیّة تعلّق الإرادة بشیء لا یکون مقدوراً ، فالشیء المغلوب الذی کان متعلّقاً لإرادة الشخص یکون معدوماً ، لا لأجل وجود المانع ، بل لأجل فقدان شرطه وهو القدرة .

وبعبارة اُخری : أنّ عدم الضدّ حینئذٍ إنّما هو من جهة نقصان المقتضی لا إلی وجود المانع وهو الضدّ، الذی کان متصوّراً ، فالتوقّف من هذا الطرف وهو طرف العدم منتفٍ رأساً ، فالتوقّف دائماً یکون من طرف واحد، وهو طرف الوجود لا فی الطرفین حتّی یلزم الدور ، بل قد یمکن دعوی استحالة انتهاء عدم وجود الضدّ إلی وجود الضدّ الآخر ، لأنّ الانتهاء منوط لتحقّق الإرادة إلی عدم هذا الضدّ، مع وجود الإرادة إلی وجود الضدّ الآخر .

وجه الاستحالة: ما عرفت من أنّه لو کانت من شخص واحد کانت استحالته من جهة عدم إمکان تعلّق الإرادة إلی أمرین متضادّین فی عرضٍ واحد وإن کانت

ص:251

من شخصین، وإن کان من جهة أصل التعلّق غیر مستحیل ، إلاّ أنّ شرط الإرادة - وهو القدرة علی المتعلّق للمغلوب - مفقود. ففی کلا الموردین یکون مستند العدم فی الضدّ الآخر منتهیاً إلی فقدان المقتضی ، أو إلی نقصانه ، کما فی الثانی، لا إلی وجود المانع حتّی یستلزم الدور کما لا یخفی .

هذا غایة الکلام فی التفصّی عن إشکال الدور .

ولکن یمکن الإشکال علی هذا التفصّی بوجهین :

أحدهما : لصاحب «الکفایة» وتبعه کثیر من الاُصولیّین، وذکروه فی کتبهم ، وهو أنّ التفصّی عن الدور وإن کان قد ارتفع بکون التوقّف من طرف الوجود فعلیّاً، ومن طرف العدم تقدیریّاً ، ولکن مجرّد التوقّف التقدیری من طرف العدم، ممّا یوجب بقاء ملاک الدور، وهو تأخّر الشیء عن نفسه برتبةٍ، حیث أنّ وجود أحد الضدّین متوقّف فعلاً علی عدم ذاک الضدّ المتأخّر عنه برتبة، لتأخّر المعلول عن العلّة رتبةً ، وعدم ذاک الضدّ حیث یصلح أن یستند إلی وجود هذا الضدّ ؛ أی علی فرض کون المقتضی له موجوداً فهو متأخّر عن وجود هذا الضدّ برتبةٍ ، فوجود هذا المعنی یستلزم تقدّم الشیء علی نفسه ، ووجود الشیء فی زمان واحد فی رتبتین من المتأخّر والمتقدّم، ممّا یقتضی تحقّق ملاک الدور وهو مستحیل، کما لا یخفی .

ثمّ قال صاحب «الکفایة» بعبارة اُخری: أنّ المتفصّی لو منع حتّی عن صلوح هذا الضدّ - لاستناد عدم ذاک الضدّ إلیه ، بدعوی أنّ صدق القضیّة الشرطیّة کقولک لو کان المقتضی لذلک الضدّ موجوداً لاستند عدمه إلی وجود هذا الضدّ - لا یقتضی صلاحیّة هذا الضدّ لاستناد عدم ذاک الضدّ إلیه، لعدم اقتضاء صدق القضیّة الشرطیّة صدق طرفیها، کما لا یقتضی صدق قوله تعالی : «لَوْ کَانَ فِیهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه ُ

ص:252

لَفَسَدَتَا»(1) صدق طرفیها . فهذا مساوقٌ لمنع مانعیّة الضدّ من أصلها ولو شأناً، وهو یوجب عدم التوقّف رأساً ولو من طرف الوجود ، إذ لا وجه لتوقّف وجود هذا علی عدم ذاک إلاّ مانعیّة ذاک ، فإذا منع مانعیّة الضدّ، فلا وجه لتوقّف وجود هذا علی عدم ذاک أیضاً .

ولقد أجاب الشیخ الأعظم فی «تقریراته» عن التفصّی بوجهٍ آخر:

(بأنّ التقریب الذی ذکره المحقّق الخوانساری وإن کان یندفع به الدور، إلاّ أنّه ینفی التوقّف من الطرفین رأساً ، فإن توقّف وجود أحد الضدّین علی عدم الآخر، لیس إلاّ لأجل علّیّة وجود ذاک الضدّ لانتفاء هذا الضدّ ، فإنّ مقدّمیّة عدم ذاک الضدّ جاءت من قبل ذلک ، فإذا منع الخصم استناد عدم أحد الضدّین إلی وجوب الآخر، ونفی علّیة أحد الضدّین لعدم الآخر، فحینئذٍ لم یتوقّف وجود هذا علی عدم ذاک، کما لم یتوقّف عدم ذاک علی وجود هذا) ، انتهی کلامه علی ما حکی عنه(2) .

وفیه: ولکن الإنصاف أنّ کلام الشیخ لا یخلو عن إشکال :

أوّلاً: لأنّ الخصم لم یفرض وجه توقّف وجود الضدّ علی عدم الضدّ الآخر، کون ضدّ الآخر علّة لانتفاء هذا الضدّ، لوضوح أنّ الصلاة بنفسها لو کانت علّة لانتفاء الإزالة، لزم منها حینئذٍ أن تکون مقدّمة علی عدم الضدّ ، وهو لا یناسب مع کونه متأخّراً عن عدم الضدّ الذی فرض کونه من قبیل عدم المانع .

وثانیاً : أنّ العلّة لانتفاء الضدّ - وهی الإزالة - کانت هی الإرادة المتعلّقة


1- سورة الأنبیاء ، الآیة : 22 .
2- مطارح الأنظار : ص113 .

ص:253

بالصلاة لا نفسها .

وبالجملة: فجوابه لا یخلو عن مسامحة، کما لا یخفی .

وثانیهما : نحن نردّ علی التفصّی المذکور، ونقول أوّلاً:

لا قدرة لذاک التفصّی برفع إشکال الدور، ولا یکون التوقّف من الطرف الآخر هو عدم الضدّ لو سلّمنا وجوده إلاّ فعلیّاً .

توضیح ذلک : أنّ وجود الضدّ وهو الإزالة کما کان وجه تحقّقها هو وجود المقتضی، وهو الإرادة، ووجود شرطه وهو القدرة فی الإرادة، وعدم تحقّق المانع، بحیث لو فقد أحد هذه الاُمور لفقد تحقّق وجود الضدّ ، هکذا یکون فی طرف عدم الضدّ، حیث أنّ عدمه متوقّف علی عدم وجود المقتضی، وعدم وجود شرطه وهو القدرة، ووجود المانع ، ومن المعلوم أنّ صدق المانعیّة بالفعل علی وجود الضدّ وهو الإزالة، لا یتحقّق إلاّ أن یکون وجود المقتضی وشرطه موجوداً، وإلاّ لما صدق المانعیّة فعلاً .

وعلیه فلا فرق فی طرفی الوجود والعدم ، إلاّ أنّ الفرق بینهما من حیث الوجود والعدم حیث أنّ الوجود یحتاج فی وجوده إلی تحقّق المقتضی ووجود الشرط وفقد المانع ، ولذلک کان فعلیّاً، بخلاف طرف العدم حیث أنّ تحقّقه لا یکون إلاّ بتحقّق أحد الاُمور الثلاثة من فقد المقتضی أو فقد الشرط أو وجود المانع، لا بتحقّق اثنین منهما أو الثلاثة ، فلذلک یطلق علیه التقدیری ، وإلاّ کفی فی صحّة إثبات انتساب وجود المانع وصحّة إسناده إلیه، مجرّد فرض وجود المقتضی ووجود الشرط، وکان العدم حینئذٍ مستنداً إلی وجود المانع . فعلی هذا یکون الاستناد فعلیّاً کما کان کذلک فی طرف الوجود .

ص:254

وبالجملة: فالأولی والأحسن فی الفرار والتفصّی عن الإشکال إنکار أصل المقدّمیة بین أحد الضدّین وعدم الآخر من الجانبین، کما لا یخفی ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : أنّه علی فرض ثبوت المقدّمیّة من الطرفین، فلابدّ أن نلاحظ الوجود فی کلّ واحد من الجانبین، حیث أنّ وجوده - أی وجود الإزالة - متوقّف علی عدم الصلاة ، فلازمه کون وجود الصلاة أیضاً موقوفاً علی عدم الإزالة ، لا ملاحظة التوقّف فی عدم الصلاة مع وجود الإزالة، حتّی یقال إنّه تقدیری ؛ لأنّ العدم لیس بشیء حتّی یلاحظ فیه التوقّف علی وجود الإزالة ؛ فیکون عدم الشیء هنا عدماً بالسلب التحصیلی لا بالعدم المحمولی ولا المعدولی ، فلا یصحّ أن یقال بأنّ العدم هنا ثابت بل العدم هنا بمعنی أنّه لیس بشیء، ولیس له حظّ من الوجود ، فالتوقّف إن لزم تحقّقه لابدّ من أن یکون بین الضدّین بحسب وجودهما إذا لوحظ مع الآخر ، لا أن یکون ملحوظاً بین الوجود والعدم ، فإذن یرجع الکلام إلی أنّ التوقّف حینئذٍ مستلزم لثبوت الدور وهو محال، کما لا یخفی .

مضافاً إلی أنّ العدم لو لم یکن بشیء أصلاً، فکما لا یقع موقوفاً فلا یقع موقوفاً علیه ، فکیف یصحّ أن یُقال : بأنّ وجود الإزالة موقوف علی عدم الصلاة کذلک یقال فی عکسه، إذ الأعدام سواءً کانت مطلقة أو مضافة لا تکون من الاُمور الحقیقیّة والواقعیّة ، بل هی معدودة من الاُمور الذهنیّة الاعتباریّة فلا تقارن ولا تأخّر ولا تقدّم فیها ، فعلیه لا یصحّ ما فی «الکفایة» من ملاحظة کمال الملائمة بینه وبین وجود الضدّ ، ولابدّ أن یجامع معه لتقارنهما، وقد عرفت ممنوعیّته.

وأمّا إذا لم نقل بالتوقّف ، فیصحّ أن یُقال :

إنّ التزاحم بین الضدّین کان من جهة کون المقتضی فی أحدهما مزاحماً مع

ص:255

المقتضی فی الآخر، بحیث یمنع عن تأثیره ، إلاّ أن یکون المانع نفس وجود الضدّ، مثلاً یکون شدّة الشفقة علی الولد الغریق وکثرة المحبّة له، تمنع عن أن یؤثّر ما فی الأخ الغریق من المحبّة والشفقة لإرادة إنقاذه لأجل المزاحمة فینقذ الولد دونه .

فظهر ممّا ذکرنا، أوّلاً : أنّ العدم المنتسب إلی الضدّ لیس بشیء، حتّی یُقال بأنّه کان فی رتبة وجود الضدّ أم لا .

وثانیاً : لو سلّمنا أنّ له حظّ من الوجود - کما لا یبعد ذلک هنا، لأنّ عدم المانع جزءٌ من العلّة برغم أنّ الصحیح کون وجوده مانعاً - فیُقال حینئذٍ بما التزم به المحقّق الخراسانی من : (أنّ عدم الضدّ الملائم للشیء المناقض لوجوده المعاند لذاک، لابدّ أن یجامع معه من غیر مقتض لسبقه) ، بل قد عرفت ما یقتضی عدم سبقه .

أقول: ومن هنا ظهر أیضاً فساد ثلاثة أقوال، وصحّة قول واحد :

وأمّا القول الصحیح فهو عدم التوقّف رأساً من الطرفین، فهو موافق لرأی کثیر من الاُصولیّین من المتأخّرین کما علیه الخراسانی، والشیخ الأعظم والنائینی والعراقی والبروجردی والحکیم والبجنوردی وغیرهم ، وکان جیّداً عندنا .

وأمّا الأقوال الفاسدة، وهو القول بالتفصیل الذی التزم به المحقّق الخوانساری بأن یکون التوقّف فی طرف رفع الضدّ الموجود، حیث یکون متوقّفاً علیه لوجود الضدّ الآخر ، هذا بخلاف عدم الضدّ المعدوم حیث لا یکون متوقّفاً علی وجود الضدّ ؛ لإمکان ارتفاع الضدّین ، فعدمیّة الضدّ المعدوم لا یکون متوقّفاً علی وجود الضدّ الآخر، ببیان أنّ المحلّ لا یخلو :

إمّا أن یکون خالیاً عن کلا الضدّین، أو مشغولاً بأحدهما .

ص:256

فعلی الأوّل: فحیث وجد المقتضی وشرطه ولأیّهما وجد بلا إشکال، فلا یکون حینئذٍ وجود ذلک الحاصل متوقّفاً علی عدم ذلک الآخر ، فلا توقّف فی هذه الصورة أصلاً من الطرفین ، فالتفصیل المنسوب إلیه یکون بین وجود أحد الضدّین ، فالتوقّف من طرف عدم الضدّ الموجود فیه موجود کما سیشیر إلیه بقوله : (وعلی الثانی وإلاّ فلا توقّف رأساً) .

وعلی الثانی: فلا إشکال فی أنّه مع وجود الضدّ لا یقبل الآخر فی عرضه ، لعدم قابلیّة المحلّ لعروض کلا الضدّین ، فلا محالة یتوقّف وجود الضدّ الآخر علی ارتفاع هذا الضدّ الموجود ، فهذا هو التفصیل المنسوب إلی المحقّق ، بل ربما ینسب إلی الشیخ الأنصاری قدس سره ، هذا .

وقد ذکر صاحب «المحاضرات» وجه فساده بقوله:

(إنّ صحّة هذا التفصیل منوطٌ إلی أنّ الأشیاء فی بقائها محتاجة إلی العلّة، کما تحتاج فی حدوثها إلیها أم لا؟

إن قلنا بعدم الاحتیاج فی البقاء، فیصحّ هذا التفصیل، وإلاّ فلا .

ثمّ قال فی توضیحه : بأنّ الحادث إذا کان فی بقائه غیر محتاج إلی المؤثّر، کان وجود الحادث المستغنی عن العلّة مانعاً عن حدوث ضدّه ، فلا محالة یتوقّف حدوث ضدّه علی ارتفاعه .

وأمّا إذا کان الحادث محتاجاً فی بقائه إلی المؤثّر :

فإن لم یکن لضدّه مقتضٍ، فعدمه یستند إلی عدم مقتضیه .

وإن کان له مقتضٍ ولم یکن شرطه متحقّقاً، فعدمه یستند إلی عدم شرطه.

وإن کان شرطه أیضاً موجوداً ، ومع ذلک کان معدوماً، فهو مستند إلی وجود

ص:257

مقتضی البقاء المانع من تأثیر مقتضی ضدّه، إذ لا فرق بین الضدّ الموجود وغیر الموجود فی أنّ وجود الشیء لا یتوقّف علی عدم ضدّه ، بل یتوقّف علی عدم مقتضی ضدّه، إذا کان مقتضی الشیء وشرطه موجوداً فی الخارج .

إلی أن قال بعد تفصیلات کثیرة : وعلی ضوء هذا البیان قد اتّضح أنّه لا فرق بین الضدّ الموجود والضدّ المعدوم ، فکما أنّ الضدّ المعدوم یحتاج فی حدوثه إلی سبب وعلّة ، کذلک الضدّ الموجود یحتاج فی وجوده فی الآن الثانی والثالث وهکذا إلی سبب وعلّة ، ولا یستغنی عنه فی لحظة من لحظات وجوده، ونسبة حاجة الضدّ الموجود فی بقائه إلی السبب والعلّة والضدّ المعدوم فی حدوثه إلی ذلک علی حدٍّ سواء) ، انتهی موضع الحاجة(1) .

أقول: ولا یخفی ما فی کلامه من الإشکال :

أوّلاً: لأنّه إذا فرض کون حدوث کلّ حادث یحتاج إلی سبب وعلّة، بلا فرق من تلک الناحیة من کون الحادث بعد حدوثه محتاجاً إلی العلّة أو مستغنیاً عنها ، فی أنّ حدوث الضدّ المعدوم یحتاج فی حدوثه إلی وجود المقتضی ، ومن المعلوم أنّه مع وجود المقتضی للضدّ الموجود ولو باقتضائه حدوث بقائه إلی أن یأتی اقتضائه عدمه ، فلا یعقل تعلّق الاقتضاء بضدّه أیضاً، لعدم إمکان الجمع بین الاقتضائین حدوثاً وبقاءاً .

ومن هنا ظهر فساد کلامه القائل : (وإن کان له مقتض ولم یکن شرطه متحقّقاً، فعدمه یستند إلی عدم شرطه)، لما قد عرفت من عدم إمکان تحقّق


1- محاضرات للمحقّق الخوئی : ج3 / 28 - 31 .

ص:258

المقتضی لضدّ الآخر حتّی تصل النوبة إلی عدم الشرط أو إلی وجود المانع إذا کان مقتضی الضدّ الموجود موجوداً، سواءً کان حدوثاً أو بقاءً .

غایة الأمر ، ففی الحدوث یکون أثر التمانع حاصلاً لقیام المقتضی الذی أثره، وهو وجود الضدّ وإن لم یکن السبب بنفسه حاصلاً لو سلّمنا صحّة کلامه . فإمضائه لهذا التفصیل علی هذا التقدیر، لیس علی ما هو علیه، کما لا یخفی .

مع أنّه یرد علیه ثانیاً : بعدم إمکان جریان هذا المعنی فی الاُمور الإرادیّة، لأنّ الفعل الإرادی لا یکون إرادیّاً إلاّ مع بقاء الإرادة ، فعلی هذا کیف یمکن الجمع بین تعلّق الإرادة إلی وجود الصلاة المقتضی لاعدام عدم الصلاة ، وبین تعلّق الإرادة إلی وجود الإزالة المقتضی لاعدام عدم الإزالة ، فکما لا یمکن الجمع بین الضدّین، هکذا لا یمکن الجمع بین المقتضیین .

وبالجملة: فظهر ممّا ذکرنا استحالة ذلک الجمع، سواءً کان المکان خالیاً عن أحد الضدّین أو کان مشغولاً بأحد الضدّین ، وأنّه لیس فی البین توقّف ومقدّمیّة أصلاً .

کما ثبت من خلال ما ذکرناه إنّه لا یصحّ أن یُقال : بأنّ أحد الضدّین یعدّ مانعاً للضدّ الآخر ، لأنّ وصف المانعیّة یتحقّق بعد وجود الاقتضاء لکلیهما والشرط کذلک ، مع أنّک قد عرفت استحالته .

هذا تمام الکلام فی قول المحقّق الخوانساری وجوابه .

وأمّا القول الثانی: الذی کان مثله فی الفساد هو کون التوقّف من الطرفین ، وهذا هو الذی نسب إلی الحاجبی والعضدی وقد عرفت فساده ممّا سبق ، فلا نعید .

ص:259

وأمّا القول الثالث: وهو الالتزام بمقدّمیّة عدم أحد الضدّین لوجوب الآخر دون العکس ، وهذا هو الذی یُنسب إلی المحقّق القمّی، وصاحب الحاشیة والسبزواری وغیرهم ، وقد عرفت فساده.

وأمّا القول الرابع: وهو المنسوب إلی الکعبی، وهو القول بمقدّمیّة الوجود للعدم دون العکس ، وعلی ذلک ابتنی نفی المباح فی الخارج ، لأنّ أحد الأضداد الخاصّة الخارجیّة تکون مقدّمة للتروک الواجبة، کترک الزنا وترک الخمر وترک القمار ونحو ذلک ، فإذا وجب أحد هذه التروک للنهی عن فعلها، وجب فعل أحد الأضداد الخاصّة مقدّمة للترک الواجب ، فإذاً لا مباح فی البین .

وجه الفساد: - مضافاً إلی ما عرفت من إنکار المقدّمیّة والتوقّف - أنّ مقدّمة الواجب لیست بواجبة کما قد مضی بحثها، فضلاً عن عدم اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه، خصوصاً عن مثل هذه الأضداد الخاصّة، کما لا یخفی .

وأمّا وجه عدم التوقّف: لوضوح أنّ ترک الحرام لا یتوقّف علی فعل وجودی، وهو المسمّی بالضدّ ، بل یتوقّف علی الصارف عنه ، والفعل لا یکون إلاّ من المقارنات إن سلّمنا کون ترک الحرام الذی هو أمرٌ عدمیّ أیضاً شیئاً ، وإلاّ کان التعبیر بالتقارن أیضاً مسامحة .

قال المحقّق النائینی: (نعم لا مضایقة فی وجوب الفعل إذا توقّف بقاء الصارف علیه، کما إذا توقّف بقاء الصارف عن الزنا علی الخروج عن الدار، بحیث لولاه لوقع فی الزنا ، فالالتزام بوجوب الخروج فی مثل هذا الفرض لا محذور فیه، ولا یلزم نفی المباح رأساً ، مع أنّه یمکن المنع حتّی فی هذا الفرض، لأنّ الصارف لم یکن واجباً شرعاً حتّی یجب ما یتوقّف علیه ، بل هو فی مرحلة الامتثال الذی

ص:260

یکون الحاکم به العقل ، فتأمّل جیّداً) ، انتهی کلامه(1) .

ولکن نقول : بأنّ وجوب الصارف أیضاً متوقّف، مع الالتزام بأنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه ، والنهی عن الشیء مقتضٍ للأمر بضدّه ، ولو بضدّه العام وهو الترک والفعل ، واُرید من الترک الصارف المعدود أمراً وجودیّاً ، مع أنّه بنفسه أوّل الکلام لإمکان الالتزام بأنّه لیس فی الأحکام إلاّ ما یشمله الدلیل بلسانه بخصوصه من الوجوب والحرمة، سواءً تعلّق بالفعل أو بالترک وطرفه الآخر من الحکم لیس بحکم شرعیّ مجعول بواسطة الشرع ، بل حکمٌ مستنبط بواسطة العقل، بأنّ الشیء إذا کان واجباً فترکه یکون حراماً .

وممّا یؤکّد هذا المنع ما علیه طریقة أهل الحقّ من الالتزام بتبعیّة الأحکام الشرعیّة الواقعیّة للمصالح والمفاسد النفس الأمریة ، فعلیه لیس الحکم إلاّ ما یقتضیه متعلّقه ، فإذا کان ذا مصلحة لازمة، فالحکم وجوبی لا غیر ، وإن کان ذا مفسدة فالحکم تحریمی لا غیر، وهکذا . فالالتزام بالوجوب أو الحرمة لسائر الأشیاء فی متعلّقه، حتّی یُقال باستلزامه انتفاء المباح رأساً کما قاله الکعبی ، بعیدٌ عن الصواب بمراتب عدیدة، کما لا یخفی .

هذا کلّه بناءاً علی أنّ مختار الکعبی لنفی المباح، کان مبنیّاً علی مقدّمیّة الأفعال الخارجیّة لترک الحرام .

ولکن قد توهّم بعض کصاحب «المحاضرات» تبعاً لصاحب «المعالم» کون وجه مختاره (هو الالتزام بالملازمة والتلازم بین أحد الأفعال الخارجیّة مع ترک


1- فوائد الاُصول : ج1 / 312 الطبع الجدید .

ص:261

الحرام، فتدخل فی المسألة القادمة والتی تبحث عن کون وجه القائلین بکون الأمر بالشیء مقتضیاً للنهی عن الضدّ من باب لزوم الموافقة بین الحکمین فی المتلازمین ؛ یعنی إذا کان أحد الضدّین کالإزالة واجباً، فترک الصلاة الذی هو ضدّ آخر یکون لا محالة واجباً، وإلاّ لزم الاختلاف فی الحکمین المتلازمین، وهو غیر جائز) ، انتهی حاصل کلامه(1) .

أقول: الإنصاف عدم تمامیّة هذا التوهّم ؛ لأنّ کثیراً من الاُصولیّین من المتقدّمین وغیرهم ینسبون ذلک إلی الکعبی من طریق المقدّمیّة دون الملازمة ، فالأولی هنا ترک تعرّضه فعلاً وتوجّه الکلام إلی غیره، لأنّه سیأتی ذکره لاحقاً .

هذا تمام الکلام فی محذور المقدّمیّة لأحد الضدّین علی الآخر، وجوداً کان أو عدماً .

هذا، ونوجّه الکلام حینئذٍ فی محذور إثبات المقدّمیّة لترک الضدّ لوجود ضدّ آخر، مضافاً إلی ما عرفت من المحاذیر السابقة المذکورة فی تضاعیف کلماتنا ، فإنّ أساس الأمر فی المقام مبنیٌّ علی الفرق بین الدفع والرفع، واعتبار المقدّمیّة ثابتة فی الرفع بأن یکون وجود الضدّ متوقّفاً علی رفع الضدّ بخلاف حال الدفع حیث لا یکون وجود أحدهما متوقّفاً علی عدم الآخر ، ولا عدم الآخر متوقّفاً علی وجود الآخر ، حیث قد تعرّض تفصیله المحقّق الحائری فی «الدرر» ، فنکتفی بذکره .

قال المحقّق الحائری: فی معرض استدلاله لدفع هذا القول :


1- محاضرات الاُصول : ج3 / 35 .

ص:262

(بأنّ الالتزام بذلک مستلزمٌ مضافاً إلی الدور المتقدّم بحثه، لمحذورین آخرین ، لا بأس بالتعرّض إلیهما بتوضیحٍ منّا :

أحدهما : أنّه إذا ثبت التوقّف من جانب ترک الضدّ ووجود الضدّ الآخر ؛ أی کان وجود الضدّ المعدوم موقوفاً علی ترک الضدّ الموجود، استلزم ذلک أن یکون ترک وجود الضدّ الموجود موقوفاً علی وجود الضدّ الآخر المعدوم ، مع أنّه خلف ؛ حیث فرض الخصم خلافه .

بیان ذلک : إذا فرض کون وجود الضدّ المعدوم متوقّفاً علی ترک ضدّه الموجود، فمقتضی مقدّمیّته لزوم ترتّب عدم ذی المقدّمة، أی عدم وجود الضدّ المعدوم علی عدم المقدّمة، وهو عدم ترک الضدّ الموجود، لأنّه معنی المقدّمیّة والتوقّف ، والمفروض أنّ فعل الضدّ أیضاً متوقّف علی ترک ضدّه الآخر ، ففعل الضدّ متوقّف علی ترک ضدّه، وترک الضدّ متوقّف علی فعل ضدّه، وهو خلف ، فیرجع التوقّف الی الطرفین، فیعود المحذور ، فلا وجه لهذا التفصیل أصلاً .

وثانیهما : أنّه یستلزم محذوراً آخراً، وهو أنّه یوجب أن یکون العدم مؤثّراً فی الوجود ، مع أنّه محال واستحالته من الواضحات ، وإلاّ لأمکن انتهاء سلسلة الموجودات إلی العدم ؛ یعنی بأن تکون علّة وجود الموجودات هو العدم ، مع أنّه محال قطعاً .

بل یمکن أن یُقال بعدم کون فعل الضدّ أیضاً علّة ومؤثّراً فی ترک ضدّه ، فلأنّه لو کان کذلک لزم مع عدمه وعدم موجود یصلح لأن یکون علّة لشیء، إمّا ارتفاع النقیضین، أو تحقّق المعلول بلا علّة ، أو استناد الموجود إلی العدم .

بیان ذلک : أنّه لو فرض عدم الفعل الذی فرضناه علّةً لعدم الضدّ، وعدم کلّ

ص:263

شیء من الممکنات، یصلح لأن یکون علّة لشیء، فلا یخلو الواقع من اُمورٍ :

إمّا القول بوجود ذلک الفعل الذی کان عدمه معلولاً أم لا .

فعلی الأوّل: یلزم استناد الوجود إلی العدم ، إذ المفروض عدم وجود شیء فی العالم یصلح لأن یکون علّة .

وعلی الثانی: إمّا أن نقول بتحقّق العدم المفروض کونه معلولاً وعدمه.

فعلی الثانی یلزم ارتفاع النقیضین .

وعلی الأوّل یلزم تحقّق المعلول بلا علّة ، وکلاهما مستحیل)(1) .

أقول أوّلاً: ما ذکروه من التوقّف فی الرفع دون الدفع المستلزم لتلک المحاذیر، إنّما یصحّ فی الضدّین اللّذین لا ثالث لهما ؛ کالحرکة والسکون إن کان السکون أمراً عدمیّاً لا وجودیّاً ، وکالاجتماع والافتراق وهکذا . وأمّا الضدّین اللّذین لهما ثالث أو أزید، فلا معنی للتوقّف فی واحد بعینه ، إلاّ أن یُقال بالتوقّف فیه بمثل ما سبق فی أحد لا بعینه أیضاً ، فالإشکال فی کون الأحد الغیر المعیّن مقدّمة أو علّة کان أقوی .

وثانیاً : أنّه إذا فرض کون فعل الضدّ هو العلّة، فبعدمه قد یمکن أن یُقال بوجود علّة اُخری لإیجاد ما هو المعدوم من الضدّ، والعلّة هی إرادة الشخص التی تعدّ أمراً وجودیّاً، فلا یکون الوجود مستنداً إلی العدم حینئذٍ کما لا یخفی .

فظهر أنّ أساس القول بالتوقّف بأیّ قسمٍ یعدّ أمراً موهوناً لا یمکن الاعتماد علیه ، واللّه العالم .


1- درر الاُصول للمحقّق الحائری قدس سره : ج1 / 41 الطبع القدیم .

ص:264

هذا تمام الکلام فی الوجه الأوّل، فی الاقتضاء القائلین بوجوده فی الضدّ الخاصّ من باب التوقّف والمقدّمیّة .

وأمّا الکلام فی الوجه الثانی من الاقتضاء: هو الاستلزام.

بأن یُقال : إنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه الخاصّ، من جهة أنّ الضدّین یکونان من قبیل المتلازمین فی الفعل والترک ، ولابدّ من التوافق فی الحکم فی المتلازمین ، فإذا کان أحد المتلازمین محکوماً بحکم من الوجوب أو الحرمة، یلزم أن یکون ملازمه الآخر أیضاً محکوماً بما یوافق حکمه ، والملازمة موجودة بین وجود الضدّ وترک الضدّ الآخر، مثل الإزالة وترک الصلاة ، فإذا کانت الإزالة واجبة فلابدّ أن یکون ترک الصلاة أیضاً واجباً، فیکون فعلها حراماً ، وهذا معنی کون الأمر بالشیء مقتضیاً للنهی عن ضدّه ؛ لأنّه لو لم یکن متوافقاً فی الحکم بین المتلازمین لاستلزم أمراً محالاً وهو التکلیف بالمحال ؛ لأنّه یستحیل أن یکون مع وجوب الإزالة المستلزم لترک الصلاة، کون ترک الصلاة حراماً، لعدم قدرته الجمع بین امتثال وجوب الإزالة وحرمة ترک الصلاة .

قال صاحب «فوائد الاُصول»: إنّ الاستلزام فی الضدّین الّذین لا ثالث لهما کالحرکة والسکون یکون هکذا ، بخلاف ما له ثالث کالسواد والبیاض ، لإمکان الارتفاع فی کلیهما ، فلابدّ أن یکون المفروض فیه هو توافق المتلازمین بین وجود الضدّ وعدم أحد الأضداد، لا عدم وجود ضدّ بخصوصه . هذا ، ولکن لا ملازمة حینئذٍ بین الأمر بالشیء والنهی عن أحد الأضداد .

وفیه: ولکنّ الإنصاف عدم تمامیّة کلامه قدس سره ، ولذا لم یذهب إلی هذا التفصیل أحدٌ من الاُصولیّین ، لأنّ الملاک فی هذه الدعوی هو ملاحظة التلازم بین وجود

ص:265

الضدّ وعدم الضدّ الآخر ، بلا فرق فی هذا التلازم بین کون الضدّ الآخر من الذی له ثالث أو ضدّ لا ثالث له.

نعم ، غایة الأمر یکون الفرق بینهما من جهة التلازم، حیث یکون التلازم بین الطرفین فی الضدّین الّذین لیس لهما ثالث ، أی یکون أحد الضدّین مستلزماً لعدم الآخر ، وعدم الآخر مستلزماً لوجود الضدّ . هذا بخلاف ما له ثالثٌ حیث یکون التلازم فقط بین وجود أحد الضدّین مع عدم الآخر دون العکس ، وهذا ممّا لا أثر له فیما هو المهمّ من مقصدنا، کما لا یخفی .

وبالجملة: فمّما ذکرنا ظهر عدم تمامیّة ما قاله المحقّق النائینی فی «فوائده الاُصول» فی وجه الفرق بینهما بقوله :

(لکن یمکن أن یُقال فی الضدّین الّذین لا ثالث لهما - کالحرکة والسکون والاجتماع والافتراق بناءً علی أن یکون السکون والافتراق وجودیّین - أنّ الأمر بأحد الضدّین یلازم الأمر بعدم ضدّه الآخر ، فإنّ الحرکة وإن لم تکن مفهوماً عین عدم السکون، ولا الاجتماع عین عدم الافتراق مفهوماً ، إلاّ أنّه خارجاً یکون عدم السکون عبارة عن الحرکة، وعدم الافتراق عبارة عن الاجتماع بحسب المتعارف العرفی، وإن کان بحسب العقل لیس کذلک .

إلی أن قال : فیکون حکم الضدّین الذین لا ثالث لهما، حکم النقیضین من حیث أنّ الأمر بأحدهما أمرٌ لعدم الآخر، وإن کان فی النقیضین أوضح، من جهة أنّ عدم العدم فی النقیض هو عین الوجود خارجاً ولیس الأمر فی الضدّین کذلک ، إلاّ أنّ العرف لا یری فرقاً بینهما، والأحکام إنّما تکون مُنزلّةً علی ما هو المتعارف العرفی .

ص:266

فدعوی أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه الخاصّ فیما لا ثالث لهما، لیس بکلّ البعید .

وأمّا فیما کان لهما ثالث، فالأمر بأحد الأضداد لا عقلاً یلازم النهی عن الأضداد الاُخر ولا عرفاً ، إذ لا یکون (صلِّ) بمعنی لا تبع مثلاً، ولا بمعنی لا تأکل حتّی عند العرف .

وتوهّم: أنّه وإن لم یقتض النهی عن واحد من الأضداد الوجودیّة بخصوصه عرفاً ، إلاّ أنّه یقتضی النهی عن الجامع، فیکون ذلک الجامع منهیّاً عنه، فیکون ملاحظة هذا الضدّ المأمور به مع ذلک الجامع، هو حال الضدّین الّذین لا ثالث لهما،

لانطباق الجامع علی الأفراد ، فیسری النهی إلیهما . فیصحّ أن یُقال إنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن الضدّ الخاصّ مطلقاً، سواء کان لهما ثالث أم لا .

فاسدٌ أوّلاً : بأنّ الجامع لیس من الاُمور المتأصّلة حتّی یتعلّق به التکلیف کالکلّی الطبیعی ، بل هو من الاُمور الانتزاعیّة، والنهی عن مثل هذا نهیٌ عن مشأ الانتزاع ، ومنشأ الانتزاع لیس إلاّ أحد الأضداد ، قد عرفت لا ملازمة بین الأمر بالشیء والنهی عن أحدهما .

وثانیاً : أنّ النهی عن الجامع لیس إلاّ بلحاظ مرآتیّته عن الأفراد ، کما أنّ الأمر کذلک ، لأنّ الکلّی مع صرف النظر عن مرآتیّته لا موطن له إلاّ العقل ، فلا یتعلّق به أمرٌ ولا نهی، ویمتنع امتثاله، وفی المقام یکون المرئی بذلک الجامع إنّما هو الأضداد الخاصّة، والأمر بالشیء لا یلازم النهی عن شیء منها .

فتلخّص: بأنّه قد عرفت أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن النقیض اللاّزم بالمعنی الأخصّ، ویقتضیه بالنسبة إلی الضدّین الّذین لا ثالث لهما باللاّزم بالمعنی

ص:267

الأعمّ، حیث لم یکن بوضوح النقیض کما عرفت . وفی الضدّین الّذین لهما ثالث لا یقتضیه أصلاً .

وأمّا فیما کان بین الشیئین عدم وملکة ، فالظاهر أنّه ملحق بالنقیضین فی الموضوع القابل لهما، حیث أنّ الأمر بأحدهما یلازم النهی عن الآخر باللّزوم بالمعنی الأخصّ ، فالأمر بالعدالة یلزمه النهی عن الفسق، کما لا یخفی) . انتهی کلامه(1) .

أقول: إنّ فی هذا التحقیق مواضع للنظر:

أوّلاً: بما قد عرفت من عدم التفاوت فی القسمین من الضدّین فی الجهة التی وجدت فیها التلازم، وهو کون الأمر بوجود الضدّ ملازماً للأمر بعدم ضدّ الآخر مشخّصاً فیما لا ثالث لهما ، أو الأمر بعدم أحد الأضداد الخارجیّة فیما له ثالث . غایة الأمر کان التلازم فی القسم الأوّل من الجانبین، أی الأمر بالضدّ مستلزم للأمر بعدم الضدّ الآخر ، والأمر بعدم الضدّ الآخر مستلزم للأمر بوجود هذا الضدّ .

هذا ، بخلاف القسم الثانی، حیث یکون التلازم من جانب واحد، فلا یکون الأمر بعدم أحد الأضداد أمراً بوجود الضدّ لإمکان ارتفاع الضدّین فیه دون سابقه .

وثانیاً : أنّ ما قاله المحقّق بأنّ (عدم الضدّ فی القسم الأوّل یکون هو الضدّ خارجاً وإن تغایر مفهوماً ، کما أنّ النقضین یکون عدم النقیض عین البدیل خارجاً، فیکون عدم عدم زید عین وجود زید خارجاً) .

بعیدٌ عن الصواب ؛ لأنّه :


1- فوائد الاُصول للمحقّق النائینی : ج1 / 304 .

ص:268

إن قلنا بأنّ الأعدام - ولو المضاف منها - لیس بشیء أصلاً، فلا معنی لفرض العینیّة والاتّحاد حینئذٍ أصلاً ؛ لأنّ ذلک إنّما یصحّ فیما کان ذلک شیئاً .

وإن قلنا بأنّ الأعدام المضافة لها حظّ من الوجود، فلا وجه لدعوی العینیّة مع الوجود ، بل لابدّ أن یدّعی التلازم بینهما ؛ بأن یکون وجود الضدّ والنقیض ملازماً لعدم الضدّ الآخر، وعدم النقیض الآخر .

فالأولی أن فنقول : إنّ دعوی اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه من باب الاستلزام موقوف علی إثبات اُمور ثلاثة :

الأمر الأوّل : هو القول بأنّ وجود کلّ من العینین مع عدم ضدّه یکون متلازماً، لامتناع وجود الضدّ فی محلّ قد وجد فیه الضدّ الآخر ، لمکان الضدّیة والمطاردة ، فإذا لم یمکن تحقّق وجود الضدّ الآخر، فلابدّ أن یتحقّق فی ذلک عدم الضدّ الآخر، لئلاّ یلزم ارتفاع النقیضین ، وحیث لا یکون انطباق العدم علی الوجود وصدقه علیه ذاتیّاً، فلابدّ أن یکون عَرَضیّاً بنحو التلازم فی الصدق، وهو المطلوب ، ولیس المقصود من الملازمة إلاّ هذا .

الأمر الثانی : أنّ المتلازمین لابدّ أن یکونا محکومین بحکم واحد ؛ أی لابدّ بالتوافق بین حکمیهما ؛ لأنّ ترک الضدّ وإن کان واجباً فیما إذا کان المطلوب وجوب أصل وجود الضدّ ، وإلاّ یلزم أن یکون ترک الضدّ جائز الترک لعدم خلوّ الواقعة عن الحکم، وجواز ترک الترک مشترک فی غیر الحرمة من الأحکام الباقیة ، وحینئذٍ:

إن کان وجوب الضدّ باقیاً بوجوبه، لزم التکلیف بالمحال، لعدم قدرة العبد علی امتثال وجوب الإزالة مع جواز ترک ترک الصلاة أی الإتیان بالصلاة ؛ لأنّ

ص:269

الإتیان بها دافعٌ للإزالة ولا یمکن جمعهما معاً علی الفرض .

وإن لم یکن وجوب الإزالة باقیاً بحاله فی حال الإتیان بالصلاة، التی کان هو ترک الترک، فخرج وجوب الواجب عن کونه واجباً مطلقاً ؛ لأنّ وجوبه کان مقیّداً بعدم الإتیان بالصلاة، وهو خلف ، کما لایخفی .

الأمر الثالث : هو إثبات کون الأمر بالشیء مقتضٍ للنهی عن ضدّه، ولو کان المراد هو الضدّ العام فی مطلق نقیض المأمور به کما تقدّم ، وهو هنا فعل الصلاة .

فبعد إثبات هذه الاُمور، یثبت الاستلزام .

أقول: ولکن الإشکال وارد فی بعضها لو لم یکن وارداً فی کلّها :

فأمّا عن الأوّل: فقد أجاب عنه المحقّق الخمینی بقوله: (إنّ نقیض کلّ شیء رفعه لا إثبات هذا الرفع ، فنقیض قولنا یصدق علیه السواد هو أنّه لا یصدق علیه السواد إلاّ أنّه یصدق علیه عدم السواد ، وکم من فرق بین السالبة المحصّلة وبین الموجبة المعدولة ، أو الموجبة السالبة المحمول ، کما إذا قلت یصدق علیه أنّه لیس بسواد .

إلی أن قال : یمتنع أن یکون العدم صادقاً علی الوجود ومتلازماً له ، کیف وأنّه لا شیئیّة له حتّی یکون ملازماً لشیء ، أضف علیه أنّ التلازم فی الوجود یقتضی عروض الوجود للمتلازمین، فیلزم اجتماع النقیضین) . انتهی کلامه(1) .

وفیه: قد عرفت فیما مضی أنّ الأعدام المضافة لها حظّ من الوجود، ومن تلک الجهة تری صحّة انتساب بعض الأوصاف إلیها من التقدّم والتأخّر والتقارن ، ولعلّ وجه الصحّة کان بلحاظ حال متعلّقها، حیث یُضاف العدم إلیه ، ولذلک یطلق


1- تهذیب الاُصول : ج1 / 234 .

ص:270

هذه إلی العدم أیضاً بالعنایة ، ومن الأوصاف العارضة هو التلازم ؛ أی أن یکون عدم الضدّ وعدم النقیض ملازماً مع وجود الضدّ والنقیض ، إلاّ أنّ الإشکال الذی یطرح نفسه فی المقام هو أنّ التلازم معدود من عوارض الوجود قطعاً کالتقدّم والتقارن ، إلاّ أنّ وصف التقدّم وأخویه یمکن صحّة انتسابه إلی العدم بلحاظ متعلّقه حیث یکون قد لوحظ فیه الوجود .

هذا بخلاف المقام، لأنّ متعلّق العدم المضاف إلیه هنا عبارة عن نفس الضدّ الآخر أو النقیض، ولا یمکن صحّة انتساب التلازم إلیه ؛ أی لا یمکن أن یُقال إنّ النقیض ملازم للآخر ، کما لا تصحّ نسبة التلازم إلی نفس العدم، لعدم کونه بنفسه أمراً وجودیّاً لولا متعلّقه .

اللّهُمَّ إلاّ أن یُقال : إنّ صحّة الانتساب یتحقّق من حال نسبة العدم إلی الضدّ والنقیض . وهذه النسبة والإضافة لیست إلاّ أمراً اعتباریّاً، فلها حیثیّة وجودیّة ولو اعتباریّة ، وهذا المقدار یکفی فیما هو المقصود ، ولعلّ لأجل هذه الإشکالات ذهب المحقّق الخمینی إلی عدم کون الأوصاف التی تعدّ من عوارض الوجود عارضة علی العدم، خصوصاً مثل التلازم الذی یستلزم اجتماع النقیضین، لصدق وجود الضدّ وعدم الضدّ المفروض أنّه وجودی فی محلّ واحد ، وهو مُحال .

ولعلّ لما ذکرنا أمکن القول بصحّة ما التزم به المحقّق الخمینی هنا بالخصوص لکن من هذه الناحیة والجهة ، لا لأجل عدم کون الأعدام مطلقاً لها حظّاً من الوجود کما اختاره .

أقول: لو سلّمنا ذلک، والتزمنا بعدم الفرق بین ملاحظة وصف التقدّم والتقارن وبین وصف التلازم من هذه الناحیة أی وحدة جریان الإشکال فیهما .

ص:271

قلنا : بأنّ عدم الضدّ الملازم لوجود ضدّ آخر :

إن کان من الضدّین الّذین لا ثالث لهما، فلا یکون الملازم إلاّ واحداً .

وأمّا إذا کان الضدّین من الّذین له ثالث، فلازمه لا یکون عدم ضدّ واحد ، بل الظاهر کون وجود کلّ عین من السواد مثلاً ملازماً مع عدم البیاض وعدم الصُفرة وعدم الخُضرة وعدم الحُمرة وغیر ذلک من أعدام الألوان ؛ أی یصدق وینطبق علی السواد أعدام کلّ هذه الألوان، لا عدم ضدّ واحد .

فلازم هذا المعنی، أنّه إذا وجب وجود ضدٍّ مثلاً کالسواد، فلابدّ أن یکون بحسب هذا المدّعی وجوبه منشعباً إلی وجوبات کثیرة المتعلّق بوجوب هذا الضدّ، وأعدام تمام هذه الأضداد التی کانت کلّ واحد منها ملازماً لوجود الضدّ کما لایخفی . غایة الأمر أنّ المکلّف عاجز عن امتثال الجمع سوی واحد من الألوان ، فعلیه یکون تعلّق الأمر بأعدامه أیضاً متعلّقاً بواحد منها علی سبیل البدلیّة لا بعینه ، ولذلک لا یُقال بأنّ تعلّق الوجوب بضدٍّ، یعنی تعلّق الأمر الوجوبی علی ترک أحد الأضداد، وإلاّ فإنّ أصل الملازمة ثابتة موجودة لجمیع الأعدام .

وبالجملة: فثبت من جمیع ما حقّقناه، أنّ أصل الملازمة - لو لم نقل بالإشکال السابق وقلنا بکفایة الوجود الاعتباری للنسبة وصدقها - ثابتة خلافاً لما ذهب إلیه المحقّق الخمینی، ووفاقاً للمحقّق النائینی والخوئی وغیر ذلک من المحقّقین من الاُصولیّین .

وأمّا عن الثانی: فیمکن أن یُجاب عنه :

أوّلاً : بأنّا لا نسلّم لابدّیّة کون ترک الترک متعلّقاً للحکم الوجوبی، لئلاّ یلزم خلوّ الواقعة عن الحکم، لعدم محذور فی خلوّها عنه، لإمکان أن یُقال بأنّ الإباحة

ص:272

المتساویة الطرفین لیست عبارة عن ما فیه المصلحة فی طرفی الوجود والعدم، حتّی یصدق علیها الإباحة الشرعیّة بلحاظ هذا الاقتضاء ، بل المقصود ربما یکون ما لا اقتضاء فیه من المصلحة لا فی وجوده ولا فی عدمه ، فتکون الإباحة حینئذٍ عقلیّة قهریّة کما لا یخفی .

وثانیاً : لو سلّمنا لزوم ذلک، کان هذا فی الحکم الواقعی أی فی نفس الأمر والواقع ولو إنشاءاً، لا فی الحکم الفعلی التنجیزی ، لا سیما مع ملاحظة مسلک أهل العدل من لزوم کون الأحکام تابعة للمصالح والمفاسد، فلا تکون المصلحة إلاّ فی جانب واحد من وجود الضدّ، لا فیه وفی ملازمه وهو عدم الضدّ، وإلاّ لزم تعدّد العقوبة فی مخالفتها، ولا أظنّ أن یلتزم به الخصم أیضاً .

نعم ، غایة الأمر لابدّ وأن لا یکون الملازم محکوماً بحکمٍ مخالفٍ لحکم قرینه، لئلاّ یستلزم التکلیف بالمُحال، لعدم قدرة العبد علی الامتثال حینئذٍ إذا کلّف بالحکمین المتخالفین ، وهذا لا غرو فی الالتزام به، کما لا یخفی .

وأمّا عن الثالث: فإنّه لو سلّمنا المقدّمتین السابقتین، ولکن لا نسلّم کون معنی الأمر بالشیء هو النهی عن ضدّه ، ولو کان المراد هو الضدّ العام فضلاً عن الضدّ الخاصّ ، لما قد عرفت أنّ الأمر والنهی تابعان لوجود المصلحة والمفسدة فی متعلّقهما ، ولیس إلاّ فی متعلّق أحدهما من المصلحة والمفسدة ، فلا یکون مقتضاه حینئذٍ إلاّ الأمر إن کان فیه المصلحة ، أو النهی إن کان فیه المفسدة ، فالالتزام بکلا الأمرین ممّا لا یمکن الالتزام به ، بلا فرق فی ذلک بین أقسام التقابل من الضدّین بکلا قسمیها والنقیضین والعدم والملکة، لاشتراک الملاک فی جمیعها، وهو التلازم بین وجود أحدهما مع عدم الآخر، لو سلّمنا أصل التلازم، کما لایخفی .

هذا تمام الکلام فی المقام الأوّل وهو الضدّ الخاصّ .

***

ص:273

الأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضدّه العام / ثمرة البحث

البحث عن أنّ الأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضدّه العام

الکلام فی المقام الثانی: وهو کون الأمر بالشیء مقتضیاً للنهی عن الضدّ العام، وهو بمعنی الترک ، فقد اختلف فیه علی أقوال :

القول الأوّل: کون الاقتضاء علی نحو العینیّة ، وفی المراد من العینیّة اختلاف:

قیل: بأنّ المراد من العینیّة هی العینیّة فی مقام الدلالة والإثبات، لا أن یکون عینه فی الثبوت ، بل فی التعبیر قد یعبّر بلفظ صلِّ وآخر بلاتترک الصلاة ، وکلاهما یدلاّن علی معنی واحد، لا أن یکون المقصود کون الأمر الوجوبی الدال علی المحبوبیّة عین النهی التحریمی الدالّ علی المبغوضیّة ، فإنّ الالتزام بذلک لا ینفع الخصم ولا یضرّنا، إذ المراد من البحث فی الاقتضاء لیس بحثاً لفظیّاً ونزاعاً کلامیّاً فقط ، بل الاختلاف کذلک فی التعبیر أمرٌ متعارف فی الروایات فی باب الواجبات والمستحبّات ، بل وقع کثیراً فی کلمات الفقهاء ، یعبّرون عن وجوب الاحتیاط بأنّه لا یترک الاحتیاط وأمثال ذلک .

وقیل أیضاً: إنّ معنی العینیّة هو الاتّحاد بین الأمر بالشیء مع النهی عنه فی مقام الثبوت والواقع .

فإن قیل: إنّ لفظ (صلِّ) فی الواقع عین (لا تترک الصلاة) ؛ وأنّه متّحدٌ معه فی الخارج والمفهوم.

وفیه: وفساده غنیٌّ عن البیان ، لوضوح أنّ ألفاظ کلّ واحد منهما ومفرداته متغایر مع الآخر بلا إشکال .

کما أنّ واقع الأمر أیضاً کذلک، لأنّه إن اُرید من ذلک بأنّ النهی الواقع عن

ص:274

ترک الواجب هو عین طلب ترک الترک، المنطبق علی الفعل، کطلب التروک فی تروک الإحرام ومفطرات الصوم .

أقول: الحقیقة فی مثل هذه التروک لیس إلاّ أنّ ترک الأکل والشرب فی الصوم، وترک لبس المخیط والمجادلة فی الإحرام ، کان فی متعلّقها مصلحة ملزمة ومحبوبیّة لازمة ، لا أن یکون فی فعلها مبغوضیّة ومفسدة .

بعبارة اُخری: إن اُرید بأنّ الأمر بترک شیء إذا کان بلحاظ مبغوضیّة مورده ، واشتمال المفسدة الملزمة فی متعلّقه ، وهو وإن کان أمراً معقولاً بنفسه، إلاّ أنّه یستحیل أن یُراد منه عرفاً ذلک ، لوضوح أنّ الشیء إذا کان فی ترکه مفسدة ملزمة ، فلیس فی فعله محبوبیّة کاشفة عن مصلحة ملزمة ، وإن کان فی فعله مصلحة فلا یکون فی ترکه مفسدة ، وإلاّ لابدّ من الالتزام بتعدّد العقاب فی المخالفة، وهو ممّا لا یلتزم به أحد ، فدعوی العینیّة من حیث اللفظ أو المعنی ، أو من حیث الاعتبار ، أو من حیث المتعلّق تکون دعوی مجازفة .

وقد یُقال: بالعینیّة بحسب حال الإنشاء، بلحاظ کونه کاشفاً عن مبغوضیّة الترک ککشفه عن محبوبیّة الوجود ومطلوبیّته ، وهذا ما صرّح به المحقّق العراقی فی «نهایة الأفکار».

وفیه : إنّه إن اُرید منه بأنّه یمکن فی مقام الإظهار والإبراز أن یبرزه بواحد من الطریقین، فهو أمرٌ صحیح، ولکنّه فاقد للتأثیر، باعتبار اندراجه فی المعنی الذی سبق وأن ذکرناه.

وإن اُرید منه أنّ فی الواقع والإنشاء یمکن أن یبرزه مبغوضاً فی ترکه واُخری محبوباً فی فعله .

ص:275

ففیه : إنّه لا یمکن ذلک بحسب فهم العرف، لأنّه إن کان فی الواقع فی فعله مصلحة فیکون محبوباً فعله فقط، لا مبغوضاً ترکه لجهة وجود المفسدة فیه ، وإن کان فی ترکه مفسدة ملزمة فیکون مبغوضاً فقط ولا یکون فعله محبوباً کاشفاً عن مصلحة فیه ، فالمحبوبیّة والمبغوضیّة تابعة للمصلحة والمفسدة فی الفعل أو الترک کما لا یخفی .

وبالجملة: ظهر من جمیع ما ذکرنا أنّ حدیث العینیّة لا یمکن الالتزام به إلاّ بصورة خالیة عن الانتفاع، کما لا یخفی .

القول الثانی: هو القول بالتضمّن کما علیه صاحب «المعالم».

بیان ذلک: إنّ الأمر بالشیء مرکّب من شیئین: طلب الفعل، مع المنع من الترک، فیکون النهی عن ترکه جزءاً آخراً للأمر ، وهذا هو معنی التضمّن .

أقول: ولکن لا یخفی ما فی هذا القول ، لأنّ الالتزام بذلک یکون فرع إمکان الترکّب فی الأمر ، مع أنّه لیس کذلک ، لأنّ الأمر:

إمّا عبارة عن إرادة نفسانیّة، فلا إشکال فی کونها من البسائط الخارجیّة لکونها من الأعراض .

وإمّا أن یکون حکماً عقلیّاً، فلا إشکال فی بساطته حینئذٍ ؛ لأنّه حینئذٍ أمر انتزاعی عقلی، أی أنّ العقل یحکم باللّزوم عند اعتبار المولی شیئاً فی ذمّة عبده، مع عدم نصب قرینة فی ترکه، إذ الاعتبار یکون أشدّ بساطةً عن الاعراض، لعدم وجود جنس وفصل له کما لا یخفی .

وهکذا یکون إن کان مجعولاًشرعیّاً،فهو أیضاًبسیط لا جنس له ولافصل، فإذا لم یمکن فرض الترکّب فی الأمر، فلا یعقل أن یکون المنع من الترک جزءاً منه .

ص:276

مضافاً إلی ما عرفت من تابعیّة الأمر والمنع من الترک للمصلحة والمفسدة الملزمتان ، وقد عرفت أیضاً عدم إمکان اجتماعهما فی شیءٍ واحد عرفاً، وإن أمکن ذلک بحسب حکم العقل، فلا نعید .

القول الثالث: فهو القول بالاقتضاء علی نحو الملازمة اللفظیّة باللاّزم بالمعنی الأخصّ، بحیث یکون تصوّر الأمر للشیء مستلزماً لتصوّر النهی عن ترکه ، وهذا هو الذی ذهب إلیه المحقّق النائینی .

وفیه: ولکنّه بعید عن الصواب، لوضوح أنّه کثیراً ما یشاهد بأنّ المولی ربما یأمر بشیء ولا یکون ملتفتاً إلی ترکه حتّی یبغضه ویکون کارهاً له ، فلو کانت الدلالة بنحو الملازمة البیّنة بالمعنی الأخصّ ، لما أمکن افتراق هذین التصوّرین .

والعجب منه أنّه کیف جمع بین الکلامین المتناقضین، حیث اعترف بنفسه بأنّ الآمر قد یکون غافلاً عن ترک ترکه، فضلاً عن أن یتعلّق به طلبه ، ومع ذلک التزم بقیام الملازمة بینهما بالمعنی الأخصّ ، وکیف کان ففساد هذا التوهّم واضح جدّاً .

القول الرابع: وهو القول بالالتزام العقلی، أی اللاّزم البیّن بالمعنی الأعمّ ؛ بأن یکون تصوّر اللاّزم مع تصوّر الملزوم وتصوّر النسبة بینهما حیث ینتهی إلی الانتقال إلی الملازمة بحیث لو التفت إلی الملازمة لحکم بذلک ، فهذا هو الذی ذهب إلیه کثیرٌ من الاُصولیّین کالمحقّق الخراسانی والعراقی والنائینی بعد التنزّل عمّا سبق ، وصاحب «العنایة» و«منتهی الاُصول» وغیرهم ، خلافاً لبعض آخر کصاحب «المحاضرات» وجماعة للحاجبی والعضدی، من عدم وجود الملازمة أصلاً حتّی علی نحو البیّن بالمعنی الأعمّ؛ لعدم الدلیل علیه لا عقلاً ولا شرعاً .

ص:277

أمّا من ناحیة العقل: لأنّه لا یری ملازمة بین وجوب شیء وحرمة ترکه، لما قد عرفت من إمکان ملاحظة محبوبیّة فعله فقط من دون التفات إلی حال ترکه حتّی یکون مبغوضاً .

وبعبارة اُخری : المراد من الحرمة فی ترکه لا یخلو:

إمّا أن یقصد بها حرمة نفسیّة ، فإنّه من الواضح أنّ الحرمة کذلک معلولة لوجود المفسدة فی متعلّقها ، وقد عرفت أنّ فی ترک الواجب لیس مفسدة ، بل فی فعله مصلحة ملزمة ، برغم إمکان جمعهما عقلاً ، إلاّ أنّه لا یکون کذلک خارجاً .

وإن یقصد بها الحرمة الغیریّة .

ففیه أوّلاً : بما قد عرفت من عدم کون الترک مقدّمة لوجود الضدّ حتّی الضدّ العام، لانتفاء ملاک الغیریّة .

وثانیاً : کونها لغواً لعدم ترتّب أثر علی الحرمة الغیریّة من العقوبة وغیرها ، فلا وجه لدعوی الملازمة عقلاً هاهنا کما لا یخفی .

وأمّا من ناحیة الشرع: لوضوح أنّ الحکم الواحد - وهو الوجوب - لا ینحلّ إلی حکمین، أحدهما یتعلّق بالفعل والآخر بالترک ؛ لأنّه یستلزم تعدّد العقوبة، أحدهما للوجوب والاُخری للحرمة ، ومن هنا قلنا بأنّه لا مفسدة فی ترک الواجب، کما أنّه لا مصلحة فی ترک الحرام لیکون واجباً .

أقول: هذا ما قیل فی ردّ القول الرابع ، ولا یخلو عن قوّة بالنظر إلی ملاکات الأحکام، من حیث أنّها تابعة للمصالح والمفاسد ، ولا یکون فی متعلّق الأحکام فعلاً أو ترکاً إلاّ ملاکاً واحداً من المصلحة الملزمة فیترشّح منه الوجوب ، أو المفسدة الملزمة فیتولّد منها الحرمة ، فلا مجال للجمع بین وجوب فعل شیء

ص:278

وحرمة ترکه من حیث الملاک بحسب العرف، وإن أمکن ذلک أحیاناً بحسب حکم العقل، فلا مانع من ذلک عقلاً، إنّما المانع عرفی.

ولعلّ مراد القائلین بالملازمة هو إتیانها من حیث فهم العرف، بأنّهم یوجّهون محبوبیّة فعل شیء بمبغوضیّة ترکه ، وهکذا بالعکس کما یشاهد التصریح بألسنتهم فی الأسواق بأمثال ذلک ، فدعوی الملازمة کذلک ولو مسامحةً، لیست بدعوی مجازفة ، فافهم واغتنم .

أقول: فإذا فرغنا عن البحث فی المقامین من حیث اقتضاء الأمر بالشیء والنهی عن ضدّه ، وعدمه ، سواءً کان الضدّ عامّاً أو خاصّاً ، وعرفت عدم الاقتضاء فیهما حقیقةً ، وإن سلّمناه مسامحة بحسب العرف فی الأوّل منهما ملازمةً ، یصل الدور إلی البحث عن الثمرة المترتّبة علی هذا البحث.

***

ص:279

فی ثمرة البحث

فی ثمرة البحث عن اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه

أقول: المحکی عن القوم فی هذا الباب ثلاث ثمرات، لا بأس بالإشارة إلیها والبحث عنها:

الثمرة الاُولی : ترتّب العقوبة علی فعل الضدّ علی فرض القول بالاقتضاء، وعدمه علی فرض عدم الاقتضاء ؛ لأنّ الضدّ حینئذٍ یصیر محرّماً بواسطة تعلّق النهی به علی الاقتضاء .

لکنّه مخدوش أوّلاً : بأنّه لابدّ أن یبیّن أیّ ضدّ اُرید من هذا ، هل هو العام أو الخاصّ ؛ لأنّ الثانی منهما لا یکون حرمته إلاّ غیریّاً ومقدّمیّاً لو سلّمنا الاقتضاء فیه . ومن الواضح أنّ الحکم الغیری، سواءً کان وجوبیّاً أو تحریمیّاً لا عقوبة فی ترکه ولا فی فعله، لعدم وجود المفسدة فی الحکم الغیری التحریمی ، کما لا مصلحة فی الحکم الوجوبی الغیری ، فلا معنی لهذه الثمرة علی هذا الفرض .

وإن اُرید به الضدّ العامّ، فقد تصدّی بعض کصاحب «عنایة الاُصول»(1) بالجواب عنه، مستدلّین علی ردّ ذلک بأنّه من باب المقدّمیّة، فیکون الحکم فیه غیریّاً ، فلا عقوبة فیه . هذا، وبرغم أنّ دلیل المستدلّ یختصّ بخصوص الضدّ الخاصّ، لکن جوابه مطلق یشمل الخاص والعام.

وعلی أیّ حال، فلا یجری هذا الجواب فیه، لعدم وجود المقدّمیّة فی الضدّ العامّ .


1- عنایة الاُصول: ج1 / 433 .

ص:280

ثانیاً : بأنّه لو سلّمنا الاقتضاء فیه، سواءً کان علی نحو العینیّة أو التلازم العرفی، فإنّ ذلک لیس من جهة وجود مفسدة فی الترک، حتّی یستلزم تعدّد العقوبة ، بل الملاک فی صحّة العقوبة هنا هو ترک ما فیه المصلحة الملزمة، لا ما فیه المفسدة الملزمة، ولا فی کلیهما حتّی یوجب تعدّد العقوبة ، فهذه الثمرة غیر مثمرة کما لایخفی .

الثمرة الثانیة : تحقّق حکم العصیان علی الضدّ ، علی القول بالاقتضاء، فیترتّب علیه أحکام العصیان ، مثلاً لو فرض وجوب قضاء صوم شهر رمضان بوجوبٍ مضیّق، کما لو بقی عشرة أیّام إلی شهر رمضان ، وکان القضاء علیه واجباً بهذا المقدار ، فلا إشکال فی وجوب القضاء علیه ، فلو قلنا بالاقتضاء استلزم الوجوب المذکور حرمة السفر فی هذه المدّة، فیکون السفر سفر معصیة ، فلازمه إتمام الصلاة وصحّة الصوم ، بخلاف ما لو لم نقل بالاقتضاء ، حیث لا یکون السفر سفر معصیة حینئذٍ، فلا یترتّب علیه حکم العصیان .

وقد أجاب عنه صاحب «التقریرات» بقوله :

(والحقّ أنّ ترتّب أحکام المعصیة علی مثل هذا العصیان الناشئ عن النهی المقدّمی مشکل ، وقیل لعلّ وجه الإشکال فی نظره هو انصراف أدلّة سفر المعصیة عن مثل هذه المعاصی الغیریّة .

وفیه: ما لا یخفی علیک، أنّ هذه الثمرة لو سلّمنا صحّتها، لا تکون تامّة فی مثل الصوم فی السفر ؛ لأنّه إذا فرض کون وجوب الصوم القضائی واجباً، ومقتضیاً لحرمة السفر ، فلا یکون مثل هذا السفر حینئذٍ منافیاً لصحّة الصوم حتّی یحرم، لإمکان إتیان الصوم فی حال السفر أیضاً ، فلابدّ أن یلاحظ التنافی بینهما من جهة

ص:281

أنّه لولا الحرمة - أی السفر - لکان مزاحماً لصحّة الصوم، فیکون حراماً لأجل التزاحم ، فصحّة الصوم فی حال السفر کذلک لا ینافی الحکم الوجوبی المضیّق للصوم القضائی . وأمّا صحّة الحکم بالنسبة إلی الصلاة فواضح ، لأنّه لیس لولائیّاً ، بل یکون نفس السفر مستلزماً لإتمام الصلاة، لمنافاته مع صحّة الصوم القضائی بالطبع .

أقول: وکیف کان ، نرجع إلی أصل المسألة، حیث إذا لاحظناها نجد أنّها لیست منقّحة عند الفقهاء، کما نشاهد کلام السیّد فی العروة فی مسألة 27 من مسائل حکم القصر، حیث قال :

(إذا کان السفر مستلزماً لترک واجب، کما إذا کان مدیوناً وسافر مع مطالبة الدیّان، وإمکان الأداء فی الحضر دون السفر، ونحو ذلک ، فهل یوجب التمام أم لا؟

الأقوی التفصیل بین ما إذا کان لأجل التوصّل إلی ترک الواجب، أم لم یکن کذلک ، ففی الأوّل یجب التمام دون الثانی ، لکنّ الأحوط الجمع فی الثانی) . انتهی کلامه .

ومن الواضح أنّ النهی الغیری إذا لم یکن مستلزماً للعصیان فی السفر، لا یوجب قصد التوصّل إلی ترک الواجب فیه مؤثّراً فی صیرورته حراماً ومعصیةً ؛ لأنّ غایة تأثیر هذا القصد، لیس إلاّ جعله مقدّمة، وکون خصوص المقدّمة الموصلة حراماً لا مطلقها ، فمع ذلک یقع الکلام فی أنّه کیف یوجب ذلک حرمة السفر وعصیانه إن اعتبر فیه کون الحرمة نفسیّاً لا غیریّاً .

ومن ذلک یظهر عدم توقّف صدق عصیان السفر وعدمه، علی القول

ص:282

بالاقتضاء وعدمه ، لأنّ السیّد قدس سره مع تصریحه بعدم الاقتضاء فی مسألة 65 من شرائط وجوب الحجّ بقوله : (إذا حجّ مع استلزامه ترک واجبٍ أو ارتکاب محرّم ، لم یجزه عن حجّة الإسلام ، وإن اجتمع سائر الشرائط، لا لأنّ الأمر بالشیء نهیٌ عن ضدّه لمنعه أوّلاً ، ومنع بطلان العمل بهذا النهی ثانیاً...).

وقد فصّل فی مسألة حکم السفر فی القصر والإتمام، من جهة کونه لأجل التوصّل إلی ترک الواجب فیحرم، وإلاّ فلا .

أقول أوّلاً: الأقوی عندنا - کما علیه السیّد الحکیم قدس سره - فی حکم هذه المسألة هو الحکم بعدم صدق العصیان بالنسبة إلی السفر، لعدم کونه مقدّمة أصلاً، لما قد حقّقناه فی محلّه من أنّ ما یوجب ترک الواجب لیس فعل الضدّ خارجاً ؛ لأنّ ما هو السابق منه هو قصده وإعراضه عن إتیان الواجب فهو یکون حراماً ، فهو ملازم للسفر، لو سلّمنا کون الأمر بالشیء مقتضیاً للنهی عن الضدّ، لا السفر الواقع بعده.

وثانیاً : لو سلّمنا کون نفس السفر مقدّمة لترک الواجب، فیما لو کان ترکه موقوفاً علیه مثلاً ، فمع ذلک نقول بأنّ الحرمة غیریّة لا نفسیّة، ولم یظهر من الأدلّة الدالّة علی أنّه یُتمّ الصلاة فی السفر عن معصیة شمولها لمثل هذا العصیان الذی لا مفسدة فیه بنفسه، ویکون التحریم فیه مقدّمیّاً غیریّاً، فلا تکون هذه الثمرة أیضاً من ثمرات هذه المسألة، لما ثبت من أنّ ما یدلّ علی کون السفر معصیة ماکان بنفسه کذلک، مثل سفر الزوجة بدون إذن زوجها ، أو مع نهیه لها ، وسفر المملوک بدون إذن سیّده ، أو مع نهیه له عنه ، أو کان السفر لغایة محرّمة ذاتیّة مثل السفر لشرب الخمر والظلم والخیانة ونظائرها ، فصدق العصیان علی السفر الذی یعدّ مقدّمة لحرام من دون وجود مفسدة فیه، فی غایة الإشکال .

ص:283

ومن هنا ظهر أنّه یمکن أن یکون وجه کلام الشیخ الأنصاری قدس سره فی الإشکال هو ما ذکرناه، لا الانصراف الذی وجّهه صاحب «عنایة الاُصول» .

الثمرة الثالثة ، وهی من أهمّ الثمرات ، بل هی أساس مسألة الترتّب المعروفة بین الاُصولیّین، وأهمّیّة هذه الثمرة تقتضی البحث عنها وعمّا یتعلّق بها فی المقام.

فنقول: قد اشتهر بأنّ ثمرة المسألة الاقتضاء وعدمه فی الضدّ، هو فساد العمل وبطلانه إذا کان ذلک العمل المسمّی بالضدّ عبادةً منضمّاً إلی کبری کلّیة، بأن تعلّق النهی بالعبادة موجب لفسادها ، فلازم ذلک فساد الصلاة المزاحمة للإزالة علی الاقتضاء، لکونها منهیّاً عنها، وصحّتها علی القول بالعدم .

هذا، وقد أنکر جماعة من الاُصولیّین هذه الثمرة، فلا بأس بذکرها والنظر إلیها .

منهم: صاحب «الفصول» قدس سره حیث قال ما خلاصة کلامه:

(إنّ الثمرة المفروضة علی علی المقدّمة الموصلة منفیّة، نظراً إلی أنّه إذا وجب مثل الإزالة لم یجب مطلق ترک الصلاة مقدّمة حتّی تحرم وتفسد ، بل ما هو المحرّم خصوص الترک الموصل إلی الإزالة ، فإذا وجب الترک الموصل حرم نقیضه وهو ترک الترک الموصل ، وهذا الترک الترک الموصل قد یقترن مع فعل الصلاة تارةً ومع الترک المجرّد اُخری ، والحرمة لا تسری من ملازم إلی ملازم آخر، فضلاً عمّا یقارنه أحیاناً) . انتهی حاصل کلامه .

ویمکن أن یُناقش فیه أوّلاً : بأنّ ظاهر کلامه تسلیمه لهذه الثمرة إن قلنا بالمقدّمة المطلقة لا الموصلة ، لأنّه حصر الإنکار علی الموصلة فقط ، مع أنّ الحکم

ص:284

فی صورة الإطلاق أیضاً یکون کذلک ؛ لأنّه إذا کانت الإزالة واجبة، فتصبح ترکها محرّمة، سواءً کان موصلاً إلی فعل ضدّ من الإتیان بالصلاة أو لم یکن کذلک ، بل کان ترکاً صرفاً ، فإذا کان ترک الإزالة حراماً أصبح ترک ترکها واجباً ، وترک الترک لا یکون إلاّ مساوقاً لأصل وجود الإزالة ، فترک الإزالة یکون ملازماً للفعل أو مقارناً له لعدم إمکان کونه عینه ، لأنّ الترک أمرٌ عدمیّ والفعل أمرٌ وجودی ، والالتزام بهذا یستلزم القول بأنّ الحرمة لا تسری من ملازم إلی ملازم آخر ، فضلاً عمّا یقارنه ، فعلی هذا کون المقدّمة المطلقة مقدّمة لا الموصلة لا یستلزم تحقّق الثمرة .

وثانیاً : أنّ الحرمة هنا لا یکون من قبیل سائر الموارد حتّی یستلزم الفساد فی صورة دون صورة اُخری ، لوضوح أنّه قد عرفت أنّها بناءً علی العینیّة فی الضدّ العام لیس إلاّ نفس الوجوب، وإلاّ خرج عن العینیّة وأصبح مستلزماً للإثنینیّة.

وعلی فرض التلازم، قد عرفت أنّها لیس بحکم حقیقةً، لوضوح أنّ الحکم الحقیقی لیس إلاّ ما فیه المصلحة الملزمة أو المفسدة کذلک ، وما لا یکون کذلک لا یصدق علیه الحکم إلاّ بالمسامحة ، والتحریم هنا کذلک إذ لیس فی النقیض مفسدة مطلقاً - أی سواء کان منطبقاً علی الفعل علی المقدّمة الموصلة، أو علی المقدّمة المطلقة - فالحکم بوجود الثمرة فی فساد العبادة، ممّا لا وجه له أصلاً، کما لا یخفی .

مضافاً إلی أنّ ترک الصلاة یصبح واجباً باعتبار تولّده من وجوب الإزالة ، فحیث کان الترک واجباً ففعلها حرام من جهة اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه ، فحرمتها غیری یتولّد من حکم غیری .

ص:285

ومنهم: الشیخ البهائی قدس سره ، حیث أنکر الثمرة من جهة أنّ العبادة فاسدة سواء کانت العبادة متعلّقة للنهی من جهة کونها ضدّاً للواجب أم لم تکن کذلک من جهة عدم القول بالاقتضاء ؛ لأنّه یکفی فی فساد العبادة عدم تعلّق الأمر بها، المستلزم لفقدان قصد امتثال الأمرین . ومن الواضح أنّه إذا تعلّق الأمر بالشیء فلا یمکن تعلّق أمرٍ آخر بضدّه، لاستحالة الأمر بالضدّین، لأنّه تکلیفٌ بالمحال، وحینئذٍ تکون العبادة فاسدة مطلقاً ؛ أی سواء قلنا بالاقتضاء أم لا ، هذا .

وأجاب عنه صاحب «الکفایة» وتبعه غیره من الاُصولیّین:

بأنّ الإنکار المذکور یصحّ لو اعتبرنا فی صحّة العبادة قصد امتثال الأمر، کما علیه صاحب «الجواهر» حیث أنّه بعد زوال الأمر عن الضدّ بواسطة تعلّق الأمر بالشیء، تقع العبادة فاسدة .

وأمّا لو لم نقل باعتباره - کما علیه أکثر المتأخّرین - بل التزمنا فی صحّتها بکفایة وجود رجحان ذاتی ومحبوبیّة واقعیّة فی متعلّقه ، فلا وجه حینئذٍ للقول بالفساد من دون الأمر، إلاّ من جهة الاقتضاء المستلزم لتعلّق النهی بها، منضمّاً إلی أنّ النهی المتعلّق بالعبادة موجب لفسادها ؛ لأنّ متعلّق الأمر متضمّن حینئذٍ للمصلحة والملاک کما هو مذهب العدلیّة أو غیره عند غیرهم من الأشاعرة، حیث یقولون : بأنّ الغرض قد تعلّق بوجود الأمر فی شیء دون آخر، من دون لزوم وجود مصلحة فی متعلّقه ؛ حیث لا یفرّقون بین العبادة للصمد وللصنم ، ولا بین الصدق والکذب ، ولا بین النکاح والسفاح ، إلاّ أمر الشارع ونهیه .

وکیف کان، وحیث أنّ الأمر الذی قد ارتفع للمزاحمة لا یوجب عدم صحّة العبادة ، إلاّ أن یکون الفساد لعروض معارض ، مثل النهی الذی یترشّح عن الأمر بالضدّ، إن قلنا بالاقتضاء وإلاّ فلا .

ص:286

ومنهم: الشیخ الکبیر - لعلّ هذا هو المراد من بعض الأعاظم الواقع فی کلام صاحب «الکفایة» - وهو الشیخ جعفر کاشف الغطاء قدس سره ، حیث ذهب إلی ما یقابل کلام شیخنا البهائی قدس سره ، والتزم بصحّة العبادة - کالصلاة - ولو مع وجود المزاحم ، باعتبار أنّ الأمر بالإزالة مطلقٌ، أی سواءً قلنا بالاقتضاء أم لا ، نظراً إلی التزامه بقاعدة الترتّب، حیث جعل الأمر المتعلّق بالضدّ وهو الصلاة معلّقاً علی عصیان العبد لأمر الأهمّ والمزاحم، فحقیقة أمر المولی بالصلاة یعود إلی أنّه یقول: (صلِّ وإذا عصیت أو عزمت علی ترک أمر أهمّ فأت بالمهمّ وهو الصلاة فهی مأمورٌ بها) ولو قلنا باقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن ضدّه .

فعلی هذا لا تنافی بین الأمر بالإزالة ، مع الأمر بالصلاة مترتّباً ، کما لا تنافی بین الأمر بترک الصلاة مقدّمة للإزالة، علی القول بوجوب مقدّمة الواجب ، مع الأمر بالصلاة، وکونها واجباً مترتّباً ، کما لا تنافی بین کون الصلاة منهیّاً عنها، لکونها ضدّاً للإزالة ، والتزمنا بأنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه ، وبین کون الصلاة مأموراً بها بالأمر الترتّبی ، کما لا فرق فی عدم التنافی بین هذه الاُمور، بین أن تکون المقدّمة الموصلة واجبة أو محرّمة أو المقدّمة المطلقة .

وبالجملة: فالعبادة علی هذا القول مشتملة علی الأمر ، ولو شرطنا فی صحّة العبادة لزوم قصد امتثال الأمر، کما علیه صاحب «الجواهر» قدس سره ؛ لأنّ الصلاه علی هذا تعدّ مأموراً بها کما لا یخفی .

أقول: وحیث بلغ الکلام إلی مسألة الترتّب، لا بأس بالورود فیها والبحث عنها واستقصاء الآراء والأقوال فیها، لأنّها تعدّ من أهمّ مسائل الاُصول ، بل وقع الخلاف بین الفحول من الاُصولیّین فی جواز الترتّب وعدمه .

***

ص:287

البحث عن الترتّب

البحث عن الترتّب

واعلم أنّ المسألة قد نشأت من ناحیة أنّه هل یجوز تعلّق الأمر بالضدّین طولاً، أی بنحو الترتّب علی معصیة الأمر الآخر ، أم لا یجوز مطلقاً، کما لا یجوز عرضاً، لاستحالة تعلّق الطلب بالضدّین ؟

وأوّل من أبدع جواز ذلک علی نحو الترتّب هو المحقّق الثانی رحمه الله الملقّب بالکرکی صاحب «جامع المقاصد» ، ثمّ تبعه بقیّة الفحول وشیّدوا أرکانه مثل السیّد السند المیرزا الشیرازی، وتلامذته کالسیّد محمّد الفشارکی الأصفهانی، والنائینی والحائری وتبعهم المحقّق الخوئی وآخرین. أمّا العلاّمة الطباطبائی فقد التزم بنتیجة الترتّب.

وفی المقابل ذهب جماعة اُخری إلی نفیه، کالشیخ المرتضی الأنصاری وصاحب «الکفایة» فقد صرّحوا بعدم الجواز تبعاً لجماعة کبیرة من المتقدّمین من الاُصولیّین قبل المحقّق ، فالأولی أن نذکر أوّلاً کلام المانعین وأدلّتهم ثمّ نتعرّض لکلام غیرهم من المجوّزین.

أدلّة المانعین للترتّب:

منهم صاحب «الکفایة» حیث قال ما تفصیل کلامه: تصدّی جماعة من الأفاضل لتصحیح الأمر بالضدّ بنحو الترتّب علی العصیان، وعدم إطاعة الأمر الذی وقع علی الضدّ الآخر ، غایة الأمر کان أخذه العصیان للأمر الآخر بنحو الشرط المتأخّر ، لأنّه لو أخذ الترتّب فیه بنحو الشرط المقارن - فضلاً عن الشرط المتقدّم- لما کان مجدیاً فی المطلوب ؛ لأنّ الأمر إذا کان مترتّباً علی عصیان الأمر

ص:288

الأهمّ بنحو الشرط المقارن، کان متأخّراً عنه برتبة بالضرورة، من قبیل تأخّر الحکم عن الموضوع والمعلول عن العلّة ، وإذا کان متأخّراً عنه کان متأخّراً عن فعل الضدّ کذلک .

ومن المعلوم أنّ الأمر المتأخّر عن فعل الضدّ برتبة ممّا لا یصحّ، ولا یمکن الإتیان به بقصده، ما لم یکن سابقاً علیه زماناً أو رتبةً ، ولا أقلّ من کونه فی عرضه رتبةً ، مع أنّ عصیان الأمر الأهمّ وفعل الضدّ حینئذٍ یعدّ فی رتبة واحدة فلا قدرة علی تصحیحه ، فإذا کان هذا حال الشرط المقارن، فکیف یکون حال الشرط المتقدّم، بأن یکون عصیان الأمر بالأهمّ متقدّماً علی الأمر بالمهمّ، حتّی یکون تقدّم الأمر بالأهمّ حینئذٍ علی الأمر بالمهمّ برتبتین ؛ لأنّ الأمر بالأهمّ لو لم یکن لا مفهوم للعصیان، فهو متقدّم علیه برتبة، فما لم یتحقّق العصیان المفروض أخذه بنحو الشرط المتقدّم، لا یتحقّق الأمر بالمهمّ ، فهذا الأمر متأخّر عن العصیان برتبة أیضاً من قبیل تأخّر الحکم عن الموضوع والنتیجة هی أنّ الأمر بالمهمّ متأخّر عن الأمر بالأهمّ برتبتین .

وبناءً علیه لا مجال للجمع بین الأمرین ، لوضوح أنّ الأمر بالأهمّ فی رتبة الأمر بالمهمّ ساقط بواسطة العصیان، کما یسقط بالإطاعة والامتثال ، فلیس لنا هاهنا أمران تعلّقا بالضدّین حتّی یستحیل ، ولذلک صرّح المحقّق الخراسانی بأنّ العصیان بنحو الشرط المتأخّر شرطٌ للأمر بالمهمّ، فما لم یتحقّق العصیان خارجاً لا یتحقّق الأمر بالمهمّ ، ولکن سیأتی فی محلّه بأنّه یکفی فی الاستحالة ثبوت الأمر بالمهمّ فی ظرف وجود الأمر بالأهمّ ، فهذا هو الترتّب فی هذا القسم من الشرط .

ص:289

ثمّ قال : (أو البناء علی المعصیة بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن، بدعوی أنّه لا مانع عقلاً عن تعلّق الأمر بالضدّین کذلک) ، أی بأن یکون الأمر بالأهمّ مطلقاً والأمر بغیره معلّقاً علی البناء والعزم علیه ، بل هو واقع کثیراً عرفاً .

ثمّ قال : (قلت : ما هو ملاک استحالة الضدّین فی عرض واحد، آتٍ فی طلبهما کذلک ، فإنّه وإن لم یکن فی مرتبة طلب الأهمّ اجتماع طلبهما ، إلاّ أنّه کان فی مرتبة الأمر بالمهمّ اجتماعهما ، بداهة ، فعلّیة الأمر بالأهمّ فی هذه المرتبة، وعدم سقوطه بعدُ بمجرّد المعصیة فیما بعدُ، ما لم یعص أو العزم علیها ، مع فعلیّه الأمر بغیره أیضاً لتحقّق ما هو شرط فعلیّته فرضاً) .

ثمّ أشکل بقوله: نعم، کان ملاک الاستحالة موجوداً ، إلاّ أنّه حیث کان بسوء اختیار المکلّف حیث یعصی فیما بعد بالاختیار، فلا مانع ولا قبح فیه ، فلولا سوء اختیاره لما کان متوجّهاً إلیه إلاّ الطلب بالأهمّ فقط، ولا برهان علی امتناع الاجتماع إذا کان بسوء الاختیار .

فأجاب عنه : بأنّ استحالة الضدّین لیست إلاّ لأجل استحالة طلب المحال، واشتمال طلبه من الحکیم الملتفت إلی محالیّة لا تختصّ بحال دون حال ، وإلاّ لصحَّ التعلیق علی أمرٍ اختیاریّ فی عرض واحد، بلا حاجة فی تصحیحه إلی الترتّب ؛ أی لو کان سوء الاختیار مجوّزاً لتعلّق الأمر بالضدّین، لزم جوازه حتّی مع التعلیق علی مجیی ء زید مثلاً، أو ما کان بید المأمور ، مع أنّ استحالته کذلک فی الضدّین واضح .

ثمّ اعترض: علی دعوی الفرق بین صورة اجتماع الأمر فی الضدّین عرضاً ، وبین اجتماعه مترتّباً ؛ لأنّ الطلب فی کلّ واحد فی العرض یطارد الآخر، بخلاف

ص:290

الطلب فی صورة الترتّب، حیث لا یطارد طلب المهمّ لطلب الأهمّ، فإنّه یکون علی تقدیر عدم الإتیان بالأهمّ، حیث لا یرید غیر الأهمّ علی تقدیر الإتیان بالأهمّ وعدم عصیان أمره .

فأجاب عنه بقوله: لیت شعری، کیف لا یطارده الأمر بغیر الأهمّ ، وهل یکون طرده له إلاّ من جهة فعلیّته ومضادّة متعلّقه له، وعدم إرادة غیر الأهمّ علی تقدیر الإتیان به، لا یوجب عدم طرده لطلبه مع تحقّقه، علی تقدیر عدم الإتیان به وعصیان أمره ، فیلزم اجتماعهما علی هذا التقدیر، مع ما هما علیه من المطاردة من جهة المضادّة بین المتعلّقین ، مع أنّه یکفی الطرد من طرف الأمر بالأهمّ، فإنّه علی هذا الحال یکون طارداً لطلب الضدّ ، کما کان فی غیر هذا الحال، فلا یکون له مع الأمر بالأهمّ أصلاً بمجال .

ثمّ قال رحمه الله معترضاً: کیف الحیلة بعد مشاهدة وقوع طلب الضدّین فی الأوامر العرفیّة؟

فأجاب: بأنّه لا یخلو :

إمّا أن یکون الأمر بغیر الأهمّ بعد التجاوز ورفع الید عن الأمر به وطلبه حقیقة ، نظیر ما یقول الأب لابنه : (ادرس فی المدرسة وإلاّ فطالع واترک اللّعب مع الصبیان)، فکأنّه رفع یده عن أمره الأوّل بواسطة الأمر الثانی .

وإمّا أن یکون الأمر به إرشاداً إلی محبوبیّته وبقائه علی ما هو علیه من المصلحة والغرض، لولا المزاحمة، وأنّ الإتیان به یوجب استحقاق المثوبة، فیذهب بها بعض ما استحقّه من العقوبة علی مخالفة الأمر بالأهمّ، لا أنّه أمرٌ مولویّ فعلیّ کالأمر به .

ص:291

ثمّ أمر رحمه الله بالتفهّم والتأمّل جیّداً.

ثمّ أورد: علی القائلین بالجواز من التالی الفاسد، بقوله :

(ولا أظنّ أن یلتزم القائل بالترتّب بما هو لازمه من الاستحقاق فی صورة مخالفة الأمرین لعقوبتین، ضرورة قبح العقاب علی ما لا یقدر علیه العبد) ، ولذا کان سیّدنا الاُستاذ قدس سره والمیرزا الشیرازی لا یلتزم به علی ما هو ببالی ، وکنّا نورد علی الترتّب، وکان بصدد تصحیحه .

وأخیراً یقول: ظهر أنّه لا وجه لصحّة العبادة مع مضادّتها لما هو أهمّ منها إلاّ ملاک الأمر . انتهی محلّ الحاجة من کلامه(1) .

والذی یستظهر من کلامه بطوله إثبات إشکالین علی الترتّب :

أحدهما : استلزام طلب الضدّین فی مرحلة امتثال الأمر بالمهمّ، لوجود کلا الأمرین وتنجّزهما فی هذا الظرف، لعدم سقوط الأمر الأهمّ بعدُ ؛ لأنّ موجب السقوط یکون أحد الاُمور الثلاثة : انعدام الموضوع وزواله کغرق الرجل فی البحر، وعدم إمکان استخلاصه، المستلزم لسقوط التکلیف بالنسبة إلی تجهیزه من الغُسل والکفن والدفن، أو الإطاعة، أو العصیان ، والمفروض فقدان هذه الاُمور الثلاثة ، فلا وجه لسقوطه .

کما أنّه قد تنجّز الأمر بالمهمّ أیضاً لتحقّق شرطه، وهو العزم علی العصیان مثلاً أو غیره من أقسام الشرط ، فعاد المحذور .

ثانیهما : لزوم الالتزام باستحقاق العقوبتین فی صورة مخالفة العبد لکلّ من الأمرین ، مع أنّ الضرورة قاضیة بقبح العقاب لأمرٍ غیر مقدور، وإن التزم


1- کفایة الاُصول : ج1 / 212 - 219 .

ص:292

باستحقاق عقاب واحد ، فهو لا یناسب مع تنجّز الأمرین .

أقول: فإذا بلغ الکلام إلی هنا . فلا بأس بذکر ما أورد علی الترتّب أو یمکن أن یورد علیه ، فیُجاب عن کلّ واحد مستقلاًّ فی انتهاء البحث إن شاء اللّه تعالی ، فنقول :

الإشکال الثالث: أنّه لو صحّ الأمر بنحو الترتّب بالمهمّ علی عصیان الأهمّ، لزم اختلاف المتلازمین فی الحکم، فإنّ الملازم وإن لم نقل بوجوب کونه محکوماً بحکم ملازمه، ولکن یجب أن لا یکون محکوماً بحکمٍ فعلیّ مخالفٍ له قطعاً.

وجه الملازمة: أنّه إذا وجب الإنقاذ، وقلنا بجواز الأمر بالصلاة بنحو الترتّب، حرم ترک الصلاة قهراً مع کون الإنقاذ وترک الصلاة متلازمین ، فکیف یختلطان فی الحکم، فیجب أحدهما ویحرم الآخر ؟

الإشکال الرابع : أنّه لو قیل بجواز ذلک، لزم طلب الحاصل فی الضدّین اللّذین لا ثالث لهما کالحرکة والسکون ، وهو محالٌ، فإذا أمر بالحرکة وأمر بالسکون علی تقدیر عصیان الأمر بالحرکة، فالأمر الثانی یکون من طلب الحاصل ، فإنّ السکون علی تقدیر عصیان الأمر بالحرکة حاصلٌ بنفسه فکیف یُؤمر به؟

الإشکال الخامس : أنّه یلزم علی الترتّب، والقول باقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه، الأمر بالمتناقضین فی ظرف الأمر بالأهمّ والمهمّ کلیهما ، لأنّه إذا فرض وجوب الإزالة، فلازمه حرمة ترکها، فإذا فرض وجوب الصلاة بالترتّب علی معصیة الأمر بالأهمّ، فیجب حینئذٍ ترک الإزالة للصلاة المأمور بها ، إمّا من باب المقدّمیّة أو من باب سرایة الحکم من ملازمٍ إلی ملازمٍ آخر ، فعلیه یلزم أن یکون فعل الإزالة وترکها واجباً، وهو أمرٌ بالمتناقضین ومحال کما لا یخفی ، ومثله

ص:293

یجری فی طرف الأمر بالمهمّ أیضاً .

الإشکال السادس : أنّه لو قلنا بالاقتضاء وتوقّف صحّة العبادة إلی قصد امتثال الأمر، فیلزم علی الترتّب فساد العبادة من جهة کونها منهیّاً عنها بواسطة الاقتضاء ، فلا یمکن تعلّق الأمر بها من ذلک ولو مترتّباً ، فإذا لم یتعلّق بها الأمر وکان النهی أیضاً قد تعلّق بها، فلا وجه للحکم بالصحّة حینئذٍ ولو علی نحو الترتّب .

الإشکال السابع : أنّه لا إشکال فی أنّ الواجب إذا انحصرت مقدّمته بالحرام الأهمّ سقط وجوبه، وفی المقام بناءً علی الاقتضاء ومقدّمته ترک أحد الضدّین لفعل الآخر یتوقّف فعل المهمّ علی ترک الأهمّ وهو محرّم أهمّ ، فمع أهمّیته کیف یجب فعل المهمّ وبقاء وجوبه؟

الإشکال الثامن : أنّ صحّة خطاب الترتّب موقوفة علی صحّة کون التکالیف علی نحو الواجب المعلّق والشرط المتأخّر ، وإن أنکرنا ذلک وقلنا بعدم کونها کذلک، فلا یمکن القول بصحّة خطاب الترتّب .

توضیح ذلک : أنّه لمّا کان الکلام فی الخطاب الترتّبی واقعاً فی المتزاحمین المضیّقین، الذین أحدهما أهمّ، فإنّ کلّ من خطاب الأهمّ والمهمّ یعدّ مضیّقاً ، ولمّا کان خطاب المهمّ مشروطاً بعصیان الأهمّ، وکان زمان عصیانه زمان امتثال المهمّ کما هو لازم التضیّق ، فلا یمکن أن یکون الخطاب بالمهمّ مقارناً لزمان عصیان الأهمّ، لأنّه زمان امتثاله، فلابدّ أن یتقدّم الخطاب بالمهمّ آناً مّا علی عصیان الأهمّ، لما تقدّم من اعتبار سبق التکلیف فی المضیّقات عن الامتثال ، فباعتبار سبق زمان التکلیف علی زمان الامتثال، یکون من الواجب المعلّق، وباعتبار أنّ الخطاب بالمهمّ مشروط بعصیان الأهمّ وقد سبقه، یکون من الشرط المتأخّر، لأنّ زمان

ص:294

العصیان کان مقارناً لزمان الامتثال للمهمّ، فیکون من قبیل الشرط المتأخّر ، هذا .

فإذا کان صحّة ما التزمنا به منوطاً بوجود الواجب المعلّق والشرط المتأخّر، فمع إنکارهما یوجب عدم صحّة القول بالترتّب .

الإشکال التاسع : أنّ خطاب المهمّ لو کان مشروطاً بنفس عصیان الأهمّ، لم یلزم محذور طلب الجمع ؛ لأنّ امتثال خطاب المهمّ اعتبر فی زمان خلوّ المکلّف عن الأهمّ، فلا یعقل اقتضائه لطلب الجمع .

وأمّا إن اُخذ الشرط للمهمّ ما هو الانتزاعی منه ووصف التعقّب فیه ؛ أی کون المکلّف ممّن یعصی بعد ذلک، فیلزم محذور طلب الجمع ؛ لأنّ خطاب المهمّ یکون فعلیّاً قبل عصیان الأهمّ إذا کان هو ممّن یعصی بعد ذلک، فلم یعتبر فی ظرف امتثاله خلوّ المکلّف عن الأهمّ ، بل یلزم اجتماع کلّ من الأهمّ والمهمّ فی زمان واحد، وهو مُحال .

الإشکال العاشر : بأنّ الأمر الترتّبی لا یمکن تصحیحه ؛ لأنّ العصیان الذی أخذه شرطاً للمهمّ، إمّا أن یکون مأخوذاً بنحو الشرط المتقدّم، أو المتأخّر .

فعلی الأوّل: لابدّ أن یتحقّق العصیان حتّی یصبح أمر المهمّ فعلیّاً، وأنّه فی ذلک الظرف یسقط الأهمّ، لأنّ سقوط أمره ، کما أنّه یحصل بالامتثال کذلک یحصل بالعصیان ، وهذا مخالفٌ لفرض الأمر الترتّبی، لأنّ القائل به یقول بوجود کلا الأمرین فی زمان واحد ، والحال أنّ ذلک بالفرض لیس بمحال، لأنّه لیس طلب الجمع بین الضدّین .

وعلی الثانی: واعتبار الشرط متأخّراً، فقبل وجود العصیان وإن کان المهمّ یصبح فعلیّاً مع عدم سقوط أمر الأهمّ ؛ لأنّ العصیان بعد لم یتحقّق ، إلاّ أنّه یکون

ص:295

حینئذٍ یعدّ طلبه طلباً للجمع بین الضدّین، وهو من الحکیم مُحال ؛ وذلک من جهة أنّ الأمر بالأهمّ حیث لم یتحقّق فیه العصیان یدعو إلی إیجاد متعلّقه قبل حال العصیان، لأنّ المفروض أنّه اُخذ علی نحو الشرط المتأخّر ، فالأمر بالأهمّ قبل تحقّق عصیانه یدعو لزوماً إلی إیجاد الإزالة مثلاً، وکذلک الأمر بالمهمّ أیضاً قبل عصیان الأهمّ یدعو لزوماً إلی إیجاد الصلاة مثلاً ، فلیس هذا إلاّ طلب الضدّین الذی هو طلب المُحال.

فالإشکال وارد علی کلّ حال، سواءً التزمنا بأنّ العصیان شرط متقدّم له أو شرطٌ متأخّر .

هذا تمام مجموع الاعتراضات التی أورد علی القول بالترتّب، وقد تعرّض لبعضها صاحب «فوائد الاُصول» ، ولبعضها صاحب «عنایة الاُصول» ، ولبعضها صاحب «منتهی الاُصول» ، وغیر ذلک ، فلا بأس حینئذٍ للتعرّض فی جوابها بعون اللّه الملک المنّان ، فنقول:

أمّا الإشکال الأوّل: وهو الذی ذکره صاحب «الکفایة» من لزوم الاستحالة لأنّه مستلزم لطلب الضدّین وهو محال، واستحالته لیست إلاّ لأجل استحالة طلب المحال، أی یکون من قبیل التکلیف بالمحال، وصدوره عن الحکیم محال .

أقول: فللمناقشة فی کلامه مجال واسع :

أوّلاً : إنّا لا نسلم کونه من التکلیف بالمحال، کما صرّح بذلک من أنکر الترتّب ، بل قد یستظهر ذلک من کلام صاحب «الکفایة» أیضاً ؛ لأنّه من الواضح أنّه لو کان أمر الآمر قد تعلّق بالضدّین معاً بأمرٍ واحد، کان هذا من قبیل التکلیف بالمُحال ، ولکن فی المقام لیس کذلک ، بل هنا أمران قد تعلّق کلّ واحدٍ منهما إلی

ص:296

کلّ واحدٍ من الضدّین اللّذین کان کلّ واحدٍ منهما مقدوراً أو ممکناً للمکلّف، ولا یکون تعلّق الطلب بهما مستحیلاً ، بل الذی یوجب الاستحالة هو أن یکون طلب کلّ واحدٍ منهما فی عرضٍ واحد، وزمان فارد ورتبة واحدة ، وجهة الاستحالة حینئذٍ لیس من باب التکلیف بالمُحال ، بل یکون من قبیل أنّه تکلیفٌ محال .

توضیح ذلک : أنّ المولی الحکیم لا یوجّه خطابه وأمره إلی أحد ، إلاّ أن یکون بعثه موجباً وداعیاً لانقداح الانبعاث فی نفس العبد ، فإذا کان العبد ممّن یمکن له الانبعاث من حیث نفسه ومتعلّق الأمر، فیمکن تحقّق البعث إلیه من ناحیة المولی . وأمّا إذا لم یکن للعبد هذه القابلیّة، بأن لا یکون قادراً علیه إمّا من جهة عجزه بنفسه، أو لما فی متعلّق الأمر من العجز ، فحینئذٍ لا یمکن فرض انقداح الانبعاث فی حقّه ، فما لم یمکن کذلک لا یمکن صدور الکلیف والبعث عن المولی الحکیم نحوه ؛ لأنّ حکمته تمنع عن ذلک، إذ لا یصدر عن مثله عملاً لغواً ، ومن الواضح أنّ الأمر والبعث إلی شخص عاجز عن الانبعاث یکون لغواً ، فمرتبة التکلیف بالمحال تحصل بعد إمکان صدور التکلیف ، مع أنّ مقتضی ما ذکرناه فی طلب الضدّین فی عرض واحد، هو عدم إمکان الصدور لا إمکانه واستحالته من حیث المتعلّق، کما یستظهر ذلک من بعض .

هذا ، ولا فرق فی ما ذکرنا بین أن یکون الدلیلین فی الضدّین مطلقین أو مشروطین بشرط خارجی، أو مختلفین من حیث الإطلاق والاشتراط ، لأنّ تلک الخصوصیّة لا یوجب التفاوت فیما هو المقصود من الاستحالة فی طلبهما فی زمان ومرتبة واحدة ، کما أنّ الأمر یکون کذلک، فلو علم الآمر بأنّ علی العبد من جهة علل خارجیّة تقتضی من إیقاعها فی عرض واحد ورتبة واحدة، وإن کان

ص:297

لسان الأمر خالیاً عن إیقاعهما کذلک ، فإنّه حینئذٍ مع علم المولی بذلک وکونه حکیماً، وکون الأمر من جهة داعویّته للانبعاث الذی لا یمکن تحقّقه فی المورد، یوجب استحالة صدور التکلیف منه کذلک بواسطة ما عرفت من الدلیل والبرهان علیه ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : أنّ الواجبین اللّذین قد تصوّر فیهما التزاحم، یکون علی أقسام ثلاثة:

الاُولی: إنّ الواجبین الممتنع اجتماعهما فی زمان واحد، قد یکونان موسّعین کالصلاة الیومیّة وصلاة الآیات فی سعة وقتهما، أو الصلاة الأدائیّة مع القضاء علی القول بالمواسعة.

الثانیة: أن یکون أحدهما موسّعاً والآخر مضیّقاً کصلاة الظهر وإزالة النجاسة عن المسجد.

الثالثة: أن یکون کلاهما مضیّقین، کالإزالة والصلاة فی آخر وقتهما.

قیل : فلا شبهة فی أنّها غیر داخلة فی کبری التزاحم، لیتمکّن المکلّف من الجمع بینهما فی مقام الامتثال من دون منافاة بینهما ، ویکون الأمر فیهما فعلیّاً من دون تزاحم ، ومن هنا لم یقع إشکال ولم یصدر عن أحد لذلک فی مثله کلام .

نعم ، قد یقع الکلام فی کیفیّة تعلّق الأمر بالفرد المزاحم للآخر بما سیأتی تفصیله، وسیتّضح لک الأمر إن شاء اللّه تعالی) ، هذا کما عن المحقّق الخوئی(1) .

أقول: لکنّه مخدوش لأنّ دعواه بعدم التزاحم فیه لتمکّن المکلّف من الجمع فیها بصورة الإطلاق، لیس بصحیح ، لأنّه :


1- محاضرات : ج3 / 91 .

ص:298

إن قیل: بأنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع دون الأفراد، وتعلّقها بالطبایع لیس علی نحو یسری الأمر إلی کلّ فرد فرد من أفرادها الطولیّة والعرضیّة، من جهة أنّه یکفی فی صحّة تعلّق الأمر بالطبیعة کون صرف وجودها مقدوراً فی التحقّق، عقلاً أو شرعاً ، فلو لم یکن کلّ فردٍ فرد منها مقدوراً لا یضرّ فی صحّة تعلّق الأمر بها ، بل لو کان فرد واحد منها مقدوراً دون سائر الأفراد، لکن تعلّق الأمر بالطبیعة کافیاً وصحیحاً أیضاً ، فعلیه یکون ما ادّعاه من عدم کون الواجبین الموسّعین من کبری التزاحم جیّداً ، لأنّه یمکن أن یُقال حینئذٍ بوجود الأمر فی أحد المتزاحمین، وهو الأهمّ مثلاً لو کان فی البین أهمٌّ، أو أحدهما الغیر المعیّن واقعاً ، أو ما هو المعیّن عند اللّه ، أو ما اختاره المولی مأموراً به دون الآخر، لعدم إمکان الجمع حینئذٍ بینهما فی زمانٍ واحد یستلزم کون الآخر مأموراً به أیضاً، وهذا یندرج فی طلب الضدّین الذی ادّعی استحالته .

فیجاب عنه: بما سیأتی إن شاء اللّه تعالی ؛ لأنّک قد عرفت بأنّه لا یجب علی هذا المبنی الذی بیّناه، کون الفرد الآخر مأموراً به حتّی نحتاج إلی ما سنقول، إذ بعض أفراد هذا الأمر لا یمکن فرض المزاحمة فی حقّه فیکون مأموراً به بلا إشکال ، فلا نحتاج فی هذا الفرض إلی التشبّث بما سنقول فی صحّة الترتّب، لتعلّق الأمر بهذا الفرد من الآخر الذی له مزاحم، کما لا یخفی .

وإن قیل: بأنّ الأوامر قد تعلّقت بالأفراد لا الطبایع ، أو قلنا بتعلّقها بالطبایع ، إلاّ أنّه قلنا بأحد الوجهین، إمّا بأنّ نسبة الطبایع والطبیعة إلی الأفراد العرضیّة والطولیّة لیست کنسبة الکلّی إلی أفراده، حیث یکفی فیه وجود القدرة فی فرد مّا فقط ، بل کانت نسبته کنسبة الکلّ إلی الأجزاء والأفراد، من جهة أنّه لابدّ أن تکون

ص:299

القدرة موجودة فی جمیع أفرادها، حتّی یصحّ تعلّق الأمر بها .

أو قلنا بأنّ التکلیف إذا تعلّق بطبیعة، حیث أنّه کان بداعی إیجاد الانبعاث فی العبد ، فلابدّ أن یکون متعلّقه بجمیع أفراده المقدورة فی نفسها لیصحّ تعلّق التکلیف ولیصحّ تعلّق الأمر بالطبیعة بالنسبة إلی ذلک الفرد .

ففی هاتین الصورتین الأخیرتین أو الثلاث، یقع الواجبان الموسّعان فی الزمان الواحد، والجمع بینهما فی عدم إمکانه یکون من قبیل باب التزاحم أیضاً، إذ الأمر المتعلّق بکلّ فرد من المتزاحمین یزاحم مع الأمر المتعلّق بالفرد الآخر فی ذلک الوقت وفی هذا الجمع ، فلا طریق حینئذٍ لإثبات الأمرین إلاّ بنحو الترتّب الذی سنذکره ، فکیف قال حفظه اللّه إنّه لیس من باب التزاحم أصلاً ؟!

أقول: إذا عرفت إمکان ورود التزاحم فی الموسّعین علی التقدیرین الأخیرین، أو التقادیر الثلاث، فجریان التزاحم فی المضیّقین أو فی المختلفین - سواءً کان أحدهما مشتملاً علی مصلحةٍ أهمّ أو لم یکن ، بل کانا متساویین من جهة المصلحة - کان بطریق أولی ، فلابدّ فیهما من علاج أیضاً .

وقد حاول المحقّق الخوئی حلّ المشکلة عن طریق التفصیل فی الصورة الثانیة بین الأقسام، بأنّه لو کان أحد المتزاحمین واجباً موسّعاً کصلاة الظهر مثلاً فی سعة وقتها، أو إزالة النجاسة عن المسجد أو ما شاکل ذلک کإنقاذ الغریق مثلاً، فی کونها داخلة تحت باب التزاحم وعدمها علی التفصیل .

ثمّ قال: إنّ اُستاذنا المحقّق النائینی قدس سره التزم فی باب التعبّدی والتوصّلی إلی أنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید فی الخطابات یکون من قبیل تقابل العدم والملکة ، فکلّ مورد لا یکون التقیید للخطاب فیه قابلاً، فلا یکون الإطلاق فیه

ص:300

قابلاً أیضاً ؛ لأنّ استحالة أحدهما فی خطاب یوجب استحالة الآخر، وهذا هو معنی تقابل العدم والملکة .

فعلی هذا، بما أنّ ما نحن فیه یستحیل تقیید إطلاق الواجب الموسّع بخصوص الفرد المزاحم لاستلزامه طلب الضدّین، فإطلاقه من تلک الناحیة أیضاً مستحیل ، فیرتّب علی ذلک وقوع المزاحمة بین إطلاق الواجب الموسّع، وخطاب الواجب المضیّق ، فلا یمکن الجمع بینهما، إذ علی تقدیر فعلیّة خطاب المضیّق، یستحیل إطلاق الواجب الموسّع بالإضافة إلی الفرد المزاحم ، إذن لابدّ:

إمّا من رفع الید عن إطلاق الموسّع والتحفّظ علی فعلیّة خطاب المضیّق .

وإمّا رفع الید عن خطاب المضیّق والتحفّظ علی إطلاق الموسّع .

فلا طریق لإثباتهما علی هذا المعنی، إلاّ علی ما یُقال فی الترتّب، أو کفایة الملاک فی الصحّة من دون أمرٍ ، فیکون هذا کالقسم الثالث داخلاً فی النزاع .

غایة الأمر ، کان التزاحم هنا بین إطلاق الموسّع مع خطاب الآخر، بخلاف المضیّقین حیث کان التزاحم حاصلاً فی الخطابین .

وأمّا علی المبنی الذی اختاره المحقّق الخوئی، من اعتبار تقابل الإطلاق والتقیید من قبیل تقابل التضادّ لا العدم والملکة ، فلازم ذلک أنّه لو فرض أنّ إطلاق دلیل بالنسبة إلی قید فی الحکم أو الموضوع کان مستحیلاً، لا یوجب عدم إمکانه فی الإطلاق والتقیید لشیء آخر ، بل کان الإطلاق والتقیید بالنسبة إلیه ضروریّاً ، واستدلّ علی ذلک بقوله:

(لأنّه یستلزم أن تکون الصورة الثانیة خارجة عن باب التزاحم . والوجه فی ذلک ما ذکرناه غیر مرّة من أنّ معنی الإطلاق هو رفض القیود، وعدم دخل

ص:301

شیء منها فی متعلّق الحکم واقعاً، لا الجمع بینها ودخل الجمیع فیه ، وعلیه فمعنی إطلاق الواجب الموسّع، هو أنّ الواجب صرف وجوده الجامع بین المبدأ والمنتهی، وعدم دخل شیء من خصوصیّات وتشخّصات أفراده فیه ، فالفرد غیر المزاحم کالفرد المزاحم فی عدم دخله فی متعلّق الوجوب وملاکه أصلاً ، فهما من هذه الجهة علی نسبة واحدة .

إلی أن قال : وعلی هذا فمعنی إطلاق الواجب المزبور، هو عدم دخل شیء من تلک الخصوصیّات فیه، بحیث لو تمکّن المکلّف من إیجاده فی الخارج عاریاً عن جمیع الخصوصیّات والمشخّصات المزبورة، لکان مجزیاً، لأنّه أتی بالمأمور به فی الخارج ، وهذا معنی الإطلاق .

ونتیجة ذلک: هی أنّ الواجب الموسّع مطلقٌ بالإضافة إلی الفرد المزاحم، کما هو مطلق الإضافة إلی غیره من الأفراد ، وعلیه فلا منافاة بین إطلاق الموسّع وفعلیّة الخطاب .

ومن هنا ذکرنا سابقاً، أنّه لا منافاة بین وجوب الصلاة فی مجموع الوقت من الزوال إلی المغرب ، وبین وجوب واجبٍ آخر کإنقاذ الغریق أو إزالة النجاسة عن المسجد فی بعض ذلک الوقت ، إذ المفروض أنّ الوجوب تعلّق بصرف وجود الصلاة فی مجموع هذه الأزمنة، لا فی کلّ زمان من تلک الأزمنة، لینافی وجوب واجبٍ آخر فی بعضها .

فبالنتیجة : أنّه لا مضادّة ولا ممانعة بین إطلاق الموسّع، ووجوب المضیّق أصلاً ، ولذلک صحّ الإتیان بالفرد المزاحم بداعی الأمر المتعلّق بصرف وجود الواجب ، فلا حاجة إلی القول بالترتّب أصلاً ، فإذن لا وجه لدخول هذا القسم فی

ص:302

محلّ الکلام والنزاع) ، انتهی کلامه(1) .

قلنا: یتوجّه الإشکال إلی کلام کلّ من الاُستاذ وتلمیذه صاحب «المحاضرات»:

فأمّا الإشکال فی کلام المحقّق النائینی قدس سره فهو أوّلاً: أنّ الإطلاق والتقیید إن کان تقابلهما علی نحو تقابل العدم والملکة من استحالة الإطلاق فی کلّ مورد یستحیل فیه التقیید ، فکیف تکون هذه الجهة ملحوظة فی إطلاق الواجب الموسّع فقط ، بل لابدّ أن یلاحظ هذا الإطلاق فی المضیّق أیضاً ؛ لأنّ إطلاق کلّ دلیل علی قسمین:

قسمٌ: یسمّی بالإطلاق الإفرادی الدالّ علی الشمول البدلی فی الافراد، کإطلاق الطبیعة علی أفرادها الطولیّة المحقّق فی الواجب الموسّع فی طول الزمان، من إمکان الانطباق علی کلّ فرد من أفراده .

فهذا القسم من الإطلاق لیس إلاّ فی الموسّع ، حیث لا یجری فی المضیّق الذی لا یکون فرده إلاّ منحصراً فی واحد .

وأمّا القسم الآخر منه: وهو الإطلاق من حیث الأحوال بالنسبة إلی الأفراد العَرَضیّة، بأن یکون الفرد فی الخارج مشتملاً علی مصلحة مکانیة من المسجد وعدمها ، أو بأن یکون مشتملاً علی تقابل فرد مزاحم له من الواجب وعدمه ، أو مشتملاً علی نقیصة مکانیّة من الحمّام وعدمه ، وأمثال ذلک . فحینئذٍ لو کان التقیید فی إحدی هذه الحالات مستحیلاً، فهکذا یستحیل إطلاقه ، ففی المقام یکون کذلک لأنّ ملاحظة التقیید فی خطاب الواجب المضیّق بکونه واجباً مقیّداً فی حال وجود فرد المزاحم کان مستحیلاً، لاستلزامه التکلیف بالضدّین، وهو محال علی


1- محاضرات : ج3 / 92 .

ص:303

المفروض ، فإطلاقه من تلک الناحیة أیضاً مُحال ، فیلزم أن یکون التزاحم فی هذا القسم من الواجبین أیضاً بین نفس کلّ دلیل مع الآخر ، لا ملاحظة نفس فعلیّة خطاب الواجب المضیّق مع إطلاق الواجب الموسّع ، لما قد عرفت أنّ فی طرف المضیّق أیضاً إطلاق کالموسّع ، غایة الأمر أنّ إطلاق الموسّع افرادی طولی ، وإطلاق المضیّق أحوالی عرضی ، ووجود التفاوت غیر مؤثّر فیما هو المقصود من کلامه من کون التقابل هو العدم والملکة .

أقول: هذا جوابٌ إقناعی للخصم، موافقاً لما ادّعاه من بیان معنی الإطلاق والتقیید، وإلاّ فسنبیّن لک إن شاء اللّه تعالی أنّ معناهما لیس علی ما توهّمه المحقّق المذکور قدس سره .

فالتزاحم هنا علی مبناه یکون من قبیل التزاحم فی الواجبین المضیّقین، لا بین إطلاق الموسّع ونفس فعلیّة الخطاب، حتّی یمکن رفع الید عن أحدهما ؛ أی یقع التزاحم حینئذٍ علی ما قرّرناه بحسب مبناه بین نفس الخطابین المضیّقین لا بین إطلاق أحدهما مع نفس الآخر، کما ادّعاه .

وثانیاً : یرد علیه أنّ الإطلاق والتقیید الذی اعتبرهما أنّهما لیسا من قبیل العدم والملکة، فهما یعدّان من صنف الإطلاق اللحاظی دون الإطلاق الذاتی .

توضیح ذلک: أنّه فرق بین أن یلاحظ المولی شیئاً ویجعله موضوعاً لحکمه مع ملاحظة الأفراد والأحوال المرافقة معه من الوجودات وغیرها، کأن یلاحظ لزوم إکرام زید مع مجیئه وعدمه ، ومع قیامه وقعوده، بصورة لحاظ الإطلاق فی متعلّقه ، فیسمّی هذا الإطلاق إطلاقاً لحاظیّاً ، ففی مثل هذا الإطلاق والتقیید یکون التقابل من قبیل التقابل العدم والملکة، فإنّ إمکان لحاظ التقیید فی مثله مستلزمٌ

ص:304

لإمکان لحاظ الإطلاق فیه أیضاً، واستحالته مستلزم لاستحالته .

هذا بخلاف الإطلاق الذاتی، فإنّ معناه لیس هو لحاظ الإطلاق فی المتعلّق من الأفراد والأحوال ، بل معنی الإطلاق الذاتی هو أن یری ویلاحظ الموضوع من دون أن یلاحظ معه شیء لا وجوداً ولا عدماً، وکان الموضوع والمتعلّق بالنسبة إلی الأحوال والأفراد بصورة اللابشرط، لا أن یکون بشرط الإطلاق کما هو الحال فی إطلاق القسم الأوّل ، فمثل هذا الإطلاق لا یکون تقابله مع التقیید ، إلاّ من قبیل تقابل التضادّ لا تقابل العدم والملکة ، بلا فرق فیما ذکرنا بین صورتی الإطلاق التی ذکرناهما سابقاً من الإطلاق الأفرادی والطولی أو الأحوالی والعرضی ، فی أنّ التقابل فی الإطلاق والتقیید یتصوّر علی قسمین کما عرفت .

ومن الواضح أنّ الإطلاق والتقیید الواردان فی الخطابات الشرعیّة والعرفیّة بحسب المتعارف یعدّان من القسم الثانی وهو الذاتی لا اللّحاظی ، إلاّ أن یصرّح فی لسان الدلیل کون الإطلاق لحاظیّاً فهو المتّبع وإلاّ فلا .

وعلی هذا، لا یکون وجود الإطلاق فی دلیل الواجب الموسّع من حیث الأفراد والأحوال، وفی الواجب المضیّق من حیث الأحوال مستحیلاً أصلاً ، فإطلاق (کلّ) یشمل مورد الاجتماع فیدخل تحت قاعدة التزاحم، وتقع المزاحمة بین الإطلاقین ؛ أحدهما أحوالی فقط ، والآخر أفرادی وأحوالی، لا بین نفس الخطابین . فیلزم حینئذٍ عودة الإشکال الوارد فی المتزاحمین من لزوم طلب الضدّین ، ممّا یعدّ کرّاً علی ما فرّ منه، فلابدّ حینئذٍ من رفع الإشکال بما سنذکره إن شاء اللّه تعالی فی مقام تصحیح الترتّب .

هذا تمام الإشکال فی کلام الاُستاذ وهو المحقّق النائینی قدس سره .

ص:305

ثمّ نوجّه إشکالنا إلی کلام تلمیذه وهو سیّدنا الخوئی حفظه اللّه:

فإنّه وإن أراد إثبات کون التقابل بین الإطلاق والتقیید تقابل التضادّ لا العدم والملکة ، إلاّ أنّه یرد علیه إشکالان :

الإشکال الأوّل : وهو الذی ذکرناه عند مناقشة کلام الاُستاذ، من أنّه کیف لاحظ الإطلاق فی طرف الموسّع دون المضیّق، حیث قال التزاحم حینئذٍ فعلیّة خطاب التضیّق ، مع أنّک قد عرفت وجود الإطلاق لکلیهما ، أحدهما أفرادی وأحوالی ، والآخر أحوالی فقط ، سیّما مع ملاحظة مبناه فی تقابل الإطلاق والتقیید، من کونه من قبیل التضادّ کما عرفت ، مضافاً إلی أنّه لم یبیّن صریحاً أنّ التقابل بالتضادّ فی أیّ إطلاق أراد ، والظاهر أنّه أراد الذاتی منه .

الإشکال الثانی: وهو الذی یرد علی النتیجة التی رتّبها علی کلامه، إذا فَرَض وجود إطلاق الموسّع حتّی بالنسبة إلی الفرد المزاحم ، وکان الواجب هو الطبیعة الجامعة بین المبدأ والمنتهی المأمور بها، فلا یکون إطلاق الواجب الموسّع حینئذٍ مزاحماً مع المضیّق أصلاً ، ولذلک لا نری منافاة بین صلاة الظهر الموسّع مع وجوب الإزالة المضیّق ، هذا .

قلنا : هذا صحیح فیما إذا لم نقل بسرایة الأمر من الطبیعة إلی الأفراد، کما ذهب إلیه بعض ، وإلاّ کان کلّ فرد فرد حتّی المزاحم مصداقاً للمأمور به، فیزاحم المضیّق مع کونه مأموراً به، فیعود محذور طلب الضدّین، ولا یمکن تصحیحه إلاّ علی القول بصحّة الترتّب .

وکذا إذا لم نقل بأنّ القدرة فی المتعلّق کانت شرطاً شرعاً لصحّة تعلّق الأمر بالطبیعة، بالبیان الذی قرّرناه، من جهة کون التکلیف لداعویّة الانبعاث، وهو لا

ص:306

یکون فی کلّ فرد فرد، إلاّ مع وجود القدرة فی متعلّقه، والقدرة فی الفرد المزاحم متیقّنة مع المزاحمة .

وکیف کان، فإنّ شمول إطلاق دلیل الموسّع لمثل هذا الفرد لا مجال لتوجیهه إلاّ بناءً علی القول بالترتّب.

وعلیه فکلامه علی الإطلاق فی النتیجة، حیث قال: (لا مضادّة ولا ممانعة بین إطلاق الموسّع ووجوب المضیّق أصلاً ، ولذلک صحَّ الإتیان بالفرد المزاحم بداعی الأمر المتعلّق بصرف وجود الواجب).

لیس بوجیه، وإن کان ظاهر کلامه یوصل إلی أنّ مختاره غیر ما ذکرنا من الصور ، فتأمّل .

وبالجملة : والذی ظهر من جمیع ما حقّقناه، أنّ الدلیلین المتزاحمین سواءً کانا موسّعین أو مضیّقین أو مختلفین .

إن کان الإطلاق الموجود فی کلّ واحد منهما أو فی أحدهما إطلاقاً لحاظیّاً ، فبالنسبة إلی ذلک الإطلاق لابدّ أن یلاحظ التزاحم بنفس دلیل الخطاب والتکلیف لا بإطلاقه، للاستحالة التی عرفت وجهها .

وأمّا إن کان الإطلاق فی کلّ منهما أو فی واحدٍ منهما ذاتیّاً، کما هو الغالب المتعارف فی عامّة الخطابات ، فلا إشکال فی أنّ التزاحم یقع بین إطلاقی الدلیلین فی جمیع الأقسام، لکون التقابل حینئذٍ من قبیل التقابل بالتضادّ .

وأمّا التزاحم من جهة الأمر فی کلّ واحد منهما، فمنوط إلی تعیّن القسم الذی ذکرناه فی صدر البحث .

وحیث کان المتعارف فی الخطابات هو الإطلاق الذاتی ، فالتزاحم بین

ص:307

الدلیلین یکون بإطلاقهما فی تمام الأقسام من المضیّقین والموسّعین وغیرهما بلا إشکال ، فلابدّ فی تصحیحه من إجراء باب الأمر الترتّبی أو غیره، کما لا یخفی .

کما لا فرق فی وجود التزاحم بین کون أحد الدلیلین أهمّ من الآخر، أو لم یکن بأهمّ لتساوی مصلحتهما، لعدم تأثیر مثل هذه الخصوصیّات فیما هو المقصود فی المسألة کما لا یخفی ، والعلم عند اللّه تعالی .

أقول: ومن هنا یظهر الإشکال فی کلام المحقّق العراقی قدس سره فی «نهایة الأفکار» ، فلا بأس بذکر کلامه علی نحو الخلاصة والإجمال ، والإشارة إلی ما یرد علیه .

قال المحقّق العراقی:

(وأمّا الضدّین اللّذین لهما ثالث، وتمکّن المکلّف من ترکهما، کما فی الصلاة والإزالة ، فلا إشکال فی عدم جواز ترک کلیهما ، ووجوب الإتیان لأحدهما مخیّراً بالتزام شرعی، لأنّ الممنوع منه هو إلزام کلّ واحدٍ منهما علی التعیّن بصورة المنع عن أنحاء تروکه، حتّی الترک فی حال وجود الآخر ، هذا ممّا لا کلام فیه .

إنّما الکلام فیما ینتهی إلیه مرجع هذا التخییر ، وأنّه هل هو راجع إلی تقیید الطلب فی کلّ من الأمرین لعدم الآخر وعصیانه ، أو إلی التقیید الواجب مع إطلاق الطلب أو غیرهما ؟ وجوه :

أحدها : بأن یکون طلب کلّ مقیّداً بعدم الآخر، أمّا بعدمه المحفوظ قبل الأمر، وأمّا بعدمه المتأخّر عن الأمر المنتزع عنه عنوان العصیان الذی هو نقیض الإطاعة .

ص:308

وثانیها : رجوعه إلی تقیید الواجب فی کلّ بعدم الآخر، مع إطلاق الطلب فیهما ، وهو أیضاً :

إمّا بأخذ القید فی کلّ منهما مطلق عدم الآخر، بنحوٍ یقتضی وجوب تحصیله .

وإمّا بأخذه عبارة عن العدم الناشئ من قبیل سائر الدواعی غیر دعوة الأمر والطلب، بحیث لا یقتضی الطلب وجوب تحصیله .

وثالثها : رجوعه إلی وجوب کلّ واحد منهما علی التعیین ، ولکنّه لا بإیجاب تام بنحو یقتضی المنع عن جمیع أنحاء تروکه، حتّی الترک الملازم مع وجود ضدّه ، بل بإیجابٍ ناقص مقتضاه المنع من غیر ناحیة الترک الملازم لوجود الآخر من سائر التروک ، إذ الشیء بعد أن کان له أنحاء من العدم بالإضافة إلی فوت کلّ مقدّمة من مقدّماته، ووجود کلّ ضدّ من أضداده ، فلا جرم بعد خروج أحد تلک الأعدام من حیّز التکلیف ؛ إمّا لعدم القدرة، أو لغیر ذلک - کما فی المقام من فرض عدم تمکّن المکلّف من الجمع بین الوجودین - فلا یکون قضیّة التکلیف بالإیجاد حینئذٍ إلاّ وجوب سدّ بقیّة الأعدام فی ظرف انسداد عدمه من باب الاتّفاق من قبیل بدیله وضدّه ، ومرجعه إلی کونه أمراً بمتمّم الوجود، لا بالوجود علی الإطلاق بنحو یقتضی وجوب سدّ جمیع الأعدام، حتّی العدم الملازم مع وجود ضدّه .

ومرجع ذلک بالأخرة إلی تخصیص الواجب فی کلّ منهما بما یکون ملازماً مع عدم الآخر، من دون أن یکون ذلک من جهة تقیید فی الواجب ولا فی الوجوب ، بل من جهة قصورٍ فی الوجوب بنفسه عن الشمول لغیر ذلک .

هذا بحسب مقام التصوّر .

ص:309

وأمّا بحسب مقام التصدیق: فالمتعیّن هو الوجه الأخیر، لعدم خلوّ غیره عن المحذور .

أمّا الوجه الأوّل: سواء تقیّد کلٌّ منهما بعصیان الآخر أو بعدمه من باب الاتّفاق المحفوظ من قبل الآمر ، إذ الشقّ الثانی منه غیر رافع لمحذور المطاردة بین الأمرین من جملة بقاء المطاردة بینهما بعدُ علی حاله بملاحظة تحقّق ما هو الشرط فیهما قبل الإتیان بواحد منهما .

وأمّا الشقّ الأوّل: فهو وإن اندفع به محذور المطاردة، نظراً إلی وقوع تأثیر کلّ منهما فی ربقة سقوط الآخر ، إلاّ أنّه یتوجّه علیه حینئذٍ محذور طولیّة الأمرین، وتأخّر کلّ منهما عن الآخر برتبتین، حسب إناطة کلّ منهما بعصیان الآخر .

وأمّا الوجه الثانی: فإنّ لازم تقیید کلّ من الواجبین بعدم الآخر، هو مثل ما عرفت الآن من التأخّر برتبتین ، لازمه بمقتضی حفظ الرتبة بین النقیضین هو تأخّر کلّ من الوجودین عن الآخر، وهو ملازم لکون کلّ منهما فی رتبتین ، وهو کما تری من المستحیل ، خصوصاً مع ما یرد علی الشقّ الأوّل منه، من لزوم وقوع المطاردة بین الأمرین بلحاظ اقتضاء إطلاق الأمر فی کلّ منهما لزوم ترک الضدّ الآخر من باب المقدّمة، واقتضاء الأمر به عدم ترکه ولزوم إیجاده . إذ حینئذٍ یصیر کلّ واحدٍ منهما وجوداً وعدماً ، هو ردّاً للتکلیف الإلزامی، وهو محال .

ثمّ فرّع علیه بقوله : وعلیه أیضاً لا داعی إلی رفع الید عن الأمرین علی الإطلاق، والمصیر إلی إلزام عقلی تخییری فیهما ، بل یؤخذ حینئذٍ بوجوب کلّ منهما علی التعیین ، غایته أنّه من جهة محذور المطاردة والوقوع فی ما لا یُطاق یرفع الید عن إطلاق الأمرین واقتضائهما للحفظ علی الإطلاق ، ویصار إلی

ص:310

وجوب کلّ منهما بإیجابٍ ناقص راجع إلی إیجاب حفظ المرام من سائر الجهات فی ظرف انحفاظه من قبیل ضدّه من باب الاتّفاق، من دون أن یکون ذلک من جهة تقیّد فی الطلب أو المتعلّق بوجه أصلاً) ، انتهی کلامه ملخّصاً(1) .

أقول: التفصیلات والتحقیقات المذکورة برغم دقّتها وأهمّیتها، حیث لا تصدر إلاّ عن علاّمة مثله رحمه الله ، ولکن لنا فیها تأمّلات:

أوّلاً : أنّ الالتزام بکون الوجوب هنا من جهة ذاته ناقصاً لا تامّاً - أی لا یقتضی ترک جمیع أنحاء التروک فی الضدّین حتّی یکون تامّاً ، بل یکون ناقصاً أی لا یقتضی إلاّ بالنسبة إلی سائر التروک - فهو مجرّد ادّعاء لا دلیل إثباتی له حتّی العرفی منه، لأنّه لیس لنا فی الأمرین فی قوله : (إنقذ الغریقین) ، إلاّ التهیئة التی تدلّ علی الطلب إطلاقاً أو تقییداً ، والمادّة التی تدلّ علی نفس الإنقاذ مطلقاً أو مقیّداً ، فإذا فرض نفی دلالة کلا الأمرین من تلک الحیثیّة ، فما الدلیل الذی یدلّ علی کون الأمر فی هذا المورد یکون ناقصاً بخلاف الأمر الواقع منفرداً حیث یکون تامّاً ؟

وما یمکن أن یقع لذلک دلیلاً، لا یخلو عن أحد أمرین :

أمّا أن یکون دلیلاً شرعیّاً أو عقلیّاً :

فالأوّل: منهما مفقود علی الفرض لأنّه لو کان لبان .

وأمّا الثانی: قد نفاه رحمه الله بنفسه من خلال قوله: (لا داعی إلی رفع الید عن الأمرین علی الإطلاق، والمصیر إلی التزام عقلی تخییری فیهما).

فلا یبقی لنا حینئذٍ دلیل یدلّ علیه ، فکیف الالتزام به من دون وجود دلیل،


1- نهایة الأفکار : ج1 / 366 .

ص:311

کما لا یخفی علی المتأمّل .

وثانیاً : أنّ المحذور فی الأمر بالضدّین لیس لنقصٍ فی مقام الاقتضاء ؛ لأنّ الأمر المتعلّق بالشیء منفرداً ، متّحدٌ مع الأمرین المتعلّقین بالضدّین من حیث الاقتضاء، وإنّما التفاوت إن وجد کان من حیث وجود المانع فی مقام الامتثال للأمر بالضدّین، وهو عدم قدرة المکلّف علی القیام بالإتیان بهما فی زمان واحد ، وهذا بخلاف الأمر المتعلّق بشیء واحد .

وعلیه فما ذکره من التفاوت فی مقام الاقتضاء بین الموردین، من کون الاقتضاء فی موردٍ تامّاً، بخلاف ما نحن فیه، لیس إلاّ دعوی بلا دلیل وبرهان .

وثالثاً : أنّه لیس ما قرّره سوی ما ذکرنا من کون ملاحظة الإطلاق علی قسمین من اللّحاظی والذاتی، ولا یکون شیئاً آخراً عداهما ؛ لأنّ معنی الإطلاق فی الأمر المنفرد لیس إلاّ أنّه ذاتی، أی لا یری فی متعلّقه إلاّ ذاته من دون وجود قیدٍ آخر لا وجوداً ولا عدماً معه، حتّی من جهة وجود المزاحم له ، بخلاف الإطلاق اللّحاظی حیث أنّه یمکن أن لا یکون إلاّ بالنسبة إلی بعض القیود دون بعض، ولو من جهة وجود المزاحمة له فی الخارج ، فعلیه لو کان الإطلاق الملحوظ فی الأمرین المتعلّقین بالضدّین من قبیل الثانی لما أمکن القول بإطلاقه بالشمول لصورة وجود المزاحم، إن کان التقابل فی الإطلاق والتقیید اللّحاظی علی نحو تقابل العدم والملکة ، ولکن هذا یرجع إلی أنّ المقیّد - أی التضیّق لا التقیّد الاصطلاحی - کان فی الواجب لا فی الوجوب، کما اعترف بذلک رحمه الله فی ضمن کلامه، بقوله : (بأنّه یرجع ذلک بالأخرة إلی تخصیص الواجب لکن من دون تقیید ، بل قلنا لقصور فی الوجوب بنفسه)، وهذا یوجب أن تکون المناقشة لیس

ص:312

إلاّ المشاحّة فی الاصطلاح والنزاع فی اللفظ والتعبیر، إذ هو کان حینئذٍ من قبیل نتیجة التقیید، لو لم نقل بکونه حقیقة، مع أنّک قد عرفت کون الإطلاق ذاتیّاً لا لحاظیّاً .

ورابعاً : ما ذکره فی تعیین وجه الأخیر فی مقام التصدیق، من استلزام تقیید الطلب بالعدم السابق قبل الأمر ببقاء المطاردة لتحقّق الشرط فیهما قبل الإتیان ، وبالعصیان للآمر الآخر، یستلزم محذوریّة طولیّة الأمرین، وتأخّر کلّ واحدٍ منهما من الآخر برتبتین .

لیس بوجیهٍ، لأنّه یتّضح لک الأمر لاحقاً بأنّ وجود الأمرین فی زمان واحد للضدّین لا یستلزم محذوراً من ناحیة اقتران زمان الأمرین ، بل المحذور إنّما هو حاصل من جهة متعلّقهما، من حیث عجز المکلّف عن الجمع بینهما ، فإن أجبنا عن هذا المحذور لاحقاً، فلا یبقی المطاردة فی نفس اجتماع الأمرین أصلاً .

کما أنّ محذوریّة طولیّة الأمرین إنّما یلزم لو کان التقیید فی کلّ منهما بنفس عصیان الأمر الآخر ، وأمّا لو قیّدناه بالوصف العنوانی بنحو الشرط المتأخّر، بأن نجعل العنوان من قبیل الشرط المتقدّم أو المقارن للأمر الآخر ، فلا یلزم محذور طولیّة الأمرین، لبقاء الشرط فعلاً للأمرین ، فیکون کلیهما منجّزاً کما لا یخفی .

کما أنّه لو قلنا بأنّ التفاوت بین الأمر بالأهمّ وعصیانه ، وبین الأمر بالمهمّ یکون هو الرتبة، أی لا یکون الأمر بالمهمّ فی رتبة الأمر بالأهمّ، کما التزم به رحمه الله بعد ذلک، فلا یکون حینئذٍ طولیّة بین الأمرین إلاّ من حیث الرتبة دون الزمان.

وبالجملة: فما استُنتج من کلامه، بأنّ مقتضی کلامه إمکان القول بوجود الأمرین فی زمانٍ واحد، ورتبةٍ واحدة، حتّی فی الأهمّ والمهمّ، بجعل الأمر فی

ص:313

الأهمّ تامّاً وفی الآخر ناقصاً . وفی المتساویین بکون الإیجاب فی کلا الطرفین ناقصاً من دون احتیاج إلی التمسّک بالترتّب ، لیس بصحیح، لما قد عرفت الکلام فی وجود الإطلاق فی کلا الأمرین، والتزاحم إنّما متحقّق بین الإطلاقین ، بلا فرق بین نوع الواجب من الموسّع والمضیّق، من حیث کون الإطلاق ذاتیّاً لا لحاظیّاً، فلا محیص من التشبّث بمسألة الترتّب .

أقول: ینبغی حینئذٍ الرجوع إلی الجواب عن کلام المحقّق الخراسانی الذی تعرّضنا له سابقاً، وأحلنا الجواب عنه إلی المقام، لحاجة الجواب عنه إلی هذه المقدّمة لبیان أقسام الواجبات من جهة بیان وجود التزاحم فی تمام أقسامها کما عرفت ، ومن خلال أدلّة المثبتین یظهر بطلان ما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی رحمه الله .

ص:314

***

أدلّة القائلین بصحّة الترتّب

أدلّة القائلین بصحّة الترتّب

أقول: لا بأس بتقدیم اُمور مرتبطة لتوضیح المراد والمقصود فی باب الترتّب :

الأمر الأوّل : أنّه لا ینبغی أن یرتاب فی أنّ الاُمور الاعتباریّة لا یتحقّق بینها نسبة التنافی والتلائم من حیث أنفسها، إذ لا حقیقة ولا نفسیّة لها فی الواقع، حتّی یلاحظ هذه الاُمور ، وإنّما تتحقّق بینها من حیث الآثار المترتّبة علیها کالتلائم بین المتعلّقین والتنافی والتضادّ بینهما ، فالتدافع الواقع بین الامتثالین وهما أثر الأمرین وهو الموجب لتضادّ الأمرین بنحو الوساطة فی العروض دون الوساطة فی الثبوت .

فعلی هذا، الأمران المتضادّان إذا فرض اختلافٌ فی متعلّقیهما من حیث الظرف والامتثال ، فلا مانع من اجتماع أمریهما من قبیل امتثالیهما، سواءً فرضت قبلیّة زمانیّة أو رتبیّة أو غیرهما من أنحاء الاجتماع .

الأمر الثانی : إنّ تعلّق الأمر بالضدّین یکون علی أنحاء:

تارةً : أن یکون أمراً واحداً متعلِّقاً بالضدّین فی زمان واحد، بحیث یکون المأمور به نفس الجمع بین الضدّین ، فلا إشکال فی محالیّة هذا القسم من الأمر؛ لأنّ المفروض عدم قدرة المکلّف علی إتیانهما کذلک ، والقدرة علی الامتثال:

إمّا أن یکون شرطاً لفعلیّة التکلیف، بحیث لو لم یکن المکلّف قادراً لا یکون التکلیف له فعلیّاً ، فهذا ممّا ذهب إلیه کثیر من الاُصولیّین .

وإمّا أن تکون القدرة شرطاً لتنجّز التکلیف الفعلی لا فی فعلیّته ؛ لأنّ فعلیّته

ص:315

ثابتة لکلّ من القادر والعاجز بمجرّد الإبلاغ والإصدار إلی المکلّفین فی الأحکام القانونیّة .

غایة الأمر ، یعدّ هذا التکلیف منجّزاً فی حقّ العالم والقادر، ومعذّراً فی حقّ العاجز والجاهل کما ذهب إلیه المحقّق الخمینی حفظه اللّه ، ولا یبعد صحّته فی الأحکام الکلّیة القانونیّة، بخلاف الأمر الشخصی فإنّ القدرة للمکلّف فی المأمور به یکون شرطاً لفعلیّة التکلیف لا لتنجّزه، لعدم تعقّل الفعلیّة هاهنا بدون القدرة ، هذا بخلاف فرض الأوّل حیث أنّ التکلیف فیه یتعلّق بالعموم، فیکفی فیه وجود القدرة لعدد من المکلّفین فی إمکان تحقّق فعلیّة التکلیف ، ولو لم یکن بعضهم قادراً علی الامتثال ، وبذلک یرفع الاستهجان عن التکلیف بهم .

واُخری : بأن یتعلّق الطلب بشیئین بینهما تضادّ ، إلاّ أنّه فرق بینهما فی زمان فعلیّة التکلیف، بأن یجعل أحدهما فی زمانٍ والآخر فی وقت آخر من دون مزاحمة فیما بین الطلبین أصلاً ، فلا إشکال فی صحّتهما لوجود تمام شرائطه من وجود القدرة لفعلیّة التکلیف، وتنجّزه فی مرحلة الامتثال .

فالتضادّ بینهما حینئذٍ یعدّ فرضیّاً لا فعلیّاً ؛ أی لو قصد یأتیهما فی زمان واحد کان متضادّاً ، وإلاّ فلا .

وثالثة : بأن یکون الأمر متعدّداً بتعدّد متعلّقه ، مثل أن یتعلّق الأمران بضدّین ، فهو قد یقیّد کلّ واحدٍ من الأمرین بالإتیان بمتعلّقهما فی زمان واحد ، ففیما یقدر الإتیان بهما خارجاً بلا تزاحم بینهما فی مرحلة الامتثال لإمکان الجمع بینهما علی الفرض ، فهو أیضاً یکون کالقسم الثانی ممکناً، وکان التکلیف بالنسبة إلی کلّ واحدٍ منهما فعلیّاً ومنجّزاً ، فإطلاق الضدّ علی مثل هذین الشیئین

ص:316

یعدّ مسامحة، لعدم قیام تضادّ حقیقی بینهما لا فی مقام البعث ولا فی مقام الامتثال .

فهذا القسم بل الأقسام الثلاثة خارجة عن محلّ الکلام قطعاً .

فإذا کان هذا حال التقیید، فشمول الإطلاق لکلّ منهما حتّی بالنسبة إلی حال وجود الآخر ، ممّا لا إشکال فیه ؛ لأنّ الإطلاق لا یکون أسوء حالاً من التقیید بالجمع .

ورابعة : هو القسم الثالث إلاّ أنّه إذا فرض عدم قدرة المکلّف من جمعهما فی زمان واحد ، لأجل وجود المزاحمة بین الضدّین ، فهو أیضاً یکون علی قسمین :

تارةً : یکونان متساویین من حیث المصلحة .

واُخری : متفاوتین بالأهمّ والمهمّ .

ففی هذین القسمین یکون مورد البحث والکلام، لا فیما إذا قیّد أمر کلّ واحد بالإتیان فی ذلک الوقت، لکلّ واحدٍ من الأمرین فی کلیهما ؛ أی فی المتساویین والمتفاوتین ، لما قد عرفت بأنّه إذا لم یکن المکلّف قادراً علی الجمع والامتثال لکلیهما، فکیف یمکن أن یحرّکه المولی بالبعثین مع علم الآمر الحکیم الملتفت إلی عجزه ؟! مع أنّه لا إشکال فی کون البعث إنّما هو لداعویّة الانبعاث فی العبد والمأمور ، فإذا علم أنّه عاجز عن الانبعاث، فصدور الأمر منه کذلک لکلّ واحدٍ منهما محال قطعاً، لکونه تکلیفاً محالاً لا تکلیفاً بالمحال ، فلا محیص حینئذٍ أن یُقال لو وجد المکلّف أمرین کذلک، أن یکون مخیّراً عقلاً لامتثال واحدٍ منهما، لأنّه لولاه لزم الاستحالة کما عرفت، وهو واضح لا خفاء فیه ، بل لعلّه خارج عن محطّ النزاع .

ص:317

بل یکون محطّ النزاع إمّا هو الإطلاق فی لسان الدلیل فی کلّ منهما ، أو قید کلّ واحد منهما ، بعدم الإتیان للآخر فی المتساویین، أو بعصیان الآخر الأهمّ فی المتفاوتین ، فالسؤال المطروح حینئذٍ کما علیه جماعة من الاُصولیّین هو أنّه هل یجوز للآمر أن یأمر بالضدّین بأمرین لا بأمرٍ واحد، مع کون حال القضیّة کذلک ، أو أنّه مستحیل من جهة عدم وجود القدرة علی امتثالهما معاً، برغم قدرته علی القیام بأحدهما ؟

نقول : إذا فرضنا کون التکلیف غیر شخصی، بأن کان البحث عن التکالیف العامّة والأحکام القانونیّة الکلّیة - دون الأحکام الشخصیّة الخاصّة المتوجّهة إلی شخص واحد - لم یتعلّق بالمجموع منهما بموضوع وجدانی ، بل تعلّق بکلّ واحد منهما مستقلاًّ، وکان مقدوراً بنفسه ، وفُرض أنّ المتساویین قد أخذ قید عدم الإتیان بالضدّ الآخر فی کلّ واحد منهما لدخالته فی تحصیل القدرة للآخر ، أو أُخذ قید عدم الامتثال للأمر بالأهمّ لتحصیل القدرة فی المهمّ ، فلا یبق هاهنا محذور یوجب استحالة ذلک إلاّ ببعض ما توهّمه جماعة من الإشکال وهو ما نرده لاحقاً.

الأمر الثالث : لا إشکال فی أنّ الأمر قد یتعلّق بموضوع :

تارةً: علی نحو الإطلاق ؛ أی بنحو اللابشرط، حیث قد عرفت أنّه یُطلق علیه إطلاق ذاتی .

واُخری: قد یتعلّق بموضوع مقیّد بقید ومشروط بشرط .

فالأوّل یکون واجباً مطلقاً ، والثانی مشروطاً .

ثمّ الشرط الذی اُخذ فی الشیء :

ص:318

1 - قد یکون شرطاً للوجوب بحیث لو لم یحصل الشرط لم یتحقّق الوجوب .

2 - وقد یکون الشرط مأخوذاً فی الواجب لا فی الوجوب.

فیسمّی الأوّل بالواجب المشروط کالاستطاعة للحجّ ، والثانی بالواجب المعلّق کالوقت بالنسبة إلی الصلاة، والموسم بالنسبة إلی الحجّ ، ولا إشکال فی القسم الأوّل منهما ، إنّما وقع الخلاف فی القسم الثانی من کونه معلولاً أم لا .

وتظهر النتیجة فی أنّ الوجوب فی الثانی قبل الوقت فعلیّ والواجب فیه استقبالیّ ، فیصحّ الإتیان بالمقدّمات بقصد الوجوب قبل تحقّق شرط الواجب لکون وجوبه فعلیّاً ، هذا بخلاف الواجب المشروط، لأنّ الوجوب قبل الشرط لم یکن فعلیّاً .

کما أنّ الشرط الذی یُؤخذ یکون علی أنحاء :

تارةً : یکون أمره بید المکلّف، بحیث یتمکّن من إیجاده واعدامه .

واُخری : ما لا یکون کذلک، لکونه أمراً خارجاً عن اختیاره مثل دخول الوقت.

کما أنّ الشرط قد یلاحظ:

تارةً: بوجوده الانقضائی فیؤخذ شرطاً للمشروط بهذه الکیفیّة فیسمّی بالشرط المتقدّم .

واُخری: بوجوده الحالی یکون شرطاً، فیسمّی شرطاً مقارناً .

وثالثة: یلاحظ بوجوده الاستقبالی کذلک، فیسمّی ذلک بالشرط المتأخّر .

فالقسمان الأوّلان منهما ممّا لا خلاف فی إمکانهما ذاتاً ووقوعاً ، وإنّما

ص:319

الکلام وقع فی الأخیر حیث استحال بعضهم إمکانه ذاتاً فضلاً عن إمکانه الوقوعی .

فالأمران المتعلّقان بالضدّین :

1 - قد یکونان مطلقین، سواءً کانا متساویین أو متفاوتین بالأهمّ والمهمّ ، خصوصاً إذا کانا مضیّقین ، فلازمه التکلیف بما لا یُطاق ، فلو اُرید الفعلیّة والتنجّز فی کلّ منهما، فلا محیص من الحکم بالتخییر العقلی حینئذٍ فی المتساویین، أو الأخذ بالأهمّ فقط ورفع الید عن المهمّ عذراً ؛ لأنّ القدرة فی الامتثال یکون من الشرائط العامّة الفعلیّة لکلّ تکلیف ، فالشرط حینئذٍ لیس شرعیّاً ، بل یکون عقلیّاً .

2 - وقد یکونان مختلفین، بأن یکون أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً، کأن یشترط المولی فی الإتیان والامتثال بأحدهما ترک الامتثال للآخر الأهمّ ، وکان هذا الشرط شرعیّاً لا عقلیّاً ؛ لأنّه لم یجوّزه من عند نفسه لولا ورود الدلیل بترک الامتثال للآخر ، کما أنّ الشرع أیضاً لم یجوّزه ذلک أوّلاً ، إلاّ أنّه یجعله شرطاً لفعلیّة الأمر الآخر، بحیث لولا هذا الشرط لأشکل الحکم عقلاً بوجوب الامتثال للآخر المسمّی بالمهمّ ، فحینئذٍ یکون حال المکلّف بالنسبة إلی الأمرین هکذا:

بأن یکون أحدهما علیه فعلیّاً بالإطلاق وهو الأهمّ ، والآخر یکون فعلیّاً مشروطاً بعصیان الأهمّ ، ولکن کانت فعلیّته قبل تحقّق شرطه وهو العصیان ، لما قد عرفت من إمکان کونه شرطاً للواجب لا للوجوب ، فقبل تحقّق الشرط یکون التکلیف فی کلا الأمرین فعلیّاً بصورة الاختلاف من حیث الإطلاق والاشتراط ، إلاّ أنّ ظرف الامتثال فی کلّ واحدٍ منهما یکون مختلفاً، لأنّ أحدهما یکون بلا شرط ، بخلاف الآخر حیث یکون فی رتبة اُخری، وهو تحقّق العصیان المستلزم

ص:320

لإمکان تحقّق ظرف الامتثال للآخر، کما یمکنه ترک الامتثال له أیضاً حتّی یتحقّق العصیان لکلیهما .

ثمّ ننقل الکلام فی العصیان للأهمّ الذی اُخذ شرطاً للأمر بالمهمّ:

1 - فقد یکون بصرف وجوده کافیاً لسقوط أمر الأهمّ؛ أی بمحض إرادة المکلّف ترک امتثال أمر الأهمّ والاشتغال بالمهمّ یتحقّق ذلک.

2 - أو أنّه یتحقّق بمجرّد البناء علیه فیؤدّی إلی سقوط أمره .

3 - أو یکون سقوط الأمر بالأهمّ بعد حصول الامتثال بالأمر المهمّ، أی لا یسقط الأمر بالأهمّ إلاّ بفوت وقته، من دون أن یسقط بشروع إتیان شیء أو إتیان المهمّ فی محلّه ، فحال الاشتغال بالمهمّ قبل فوت الوقت کان أمر الأهمّ موجوداً ، فیکون العصیان حینئذٍ له حال دوامٍ واستمرار إلی أن یأتی بالمهمّ بتمام أجزائه ، ففی کلتا الصورتین یمکن جعلهما من باب الطلب بالضدّین، بناءاً علی إمکان القول بالواجب المعلّق، لأنّ الوجوب لکلّ من الأهمّ والمهمّ حینئذٍ فعلیٌّ قبل الشرط ، غایة الأمر ، کون الواجب فی المهمّ استقبالیّاً لا وجوبه ولا تأثیر فی ذلک ، کون العصیان بوجوده الآنی شرطاً للمهمّ أو بوجوده الاستمراری ، أو القول فی الشرط هو العنوان المتعقّب بالعصیان .

نعم ، لو فرض أنّ فعلیّة الأمر بالمهمّ کان بعد تحقّق العصیان الآنی فی الخارج، بحیث لم یکن الوجوب قبل الشرط متحقّقاً أصلاً، فیکون وجوبه من قبیل الواجب المشروط لا الواجب المعلّق ، وفرض أنّ الأمر بالأهمّ قد سقط بنفس العصیان الآنی المتحقّق من قصده، أو الشروع بالمهمّ، بحیث کان العصیان منشأً لتحقّق أمرین:

ص:321

أحدهما: سقوط الأمر فی ناحیة الأهمّ .

والثانی: إیجاد فعلیّته فی ناحیة الأمر بالمهمّ .

ولم نلتزم بکون العنوان - وهو التعقّب بالعصیان - شرطاً کما احتمله المحقّق النائینی قدس سره تصحیحاً لإجراء الترتّب ، فحینئذٍ یصحّ أن یقال بخروج المورد عن طلب الضدّین ؛ لأنّ فی حال فعلیّة الأمر بالمهمّ ، وهو حال تحقّق العصیان الآنی للأهمّ الموجب لسقوطه، لا وجود لأمر الأهمّ حتّی یکون فعلیّاً، لما فرض سقوطه بالعصیان الآنی ، وحال وجود الأمر بالأهمّ وفعلیّته لم یکن الأمر بالمهمّ فعلیّاً لعدم تحقّق شرطه ، فهو خارج من مورد البحث والکلام .

هذا بخلاف ما لو أجزنا الواجب المعلّق ، أو قلنا بفعلیّة الأمر بالمهمّ بالوصف العنوانی، فیصیر الموردان من موارد طلب الضدّین، سواء کان العصیان آنیّاً أو استمراریّاً .

أقول: وممّا ذکرنا ظهر فساد التفصیل فی صورة کون الأمر بالمهمّ مشروطاً بالعصیان الآنی لا ما کان مشروطاً بالعصیان الاستمراری، إذ لیس هو من باب طلب الضدّین، ولم یذکر لتفصیله وجهاً واضحاً .

إلاّ أن یُقال : بأنّه حیث یمکن للمکلّف فی کلّ لحظة فی حال الاشتغال بالمهمّ رفع الید عنه، فیسقط عن الفعلیّة إلی أن یتمّ العمل ، فلذلک لیس للأمر المهمّ فعلیّة تامّة مثلاً حتّی یزاحم فعلیّة الأهمّ، حتّی یکون من باب طلب الضدّین ، وفساده کما تری .

الأمر الرابع : سبق وأن ذکرنا فی محلّه أنّ الأوامر تتعلّق بالطبایع ؛ لأنّ الغرض قائم بنفس الطبیعة بأیّ خصوصیّه تحقّقت ، وفی ضمن أیّ فرد وجدت،

ص:322

لأنّ ما یکون دخیلاً فی الغرض یأتی من خلال الأمر دون غیره . وقد عرفت منّا سابقاً بأنّ کلّ أمرٍ مرکّب من الهیئة والمادّة فلا یدلّ الاُولی إلاّ علی البعث، والثانیة إلاّ علی الماهیّة اللابشرطیّة .

نعم ، لو کانت خصوصیّة خاصّة دخیلة فی الغرض ، لابدّ أن یقصد بها الماهیّة حال جعلها موضوعاً إذا کان الطلب مطلقاً بنفسه ، أو یقیّد الطلب إن فرض صحّته وإمکانه، وتکون المادّة مطلقة ، نعم هناک بحث فی أنّ ذلک هل یستلزم تقیید کلّ للآخر أیضاً أم لا؟ فهو موکول إلی محلّه .

ومعنی الإطلاق فی الطبیعة، لیس إلاّ کون الطبیعة هی تمام الموضوع للحکم، بلا دخالة لشیء آخر أو عدم شیء معه ، هذا بخلاف ما لم یکن المتعلّق کذلک، حیث لابدّ من الأخذ بما هو الدخیل فیه من وجود شیء وعدمه ، فلیس معنی الإطلاق هو ما ذکره بعض من جعل الطبیعة مرآة للمصادیق، وساریة فی أفرادها، تتّحد معها وتحکی عنها، إذ الطبیعة من حیث هی هی لا تحکی عن الخصوصیّات فی الأفراد . نعم ، الاتّحاد یوجب الانتقال إلی الخصوصیّة .

فبناءً علی هذا، لو رأی المولی فی الأمرین المتعلّقین بالشیء المتساویین، أنّ کلّ شیء بنفسه مطلوب فی کلّ حال وخصوصیّة، وکان فیه المصلحة ، إلاّ أنّه:

تارةً: قد یلاحظ عجز المکلّف عن الجمع بین الشیئین فی زمانٍ واحد، فله أن یعلّق طلبه علی کلّ واحد مقیّداً بعدم الإتیان بالآخر ؛ بأن یصرّح بذلک ویدلّ علی أنّه لم یلاحظ الماهیّة اللابشرط فی متعلّق أمره ، بل أخذه حال عدم الإتیان بالآخر، فهو یکون من قبیل التخییر الشرعی . غایة الأمر ، یکون التخییر عقلیّاً أیضاً، لو لم یکن المکلّف قادراً علی ترکهما معاً کالحرکة والسکون ، وإلاّ فلا تخیّر

ص:323

عقلی هنا لتصریح الشرع بنفسه ، إلاّ أنّ التخییر هنا لیس من جهة خلوّ متعلّق کلٍّ عن المصلحة فی حال الإتیان بالآخر ، بل لعدم قدرة المکلّف علی الجمع فی مقام الامتثال ، وإلاّ لو فرض محالاً إمکان الجمع له کان کلاهما مطلوباً .

واُخری : فی مثل هذا الفرض أیضاً مع وجود المصلحة فیهما، إلاّ أنّ المولی لا یری مصلحة لذکر هذا القید فی متعلّق أمر کلّ واحدٍ منهما ، أو کان معذوراً عن ذکره ، ولکنّ برغم ذلک کان المکلّف عاجزاً عن القیام بإحضارهما معاً فی مقام الامتثال ، فلا إشکال حینئذٍ بأنّ الإطلاق الذاتی للّفظ، وإن کان یقتضی مطلوبیّة کلٍّ حتّی مع الآخر، لما قد عرفت أنّ الإطلاق فی تلک الموارد ذاتی لا لحاظیّ ، إلاّ أنّ العقل یحکم بمعذوریّة من لا یکون قادراً علیه، فیکون نتیجة هذا الحکم هو التخییر فی الانتخاب بین أحدهما ، ولکن هذا لا ینافی وجود المصلحة فی کلّ من الطرفین علی الفرض کسابقه ، إلاّ أنّ التخییر لأجل العذر عقلاً لا شرعاً .

وثالثة : مثل هذین الفرضین، إلاّ أن تکون المصلحة فی کلّ منهما حال عدم الآخر ، بحیث لو کان المکلّف قادراً علی الجمع علی فرض المحال ، لما کان ممتثلاً للأمرین فجاز التخییر .

هذا کلّه فی الأمرین المتعلّقین بالضدّین إذا کانا متساویین .

وأمّا إذا کان الأمران المتعلّقان بالضدّین مختلفین من حیث أهمّیته فی أحدهما دون الآخر :

تارةً : یعلم هذه الأهمّیة فی واحدٍ منها معیّناً، فهذا هو محلّ النزاع فی المتزاحمین کالمثال المعروف من الإزالة والصلاة.

واُخری : ما لا یکون معیّناً ، بل احتمل المکلّف فی کلّ منهما کونه أهمّ ، ولکنّه

ص:324

عالم بعدم کونهما متساویین فی المصلحة .

ففی کلا الموردین لابدّ أن یفرض عدم إمکان الجمع بینهما فی مرحلة الامتثال، حتّی یدخل تحت عنوان التزاحم .

غایة الفرق بین الصورتین أنّ الاُولی منهما لابدّ أن یتقدّم الأهمّ فی الامتثال تعیّناً ، بخلاف الثانی حیث له أن یختار أحدهما تخییراً، لأنّه یعلم الأهمّ منهما.

کما أنّ هناک فرق آخر بینهما أیضاً من حیث أنّ الاُولی یمکن القول فیه بأخذ عصیان الأهمّ قیداً فی المهمّ فی مرحلة الامتثال، بخلاف الثانیة حیث یجوز ذلک من دون لزوم أخذ هذا القید فیه ؛ لاحتمال أن یکون المأخوذ هو الأهمّ .

هذا کلّه فی تقسیمات متعلّق الأمرین من حیث مقام التصوّر والثبوت .

وبالجملة: فللمولی أن یأخذ فی متعلّق أمر المهمّ عصیان الأهمّ ، فلا إشکال فی أنّ أخذ القید فی شیء لابدّ من لحاظه معه قبل الجعل والإنشاء فی مرتبة الموضوع ، فإذا رأی وجود مصلحة فی المهمّ، مع تحقّق العصیان للأهمّ ، فیجعل أمره ولو بصورة القانون والکلّی لکلّ من عصی الأمر المتعلّق بالأهمّ ، فینشأ حینئذٍ أمر المهمّ فی ظرف هذا اللحاظ ، بلا فرق فی ذلک بین کون الأمر شخصیّاً أو کلیّاً قانونیّاً .

وتوهّم: إمکان الجواب عنه بما فی «تهذیب الاُصول» فی المقدّمة الثالثة، بأنّه: (قد عرفت أنّ الأوامر المتعلّقة بالطبائع لا تعرض لها علی أحوال الطبیعة وأفرادها .

ومنه یظهر أنّ التزاحمات الواقعة فی الخارج بین أفراد الطبایع بالعرض، غیر ملحوظة فی تلک الأدلّة ؛ لأنّ الحکم مجعول علی العناوین الکلّیة، وهو مقدّم

ص:325

علی التزاحم الواقع بین الأفراد برتبتین ؛ رتبة تعلّق الحکم بالعناوین ، ورتبة فرض ابتلاء المکلّف بالواقعة ، وما له هذا الشأن من التقدّم، لا یتعرّض لحال ما یتأخّر عنه برتبتین....)(1) .

ممنوع: لأنّ تأخّر هذه الحالة عن مقام الحکم والإنشاء، لا یوجب أن لا یکون لحاظه معقولاً فی الرتبة السابقة ؛ لأنّ المولی حال ملاحظة المتعلّق من حیث المصلحة ینظر إلی ما یکون دخیلاً فی تحقّقها، سواءً کان فی الأهمّ أو المهمّ ، فإذا رأی أنّ المصلحة فی الأهمّ مطلقة، فیجعل الحکم علیه بصورة الإطلاق ، وفی المهمّ بما إذا کان مقیّداً بعدم امتثال الأمر فی الأهمّ، فیجعل حکمه علی المهمّ مع تلک الخصوصیّة، بلا فرق بین الحکم الشخصی أو الکلّی القانونی .

نعم ، صحّة هذه الدعوی منوطة بملاحظة وضع المولی فی لسان الدلیل بما یدلّ علی هذا القید بدالٍّ آخر، غیر نفس الأمر المرکّب من المادّة والهیئة، الذی قد عرفت عدم دلالتیهما إلاّ علی البعث والماهیّة المطلقة ، حیث لا یکون إطلاق نفس الدلیل بذاته مقتضیاً لذلک ، ولعلّ مقصود صاحب «تهذیب الاُصول» صورة الإطلاق بالذت ، إلاّ أنّه لا یناسب مع دعواه بعدم إمکان الترتّب فی الأوامر الکلّیة والقانونیّة ، بل لابدّ أن یقول بأنّه لا یکون مقتضی إطلاق نفس الدلیل بلا دالّ آخر ، ولذلک تری فی کلمات الاُصولیّین من أنّ علی المولی أن یصرّح ویقول للمکلّف علیک القیام بالمهمّ فیما لو عصیت الأهمّ، حیث أنّه شاهد لما قلناه من أنّ البحث فی کلام القوم یدور مدار الإمکان وعدمه بالذات، لا إمکانه من حیث ملاحظة


1- تهذیب الاُصول : ج1 / ص239 .

ص:326

نفس الدلیلین مع الآخر .

أقول: إذا عرفت هذه المقدّمات الأربع، حینئذٍ لا سبیل للاُصولی إلاّ أن یقول بإمکان الترتّب وصحّته عقلاً ، وأوّل دلیل علی ذلک وقوعه خارجاً فی العُرف والشرع، کما اعترف به الخصم، وأراد التوجیه بما هو بعید عن الصواب والحقّ بمراحل، کما سیظهر لک إن شاء اللّه تعالی .

وقد ثبت من خلال المقدّمة الاُولی أنّ التنافی لیس فی الأمرین بنفسهما ، بل یکون فی متعلّقهما ، وإذا اختلف ظرف الامتثال فیهما بحسب الرتبة، ارتفع التزاحم من البین ، ولو اجتمع نفس الأمرین معاً فی زمان واحد ، بل ولو رتبةً واحدة، لأنّهما یعدّان من الاُمور الاعتباریّة .

کما ثبت بحکم المقدّمة الثانیة أنّ محطّ النزاع هو تزاحم إطلاق الدلیلین، سواءً کان فی المتساویین أو المختلفین من حیث المصلحة فی الأهمّ والمهمّ، حیث یکون التنجیز فی الأوّل تارةً عقلیّاً ، واُخری شرعیّاً، بخلاف الثانی حیث یکون الأمر فی الأهمّ مطلقاً ومقدّماً علی الأمر بالمهمّ ، والتقیید کان فی طرف المهمّ فقط لا فی الأهمّ ، بلا فرق فی ذلک بین الأحکام الشخصیّة والکلّیة القانونیّة .

کما ثبت بحکم المقدّمة الثالثة أنّ الشرط المأخوذ فی الدلیل، قد یکون شرطاً للوجوب، وآخر شرطاً للواجب ، ولا مانع من أن یکون الشرط فی طرف المهمّ شرطاً وقیداً للواجب لا للوجوب، فتصبح الفعلیّة لکلا الأمرین موجوداً قبل حصول شرط الواجب وهو العصیان بالأهمّ ، لحصول شرط الواجب فی ناحیة المهمّ . وعرفت إمکان الأخذ بنحو الشرط المتأخّر والمتقدّم والمقارن ، بل یصحّ ذلک ولو التزمنا باستحالة الشرط المتأخّر ؛ لأنّ الشرط بالنسبة إلی الواجب یکون

ص:327

متقدّماً أو مقارناً، ولا یکون شرطاً للوجوب المتقدّم حتّی یصبح الشرط متأخّراً أو مستحیلاً .

وعرفت من خلال ما ذکرناه فی هذه المقدّمة، بأنّ العصیان مطلقاً - سواءً اُخذ بوجوده الآنی شرطاً للمهمّ ، أو بوجوده الاستمراری إلی تمام فوت وقت الامتثال للمهمّ - یکون المورد من باب طلب الضدّین، وتکون فعلیّة الأمر لکلا الأمرین موجوداً قبل تحقّق العصیان خارجاً، بناءً علی فرض وجود واجب المعلّق ، وقد ثبت أنّه لا استحالة فیه کما اخترناه فی محلّه .

کما ثبت من خلال المقدّمة الرابعة أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع دون بالأفراد ، وأنّ الخصوصیّات غیر ملحوظة فیها ، ولکن مع ذلک لا یمتنع أن یلاحظ المولی فی دلیلٍ خصوصیّةً بدالّ آخر لا بدلالة إطلاق نفس الدلیلین ، بلا فرق فی جواز التصریح بذلک القید - أی بمثل عصیان أمر آخر فی الدلیل - من أن یکون الدلیل متکفّلاً لحکم کلّی قانونی کما هو محلّ البحث ، أو کحکم شخصی خارجی، لوحدة الملاک فی الاستحالة والجواز فی کلیهما .

وخلاصة الکلام: ثبت من خلال ما ذکرناه أنّ الترتّب فی الأمرین المتزاحمین ممکن وصحیح ، بلا فرق بین المتساویین والمتفاوتین ، کما لا فرق فی الجواز بین الحکمین الکلّیّین أو الشخصیّین، إذا کانت المصلحة فی کلیهما موجودة ، والامتناع کان بحسب حال الامتثال لا بحسب حال الاقتضاء، کما توهّمه بعض ، وهکذا یرتفع محذور استحالة طلب الضدّین الذی ادّعاه صاحب «الکفایة» قدس سره .

وبذلک فرغنا عن جواب الإشکال الأوّل الذی تبنّاه صاحب «الکفایة» فی

ص:328

المقام وکان یعدّ أهمّ إشکال للقائلین بممنوعیّة الترتّب.

وأمّا الإشکال الثانی لصاحب «الکفایة»: حیث ذهب إلی أنّ الالتزام بالترتّب التزامٌ باستحقاق العقوبتین.

والجواب: بأنّا نلتزم به ، لما قد عرفت من مقدوریّة کلّ واحد منهما ، فترک کلیهما یستحقّ اللّوم والمذمّة لکلّ واحد، بل ربّما یوجب استحقاق ثلاث عقوبات، وهو فیما لو اشتغل بحرام آخر فی ضمن ترک الأمرین، وإن کان فی طرف المثوبة لا یستحقّ إلاّ ثواباً واحداً، لعدم إمکان الجمع بین الامتثالین حتّی یستحقّ مثوبتین ، ولکن لا ملازمة بینهما فی الوحدة والتعدّد، حتّی یُقال بأنّه شاهد علی کون الأمر فیهما لا یکون منجّزاً إلاّ بواحدٍ .

أمّا الإشکال الثالث: وهو أنّه علی القول بالترتّب، یلزم کون وجوب الإزالة الملازم مع ترک الصلاة متعلّقاً للحکمین المتخالفین، من الوجوب للأوّل والحرمة للثانی ، لکونه ضدّاً عامّاً لوجوب الصلاة ، مع أنّه لا یجوز تعلّق الحکمین کذلک بالمتلازمین، ولو سلّمنا عدم لزوم کونه محکوماً بحکم الملازم الآخر .

ویرد علیه أوّلاً : بأنّه لو قلنا بسقوط الأمر فی طرف الأهمّ بالعصیان الآنی قبل تحقّق الأمر بالمهمّ ، فلا أمران حتّی یستلزم الجمع بین الحکمین المتخالفین .

إلاّ أنّ هذا الجواب یخرج الفرع عن محلّ النزاع من کون محلّ البحث فی الأمر بالضدّین ، وبالتالی فالجواب الذی ذکره صاحب «عنایة الاُصول»(1) غیر وجیه.


1- عنایة الاُصول: 1 / 144 .

ص:329

وثانیاً : لو سلّمنا عدم سقوط أمر الأهمّ بالعصیان، إمّا لکونه علی نحو الشرط المتأخّر وواجب المعلّق ، أو کان العصیان بوجوده الاستمراریّ لا الآنی شرطاً.

ومع ذلک نقول : هذا الإشکال إنّما یجری علی القول بالاقتضاء ؛ أی قبول أنّ الأمر بالشیء - کالصلاة - یقتضی النهی عن ضدّه العام وهو الترک، حتّی یکون حراماً مخالفاً لوجوب الإزالة ، مع أنّه أوّل الکلام .

وثالثاً : أنّه لو سلّمنا ذلک أیضاً، فإنّ عدم جواز تخلّف المتلازمین فی الحکم، إنّما یکون فی الحکمین النفسیّین لا بین النفسی - وهو وجوب الإزالة - والنهی الغیری - وهو ترک الصلاة - لما قد عرفت منّا سابقاً بأنّ النهی الغیری لا یکون متحقّقاً عن مفسدة فی متعلّقه حتّی یزاحم مع المصلحة فی الملازم الآخر ، فإذن لا بأس بتلبّس المتلازمین بالحکمین المتخالفین کذلک .

ورابعاً : لو سلّمنا الامتناع حتّی فی الغیری مع النفسی ، فلا بأس أن یُقال بجواب آخر، وهو أنّ الأمر النفسی إذا جاز عدم تعلّقه بمتعلّق کان فیه الملاک والمصلحة لأجل المزاحمة مع الأهمّ - کما ذهب إلیه بعض، وحکموا بصحّة العبادة إذا أتی بقصد ملاکها من دون أمر - فلِمَ لا نقول بذلک فی النهی الغیری، إذا زاحم مع الوجوب النفسی فی الإزالة ، مع أنّ الإمکان هنا یکون بطریق أولی من جهتین :

أحدهما : کونه غیریّاً وهو نفسی .

وثانیهما : عدم وجود مفسدة فی متعلّقه .

بخلاف الوجوب فی طرف ملازمه حیث یکون نفسیّاً وفیه المصلحة .

فالإشکال مرتفع من جهات عدیدة کما عرفت ، فلا نعید .

وأمّا الإشکال الرابع: وهو أنّ إجراء الترتّب وصحّته فی الضدّین اللّذین لا

ص:330

ثالث لهما کالحرکة والسکون، یکون من طلب الحاصل، لأنّه إذا عصی أمر الحرکة فالسکون موجود وحاصل قهراً .

قلنا أوّلاً : بأنّ الترتّب الذی کان مورد البحث هو الواقع فی الأضداد الخاصّة التی یمکن للمکلّف ترک کلا الأمرین ، ولهذا أشکلوا بلزوم استحقاق العقوبتین علی فرض صحّة الترتّب ، فمثل الضدّین اللّذین لا ثالث لا یکون داخلاً فی مورد البحث .

وثانیاً : لو سلّمنا دخوله فیه، فقد عرفت ضمن المقدّمة الرابعة بأنّ التخییر فی مثل هذین الضدّین یکون عقلیّاً، لعدم قدرة المکلّف علی ترکهما فعلاً ، غایة الأمر لو نصّ الشارع فی کلامه بلزوم الإتیان بکلّ واحدٍ منهما، مع عدم الإتیان بالآخر، یکون تخییراً شرعیّاً أیضاً فی قِبال ما لو کان أحدهما المعیّن هو المشتمل علی مصلحة تامّة ملزمة، حیث یکون هو الأهمّ ویقدّم ، ففی مثل هذا لو قال المولی: (إن عصیت أمر الأهمّ - کالحرکة مثلاً لو کان هو الأهمّ - فاجلس) فلیس أمره الثانی حینئذٍ إلاّ أمراً إرشادیّاً إلی ما یختاره قهراً، أی یکون أمره خبراً عمّا یفعل ویقع خارجاً ، فالأمر المولوی هنا لا یکون إلاّ واحداً ، کما أنّ العقوبة هاهنا لا تکون إلاّ فارداً، فلا یکون للترتّب هنا أثراً فاحشاً ، ولکن هذا لا یوجب عدم صحّته فیما له أثر مستقلّ، ویقع أمریته فیه آمریته علی نحو المولویّة، کما فی الضدّین اللّذین لهما ثالث .

وأمّا الإشکال الخامس: بأنّه یستلزم علی فرض صحّة الترتّب الجمع بین المتناقضین فی طرف الأهمّ والمهمّ، بناءً علی القول باقتضاء الأمر النهی عن ضدّه من باب المقدّمیّة، أو سرایة الحکم من ملازم إلی ملازم آخر ، فالإزالة واجبة

ص:331

وترکها محرّمة ، کما أنّ ترکها واجب أیضاً للصلاة، وهو السبب فی الجمع بینهما، وهو محال .

والجواب: أمّا علی القول بعدم فعلیّة المهمّ فواضح ، لأنّ فی طرف امتثال أمر الإزالة لا أمر بالصلاة أصلاً حتّی یلزم الجمع الممنوع ولو علی الاقتضاء ، کما أنّ فی ظرف امتثال الأمر فی ناحیة المهمّ أیضاً کذلک، إن قلنا بسقوط أمر الأهمّ بالعصیان بوجوده الآنی ، فلا یلزم الاجتماع أصلاً لا فیما قبل العصیان لعدم وجود أمر المهمّ قبل تحقّق شرطه إذ لا فعلیّة له ، ولا بعده لسقوط أمر الأهمّ بعده، فلا یبقی من الأمر إلاّ المهمّ فقط .

ولکن هذا الجواب یوجب خروج البحث عن باب طلب الضدّین فی رتبة واحدة وزمان فارد، کما تقدّم ذلک عن صاحب «عنایة الاُصول» .

وأمّا لو قلنا بفعلیّة أمر المهمّ قبل تحقّق شرطه، إذا کان الشرط شرطاً للواجب لا للوجوب ، ومن ناحیة اُخری کان العصیان بوجوده الاستمراری دون الآنی شرطاً ، فإنّه یلزم اجتماع الأمرین المستلزم للجمع بین الحکمین فی موضوع واحد .

نقول فی الجواب أوّلاً : بأنّ ترک الإزالة لا یصبح مأموراً به من باب المقدّمة، کما أنّ الملازمة لا تتحقّق إن صارت المقدّمة بعصیانه لأمرٍ لا أهمّ محقّقة فی الخارج من تلک الناحیة ، فلا یحتاج إلی یوجّه إلیه الأمر ؛ لأنّه لو توجّه إلیه الأمر کان من باب طلب الحاصل ، ولکن لا ینافی ذلک استحقاقه العقوبة لإرادة هذا الترک من ناحیة وجوب الإزالة وهو الأمر بالأهمّ ، إلاّ أنّه لا یکون واجباً بالأمر من ناحیة الصلاة .

ص:332

نعم ، یصحّ هذا الأمر من باب المقدّمیّة لترک سائر الأضداد الذی یمکن فعلها الموجب لترک هذا الترک ، فلا یندرج حینئذٍ فی باب الجمع بین المتناقضین ، بل یکون ترک الإزالة حراماً لا واجباً للصلاة ، فتأمّل .

نعم ، هذا الجواب لا یجری فی ناحیة ترک المهمّ وهو الصلاة ؛ لأنّه من الواضح، إذا کانت الإزالة واجبة لکونه أهمّاً، کان ترک الصلاة مقدّمة لها أو ملازماً لها ، فلابدّ من أن یکون محکوماً، بحکمها فیکون واجباً ، مع أنّه حرام للصلاة الواجبة علی الفرض لکونه ضدّاً لها ، وفرضنا قبول الاقتضاء أیضاً، فیکون حراماً أیضاً ، هذا هو الجمع المذکور .

ولکن یمکن أن یُجاب عنه بجوابٍ آخر وهو : أنّه یلزم الجمع بین المتناقضین، بناءً علی القول بکون المقدّمة المطلقة واجبة کمذهب صاحب «الکفایة» . وأمّا علی القول بکون المقدّمة الموصلة، أو ما یتحقّق به الإیصال واجبة علی نحو القضیّة الحینیّة ، فلا یؤدّی إلی الجمع المذکور ؛ لأنّه لو فرضنا إعراضه عن إتیان أمر الأهمّ وعصیانه ، وصیرورة الأمر المهمّ فعلیّاً ، فعلیه لو ترک الصلاة لما کان ترکها مقدّمة لحصول الإزالة مع تلبّسه بحال العصیان ، بل یکون ترکها حینئذٍ مقدّمة لسائر الأضداد الخاصّة عدا الإزالة ، فلم یلزم علی ذلک أیضاً الجمع بین المتناقضین ، وقد حقّقنا فی محلّه بأنّ المقدّمة المطلقة لیست بواجبة ، بل الواجب هو القسم الأخیر منها، کما لا یخفی .

وثانیاً : لو سلّمنا کون المقدّمة المطلقة واجبة ، ومع ذلک لا إشکال فی کون الحکم الإلزامی من باب المقدّمة للأهمّ أو الملازم المستلزم لوجود الأهمّ ، مقدّماً علی الحرمة المتولّدة من وجوب الصلاة من وجهین :

ص:333

أوّلاً : لکون أصل وجوب الصلاة فی قِبال الإزالة ضعیفة ، فضلاً عمّا هو حکمٌ غیریّ بالنسبة إلیه .

وثانیاً : أنّ الحرمة حیث کانت تابعة لوجوب الصلاة، الذی قد وجدت بعد تحقّق عصیانه للأهمّ، فیکون حادثاً ، بخلاف الوجوب المتعلّق بترک الصلاة مقدّمة للإزالة ، أو ملازماً لها ، حیث کان موجوداً قبل تحقّق العصیان أیضاً ، فلا وجه لتوهّم المنافاة بینهما بالتزاحم، حتّی یُقال إنّه یلزم کونه جمعاً بین المتناقضین ، بل الوجوب مقدّم علی الحرمة .

وثالثاً : لو سلّمنا ما ذکرتم، وأغمضنا عن جمیع ما ذکرنا، والتزمنا بلزوم الجمع بین المتناقضین فی مثل ترک الصلاة ، إلاّ أنّه یکون علی هذا من قبیل اجتماع الأمر والنهی لو قلنا بأنّ المقدّمة بعنوان المقدّمیّة واجبة، لا بوجودها الخارجی وقلنا بجوازه .

ورابعاً : نجیبکم بالجواب الذی أجبنا به فی أصل الأمرین الذین اقتضیا تعلّقهما بالضدّین وکان محالاً ، حیث قلنا بعدم استحالتهما لتفاوت مرتبتهما فی مقام الامتثال الذی کان أثراً لهما ، باعتبار أنّ الحکم من الاُمور الاعتباریّة ولا یجری فیه التنافی والتلائم ، إلاّ فی الآثار المترتّبة علیه ، وبمثله نقول فی الحکمین المتناقضین فی طرف ترک الأهمّ وترک المهمّ ، کلٌّ بالنسبة إلی الملازم الآخر، لتفاوت مرتبة کلّ واحدٍ منهما عن الآخر بواسطة زمان المرتبة فی أصل الأمرین منهما ، وبالتالی یرتفع المحذور من هذه الناحیة.

وأمّا الإشکال السادس: وهو أنّه لو قلنا باقتضاء الأمر النهی عن الضدّ، فیکون الصلاة منهیّاً عنها بواسطة الإزالة ، وقلنا بلزوم قصد الأمر فی صحّة العبادة ، فلا

ص:334

یمکن الحکم بصحّتها لکونها منهیّاً عنها ، فلا أمر لها ولو ترتّباً ، هذا .

والجواب: إنّ النهی عن الصلاة إنّما یکون فی ظرف قصد امتثال أمر الإزالة ، وفی هذا الظرف لا أمر للصلاة، لعدم قدرته علی الامتثال ، کما لا نهی لها لعدم قدرته علیها ، إلاّ أن یکون نهیه بلحاظ الحالة السابقة قبل قصد امتثال أمر الإزالة، حیث کان قادراً علی إتیان کلّ من المتعلّقین ، ففی هذا الظرف لا یحتاج إلی الأمر لعدم إتیانه الصلاة ، وفی ظرف قصد عصیان أمر الأهمّ ، أو إتیان العصیان خارجاً ، فلا تکون الصلاة حینئذٍ منهیّاً عنها، لتصریح المولی بأنّ بإمکانه إتیان الصلاة فیما لو عصی الأمر الأهمّ، فتکون الصلاة مأموراً بها ، فضلاً عن أن تکون منهیّاً عنها ، فلا یبقی مورد للصلاة التی تکون منهیّاً عنها وغیر مأمور بها مع قصد إتیانها وعصیان أمر الأهمّ .

مضافاً إلی أنّ النهی الغیری لا یمنع عن الأمر النفسی، لعدم وجود مفسدة فی متعلّقه، بخلاف الأمر النفسی حیث یکون کاشفاً عن وجود مصلحة تامّة ملزمة فی المتعلّق ، فکیف یزاحم ذلک؟ فتأمّل جدّاً .

وأمّا الإشکال السابع: وهو أنّ المقدّمة إذا انحصرت فی الحرام کیف لا یوجب سقوط وجوب ذیها ، وهنا ترک الإزالة حرام علی الاقتضاء، وکان أهمّاً فکیف یمکن فرضه مقدّمة للصلاة الواجبة ؟

والجواب: مضافاً عن أنّ حرمته غیریّ لا نفسیّ، فإنّ شمول أدلّة عدم جواز الإتیان بالمقدّمة للحرمة لإتیان واجب لمثله مشکل جدّاً ؛ لعدم کون حرمته کاشفة عن وجود مفسدة موجبة للحرمة .

وأیضاً یمکن الجواب عنه: بأنّه یصحّ هذا الإشکال لو لم یرد تصریح من

ص:335

الشارع بذلک، وأمّا لو صرّح به کما هو الفرض فی المقام، بقوله : (وإن عصیت أمر الأهمّ فأت بالمهمّ) فیکشف عن أنّ المصلحة الموجودة فی المهمّ کانت مقتضیة للإتیان، ولو کان بعض مقدّماته مستلزمة للحرام ، کما قد یُقال فیمن استطاع وقصد الحجّ واستلزم سفره الوقوع فی بعض المقدّمات المحرّمة کالقبور من الأرض المغصوبة مثلاً ، خصوصاً مع قدرته علی ترک ذلک، والإتیان بما لیس بحرام، ولکنّه بسوء اختیاره انتخب الحرام ، فلا یوجب ذلک رفع الوجوب عن الواجب ، هذا حال الحرام الواقعی النفسی المشتمل للمفسدة ، فضلاً عن مثل الحرام الغیری الذی لا مفسدة فیه، والمکلّف قادر علی ترکه بامتثال أمر الأهمّ بلا محذور، فإنّ أمره یعدّ أهون وأیسر من غیره .

هذا کلّه علی القول بالاقتضاء .

وأمّا بناءً علی ما حقّقناه من عدم الاقتضاء، فإنّه لا حاجة إلی تجشّم عناء هذه الأجوبة کما لا یخفی ، مضافاً إلی ما عرفت من تفاوت المرتبة فی مرحلة الامثتال فی التکالیف الأصلیّة ، فضلاً عن مثل ما هو تابع للتکلیف الأصلی مع أمر المهمّ الذی یکون أصیلاً ، فلیتأمّل .

وأمّا الإشکال الثامن: وهو أنّ صحّة الترتیب موقوفة علی صحّة القول بالواجب المعلّق والشرط المتأخّر ؛ لأنّ تکلیف المهمّ لابدّ أن یتقدّم عن زمان امتثاله ، فالعصیان الذی هو شرطه یکون فی مرتبة الامتثال للمهمّ ، فالتکلیف المربوط إلی المهمّ یندرج فی الواجب المعلّق بمقتضی شرطه، کما أنّ شرطه وهو العصیان أیضاً متأخّر عن التکلیف ، فمع إنکارهما لا یبقی للترتّب وجه .

والجواب أوّلاً : نحن متلزمون بصحّة الواجب المعلّق والشرط المتأخّر، فلا

ص:336

إشکال لنا حینئذٍ للقول بصحّة الترتّب .

وثانیاً : قد عرفت فی ما حقّقناه إمکان صحّة الترتّب من دون حاجتها إلی صحّة الواجب المعلّق ، باعتبار أنّ العصیان بوجوده الاستمراری إلی أن یفوت وقت أمر الأهمّ بانتهاء الامتثال للمهمّ ، کان شرطاً له وعلّةً لسقوط أمر الأهمّ ، فحینئذٍ بعد تحقّق العصیان فقد حصل شرط أمر المهمّ، مع عدم سقوط أمر الأهمّ ، فیکون کلا الأمرین حینئذٍ فعلیّاً إلی أن یفوت الوقت لکلا المضیّقین، فلا یدور صحّة الترتّب علی صحّة القول بالواجب المعلّق والشرط المتأخّر، وإن کان مع صحّتهما أولی بالقبول کما لا یخفی .

وأمّا الإشکال التاسع: وهو أنّ العصیان :

إن کان بوجوده الخارجی شرطاً، لا یؤدّی إلی اجتماع الأمرین حتّی نحتاج إلی الترتّب، لأنّ أحدهما یکون قبل العصیان والآخر بعده .

وإن کان بوجوده الانتزاعی شرطاً، استلزم الجمع بین الأمرین قبل الشرط، وهو طلب الضدّین، وهو مُحال .

والجواب: أنّه قد ظهر ممّا ذکرنا عند بیان الإشکال بکلا شقّیه ؛ لأنّه إن التزمنا بالأوّل، أصبح الجمع بین الأمرین ممکناً، لو قلنا بعدم سقوط أمر الأهمّ بصرف وجود العصیان ، بل کان سقوطه إلی أن یفوت الوقت ، والمفروض فعلیّة أمر المهمّ أیضاً حینئذٍ بحصول شرطه .

وإن اخترنا الشقّ الثانی، فلا محذور فی الجمع بین الأمرین، لتفاوت مرتبة امتثالهما اللّذین کانا أثر الأمرین، لأنّهما من الاُمور الاعتباریّة حیث لا تزاحم فی جمعهما بنفسهما، لولا المزاحمة فی أثرهما ، فالقول بالترتّب لا یستلزم شیئاً من

ص:337

المحذور الذی ذکروه .

أمّا الإشکال العاشر: بأنّ العصیان إن کان شرطاً متقدِّماً، فلا یجتمع الأمران، وهو خلاف الفرض ، وإن کان شرطاً متأخّراً استلزم الجمع بین الأمرین، وهو مستلزم للجمع بین طلب الضدّین، وهو مُحال .

والجواب: قد عرفت أنّ العصیان إن اُخذ شرطاً متقدّماً کان بوجوده الاستمراری علّة لسقوط أمر الأهمّ ، فبعد تحقّقه کان الأمران فعلیّاً ، فکما لا محذور فیه هکذا لو کان شرطاً متأخّراً، حیث لا یستلزم الجمع بین الأمرین - مع تفاوت مرتبة امتثالهما - المستحیل، کما لا یخفی علی المتأمِّل الدقیق ، فعلیک بالدقّة فی المقام، فإنّه من مزالّ الأقدام ، واستعن فیه من اللّه الملک العلاّم .

هذا تمام الکلام فی الحکمین المتزاحمین، إذا کان کلّ واحدٍ منهما حکماً مستقلاًّ نفسیّاً بالتساوی ، أو بالتفاوت بالأهمّ والمهمّ ، وهو القسم الأوّل . ویتلوه القسم الثانی منه .

وأمّا الصورة الثانیة من الترتّب: وهی ما لو وقع التزاحم بین الحکمین أحدهما نفسی کوجوب ذی المقدّمة ، والثانی مقدّمی کحرمة المقدّمة ، فقد مثّلوا لذلک بمثل التصرّف فی الأرض المغصوبة لإنقاذ الغریق، أو الذهاب إلی الحجّ من طریق الأرض المغصوبة ونظائرهما . فیقع البحث حینئذٍ عن أنّه هل یقدّم حکم ذی المقدّمة ممّا یستلزم رفع الید عن حکم المقدّمة أو بالعکس؟ أو یجب التفصیل بملاحظة ما هو الأهمّ منهما فیقدّم، وإلاّ أنّ المکلّف مخیّر، أو یحکم بما هو فی الأمر الترتّبی من ثبوت کلٌّ فی موطنه؟ وجوه .

قال المحقّق النائینی: فی المسألة الثالثة من مسائل الترتّب ما خلاصته: إذا

ص:338

کان التزاحم واقعاً بین المقدّمة وذیها ، فالأقوی جریان الترتّب فیها .

ثمّ قسّم المقدّمة بین ما إذا کانت متقدّمة فی الوجود عن ذیها کالتصرّف فی الأرض المغصوبة لإنقاذ الغریق ، وبین کونها مقارنة کالتصرّف فی الماء المغصوب لإنقاذ الغریق.

ثمّ بعدما وقع الکلام فی المقامین، تعرّض إلی المقام الأوّل وذکر فیه جهات :

أمّا الجهة الاُولی : فی أنّ المقدّمة المحرّمة ذاتاً، لا تسقط عن حرمتها بمجرّد وجوب ذیها ، بل تسقط إن کان وجوب ذیها أهمّ ، وإلاّ تکون حرمتها باقیة بحالها، لا أن یلاحظ التخییر بینها وبین ذیها فی التساوی ، کما کان التخییر ملحوظاً فی الحکمین النفسیّین المتساویین .

ثمّ ألحق المقدّمة المقارنة بالسابقة وقال بأنّ بقیّة الأحکام - من الإباحة والاستحباب والکراهة - حکمها متفاوتة مع الحرمة الثابتة فیها .

أمّا الجهة الثانیة : فإنّ الذوق والاعتبار یأبیان عن وقوع المقدّمة المحرّمة الذاتیّة علی صفة الوجوب والمطلوبیّة الغیریّة مطلقاً، ولو لم یقصد بها فعل ذیها ولا یترتّب علیها ، إذ لا یمکن القول بجواز التصرّف فی أرض الغیر إذا أراد التنزّه والتفرّج، فیما إذا کان التصرّف مقدّمة للإنقاذ، لأنّ الوجدان یکذّبه ، ولأجل ذلک نلاحظ التزام صاحب «المعالم» إلی أنّ وجوبها مشروطة بإرادة ذیها ، وصاحب «الفصول» إلی الموصلة، والشیخ إلی اعتبار قصد التوصّل .

ثمّ قال : حیث کانت جمیع هذه المسالک مشتملة علی المحاذیر، فقد التزمنا بمسلکٍ یحسم مادّة الإشکال ویوافقه الاعتبار ، وهو أنّ الحرمة الذاتیّة لم تسقط

ص:339

مطلقاً ، بل سقط إطلاقها لحالتی فعل ذیها وترکها، مع انحفاظ الحرمة فی صورة ترک ذیها ، بل یکون حکم الحرمة ححکم سائر الأحکام من الإباحة وغیرها .

ثمّ تعرّض لبعض ما قد یرد علی کلامه، فلا یهمّنا التعرّض إلیه. انتهی محصّل کلامه(1) .

أقول: ولکن کلامه لا یخلو عن إشکال ونظر:

أوّلاً : بأنّه لا وجه لذکر الاختلاف والفرق بین الحکمین المتزاحمین النفسیّین من الوجوب والحرمة، وبین التزاحم بین المقدّمة المحرّمة دون المقدّمة الواجب ، إذ کما أنّه یجب فی الأوّل ملاحظة حال متعلّقها من وجود مقطوع الأهمّیة أو محتملها، فیحکم بالتقدیم وإلاّ یتنجّز فیالمتساویین، هکذا یکون الحال فی المقدّمة وذیها ، لوضوح أنّ التزاحم بینهما لیس بین الحکم النفسی والغیری المقدّمی حتّی یتفاوت مع السابق ، بل التزاحم هنا أیضاً کان بین النفسیّین وهو بین الوجوب المتعلّق لذیها، الموجب لکون المقدّمة أیضاً واجبة بین الحرمة النفسیّة المتعلّقة بنفس المقدّمة ، وإلاّ لولا ذلک فلِمَ یلاحظ التزاحم فی طرف الأهمّ ، مع أنّه کان ینبغی أن یلاحظ التزاحم بین حکم الحرمة النفسیّه وبین الوجوب المقدّمی بنفسه ، إذ من الواضح أنّ الحکم المقدّمی لم یکن بأهمّ من الحکم النفسی ، فکما أنّه یلاحظ فیه بالنسبة إلی الوجوب فی طرف الأهمّ وهو ذو المقدّمة مع الحرمة للمقدّمة ، فهکذا یکون فی طرف المتساویین أیضاً، لقیام التقابل بین المفسدة الموجودة فی المقدّمة والمصلحة الموجودة فی ذیها، لوضوح أنّ المقدّمة بنفسها لولا ذیها لا مصلحة فیها حتّی یلاحظ فیها التساوی أو التفاوت مع المفسدة


1- فوائد الاُصول : ج1 / 232 .

ص:340

الموجودة فی المقدّمة ، فالأولی عندنا عدم وجود الفرق بین التزاحم المذکور فی السابق، وبین التزاحم الواقع فی المقام، من لزوم الحکم بالتقدیم فی معلوم الأهمّیة ومحتملها، وإلاّ الحکم بالتخییر بین الإتیان بالمقدّمة المحرّمة حتّی یمتثل للواجب فی ناحیة ذیها ، وبین الامتثال للمقدّمة بترکها، والتخلّف بالنسبة إلی ذیها وعدم الامتثال بالنسبة إلیه .

وثانیاً : أنّا لا نفهم الفرق بین ما ذکره فی الجواب الذی زعم أنّه یعدّ حاسماً لمادّة الإشکال ، وبین ما ذکره الشیخ وأمثاله، من عدم کون المقدّمة المطلقة واجبة أو محرّمة ، بل ما کان یمکن الوصول من خلاله إلی ذیها بالقصد أو ما هو المشیر إلی الخارج أو غیر ذلک ، فمعنی ذلک لیس إلاّ أنّ المقدّمة فی غیر فرض الإیصال کان محکوماً بحکم الوارد لها فی ذلک، من الحرمة أو الإباحة أو غیرهما ، فهذا لیس إلاّ عین کلامه القائل بأنّ المقدّمة محکومة بحکم نفسها، مع قطع النظر عن عروض وصف المقدّمیّة علیها .

وبعبارة أوفی : أنّ معنی هذا الکلام أنّ المقدّمة بصورة الإطلاق لیست بواجبة حتّی یرفع الید عن حرمتها ، بل بما هی مقصودة بالوصول إلی ذیها ، وأمّا غیر ما یصل به، فتکون محکومة بحکم آخر متعلّقاً بذلک الشیء من الإباحة أو غیرها کسائر الأشیاء .

وثالثاً : أنّ ملاحظة حال الأمر الترتّبی بین ذی المقدّمة الواجب والمقدّمة المحرّمة، إنّما یکون فی صورة کون الأمر فی ذی المقدّمة مقطوع الأهمّیّة أو محتملها من النهی المتوجّه إلی المقدّمة ، ففی ذلک یصحّ أن یُقال یجب علیک القیام بإتیان ذی المقدّمة حتّی یجب الإتیان بالمقدّمة، وإلاّ أی وإن عصیت أمر الأهمّ

ص:341

الذی کان علی ذیها فاترک المقدّمة المحرّمة حینئذٍ، بخلاف ما هو الحال فی جریان الترتّب فی المتساویین فإنّه لا یکون إلاّ بمعنی تقیید کلّ منهما بعدم إتیان الامتثال الآخر ، وقد عرفت أنّ التقیید بهذا یکون قهریّاً لو لم یقدر الجمع فیهما، سواءً ذکره المولی أم لا ، غایة الأمر یختلف فی تسمیته بالتخییر العقلی أو الشرعی ، ولکنّه لیس هنا تقیید بعصیان أمر آخر، الذی کان فی الترتّب الاصطلاحی فی الأهمّ والمهمّ ، ومن المعلوم عدم الفرق بین کون التزاحم فی الحکمین من حیث نفسهما، أو ما یلزم ذلک باعتبار ما یتولّد منهما ، فکلّ مورد یلاحظ فیه الترتّب بنحو شرطیّة العصیان للآخر فی النفسیّین بنفسهما کما فی الأهمّ . کذلک یلاحظ فی النفسیّین بلحاظ ما یقتضی باعتبار الترتّب المتولّد من التزاحم بنحو شرطیّة العصیان للآخر ، وکلّ مورد یلاحظ فیه رفع التزاحم بالترتّب بنحو تقیید کلّ منهما بعدم امتثال الآخر کما فی المتساویین من النفسیّین . کذلک یکون فی التزاحم بین النفسی مع الآخر بلحاظ ما یتولّد منه حیث یتقیّد کلّ منهما بعدم امتثال الآخر.

فمن هنا ظهر فساد ما قاله رحمه الله بأنّه وإن لم تکن أهمّ فحرمة المقدّمة باقیة علی حالها، ولا تصل النوبة إلی التخییر فی صورة التساوی ؛ لأنّ حرمتها ناشئة عن وجوب ذیها کما وقع فی ضمن کلامه بالتفصیل .

وجه الفساد: ما عرفت من أنّ الترتّب بکلا معنییه یجری فی المقام، کما یجری هناک، ولا یکون جریانه منحصراً بخصوص الأهمّ والمهمّ، إلاّ فیما کان مشروطاً بعصیان الأمر الآخر، کما کان کذلک فی النفسیّین أیضاً .

وأمّا القسم الثالث من الترتّب: الذی أنکر المحقّق النائینی قدس سره إمکان جریانه

ص:342

فیه ، هو ما لو کان التزاحم لأجل اتّحاد المتعلّقین خارجاً ، وهو مثل ما لو قال : (لا تغصب وإن غصبت فصلِّ)، فقد قال رحمه الله عن ذلک:

(لا یمکن جریان الترتّب فیه، لأنّه یلزم إمّا طلب الممتنع ، وإمّا طلب الحاصل .

لأنّه إن کان المراد من (إن غصبت) هو العزم والقصد علی الغصب ، فهذا لا یکون بین الأمر الترتّبی ؛ لأنّ شرط الأثر الترتّبی هو التلبّس بالعصیان، لا العزم علی العصیان ، وإلاّ لزم الأمر بالضدّین علی وجه المحال .

وإن کان المراد منه التلبّس بالعصیان خارجاً وفعلیّة الغصب منه ، فإن کان المراد منه التلبّس بالغصب الصلاتی، یلزم طلب الحاصل بالعینیّة لا بالملازمة ، وإن کان المراد التلبّس بغیر الصلاة، یلزم طلب الممتنع ، وإن کان الأعمّ یلزم کلا المحذورین) ، انتهی کلامه(1) .

والجواب عنه أوّلاً : بالنقض علیه ، بأنّا نقول بمثله فی المثال المعروف من أنّه إذا قال المولی (لا تعص أمر الإزالة وإن عصیت أمرها فصلِّ) ، فلا إشکال فی وحدة المتعلّق فی الموردین، إذ العصیان لأمر الأهمّ متّحد خارجاً مع الصلاة کاتّحاد الغصب معها ، فنعید علیه رحمه الله کلامه بأنّه :

إن کان المقصود هو العزم علی العصیان، یلزم الأمر بالضدّین علی وجه المحال .

وإن کان المقصود التلبّس بالعصیان الصلاتی، فهو طلب للحاصل .

وإن کان التلبّس بغیرها، یلزم طلب الممتنع .


1- فوائد الاُصول : ج1 / 238 آخر ج1 / 392 الطبعة الجدیدة .

ص:343

وإن کان المراد هو الأعمّ، یلزم کلا المحذورین .

فکلّ ما أجاب عنه فی رفع المحذور فیه، فنحن نقول هاهنا بمثله .

وثانیاً وبالحلّ: فأمّا عن العزم، فهو منوط علی ملاحظة ما اُخذ شرطاً فی لسان الدلیل ، إن فرض أنّه أُخذ بصورة العزم علی العصیان، فیصحّ الترتّب من دون لزووم محذور أصلاً ؛ لما قد عرفت من تفاوت الترتّبین فی الامتثالین، واعتباریّة الأحکام، فلا یستلزم أمراً مستحیلاً ، راجع کلامنا آنفاً تجد طعم العافیة فی حلّ الإشکال إن شاء اللّه تعالی .

وإن اُخذ بصورة التلبّس فی الخارج ، فمع ذلک نقول :

لا یستلزم ذلک أیّ محذور، لأنّ المقصود من قوله : (وإن عصیت فصلِّ) ، أو (وإن غصبت فصلِّ) هو أنّ الشارع یخاطب المکلّف بأنّه لولا الأمر المتوجّه إلیک بالصلاة لکنت عاصیاً بالغصب ، ومخالفاً للأمر الأهمّ، فانتخب العصیان بإتیان الصلاة لا بالاشتغال بشیء آخر، ومثل هذا الأمر الترتّبی لا یعدّ أمراً بالجهل ولا بالممتنع ؛ لأنّ الأمر لایتحقّق بعد العصیان ، بل یکون إنشائه وفعلیّته موجوداً الآن ، إلاّ أنّ تنجّزه یقع فی وقت حصول العصیان، فلا یکون فیه محذور أصلاً ، فالترتّب إن قلنا بصحّته وإمکانه، یجری فی مثل هذا القسم أیضاً کما یجری فی أخویه .

نعم ، ما لا یجری فیه الترتّب أصلاً، هو ما کان المتعلّقان من قبیل الضدّین اللّذین لا ثالث لهما، کالحرکة والسکون ، وما یکون التلازم بین الشیئین من المتقابلین کاستقبال القبلة الملازم لاستدبار الجُدی مثلاً ، لما قد عرفت أنّه یلزم طلب الحاصل ، وهو غیر جائز فلا نعید . فهذا هو القسم الرابع من الترتّب.

***

ص:344

جریان الترتّب فی الحکمین المتساویین

جریان الترتّب فی الحکمین المتساویین

أمّا القسم الخامس : فهو جریان الترتّب فی الحکمین المتساویین، سواء کان التزاحم بین النفسیین أو بین النفسی والغیری، إذا کانت المصلحة فی کلّ منهما أو المفسدة کذلک ، أو المصلحة مع المفسدة فیهما متساویة ، حیث یقع البحث فی أنّه هل یجری الترتّب فیهما بترتّب واحد، أو یجری بترتّبین کما نُسب ذلک إلی الشیخ الأعظم الأنصاری قدس سره فی الدلیلین المتعارضین علی فرض السببیّة والموضوعیّة .

وللمحقّق النائینی فی «فوائد الاُصول» فی هذا القسم من الترتّب کلامٌ - حیث أنّه بعد بیان أنّ الملاک والموجب لإیجاب الجمع فی غیر باب الضدّین إنّما هو إطلاق الخطابین لحالتی فعل الآخر وعدمه کالصلاة والصوم - قال:

(وهذا فی غیر الضدّین واضح ، فیقع الکلام فی أنّ حال الضدّین حال غیرهما فی أنّ الموجب لإیجاب الجمع بینهما :

هو إطلاق کلّ من الخطابین، حتّی یکون هو الساقط لیس إلاّ .

أو أنّ الموجب لذلک فعلیّة الخطابین مع وحدة زمان امتثالهما، حتّی یکون الساقط أصل الخطابین .

وعلی ذلک یبتنی المسلکان فی التخییر فی المتزاحمین المتساویین من حیث المرجّحات، من حیث کون التخییر عقلیّاً أو شرعیّاً .

فإنّه لو کان المقتضی لإیجاب الجمع هو إطلاق الخطابین، فالساقط هو الإطلاق لیس إلاّ ، مع بقاء أصل الخطابین، ویکون التخییر لمکان اشتراط کلّ خطاب بالقدرة علی متعلّقه، فیکون کلّ من الخطابین بالضدّین مشروطاً بترک الآخر، لحصول القدرة علیه عند ترک الآخر وینتج التخییر عقلاً .

ص:345

وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّ المقتضی لإیجاب الجمع هو أصل الخطابین ووحدة زمان امتثالهما ، فإنّه حینئذٍ لابدّ من سقوط کلا الخطابین ؛ لأنّ سقوط أحدهمنا ترجیحٌ بلا مرجّح ، ولمکان تمامیّة الملاک فی کلّ منهما یستکشف العقل خطاباً شرعیّاً تخییریّاً بأحدهما، ویکون کسائر التخییرات الشرعیّة کخصال الکفّارات ، غایته أنّ التخییر الشرعی فی الخصال یکون بجعل ابتدائی ، وفی المقام یکون بجعل طارئ، ویکون وزان التخییر فی المشروطین بالقدرة العقلیّة،وزانه فی المشروطین بالقدرة الشرعیّة، حیث تقدّم أنّ التخییر فیهما یکون شرعیّاً .

وعلی ذلک أیضاً، یبتنی وحدة العقاب وتعدّده عند ترک الضدّین معاً ، فإنّه بناءً علی سقوط الخطابین، لا یکون هناک إلاّ عقاب واحد ؛ لأنّ الواجب شرعاً حینئذٍ هو أحدهما ، وأمّا بناءاً علی اشتراط الإطلاقین، فیتعدّد العقاب لحصول القدرة علی کلّ منهما، فیتحقّق شرط وجوب کلّ منهما، فیعاقَب علی ترک کلّ منهما . وربما یترتّب علی ذلک ثمرات اُخر قد تقدّمت الإشارة إلی بعضها .

فتحصّل: أنّ الذی ینبغی أن یقع محلّ النفی والإثبات، هو أنّ الموجب لإیجاب الجمع هل هو إطلاق الخطابین أو فعلیّتهما، وعلی الأوّل یبتنی صحّة الترتّب ، وعلی الثانی یبتنی بطلانه .

ومن الغریب ما صدر عن الشیخ قدس سره ، حیث أنّه فی الضدّین الذین یکون أحدهما أهمّ، ینکر الترتّب غایة الإنکار ، ولکن فی مبحث التعادل والتراجیح من «الفرائد» التزم بالترتّب من الجانبین عند التساوی وفقد المرجّح، حیث قال فی ذلک المقام فی ذیل قوله : فنقول وباللّه المستعان : قد یُقال بل قیل إنّ الأصل فی

ص:346

المتعارضین عدم حجّیة أحدهما) ما لفظه :

(ولکن لمّا کان امتثال التکلیف بالعمل بکلّ منهما کسائر التکالیف الشرعیّة والعرفیّة، مشروطاً بالقدرة ، والمفروض أنّ کلاًّ منهما مقدور فی حال ترک الآخر، وغیر مقدور مع إیجاد الآخر، فکلّ منهما مع ترک الآخر مقدور یحرم ترکه ویتعیّن فعله ، ومع إیجاد الآخر یجوز ترکه ولا یعاقب علیه . فوجوب الأخذ بأحدهما نتیجة أدلّة وجوب الامتثال والعمل بکلّ منهما بعد تقیید وجوب الامتثال بالقدرة ، وهذا إنّما حکم به ببدیهة العقل، کما فی کلّ واجبین اجتمعا علی المکلّف، ولا مانع من تعیین کلّ منهما علی المکلّف بمقتضی دلیله، إلاّ تعیین الآخر علیه کذلک) . انتهی موضع الحاجة من کلامه زیدَ فی علوّ مقامه .

وهذا کما تری صریح فی أنّ التخییر فی الواجبین المتزاحمین، إنّما هو من نتیجة اشتراط کلّ منهما بالقدرة علیه، وتحقّق القدرة فی حال ترک الآخر ، فیجب کلّ منهما عند ترک الآخر، فیلزم الترتّب من الجانبین، مع أنّه قدس سره أنکره من جانب واحد ، ولیت شعری أنّ ضمّ ترتّب إلی ترتّب آخر کیف یوجب تصحیحه؟

وبالجملة : هذه المناقضة عن الشیخ غریبة ، وعلی کلّ حال فقد تحصّل من المقدّمة الاُولی أنّ العمدة هو إثبات ما یوجب إیجاب الجمع بین الضدّین علی المکلّف، حتّی یکون هو الساقط) . انتهی موضع الحاجة من کلامه زیدَ فی علوّ مقامه(1) .

أقول: ولا یخفی أنّ المحقّق لم یعیّن هنا ما هو مختاره من الاحتمالین، من


1- فوائد الاُصول : 1 / 198 .

ص:347

سقوط الخطابین ، أو سقوط الإطلاقین بالتقیید بعدم إتیان الآخر ، إلاّ أنّه حیث کان قائلاً بصحّة الترتّب، وکان ذلک مبنیّاً علی الاحتمال الثانی - کما صرّح به - یفهم مختاره .

نعم ، ورد منه رحمه الله التصریح بذلک بقوله :

(فإذا وقع التزاحم بینهما من حیث قدرة المکلّف، وعدم تمکّنه من الجمع الذی یقتضیه الإطلاق، فإن لم یکن لأحد الحکمین مرجّح من أهمّیة أو غیرها، فلابدّ من سقوط کلا الإطلاقین ؛ لأنّ سقوط أحدهما ترجیحٌ بلا مرجّح، وتکون نتیجة الخطابین بعد سقوط إطلاقهما، لمکان اعتبار القدرة هو التخییر عقلاً...)(1).

یرد علی کلامه أوّلاً : بأنّ الإشکال علی الشیخ بأنّ کلامه دالّ علی صحّة الترتّب من حیث التکلیف لا فی مقام الامتثال ، مخالفٌ لصریح کلام الشیخ قبل هذا، فکأنّ المحقّق غفل عن ملاحظة کلامه ، وهو ما نصّ علیه قبل عبارته السابقة بقوله:

(إنّ الحکم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضین فی الجملة، وعدم تساقطهما لیس لأجل شمول العموم اللفظی لأحدهما علی البدل من حیث هذا المفهوم المنتزع ؛ لأنّ ذلک غیر ممکن کما تقدّم وجهه فی بیان الشبهة ، لکن لمّا کان...).

فإنّ صریح کلامه هذا تدلّ علی إنکاره للترتّب فی التکلیف، بأن یکون إطلاق کلّ مقیّداً بعدم الآخر ، فکیف ینسب إلیه أنّه یقول بترتّبین؟

خصوصاً مع بیانه بأنّ التقیید فی مرحلة الامتثال کان بمقتضی حکم العقل


1- فوائد الاُصول: 1 / 219 .

ص:348

من دون تصرّف للشارع فیه ، مع أنّ تقیید الأمر والتکلیف لا یکون إلاّ من ناحیة الشارع لا من العقل .

نعم ، یمکنه التقیید فی مقام الامتثال، فیکون فی غیر مقدوره معذوراً لو لم یصرّح الشارع التقیید فی نفس تکلیفه ، فلا یقدر العقل علی التصرّف فی حکم الشرع بالتقیید من حیث مرحلة الحکم، وإن کان قادراً بذلک فی مقام الامتثال ، والشیخ یقبل الثانی دون الأوّل .

وثانیاً : أنّ الترتیب الاصطلاحی إنّما هو بلحاظ أخذ عصیان أمر الأهمّ شرطاً للمهمّ حتّی یصیر الأمران طولیّین ، هذا بخلاف التقیید الذی اُخذ فی المتباین، حیث یکون فی عرض کلّ واحد من الأمرین لا فی طولهما، وإلاّ لزم تقدّم الشیء علی نفسه، وهو محال ؛ لأنّ کلّ منهما باعتبار قیده - وهو عدم الإتیان فی الآخر -یکون مقدّماً ، وباعتبار مقیدّتیه بهذا القید الواقع فی بدیله یکون متأخّراً ، فلزم المحذور، فلابدّ أن یکون الترتّب جاریاً فیه ، بل القید یکون فی کلّ منهما واقعاً فی رتبة وجود المقیّد فی الآخر لا مقدّماً ولا مؤخّراً .

من هنا ظهر أنّ نتیجة شرطیّة العصیان، هو صحّه الترتّب الاصطلاحی ، ونتیجة التقیّد بعدم الإتیان، هو التخییر فی مقام الامتثال فی المتساویین، لا الترتّب الاصطلاحی الذی کان متفاوتاً فی رتبة الامتثال .

وثالثاً : أنّ ما قاله المحقّق من انحصار التخییر فی العقلی بسقوط الإطلاقین، أو الشرعی بسقوط الخطابین، لا یخلو عن وهن ، لإمکان وجود قسم ثالث وهو أن یصرّح نفس الشارع فی لسان کلّ من الدلیلین بهذا التقیّد، بأن یقول: (علیک إنقاذ أیّهما إذا لم تنقذ الآخر) حیث أنّ تصریحه یوجب کون التخییر شرعیّاً

ص:349

بمقتضی حکم العقل بالجمع بین لسان الدلیلین .

ومن الواضح أنّه لیس من الترتّب الاصطلاحی فی شیء ، کما أنّه لیس من باب سقوط الخطابین، ولا سقوط الإطلاقین بحکم العقل، لعدم وجود إطلاق أصلاً من أوّل الأمر حتّی یسقط .

فظهر من جمیع ما ذکرنا أنّ الترتّب الاصطلاحی لا یجری فی الضدّین المتساویین .

وبالجملة: انقدح من جمیع ما ذکرنا من الأقسام الخمسة فی الترتّب الذی ادّعی فیه ذلک أنّه لا یصحّ الترتّب إلاّ فی ثلاثة أقسام منها ، وهی:

1 - فی الحکمین المتزاحمین من النفسین إذا کانا متفاوتین بالأهمّ والمهمّ .

2 - وفی الحکمین المتزاحمین الّذین أحدهما نفسی والآخر غیری إذا کانا متفاوتین کذلک .

3 - وفی الحکمین المتزاحمین الذین متعلّقیهما کان واحداً، مثل: (لا تغضب وإن غضبت فصلِّ) .

ولا یجری فی القسمین الآخرین:

أحدهما: ما کان فی الضدّین الذین لا ثالث لهما .

والآخر: فی المتساویین، سواء کانا نفسیّین أو أحدهما نفسیّ والآخر غیریّ .

حیث لا یکون الترتّب فیهما اصطلاحیّاً، وإن صحّ بصورة تقیّد کلّ بعدم الإتیان بالآخر ، إلاّ أنّه فی الأوّل منهما قهریّ بغیر اختیار ، بخلاف الثانی حیث یکون اختیاریّاً . واللّه الهادی إلی الحقّ المبین .

***

ص:350

تنبیهات باب الترتّب /التنبیه الاوّل

تنبیهات باب الترتّب

التنبیه الأوّل : ینبغی أن یعلم بأنّ صحّة امتثال العبادة موقوفة:

إمّا علی قصد الأمر کما علیه عدّة من الفقهاء، کصاحب «الجواهر» قدس سره وکثیرٌ من المتقدّمین والمتأخّرین .

وإمّا علی وجود الملاک فی متعلّق العبادة، لولا وجود الأمر، کما علیه بعض المحقّقین کصاحب «الکفایة» قدس سره والمحقّق النائینی .

کما أنّ الأقوی عندنا هو کفایة أحد الأمرین ، إمّا قصد الآمر کما هو الغالب ، أو وجود الملاک کما لو زاحم الواجب شیئاً أهمّ، بحیث لا یقدر المولی من إبراز الأمر أصلاً ، أو یبره فی صورة صحّة الترتّب ، فلو وجد عبادة لم یتحقّق فیها شیء منهما، لما کانت صحیحة، وهو فیما إذا لم نقل بالترتّب أصلاً ؛ أی لو التزمنا باستحالته وکانت العبادة بنفسها منهیّاً عنها للکشف عن عدم وجود مصلحة فیها ، بل کانت مشتملة علی المفسدة الغالبة ، أو لم تکن المصلحة موجودةً، وإن لم تشتمل علی المفسدة ، کما لو زاحمت الصلاة واجب آخر أهمّ کإنقاذ نفس محترمة عن أیدی الأعداء، المتوقّف علی ترک الصلاة ، فلا یمکن القول حینئذٍ بصحّة العبادة لمزاحمتها مع ما یوجب رفع الأمر والملاک عنها ، والترتّب علی الفرض هنا غیر ممکن .

أقول: إذا عرفت هذا فاعلم أنّه التزم بعض الأعلام - هو المحقّق النائینی قدس سره

ص:351

فی «فوائده»(1) بأنّ الواجب الذی قد اُخذ فی لسان الشرع القدرة علیها شرطاً، سواءً کان الشرط متّصلاً بالدلیل کالاستطاعة للحجّ ، أو منفصلاً بدلیل آخر کالوضوء بالنظر إلی الماء ، حیث یکون بواسطة أمر التیمّم الذی اُخذ بدلاً له ، وکان حکم التیمّم فی لسان دلیله منوطاً بعدم وجدان الماء ، موجباً لتقیید أمر الوضوء بالقدرة الشرعیّة علی الماء ، فوجود ملاک الوضوء یصبح فی صورة وجود الماء بلا مانع عقلی ولا شرعی . وإلاّ لما کان فیه الملاک ، فلو توضّأ مع ذلک لما کان صحیحاً.

وبناءً علی هذا اعترض رحمه الله علی حکم صاحب «الفصول» بصحّة الوضوء لمن اغترف الماء من الآنیة المغصوبة ، ولو کان الاغتراف متعدّداً للغسلات ولو لم یکن الاغتراف لتخلیص ماله - وهو الماء - عن ملک الغیر - وهو الإناء المغصوبة - ولم یکن وقوع الماء فی آنیة الغیر إلاّ بسوء اختیاره ؛ لأنّه إذا کان الاغتراف بوصف أحد من الوجهین - یعنی لاستخلاص ملکه عنها، ولم یکن وقوعه فیها بسوء اختیاره - لما کان حینئذٍ حراماً له، فهو خارج عن الفرض ، بل الحرام هو الواقع بغیر هذین الوصفین ، ومع ذلک کان وضوءه صحیحاً .

وکأنّ الوجه فی القول بصحّته، بناء حکمه علی الأمر الترتّبی، لأنّه عصی بالاغتراف فیکون واجداً للماء، ومصداقاً لما وجب علیه الوضوء ، نظیر ما قیل فی الصلاة بالنسبة إلی الإزالة ، فکما أنّه بعصیان أمر الإزالة تجب الصلاة علیه ، هکذا فی المقام، فإنّه بعصیان أمر الاجتناب عن الغصب أوجب علی نفسه الوضوء فیکون وضوءه واجباً برغم تصرّفه فی الإناء المغصوب.


1- فوائد الاُصول: 1 / 220.

ص:352

فاستشکل علیه المحقّق النائینی بقوله : (ولکن لا یخفی علیک الفرق بین باب الوضوء وباب الصلاة:

فإنّ الصلاة لا یعتبر فیها أزید من القدرة العقلیّة علی أجزائها المفروض حصولها باستمرار عصیان الإزالة ، فلا مانع من الأمر الترتّبی فیها .

وأمّا فی الوضوء، فالقدرة المعتبرة فیه إنّما تکون شرعیّة، وممّا لها دخل فی الملاک، ولا قدرة شرعیّة علی الوضوء بعدما کان موقوفاً علی التصرّف فی الآنیة المغصوبة، ولا ملاک له حینئذٍ، فیکون غسل الوجه بالغرفة الاُولی لغواً لا أثر له بعدما لم یکن فی ذلک الحال واجداً لماءٍ مباح شرعاً یکفی الوضوء، فلا یجری فی الوضوء الأمر الترتتبی)(1) . انتهی موضع الحاجة من کلامه .

ثمّ قال فی ذیل کلامه : (وحینئذٍ لو فرض انتفاء القدرة الشرعیّة للوضوء، بحیث انتقل تکلیفه إلی التیمّم ، کما لو وجب صرف ما عنده من الماء لحفظ النفس المحترمة، کان وضوئه خالیاً عن الملاک ، فلو عصی وتوضّأ کان وضوئه باطلاً ، ولا یمکن تصحیحه لا بالملاک ولا بالأمر الترتّبی .

ومن الغریب ما حُکی عن بعض الأعاظم فی «حاشیته علی النجاة» من القول بصحّة الوضوء والحال هذه ، ولا یخفی فساده) ، انتهی کلامه وزیدَ فی علوّ مقامه(2) .

أقول: ولکن یمکن المناقشة فی کلامه قدس سره ، بأنّه فرق بین ما کان الواجب مشروطاً بشرط صریح فی لسان الدلیل المتّصل نظیر الاستطاعة للحجّ، حیث قال


1- فوائد الاُصول: 1 / 221 و 220 .
2- فوائد الاُصول: 1 / 221 و 220 .

ص:353

اللّه تبارک وتعالی : «وَللّه ِِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً»(1) ، أو کان الواجب مشروطاً بشرط فی الدلیل المنفصل نظیر ما وقع فی الأخبار من کون بلوغ المال إلی حدّ النصاب اُخذ شرطاً لوجوب الزکاة، المستفاد من الآیة فی قوله تعالی : «وَآتُوا الزَّکَاةَ»(2) ؛ حیث یفهم من ذلک أنّه لولا تحقّق الشرط، لما کان الوجوب متحقّقاً، فیکشف من ذلک عدم وجود الملاک والمصلحة فیها، وإلاّ لأمره قبل الشرط .

وبین واجب لم یکن الشرط مأخوذاً فی لسان الدلیل لا متّصلاً ولا منفصلاً ، بل الوجوب فیه مطلق ، غایة الأمر أنّ الشارع اعتبر عجزه عن إتیان الواجب بحسب العرف والشرع سبباً لإتیانه بالبدل لإدراک المصلحة الفائتة بترک ذلک الواجب ، ففی ذلک یتفاوت الحال فی المسألة ؛ لأنّه:

تارةً: یکون وضع البدل له من جهة تسهیل الأمر للعباد، لئلاّ یقعوا فی العسر والحرج ، وکان وضعه من باب الامتنان علی العباد، ورأفةً علیهم ، کما قال اللّه تبارک وتعالی : «یُرِیدُ اللّه ُ بِکُمْ الْیُسْرَ وَلاَ یُرِیدُ بِکُمْ الْعُسْرَ»(3) ، کما هو الحال فی تشریع التیمّم المستفاد من قوله تعالی : «فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیدا طَیِّبا»(4) ؛ حیث دلّت علی أنّ عدم الوجدان ولو من جهة أنّ تحصیل الماء مستلزم للعُسر والحرج ، موجب لرفع التکلیف عن وجوب تحصیل الماء، لا لعدم وجود مصلحة


1- سورة آل عمران ، الآیة : 97 .
2- سورة البقرة ، الآیة : 43 .
3- سورة البقرة ، الآیة : 185 .
4- سورة النساء ، الآیة : 43 .

ص:354

وملاک فی الوضوء ؛ لوضوح أنّه حَسَن وفیه مصلحة ، بل لأنّ المصلحة الموجودة فی رفع العسر والحرج علی العباد بجعل بدل له من التیمّم، کان أقوی وأهمّ من المصلحة الموجودة فیه ، فمن الواضح أنّ الشارع حینئذٍ یحکم بحکم قانونی عام یشمل الجمیع وهو لزوم القیام بالتیمّم، ممّا یدلّ علی أهمّیة الواجب عند الشارع، إلاّ أنّه لیس بمعنی عدم وجود ملاک ومصلحة فی أصل الوضوء، بحیث لو عصی ذلک وتحمّل المشقّة والعسر فی تحصیل الماء لکان وضوءه باطلاً.

والترتّب فی هذا القسم جارٍ بلا إشکال، وکانت عبادته - وهی الوضوء - لو أتی به صحیحاً للأمر به ، وإن لم یکن فیه أمراً من جهة عدم القول بالترتّب کما علیه الشیخ وصاحب الکفایة ، ومع ذلک یمکن القول بالصحّة أیضاً لوجود الملاک فیه إن قلنا بکفایة ذلک فی الصحّة، وإن لم یکن الأمر فیه موجوداً کما هو المختار .

واُخری: ما لو کان جعل البدل من حیث أنّ العمل بالوضوء یستلزم ارتکاب حرام فیه مفسدة ملزمة للترک ، فهو:

1 - قد یکون بالاستلزام، أی لا یکون بنفسه حراماً ، بل یوجب تحقّق الحرام منه، کما فی الماء المباح الواقع فی الآنیة الغصبیّة حیث یستلزم التفصّی منه تصرّفاً فی الغصب ولو بالاغتراف ، أو مثل صرف الماء للوضوء إذا کان مستلزماً لتلف نفس محترمة .

2 - وقد یکون بنفسه حراماً، کما لو کان نفس الماء غصبیّاً حیث یستلزم التوضّی منه وقوع الحرام منه الذی کان فیه المفسدة .

وأمّا حکم الصحّة والبطلان فی الأخیر منوطٌ علی کونه من باب اجتماع الأمر والنهی . وقلنا بإمکانه وأجزنا ذلک ، ولم نقل بتغلیب جانب النهی ، ولم نقل

ص:355

بتعلّق النهی بأصل العبادة، حتّی یستلزم النهی عنها الفساد ، فمع قبول تمام هذه الجهات ، فلا نحتاج حینئذٍ إلی الأمر الترتّبی ، بل کان التکلیفان کلاهما منجّزان للعنوانین، وکانت المصلحة والمفسدة کلتیهما موجودتین ، کما أنّ الأمر والنهی موجودان .

وأمّا إن لم نقل بذلک ، ولم نجوّز الاجتماع، أو قلنا بغلبة جانب النهی أو فساد العبادة بواسطة النهی ، فإنّ العبادة تکون فاسدة حینئذٍ، ولا یجری فیها الترتّب، أی لو تصرّف فی الماء حتّی لغیر الوضوء، کان عاصیاً علی کلّ حال، إذ لا یمکن التوضّی منه لکون النهی قد یتعلّق بنفس العمل وهو موجب للفساد، کما لایخفی .

وأمّا حکم الصحّة والبطلان فی صورة الاستلزام، فلا إشکال فی أنّ الواجب علیه کان ترک الوضوء حفظاً عن تلف النفس المحترمة، واجتناباً عن التصرّف فیما یستلزم تصرّفاً فی مال الغیر، والإتیان بالبدل وهو التیمّم ، إلاّ أنّه یمکن أن یکون ذلک من جهة نفی وجود الملاک والمصلحة فی الوضوء، لأجل المزاحمة الکذائیّة ، فلازمه أنّه لو تخلّف وأتی بالوضوء وحصل تلف النفس المحترمة، أو استلزم التصرّف فی المغصوب، لما کان وضوئه صحیحاً، لعدم وجود الأمر حینئذٍ قطعاً،

وعدم وجود الملاک علی الفرض .

ویمکن أن یکون الوجه فی تقدیم حفظ النفس بصرف الماء لها، وحفظ الاجتناب عن التصرّف فی مال الغیر، لأهمّیة الملاک والمصلحة فیهما، لا لعدم مصلحة وملاک فی أصل الوضوء، بحیث لو عصی الأهمّ وأتی بالمهمّ لأتی بما لیس فیه ملاک ، وإذا کان الأمر من حیث الثبوت والواقع بکلا وجهیه ممکناً ، فلابدّ فی

ص:356

إثبات أحدهما بالخصوص من مراجعة لسان الأدلّة، فی أنّه هل یفهم منها علی النحو الأوّل أو الثانی، فلعلّ من حکم بالصحّة أراد أنّه لا یستفاد من أدلّة جعل البدلیّة فی هذه الموارد، إلاّ سقوط الأمر بالوضوء، بحیث کان الواجب علیه التیمّم ، وأمّا لو عصی وارتکب حراماً وأتی بالوضوء عاصیاً، لکان صحیحاً، سواءً قلنا بصحّة الترتّب حیث یکون الأمر حینئذٍ للوضوء ثابتاً ، أو لم نقل به لاستحالته مثلاً، فیکون صحیحاً من جهة وجود الملاک والمصلحة فیه .

وبالجملة: ظهر من جمیع ما فصّلناه، عدم صحّة إطلاق کلام المحقّق، بأن جعل البدلیّة مستلزم لعدم إمکان صحّة الوضوء لا بالترتّب ولا بالملاک ، لما قد عرفت إمکانه فی جمیع الصور الثلاثة علی بعض التقادیر ، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

تنبیهات باب الترتّب / التنبیه الثانی

التنبیه الثانی : أنّ الترتّب بعدما عرفت إمکانه وصحّته:

تارةً: یکون من أوّل الشروع بالعمل مترتّباً، کما لو علم من أوّل الأمر قبل الدخول فی الصلاة بنجاسة المسجد، واعتبرنا الإزالة أهمّ منها ، إمّا من جهة وسعة وقت الصلاة ، أو کون الإزالة هی الأولی ولو فی المضیّق وإن کان هذا بعیداً هنا . ولکن یجری فی مثال آخر لا شبهة فیه مثل إنقاذ النفس المحترمة المزاحم للصلاة ، فهاهنا کانت الصلاة مترتّبة علی عصیان أمر الإزالة أو أمر الإنقاذ ، فالصلاة مترتّبة والإزالة مترتّبة علیها .

واُخری : ما لا یکون فی أوّل العمل مترتّباً، إمّا لعدم وقوع شیء یوجبه ، أو لعدم علم المکلّف به ؛ لما ثبت أنّه لولا الوصول إلی المکلّف لم یتنجّز الأمر الترتّبی ، بل وصل إلیه بعد الشروع فی الصلاة ، کما لو تنجّس المسجد فی حال

ص:357

الصلاة ، ففی ذلک لا یبعد القول بکون حرمة قطع الصلاة کان أهمّ من حکم الإزالة ، بخلاف مثل الإنقاذ للنفس المحترمة حیث أنّ الأمر بالعکس ؛ ففی الأوّل وجب أن یتحقّق الترتّب بعکس صورة الشروع ؛ أی لو قطع صلاته وعصی لمخالفة النهی للقطع فیجب علیه الإزالة ، فصار قطع الصلاة هنا مترتّباً ، والإزالة مترتّبة علیه ، بخلاف الثانی وهو الإنقاذ، حیث کان الترتّب هنا فی الأثناء کترتّبه فی بدایة العمل والشروع فیه .

وکیف کان ، فإنّ من قال بمقالة الترتّب وإمکانه، یقول به فی الأثناء أیضاً ، ومن ذهب إلی امتناعه لابدّ أن یمنع عن جریانه فی الإنقاذ بمثل ما یمنع بدواً ، کما أنّ الأقسام المذکورة فی الترتّب إذا کانت جاریة بأقسامه الثلاثة فی أوّل العمل، تجری فی أثنائه ، وکلّ الموارد التی تجری فیها الترتّب فی بدایة العمل لا تجری فی الأثناء أیضاً .

التنبیه الثالث : قد عرفت ممّا حقّقناه سابقاً من إمکان الترتّب وصحّة وقوعه فی الخارج، کما یقع کثیراً فی العرفیّات تعرف أنّ ما وجّهه صاحب «الکفایة» من أحد الوجهین :

تنبیهات باب الترتّب / التنبیه الثالث

(إمّا برفع الید عن أمر الأهمّ وطلبه حقیقة .

وإمّا أن یکون الأمر بالمهمّ إرشاداً إلی محبوبیّته وبقائه علی ما هو علیه من المصلحة والغرض لولا المزاحمة ، وأنّ الإتیان به یوجب استحقاق المثوبة ، فیذهب بها بعض ما استحقّه من العقوبة علی مخالفة الأمر بالأهمّ لا أنّه أمر فعلی نوی کالأمر به ، فافهم وتأمّل جیّداً .

ص:358

غیر وجیه:

أمّا الأوّل: لما قد عرفت من صحّة العقوبة علی ترک الأهمّ، لعدم وجودها حیث یقتضی رفع الید عنه وسقوطه إذا لم یتحقّق أحد اُمور ثلاثة من الامتثال أو العصیان أو انعدام الموضوع ، فلا محیص من أن یکون هذا بالعصیان لفقدان الآخرین علی الفرض .

وأمّا الثانی: لوضوح أنّ ظهور کلّ أمر فی المولویّة دون الإرشاد ، إلاّ فیما إذا لم یمکن المولویّة کما فی الضدّین اللّذین لا ثالث لهما کالجهر والإخفات ، لا فیما إذا أمکن کما أثبتناه فی محلّه ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : لو کان إرشاداً إلی وجود المصلحة فی متعلّقه، لما کان للقول باستحقاق المثوبة وجهاً ، لو قلنا بأنّ المثوبة والعقوبة من آثار الموافقة والمخالفة للأمر المولوی دون الإرشادی، ولا القول بما هو الموجود فی المتعلّق هو المصلحة والمفسدة من دون أمرٍ ونهی .

کما أنّه یمکن وقوعه فی الشرعیّات ذاتاً ، وأمّا وقوعه فی الخارج وفی الموارد الفقهیّة فهو قابل للملاحظة، لأنّه لا ملازمة بین القول بإمکان ذلک ذاتاً والقول بوقوعه خارجاً .

فما تری فی کلام المحقّق النائینی قدس سره والسیّد الخوئی بأنّه: (لا یمکن للفقیه من إنکاره، أو لا محیص عن الالتزام بذلک) .

لیس علی ما ینبغی، لإمکان الإشکال فی بعض ما مثّلوا به فی الترتّب ، فلا بأس بذکره والنظر إلیه .

منها: أی من الفروع الفقهیّة التی رتّبوها علی القول بالترتّب هو:

ص:359

(ما إذا کانت الإقامة من الفجر إلی الزوال حراماً للمسافر، فلو عصی وأقام وجب علیه الصوم ، ففی أوّل آنٍ من الفجر یتوجّه إلیه خطاب جهة الإقامة ووجوب الصوم علیه مترتّباً ، لو قلنا بأنّ الإقامة قاطعة لحکم السفر لا لموضوعه .

بل أضاف إلیه رحمه الله لاحقاً الموضوع أیضاً، لأنّه یقول: (إنّ حکمه حکم قاطع حکم السفر ؛ لأنّ توسّط عنوان السفر لا یدفع المحذور فی الترتّب لو کان موجوداً ، فاجتماع الخطابین لازم علی کلّ تقدیر) .

هذا خلاصة کلام المحقّق النائینی فی «فوائد الاُصول»(1) .

لکن یرد علیه : بأنّ الترتّب الاصطلاحی الواقع فی ألسنة القوم، هو ما کان أمر الثانی مترتّباً علی نفس عصیان الأمر الأوّل أو النهی الأوّل ، لا ما یکون عصیانه محقِّقاً لموضوعٍ کان ذلک الموضوع مأخوذاً فی لسان دلیلٍ آخر غیر مرتبط بالعصیان، کما فی الفرض المذکور، إذ أنّ وجوب الصوم لمن کان مقیماً قد وقع فی لسان الدلیل سواءً حصلت الإقامة عن عصیان للأمر ، أو عن امتثال للأمر ، أو غیر ذلک من الأحکام ، فکلّ ما یوجب تحقّق هذا العنوان یتعلّق به حکم وجوب الصوم بالضرورة ، فلا یرتبط هذا بموضوع بحثنا من الترتّب ، حیث أنّه لابدّ من عنایة زائدة فیه فی تعلّق الأمر الثانی علی عصیان الأمر الأوّل . ولذلک یصحّ لمن اعتبر الترتّب مستحیلاً کالشیخ الالتزام بوجوب الصوم لمن أقام .

ومنها: دعوی ترتّب تقصیر الصلاة علی عصیان أمر الإقامة، إذا کانت واجبة، سواءً کانت قبل الزوال أو بعده .


1- فوائد الاُصول : ج1 / 213 .

ص:360

وفیه: یظهر الجواب عنها ممّا سبق ذکره حیث عرفت أنّ قصر الصلاة قد تعلّق حکمه بالمسافر سواءً کان عن امتثال الأمر أو إباحته، أو من جهة کونه عن عصیان لأمرٍ آخر کالأمر فی الإقامة، لو لم یستلزم ذلک حرمة نفس السفر، حتّی یوجب کون السفر عن معصیة فیتمّ .

کما أنّ الحقّ عندنا عدم الاستلزام ، فإذا تحقّق هذا الموضوع یجب علیه القصر من دون أن یکون مرتبطاً بالترتّب، کما لا یخفی .

ومنها : ما أشار إلیه المحقّق النائینی رحمه الله فی «فوائد الاُصول» بوجوب الخمس المترتّب علی عصیان خطاب أداء الدَّین، إذا لم یکن الدَّین من عام الربح ، وأمّا إذا کان الدین من عام الربح فیکون خطاب أداء الدَّین بنفس وجوده، رافعاً لخطاب الخمس لا بامتثاله.

وفیه : أنّ وجوب الخمس لم یکن مترتّباً علی عصیان أمر الدَّین، بل مترتّب علی ما یصدق علیه الزائد من مؤونة السنة ، فإذا تحقّقت الزیادة، أو صدق علیه الربح، یتعلّق به الخمس أیضاً ، وإلاّ فلا ، فربما یوجب أداء الدَّین فی العام أو بعده إذا کان الدَّین للمؤونة موجباً لعدم صدق الربح علیه ، بخلاف ما لو لم یؤدِّ فیصدق الربح ویجب علیه الخمس ، إلاّ إذا کان للمؤونة . غایة الأمر إثبات أنّ ما یمکن أن یقع من المؤونة أو لا یمکن إنّما هو بید الشارع، مثلاً أداء الدین الواجب للضمان لا یکون من المؤونة حتّی یخرج من الربح ، بخلاف الدَّین الواقع لمخارج العام، فإنّه من مؤونة السنة، حیث یصحّ الاحتساب فی أدائه وعدم أدائه عند بعضٍ من الربح حتّی یسقطه عن وجوب الخمس .

وکیف کان، جعل مثل هذه الاُمور من الأوامر المترتّبة علی العصیان لا

ص:361

یخلو عن إشکال ووهن . فلابدّ من التأمّل فی کلّ ما ادّعی فیه الترتّب من الفروع الفقهیّة وملاحظة دخولها فی موضوع الترتّب وعدمه. واللّه العالم بحقیقة الحال .

ص:362

فی جواز الأمر مع علم الآمر بانتفاء الشرط

فصل

هل یجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

أقول: یقع البحث عن هذا الأمر فی مقامین:

تارةً: فی مفردات الجملة من حیث المعنی والمقصود والواقع فی کلمات القوم .

واُخری: فی مقام الإثبات والتصدیق، وأنّه أیّ قسم منهما یمکن قبوله دون الآخر.

وأمّا الکلام فی المقام الأوّل :

هل المراد من (الجواز) المذکور هنا، أنّه هو الإمکان الوقوعی، أو أنّه الإمکان الذاتی، بمعنی أنّ الأمر مع کونه فی هذه الحالة، هل یعدّ من الممکنات فی الوجود دون الممتنعات أم لا ؟

وبعبارة اُخری: هل مثل هذا الأمر بحسب ذاته ممکنٌ، وإن کان ممتنعاً لأمر طارئ خارجی وهو عدم تحقّق شرطه، من باب أنّ الشرط یعدّ جزءاً من العلّة، ولا تتحقّق العلّة مع عدم تحقّق جزئها، فإذا لم تتحقّق العلّة لم یتحقّق المعلول.

قال صاحب «الکفایة»: (وکون الجواز فی العنوان بمعنی الإمکان الذاتی، بعیدٌ عن محلّ الخلاف بین الأعلام)(1) فیظهر منه أنّه اعتبر الجواز هنا بمعنی الإمکان الوقوعی، أی ناقش أوّلاً فی أنّه هل یقع خارجاً وهل یصدر مثل هذا الأمر من


1- کفایة الاُصول: 137 ط آل البیت علیهم السلام .

ص:363

الآمر المطّلع أم لا؟ واختار عدم جوازه ممّا یدلّ علی أنّ المحقّق الخراسانی بعد الفراغ عن إمکانه الذاتی جعل مورد النزاع فی الإمکان الوقوعی، وإلاّ لما بقی محلاًّ للبحث عن إمکانه الذاتی.

خلافاً لما یظهر من ما نَسب إلیه صاحب «عنایة الاُصول» حیث قال فی ذیل قوله: (فی معنی عدم الجواز): (أم هو محالٌ ذاتاً کاجتماع الضدّین أو ارتفاع النقضین، کما یظهر ذلک من المصنّف، حیث استدلّ علی عدم الجواز بکون الشرط من أجزاء علّة الأمر، ولا یکاد یکون الشیء مع عدم علّته)(1).

أقول أوّلاً: قد عرفت عدم صحّة الانتساب إلیه ، مضافاً إلی أنّ الدلیل الذی ذکره صاحب «الکفایة» لا یثبت إلاّ الانتفاع بدون الشرط الذی یساعد مع إمکانه الذاتی، برغم کونه ممتنعاً بالغیر، أی من جهة عدم تحقّق شرطه .

وثانیاً: أنّه لو کان المراد من الجواز فی العنوان، هو الإمکان الذاتی، فلا وجه لطرح علم الآمر بالانتفاء، لوضوح أنّ الشیء الممتنع بالذات ممتنعٌ علی أیّ حال، ولا مدخلیّة للعلم فیه أصلاً، فیظهر منه أنّ المقصود کان فی مرحلة الوقوع خارجاً، کما لا یخفی علی المتأمّل فی کلمات القوم.

هذا، ثمّ إنّ الأمر الواقع فی العنوان:

تارةً: یکون المراد منه الأوامر الشخصیّة، حیث تتعلّق خارجاً .

واُخری: ما یعدّ من الأوامر الکلّیة القانونیّة.

وثالثة: ما هو الأعمّ منهما.


1- عنایة الاُصول: 1 / 449 .

ص:364

فلابدّ أن نلاحظ المقصود من الأمر الوارد فی کلامهم، والذی اختلفوا فی جوازه وعدمه.

أقول: الظاهر إرادتهم مطلق الأمر، حیث لم یتعرّضوا لموضوع الأمر من هذه الناحیة فی کلامهم، إلاّ عن بعضٍ کالمحقّق الخمینی، حیث فصّل فی الجواز وعدمه بین کونه کلّیاً وشخصیّاً کما سیظهر لک إن شاء اللّه .

ثمّ إنّ الأمر الذی وقع فی صدر العنوان:

تارةً: یفرض مرتبة متّحدة مع مرتبة الأمر الذی وقع فی ظرف الشرط، بأن یکون کلاهما فعلیّاً أو تنجیزیّاً.

واُخری: تفرض مرتبته متفاوتة، بأن یکون الأمر الأوّل فی مرحلة الإنشاء والشرط فی مرحلة فعلیّة الأمر أو تنجیزه.

ثمّ إنّ الشرط الذی یعلم انتفائه:

تارةً: یکون علمه بالانتفاء فعلاً ولکن یعلم بتحقّقه فی المستقبل.

واُخری: لا یعلم بالانتفاء دائماً، حتّی فی المستقبل.

وثالثاً: یعلم فی الحال بالانتفاء، وأمّا من جهة الاستقبال فغیر معلوم الحال.

ثمّ إنّ الشرط الواقع فی العنوان:

تارةً: یکون المراد منه الشرط لنفس الأمر، بحیث یعدّ من مبادیه کالشوق والتصدیق وأمثال ذلک علی ما احتمله صاحب «الفصول»، وتبعه صاحب «الکفایة»، وإن استبعده المحقّق الخمینی عن کونه محلاًّ للنزاع حتّی ممّن مثل الأشعری لأنّه باطل بضرورة الفطرة، لأنّهم لا ینکرون الضرورة.

أقول: وإن کان ظاهر العنوان - بحسب ظاهر إرجاع الضمیر فی شرطه إلی

ص:365

الأمر - هو هذا، إلاّ أنّ الحقّ بحسب الواقع خلاف ذلک، کما اعترف به العلاّمة البروجردی، بل هو المستفاد من أمثلة المجوّزین، لأنّهم مثّلوا لذلک بأمر اللّه تعالی بالذبح مع عدم کونه واجداً للشرط، لنسخه قبل وقوعه مع علم اللّه بذلک .

واُخری: یکون المراد من الشرط هو شرط المأمور والمکلّف، یعنی إذا علم الآمر بأنّ المکلّف لا یکون واجداً للشرط من الحیاة والقدرة مثلاً فلا یتوجّه إلیه التکلیف، کما صرّح بذلک العلاّمة الطباطبائی قدس سره بقوله فی حاشیته علی «الکفایة»(1): (الظاهر أنّ آخر الضمایر راجع إلی الامتثال، فیکون المراد انتفاء القدرة علی الإتیان، فیؤل الأمر إلی عدم جواز التکلیف بما لا یُطاق).

کما قد أیّد صاحب «نهایة الأفکار» کونه المراد من الشرط، لا ما کان شرطاً لنفس الأمر، لأنّه لیس ینبغی لعاقل أن یبحث فیه، لعدم إمکان وجود المعلول بدون العلّة.

وثالثة: قد یکون المراد من الشرط، هو شرط المأمور به، أی إذا علم الآمر بأنّ المأمور به غیر واجد لشرطه، فهو:

تارةً: یکون من الشرائط التی یمکن تحصیلها، وکان الواجب مطلوباً مطلقاً حتّی یجب تحصیل الشرط له، وکان ممکناً، فلا إشکال فی جواز ذلک، کما وقع کثیراً فی الشرعیّات، نظیر الصلاة بالنسبة إلی الطهارة حیث أنّها شرط لها، فیصحّ الأمر إلی الصلاة تحصیلاً للطهارة، ولا مجال لطرح النزاع فیه أصلاً، کما لا یخفی.

واُخری: ما یکون شرطاً خارجاً عن اختیار المکلّف، إلاّ أنّ الآمر یعلم


1- حاشیة السیّد الیزدی علی الکفایة: 1 / 133.

ص:366

بانتفائه حال الأمر، إلاّ أنّه یعلم أیضاً بتحقّقه بعد ذلک، کالوقت بالنسبة إلی الصلاة، والوقوف بعرفة بالنسبة إلی الحجّ، فهو أیضاً لا ینبغی أن یصبح محلاًّ للنزاع والجدال لوقوع التکلیف بذلک کثیراً.

وثالثة: ما یکون الشرط منتفیاً، إلاّ أنّ الآمر یجعل أمره لشیء منوطاً علی وجود الشرط، فهو أیضاً لا إشکال فی وجوده وإمکانه، ولا مجال للنقاش والبحث عنه، مثل الاستطاعة للحجّ، والنصاب للزکاة، وأمثال ذلک، حیث أنّ التکلیف فیه صحیح ولو علم الآمر بانتفائه، لأنّ تکلیفه معلّق علی وجود الشرط.

ورابعة: هو ما لو علم الآمر انتفاء شرطه، بحیث لا یمکن له تحصیل الشرط أصلاً فی الخارج، فحینئذٍ یأتی البحث عن أنّه هل یجوز للآمر الحکیم أن یأمر عبده بذلک، مع علمه بانتفاء شرط المأمور به - کما فی الأوامر الشخصیّة، مع علمه بعدم إمکان تحقّق الشرط مثل الاستطاعة مثلاً - أم لا یجوز، حیث أنّ هذا الشرط ربما ینجرّ إلی شرط نفس المأمور والمکلّف، وهو عدم قدرته بإتیان الواجب بما له من الشرط.

وهذه الصورة هی التی یمکن وقوع النزاع فیها، ولعلّه من هذا القبیل مسألة أمر اللّه للخلیل علیه السلام بالذبح مع عدم وقوعه خارجاً لنسخه قبل وقوعه، وإن کان فی الواقع لیس کذلک، کما سیتّضح إن شاء اللّه تعالی.

هذا تمام الکلام فی المقام الأوّل .

وأمّا الکلام فی المقام الثانی: وهو مقام تصدیق المطلب:

فنقول: الظاهر أنّ النزاع الواقع إنّما فی الشرط المنتفی کونه شرطاً لصحّة الأمر لا شرطاً لإمکانه. بمعنی أنّ البحث یدور عن أنّه هل یصحّ الأمر من الآمر

ص:367

ولو کان عالماً بفقد شرط صحّته، وهو کون المکلّف قادراً بالإتیان أم لا؟ فإنّ القدرة وإن اُخذت فی طرف المکلّف والمأمور، إلاّ أنّها تعدّ شرطاً لصحّة الأمر وحُسنه، أی یقبح صدور الأمر عمّن یعلم بعدم قدرة العبد للامتثال. فالنزاع یدور حول هذا دون ما هو شرطاً لوجود الأمر، حتّی یشمل مثل المبادئ النفسانیّة، لیرد ما قاله المحقّق الخمینی من استبعاده وأنّه لا یصحّ التفوّه به حتّی من الأشعری.

وقد یؤیّد ما ذکرنا ملاحظة الخلاف بین الأشاعرة القائلین بالجواز، والمعتزلة والعدلیّة، حیث کان ذلک من جهة اتّکاء کلٍ علی مبناه من وجود الکلام النفسی فی الاختیارات، وکون الطلب النفسی غیر الإرادة فی الإنشاءات، کما ذهب إلیه الأشاعرة، وإنکارهم وجود الحُسن والقبح، فلذلک یقولون بجواز ذلک - أی وقوعه بالطلب النفسی - ولو مع العلم بعدم وجود شرطه، ولا قبح فیه لإنکار أصل وجوده، بخلاف غیرهم المنکرین للکلام النفسی، وأنّ الطلب والإرادة واحدین فلا یجوز، ویقبح التکلیف فیما یعلم عدم قدرة المکلّف بالإتیان، وجعلوا وجه القبح هو أنّ الأمر الحقیقی لا یکون إلاّ بداعی البعث والانبعاث، ففیما یعلم عدم وجود ذلک فی المکلّف إمّا لعدم قدرته، أو لعصیانه قطعاً، أو کان منبعثاً بنفسه من دون أمر، لما صحّ وقوع الأمر من المولی فی هذه الموارد.

فتمام ذلک یؤیّد ما ذکرنا من کون المقصود من الشرط هو للأمر، إلاّ أنّه لصحّته لا لوجوده، فمعنی عدم الصحّة یرجع إلی علم المولی بأنّ قدرة المکلّف أو حیاته أو شیء آخر منه غیر حاصل حال الامتثال.

کما أنّه ظهر ممّا ذکرنا أنّ المقصود هو الشرط للأمر الذی کان متّحداً مع أمر الواقع فی صدره بحسب المرتبة؛ أی کان المقصود فی کلا الموردین من الأمر هو

ص:368

فعلیّة الأمر وتنجّزه، لا أن یکون المقصود من الأمر فی صدر العنوانین هو الإنشاء، والأمر فی متعلّق الشرط هو الفعلیّة والتنجیز، لوضوح أنّ إنشاء الأمر من دون أن یبلغ إلی مرتبة الفعلیّة لا یکون أمراً حقیقیّاً جدّیاً، بل یکون هو أمر صدوری ولا قبح فی صدوره کذلک أصلاً، ولا شأن له حتّی للبحث فیه، فهو خارج عن محلّ النزاع کما لایخفی.

کما أنّه ظهر بما قلناه بأنّ المراد من الشرط لیس هو شرط المأمور به من الاستطاعة الذی کان شرطاً للوجوب أو الطهارة، التی کانت شرطاً للواجب، بل المراد هو شرط الأمر من حیث الصحّة.

نعم، یمکن دخول هذه الاُمور من جهة عموم القضیّة، بأنّه إن قلنا بعدم الجواز فلازمه عدم الجواز فی جمیع الموارد التی کان عدم تحقّق الشرط مستلزماً لعدم قدرته بالإتیان، لا مع الشرط مطلقاً حتّی مع إمکان تحصیله أو حصوله بنفسه کالوقت وأمثال ذلک .

ولکن الذی ینبغی أن ینبّه علیه هو بیان مورد ما یکون الأمر مع علم الآمر بالانتفاء صحیحاً عقلاً وعند العقلاء، وما لا یکون کذلک، فنقول:

لا إشکال فی قبح الأمر مع علم الآمر بالانتفاء إذا کان الأمر شخصیّاً خارجیّاً متوجّهاً إلی فرد معیّن، لما قد عرفت بأنّ صحّة الأمر تکون من جهة داعویّة البعث للانبعاث، فإذا علم الآمر بأنّ المکلّف لا یقدر علیه فکیف یمکن بعثه لداعی الانبعاث، فصدوره عن الآمر العالم بذلک قبیح، والقبیح لا یصدر عن الحکیم، فضلاً عن الحکیم المطلق، إذ صدور مثل هذا الأمر لغو منه، فتعالی اللّه عن ذلک علوّاً کبیراً.

ص:369

وأمّا لو کان الأمر متوجّهاً إلی جمع من الناس فهو :

تارةً: یکون المأمور به غیر مقدور لهم جمیعاً من دون استثناء بعضهم، فهو أیضاً یکون مثل سابقه فی القبح والقباحة.

واُخری: فیما لو فرض کون بعضهم عاجزین دون بعض، وکانت نسبة القادرین بینهم نسبة عقلائیّة موجبة لصحّة ورود الأمر کذلک علیهم، مع علم الآمر بانتفاء الشرط فی بعضهم، فهو أمرٌ صحیح مقبول، ولا إشکال فیه، لما قد عرفت منّا سابقاً فی مبحث الترتّب، بأنّ الأوامر القانونیّة الکلّیة لا تتوجّه إلی أفراد المکلّفین بالخصوص بالخطابات المتعدّدة، بل یکون الخطاب متوجّهاً لعامّة الناس، فکلّ من کان واجداً للشرائط یکون الأمر فی حقّه منجّزاً، مضافاً إلی کونه فعلیّاً، ومن لا یکون واجداً لها، فلا یکون الترک فی حقّه إلاّ عذراً مع کونه فعلیّاً أیضاً، ولذلک قلنا بوجود التکلیف للعصاة بل العاجزین، لکن من دون تنجّز فی حقّهم، عدا العصاة حیث أنّه منجّز فی حقّهم، لأنّهم قادرون علی الامتثال، ولا عذر لهم فی ترکهم له.

فثبت من جمیع ما ذکرنا عدّة اُمور :

الأمر الأوّل: کون البحث عن الوقوع والصدور دون الإمکان الذاتی، لما قد عرفت من أنّ البحث دائر مدار صحّة الأمر وحسنه وقبحه دون إمکانه وعدمه.

الأمر الثانی: بأنّ المرتبة فی الأمر فی کلا الموردین واحدة وهی الفعلیّة والتنجّز، لما قد علمت بأنّ الأمر فی الإنشاء لیس بأمرٍ حقیقة، مع دوران البحث عن الأمر الجدّی الحقیقی .

الأمر الثالث: بأنّ الشرط کان شرطاً لصحّة نفس الأمر دون المأمور به، لکن أنّه قد یعود إلیه کما أوضحناه.

الأمر الرابع: قد عرفت أنّه لابدّ من التفصیل فی الصحّة وعدمها، بین الأوامر

ص:370

الشخصیّة، والأوامر الکلّیة التی تعدّ جمیع أفرادها عاجزة حیث یکون توجیه الأمر إلیهم قبیحاً، وبین ما لا یکون کذلک، أی کان بعض أفراده قادراً دون بعض، حیث یصحّ توجیه الأمر کذلک من دون قبح.

وأمّا الأوامر الامتحانیّة والتعجیزیّة وأمثال ذلک، کما ورد فی أمر اللّه للخلیل علیه السلام ، فهو خارج عن مورد البحث، لأنّ فی تلک الموارد یمکن أن تکون المصلحة کامنة فی نفس الأمر دون المأمور به، واللّه العالم. فیکون - بناءاً علی هذا - صورة الأمر لعدم وجود البعث إلی المأمور به غرضاً للانبعاث إلیه، فیکون الأمر صوریّاً، هذا لو لم نسلّم ما ذکره صاحب «المعالم» بأنّ الأمر إنّما کان فی الحقیقة للمقدّمات کالاضطجاع لا لفری الأوداج. غایة الأمر أنّه قد توهّم الخلیل علیه السلام أنّه أمر من الجلیل عزّ وجلّ، لما تری فی الآیة من تصدیق رؤیاه بقوله تعالی: «قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْیَا» مع أنّه علیه السلام قد رأی الذبح فی المنام کما جاء فی قوله تعالی: «یَا بُنَیَّ إِنِّی أَرَی فِی الْمَنَامِ أَنِّی أَذْبَحُکَ»(1)، فالتصدیق وقع علی ما أمر به لما ما یطابق النوم، فیظهر أنّ المأمور به کان هو الذبح دون المقدّمات، کما لایخفی.


1- سورة الصافّات: الآیة 101 .

ص:371

***

فصل

هل الأوامر والنواهی متعلّقة بالطبایع أو الأفراد

فی کیفیّة تعلّق الأوامر والنواهی

اعلم أنّ البحث والتحقیق عن ذلک یستدعی رسم اُمور، تکون بمنزلة المقدّمة لبیان الحقّ فی المسألة:

الأمر الأوّل: فی بیان محلّ النزاع وتحریره.

فقد وقع الخلاف فیه بین الأعلام، ویظهر من بعضٍ - کما فی «تهذیب الاُصول» (1) و«المحاضرات»(2)، من نسبة ذلک إلی بعض الاُصولیّین - أنّ محلّ النزاع بین الفریقین فی أنّ متعلّق الأوامر والنواهی فی الطلب بالوجود أو الترک، هل هو الفرد الخارجی الذی کان جزئیّاً فأصبح عند تعلّقها بالأفراد - أی تعلّقها بالموجودات الخارجیّة - طبیعیّاً أو کان متعلّقهما هی الطبیعة الصرفة ومن حیث هی حتّی مع قطع النظر عن حیثیّة انطباقها علی ما فی الخارج ؟

أقول: إنّ کلا الدعویین باطلٌ جدّاً، لوضوح أنّ الشیء بوجوده الخارجی الجزئی یکون سبباً لسقوط الأمر؛ لأنّ الخارج یعدّ ظرفاً للامتثال والسقوط، مع أنّه یلزم من توجیه الأمر إلیه کونه طلباً للحاصل وفی النهی نقضاً للغرض، لوضوح أنّ الشیء إذا وجد تشخّص، والتشخّص مرکزٌ لترتّب الأثر علیه، فإذا تحقّق خارجاً


1- تهذیب الاُصول: 1 / 272.
2- المحاضرات: 4 / 12 .

ص:372

عدّ توجیه الأمر إلیه مجدّداً لغواً، ولا معنی للأمر بتحصیله، کما أنّه فی طرف النهی یکون زجراً عن تحقّقه خارجاً، إذ المقصود منه عدم تحقّق شرب الخمر والزنا أصلاً، فلا معنی للنهی عن ما هو الموجود الناقض لغرضه، هذا بالنسبة إلی الدعوی الاُولی .

وأمّا بالنسبة إلی الثانیة، فلأنّ الطبیعة من حیث هی هی - أی بذاتها - لا تکون إلاّ هی لا مطلوبة ولا غیر مطلوبة، ولا موجودة ولا معدومة؛ لأنّ الطبیعة الصرفة عبارة عن الطبیعة الخالیة عن جمیع هذه القیود، فلا یمکن أن یتعلّق بها الأمر ولا النهی، وفساده أوضح من أن یحتاج إلی مزید بیان.

وقد یظهر عن بعض بکون النزاع لغویّاً، من جهة أنّه قد جعل النزاع فی أنّ مفاد مادّتی الأمر والنهی هل موضوعتان للعناوین الکلّیة أو لأفرادها، ولذلک تشبّث فی المقام بالتبادر، ثمّ أورد علی صاحب «الکفایة» معترضاً بأنّه کیف لم یتمسّک به هنا، وهو کما عن صاحب «عنایة الاُصول»(1) نقلاً عن المحقّق القمّی وصاحب «الفصول» ووافقهما علیه.

مع أنّه مع سبق وأن بحثنا عنه بالتفصیل فی باب المشتقّ، وقلنا إنّ المادّة فی الأمر لا تدلّ إلاّ علی الطبیعة. نعم، یمکن الاستشهاد بذلک المقام لا أن یکون النزاع منحصراً فی جهة المادّة والهیئة، بأنّه هل یکون الأمر متعلّقاً بمادّة المصادر أم لا، حتّی یکون القائل بکون مادّة الأمر هی الطبیعة ملزماً بالقول بکونها متعلّقة للأثر، بخلاف من لا یکون قائلاً بها فیکون الأمر متعلّقاً بالأفراد دون الطبیعة،


1- عنایة الاُصول: 1 / 454 .

ص:373

ولذلک تری أنّ صاحب «الکفایة» بالرغم من مناقشته فی أنّ المصدر مادّة المشتقّات، یقول بتعلّق الأمر بالطبایع، وهذا دلیل علی أنّ المسألة لیس مبتنیاً علی ذلک البحث.

الأمر الثانی: قد یظهر من بعضٍ کصاحب «الکفایة» کون المسألة من المباحث العقلیّة الفلسفیّة، حیث یجعل الطبیعة متعلّقة للأوامر والنواهی، إلاّ أنّه یفرّق بین صورة القول بأصالة الوجود، وبین القول بأصالة الماهیّة، کما ذهب إلیها شیخ الإشراق السهروردی، خلافاً للمشّائیین القائلین بأصالة الوجود، حیث لاحظ الوجود فی متعلّق الطلب، وهو الطبیعة علی القول الأوّل، وکون الطبیعة بنفسها فی الخارج علی القول الثانی، فقال رحمه الله :

(وقد عرفت أنّ الطبیعة بما هی هی لیست إلاّ هی، لا یعقل أن یتعلّق بها الطلب لتوجد أو تترک، وأنّه لابدّ فی تعلّق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها، فیلاحظ وجودها فیطلبه ویبعث إلیه، کی یکون ویصدر منه، هذا بناءً علی أصالة الوجود.

وأمّا بناءً علی أصالة الماهیّة، فمتعلّق الطلب لیس هو الطبیعة بما هی أیضاً، بل بما هی بنفسها فی الخارج، فیطلبها کذلک لکی یجعلها بنفسها من الخارجیّات والأعیان الثابتات، لا بوجودها کما کان الأمر بالعکس علی أصالة الوجود.

وکیف کان، فیلحظ الآمر ما هو المقصود من الماهیّة الخارجیّة أو الوجود، فیطلبه وینبعث نحوه لیصدر منه، ویکون ما لم یکن، فافهم وتأمّل جیّداً)(1).


1- کفایة الاُصول: 139 ط آل البیت علیهم السلام .

ص:374

ووافقه علیه صاحب «عنایة الاُصول» و «نهایة الاُصول» .

أقول: ولکن الإنصاف أنّه اشتباه محض، لوضوح أنّ هذه الاختلافات بین الفلاسفة کان فی الأعیان الحقیقیّة والوجودات المتأصّلة کالموجودات الخارجیّة من الممکنات، حیث نشاهد الخلاف بینهم فی أنّ الحقیقة من الحیثیّة والاعتبار فی حیثیّة اُخری، هل هو الوجود دون الماهیّة کما علیه الأکثر والمحقّقون القائلون بأصالة الوجود واعتبار الماهیّة، وهو ما عبّر عنه الحکیم السبزواری فی منظومته:

إنّ الوجود عندنا أصیلُ دلیلُ مَن خالفنا علیلُ

أو أنّ القضیّة عکس ذلک کما علیه الإشراقیّون.

هذا بخلاف ما لو کانت من الاُمور الاعتباریّة، والاختراعات الانتزاعیّة، کالاُمور المرکّبة المجعولة والمخترعة کالصلاة والحجّ ونظائرهما، حیث لا حیثیّة لها فی الخارج إلاّ کون الخارج منشأ لانتزاع هذه الاُمور واعتبارها، وما لیس لها حقیقة أصلاً لا معنی لإجراء الکلام فیه بأصالة الوجود أو الماهیّة، فتوهّم إجراء هذا البحث فیما نحن فیه یعدّ خطأً محضاً، لأنّ الکلام یدور حول فهم العرف والعقلاء المستبعدین عن التدقیقات العقلیّة المربوطة بالفلاسفة کما لا یخفی.

الأمر الثالث: إنّ الشیء الملحوظ بحسب مقام التصوّر والثبوت یمکن أن یقع علی أنحاء مختلفة:

تارةً: یکون الشیء الجزئی الخارجی مع جمیع خصوصیّاته من حیث الزمان والمکان والجهة وغیرها دخیلة فی المطلوب والمقصود، أی أمره قد تعلّق مع تمام جهات الدخیلة فی تشخّصه، کما إذا قال: (جئنی بالکتاب الفلانی الواقع فی مکان کذا) مع خصوصیّة کذا ونظائرها، فهذا القسم من الملحوظ خارج من

ص:375

مورد النزاع قطعاً کما عرفت من خلال الأمر الأوّل .

واُخری: ما یکون الشیء ملحوظاً بنفسه معرّاً عن جمیع الخصوصیّات، ومن دون أن یلاحظ معها إضافة إلی الخارج أو إلی الذهن أصلاً، بل کان الملحوظ هو الشیء بحیال ذاته من دون انضمام شیء معه أصلاً، وهذا القسم أیضاً خارج عن محلّ النزاع أیضاً، لما قد عرفت أنّه أیضاً عبارة عن الطبیعة من حیث هی هی، والطبیعة کذلک لا مطلوبة ولا غیر مطلوبة.

وثالثة: أن یلاحظ الشیء بطبیعته، لکن لا یکون معرّاة عن الوجود، فهو أیضاً:

تارةً: یلاحظ مع ما هو الموجود فی الخارج باعتبار ما یکون من مصداقها حقیقة لا بالعوارض والمشخّصات، بحیث لو أمکن - علی فرض المحال - مطالبة حقیقة الفرد منه من دون تشخّصٍ بخصوصیّةٍ، کان هذا هو المطلوب، فالشیء علی هذا الفرض یکون کلّیاً منطقیّاً لقابلیّة انطباقه علی جمیع أفراده الحقیقیّة، غایة الأمر إن کان هذا الشیء من الاُمور الحقیقیّة والمتأصّلة کالماء والنار والإنسان، سمّی هذا الکلّی بالنسبة إلی أفراده کلّیاً طبیعیّاً، وإن کان من الاُمور الاعتباریّة والماهیّات المجعولة کالصلاة والحجّ، فلیست من الکلّیات الطبیعیّة، ولو قیل بها الطبیعی کان المقصود منه العنوان الکلّی أی الکلّی المنطقی القابل للصدق علی کثیرین فی قالب اعتباره دون الطبیعی الحقیقی.

واُخری: ما یلاحظ طبیعة الشیء بنحو کلّی أیضاً، لکن بالإضافة إلی وجودها فی الذهن، فهو أیضاً علی نحوین:

فقد یکون الملحوظ بوجوده الذهنی المقیّد بقید کون وجوده کذلک. فبهذا

ص:376

الاعتبار لا یمکن تعلّق الطلب والحُبّ والإرادة وغیرها به، لعدم إمکان تحقّقه بوصف وجوده الذهنی فی الخارج، ومن المعلوم أنّ ما یقع مرکزاً لهذه الصفات هو کون الشیء بوجوده الخارجی دون الذهنی.

وقد یکون الملحوظ فی الذهن من جهة ملاحظة کون الذهن وعاءً لإیجاد ذلک الشیء، بحیث یجعل محطّاً ووسیلةً لتعلّق الصفات المذکورة علی ما هو الموجود فی الخارج به، وإلاّ لولا الخارج لما کان الموجود فی الذهن مطلوباً حقیقة، إلاّ علی نحو الوهم والخیال وأنّه وسیلة له، ولو لم یکن فی الواقع کذلک مطلوباً کما قد یتّفق کذلک کثیراً.

أقول: إذا عرفت الاُمور الثلاثة المتقدّمة، فاعلم بأنّ القسم الأخیر من الطبیعة هو مورد للکلام، قد وقع بین الأعلام فیه تعابیر متفاوتة: فبعضهم عبّر بأنّ الطبیعة بوجودها السّعی تکون متعلّقة للأمر، وهو المستفاد من کلام المحقّق الخراسانی صاحب «الکفایة».

وقد یُقال - کما فی «نهایة الأفکار»(1) - بتعلّق الأمر والطلب بنفس الطبیعة، لکن بما هی مرآة إلی الخارج، وملحوظة بحسب اللحاظ التصوّری عین الخارج لا بالوجود الخارجی، کما وقع مثل هذا التعبیر أیضاً فی کلام العلاّمة البروجردی فی «نهایة الاُصول»(2).

وقد یعبّر بما وقع فی «تهذیب الاُصول»: (بأنّ الحقّ أنّ متعلّق الحکم بعثاً کان أو زجراً، هو نفس الکلّی والعنوان بما هو، مع قطع النظر عن الوجودین


1- نهایة الأفکار: 1 / 381 .
2- نهایة الاُصول: 1 / 218.

ص:377

والنشأتین، لا مقیّداً بالوجود الذهنی کما هو واضح، ولا بلحاظ واتّحاده مع المعنون فی الخارج کما جنح إلیه بعض محقّقی العصر رحمه الله ، إذ لحاظ الاتّحاد مرتبة حصول وجود المأمور به وحصول الغرض، فلا معنی للحاظه عند البعث، بل المأمور به نفس الکلّی وذات العنوان الذی إذا وجد فی الخارج یصیر منشأً للآثار)(1).

والتحقیق الموافق للتصدیق هو أن یُقال: إنّه لا إشکال فی کون الطبیعة الملحوظة بنفسها مورداً لتعلّق الأمر والطلب، غایة الأمر أنّ الطبیعة من حیث هی هی من دون إضافة إلی ما هو الموجود فی الخارج أصلاً لا تکون إلاّ هی، ولا یمکن أن تکون مأموراً بها، کما قد عرفت فساده فی أوّل الکلام. فلابدّ من إضافتها إلی ما هو الموجود فی الخارج، وهو الذی عبّر عنها الاُصولیّون بالحکایة والمرآتیّة، إذ أنّ هذه الإضافة الواقعة فی کلماتهم :

إن اُرید منها بصورة الحیثیّة المتقیّدة أی الطبیعة المتقیّدة بقید الحکایة والاتّحاد مع الأفراد الخارجیّة، فیرد علیه ما قاله المحقّق الخمینی بأنّ (لحاظ الاتّحاد مرتبة حصول وجود المأمور به وغرضه لا مرتبة تعلّق الأمر به) .

وإن اُرید منها بصورة الحیثیّة التعلیلیّة، أی بمعنی أنّه وقعت الطبیعة مرکزاً للأمر والطلب، لکونها مرآة عمّا وقع فی الخارج، بحیث یکون لحاظها فی الذهن بما أنّها تکون وسیلة للانتقال إلی الأفراد، ولو بإیجادها فی الخارج، وإن کان هذا الانتقال بواسطة الملازمة العرفیّة من جهة مشاهدتهم بأنّ الطبیعة من حیث هی هی


1- تهذیب الاُصول: 1 / 273 .

ص:378

لا فائدة فیها، إلاّ من جهة وجودها فی الخارج، فلذلک یفهم الانبعاث إلی إیجادها، فهذه الحیثیّة التی تسمّی بالحیثیّة التعلیلیّة أوجبت تعلّق الطلب بها، فبما قلنا یمکن المصالحة بین التعابیر ورفع النزاع من البین، فیصحّ أن یُقال بأنّ الطبیعة بصورة اللاّ بشرط تکون متعلّقاً للأمر لا بأن یؤخذ الوجود فی متعلّق الطلب، کما یوهم ذلک ظاهر کلام صاحب «الکفایة» حتّی یرد علیه بأنّه کیف یمکن ذلک إذا قیل: (صلّ) إلاّ بارتکاب أحد الأمرین؛ إمّا القول بالتکریر فی الوجود أی أوجد وجود الصلاة، أو القول بالتجرید من قید الوجود فی مثله حتّی یصبح مجازاً، وکلاهما خلاف للظاهر من المحاورات، هذا بخلاف ما لو قیل بما ذکرنا من عدم أخذ قید الوجود فی المتعلّق أصلاً بما قد عرفت بما لا مزید علیه.

وممّا ذکرنا ظهر أنّ متعلّق الطلب والبعث فی الأمر، ومتعلّق الزجر والمنع فی النهی، لیس إلاّ نفس الطبیعة اللاّ بشرط، إذ هی التی تکون محصّلة لغرض الآمر أو ترکها بنفسها ومحصّل لمقصوده، بحیث لو أمکن - جدلاً - فرض تحصیلها من دون وجود خصوصیّة معها، أو أمکن ترکها من غیر ترک جمیع الأفراد، لکان هو المطلوب. غایة الأمر حیث یری نفس المولی والناس جمیعاً - الذین یسمّون بالعرف - أنّ تحصیل المطلوب بالإتیان به والترک وعدمه، لا یمکن إلاّ من خلال الأفراد، فیجعل أمره أو نهیه علی ما یکون قابلاً للانطباق علی الأفراد، لانتقال ذهن السامع والمأمور من متعلّق الطلب وهی الطبیعة إلی إیجادها بواسطة الأفراد أو ترکها بواسطة ترک الأفراد، وهو لیس إلاّ الماهیّة والطبیعة اللاّ شرطیّة من دون أن یلاحظ فی حال أمره ونهیه حالة اتّحادها مع الأفراد، أو من دون أن یلاحظ الأفراد إجمالاً أو تفصیلاً حال جعل أمره علی الطبیعة، إذ کون الشیء فی الواقع

ص:379

والحقیقة کذلک، غیر أن یکون حال أمره ونهیه ملحوظاً بالإجمال أو التفصیل، کما یتوهّم من بعض التعابیر.

القول فی السرایة وعدمها: فإذا عرفت هذا، تعلم أنّ انطباق الطبیعة اللاّبشرط علی الأفراد إذا وقعت متعلّقة للأمر والطلب، لا یکون ذلک إلاّ علی نحو التخییر العقلی دون الشرعی، لعدم سرایة الطلب المتعلّق بها للأفراد، إلاّ بمقدار ما یلزمه العقل علی إیجادها من باب لزوم الامتثال بها، وهو لا یکون إلاّ علی نحو التخییر بین الأفراد، بأیّ فرد شاء من حیث الزمان والمکان وغیرهما من الخصوصیّات والمشخّصات، وکان أمره بید المأمور من دون أن یکون الفرد من هذه الناحیة متعلّقاً للأمر والطلب، لعدم دخالة هذه الخصوصیّات فی المطلوب، إذ المحصّل للغرض علی الفرض لیس إلاّ نفس الطبیعة، إلاّ أنّها حیث لا یمکن ترتیب أثر المطلوب علیها إلاّ بإیجادها فی فرد مّا، فلذلک یحکم العقل بالتخییر فی الإیجاد فی أیّ مصداق شاء، وهذا هو معنی التخییر العقلی. ومن الواضح حینئذٍ أنّ العقوبة تترتّب علی ترک الامتثال بترک جمیع أفراد الطبیعة، وذلک بأن لا یوجدها فی فرد منها أصلاً.

فبناءً علی هذا، ظهر أنّ الحکم التکلیفی الشرعی هنا لا یکون إلاّ واحداً متعیّناً متعلّقاً بالطبیعة، وأمّا علی الأفراد کان حکماً تخییریّاً عقلیّاً بالنظر إلی الأفراد مع خصوصیّاتها، لا أن یکون لنا فی مثل هذه الاُمور ثلاث أحکام؛ حکمان شرعیّان وحکمٌ واحد عقلیّ، کما یظهر ذلک من کلام صاحب «نهایة الأفکار» حیث قال بما خلاصته: (إنّ الطبیعة التی تکون متعلّقة للأمر والطلب تکون محکومة بحکم تعیّنی شرعی، والأفراد بما أنّها مشتملة علی الحصص،

ص:380

وحقیقة الطبیعة کانت محکومة بحکم شرعی تخییری، أی یجب الإتیان بها بلحاظ أنّه فردٌ من الطبیعة، وکان حصّة منها واجباً تخییریّاً شرعیّاً، والأفراد بما أنّها مشتملة علی الخصوصیّات واللّواحق من المشخّصات، ولا یمکن أن تکون هذه متعلّقة للأمر والطلب، غایة الأمر لابدّ من إتیانها مع خصوصیّة منها خارجاً، فیکون محکوماً بحکم تخییری عقلی، فهاهنا حکمان شرعیّان، أحدهما: تعیّنی متعلّق بالطبیعة، والآخر: تخییری شرعی متعلّق بالأفراد باعتبار حصصها، وحکم تخییری عقلی وهو المتعلّق بالأفراد مع خصوصیّاتها ولواحقها)، انتهی ملخّص کلامه رفع مقامه(1).

وجه الفساد: أنّه قد عرفت أنّ کلّ حکم شرعی لابدّ من دلیل یدلّ علیه فی مقام الانتخاب بین الشرع أو العقل، فإذا فقد کلاهما فلا یمکن إثباته من عند نفسه، بل لابدّ من ملاحظة لسان الأدلّة الشرعیّة، فلا إشکال فی أنّ الحکم الشرعی التعیّنی المتعلّق بالطبیعة له دلیل إثباتی وهو نفس الأمر الذی تعلّق بها، حیث ینتزع منه الحکم التعیّنی الشرعی. کما لا إشکال عند العقل من ثبوت حکم تخییری عقلی للأفراد، بالنظر إلی الخصوصیّات من جهة اللاّ محیصیّة عند العقل فی إیجادها فی فردٍ ما، فهما حکمان واضحان من جهة الدلیل.

وأمّا کون الأفراد محکوماً بحکم شرعی تخییری، بأن یقول الشارع بلسان دلیله یجب الإتیان بأحدها، فإنّه لیس له دلیل إثباتی، لأنّ الأمر قد عرفت أنّ له دلالة واحدة للطبیعة فقط، فلا یمکن الالتزام فی شیء واحد بدلالتین، إلاّ أن یکون


1- نهایة الأفکار: 1 / 386 .

ص:381

الدالّ بنفسه متعدّداً، وهو غیر موجود هاهنا، وإن أراد بأنّ العقل یحکم ویتشخّص بمتعلّق الحکم لکن تخییریّاً لکلّ فرد فردٍ، فلیس حینئذٍ حکماً تخییریّاً شرعیّاً، بل هو تخییری عقلی وخارج عن فرضه، مع أنّک قد عرفت أنّ حکم العقل بذلک کان بلحاظ الخصوصیّات لا بالنظر إلی الحِصَصْ.

مع أنّ کلامه قدس سره عن الحِصَص من ناحیة الأدلّة العقلیّة مشتمل علی إشکالات عدیدة لا یقتضی المقام البحث عنها، وإن شئت الوقوف علیها فراجع کتاب «تهذیب الاُصول» (1) فقد ذکرها فی المقام ردّاً علیه، علی حسب تقریرات مقرّره بما هو خارج عن شأن الاُصول، وادّعی المقرّر فی هامش الصفحة بأنّه لیس من تصریح الاُستاذ، بل استفاده بمقتضی مبناه المختار، ولذلک أغمضنا عن ذکرها تفصیلاً.

وبالجملة: فقد ظهر من جمیع ما ذکرنا أنّ الحقّ مع القول بعدم سرایة الحکم التعیّنی الشرعی إلی الأفراد، بمعنی أنّه لا مجال لأن یسری الطلب والأمر إلیها إلاّ بواسطة حکم العقل من لزوم إیجاد الطبیعة المأمور بها بواسطة وجود الفرد فی الخارج، لیحصل به الغرض والمطلوب الذی کان ثابتاً فی وجود أصل الطبیعة، وهذا یعنی تعلّق أمر المولی بقوله: (جئنی بماءٍ أو بخبزٍ) بأصل الماء والخبز لا ماء فی کوز کذا وظرف خاصّ وخبز کذا وکذا، وهو معلوم بالبداهة، فحیث لا یمکن الوصول إلی الطبیعة إلاّ بواسطة الفرد، لذلک یحکم العقل بوجوب إیجادها فی فرد ما، وهذا معنی الوجوب التخییری العقلی، واللّه الهادی إلی سبیل الرشاد.


1- تهذیب الاُصول: 1 / 277 .

ص:382

ونتیجة السرایة وعدمها ربما تظهر فی باب اجتماع الأمر والنهی، بأن یکون المصداق مرکزاً للأمر والنهی فیمتنع، أو العنوان فی کلّ منهما فیجتمع، فعلی السرایة یوجب کون الفرد واجباً وحراماً، بخلاف العنوان حیث یکون مصداقاً للواجب والحرام.

ص:383

***

فصل

فی أنّه إذا نسخ الوجوب هل یبقی الجواز بعده أم لا

فی حکم نسخ الوجوب

قال المحقّق الخراسانی فی «الکفایة» ما حاصله: (إنّ نسخ الوجوب لا یوجب بقاء الجواز، لا بالمعنی الأعمّ أی الرجحان أو الإذن الصادق لغیر الحرام من الأحکام الأربعة الباقیة، ولا بالمعنی الأخصّ وهو الإباحة، لعدم دلیل یدلّ علیه لا من الناسخ ولا من المنسوخ بإحدی الدلالات المعیّنة لأحدهما، فلابدّ لإثبات واحد منهما من دلیل آخر غیر الناسخ والمنسوخ.

ولا مجال لتوهّم جریان الاستصحاب فی الجواز الموجود فی ضمن الوجوب، حتّی یثبت به الإباحة أو الإذن المطلق بعده، لأنّه یکون من الکلّی القسم الثالث من الاستصحاب، لأنّه شکّ فی حدوث فرد آخر من الحکم مقارناً لارتفاع فرده الآخر، وقد حقّقنا فی محلّه أنّه لا یجری الاستصحاب فیما إذا لم یکن الحادث المشکوک من المراتب القویّة أو الضعیفة للمتیقّن عرفاً.

ومن المعلوم أنّ الأحکام - عدا الوجوب والاستحباب - تعدّ من المباینات عرفاً وعقلاً، وأمّا الوجوب والاستحباب وإن کان التفاوت بینهما عقلاً بالشدّة والضعف، إلاّ أنّ العرف یری المباینة بینهما، وهو المتّبع فی باب الاستصحاب)، انتهی کلامه(1).


1- کفایة الاُصول: 139 .

ص:384

أقول: ولا یخفی علیک بأنّ البحث فی النسخ الرافع للوجوب - کنسخ آیة وجوب دفع الصدقة قبل النجوی - یمکن أن یکون فی ثلاث مراحل:

المرحلة الاُولی: فی أصل إمکانه، أی هل یمکن ثبوتاً بقاء الجواز مع نسخ الوجوب أنّ الملازمة بین نسخ الوجوب وارتفاع الجواز ثابتة ؟ فعن المحقّق العراقی صاحب «نهایة الأفکار»: (دعوی عدم الملازمة بینهما، من جهة أنّ الوجوب مشتمل علی مراتب عدیدة من حیث أصل الجواز والرجحان الفعلی، وحیث الالتزام والمنع من النقیض، فیمکن أن یکون المرتفع خصوص الإلزام والمنع عن النقیض مع بقاء رجحانه الفعلی، کإمکان ارتفاعه حتّی مرتبة رجحانه الفعلی أیضاً، مع بقاءه علی الجواز، بمعنی تساوی فعله وترکه، کإمکان ارتفاعه حتّی بمرتبة جوازه أیضاً .

فعلیه یمکن أن یکون دلیل الناسخ رافعاً لمرتبة خاصّة منها، فلا یحتاج فی بقاء سایر المراتب إلی إقامة البرهان علی قیام الفصل الاستحبابی مقامه، لأنّه إذا کان الدلیل مشکّکاً فلا جرم بعد ذهاب مرتبة بالدلیل یبقی الآخر فی محلّه، نظیر مرتبة خاصّة من الحمرة الشدیدة حیث إنّها إذا زالت تبقی مرتبة اُخری منها، هکذا یکون الکلام فی المقام، لو لم یکن ولم یقم دلیلاً عقلیّاً علی الخلاف)، انتهی محصّل کلامه(1).

أقول أوّلاً: لا یخفی ما فی کلامه بما قد عرفت منّا کراراً بأنّ الوجوب مثل سایر الأحکام الشرعیّة یکون من الاُمور الانتزاعیّة الاعتباریّة، یعنی أنّ العقلاء ینتزعون الوجوب من البعث الناشئ عن أمر المولی إلی عبده بواسطة وجود إرادة


1- نهایة الأفکار: 1 / 389 .

ص:385

حتمیّة فی نفس المولی، ومن المعلوم أنّ الاُمور الانتزاعیّة والاعتباریّة لا تعدّ من الاُمور الحقیقیّة المشتملة علی المراتب المتفاوتة الواقعیّة، بحیث إذا زالت مرتبة من مراتبها بقیت مرتبة اُخری کالأعراض الحقیقیّة من الألوان، حتّی یقال إنّ بقاء المرتبة الاُخری لا یحتاج إلی دلیل آخر یثبتها، بل یکفی فیه عدم ثبوت دلیل علی ارتفاعه. والبعث أمر وجدانی یقع فی الخارج من خلال القول أو الإشارة وأمثال ذلک، ولیس هو من المقولات المشکّکة، بل قد عرفت أنّ منشأه الإرادة الموجودة المظهرة بذلک، فإذا وقع وصدر البعث عن المولی، انتزع منه العقلاء کون هذا الشیء المبعوث إلیه هو المطلوب، وأنّه لا یجوز ترکه، إلاّ أن یستفاد من الخارج جواز ترکه، فلیس لنا هاهنا جنس من الإذن والرجحان، حتّی یفرض له فصلٌ من المنع من الترک أو الجواز، لیُقال: إذا ذهب عنه فصل هل یقوم مقامه فصلٌ آخر دالّ علی الاستحباب أم لا ؟

نعم، ما کان فی الخارج موجوداً وله عینیّة خارجیّة، هو الإرادة الحتمیّة التی کان البعث مظهراً لها، فبعد نفی هذه الحقیقة بسبب النسخ، لا معنی للقول بوجود إرادة اُخری ضعیفة مقامها؛ لأنّها وجود آخر لابدّ له من دالّ آخر یدلّ علیه والمفروض انتفائه.

وثانیاً: أنّ ما قاله من المراتب فی الوجوب، إنّما یصحّ لو قلنا بأنّ النسخ عبارة عن رفع حکم الوجوب بما کان مقتضاه بقائه لولاه.

وأمّا لو قلنا بأنّ النسخ عبارة عن الدفع، أی انتهاء أَمَدَه بأن یکون حکم المنسوخ من أوّل الأمر مغیّاً بهذه الغایة، فعلیه لا یکون حینئذٍ له جنس وفصل، لعدم اقتضاء له حینئذٍ بالدوام والاستمرار.

ص:386

ودعوی: أنّ النسخ تخصیص فی الأزمان، کما أنّ التخصیص فی المقام تخصیص فی الأفراد، وجعل ذلک اشتهاراً علی ذلک المدّعی فی المقام، کما ورد فی «المحاضرات»(1).

ممنوعة: لأنّه یعدّ حینئذٍ مؤیّداً للرفع لا الدفع، لأنّ التخصیص إنّما یطلق فیما إذا لم یرد دلیل الخاصّ وکان دلیله الأوّل مقتضیاً للاستمرار والدوام فی الزمان، کما لا یقتضی العام فی الأفراد لولا الخاص شموله لجمیعها، فیکون ذلک حینئذٍ خلافاً للمدّعی لا مؤیّداً له کما لا یخفی.

وثالثاً: لو سلّمنا کون الوجوب من المقولات أو الاُمور ذات المراتب العدیدة، ولکن نقول إنّه کذلک بحسب مفهومه الکلّی المنطبق علی الأفراد الخارجیّة، نظیر الوجود والعقل بالنسبة إلی أفرادهما، لا أن یکون مصداقه الحقیقی الخارجی کذلک بأن یکون ذا مراتب عدیدة.

نعم، ما قلناه من أنّ الوجوب وغیره من الأحکام لا تعدّ من الاُمور المرکّبة من الجنس والفصل، لا یقتضی عدم إمکان القول بالحمل علی الجامع بین الوجوب والاستحباب إذا عارضه أمرٌ آخر یدلّ علی خلافه.

وجه عدم الاقتضاء: أنّه فرق بین مقام الظاهر والدلالة، بأن یفهم من قرینة خارجیّة مقالیّة أو مقامیّة أنّ مقصوده من الأمر هنا مثلاً مطلق الإذن دون الوجوب والاستحباب، مثل ما یقال فی مثل قوله: (اغتسل للجمعة والجنابة) حیث یستفاد من قرینة اقتران الواجب والمستحبّ أنّه استعمل الأمر فیه للطلب الجامع بینهما


1- المحاضرات: 4 / 23 .

ص:387

ولا ینعقد له ظهور فی الوجوب، فهو لا یکون مستحیلاً ویکون عن محطّ بحثنا خارجاً، لأنّه یعدّ جمعاً بحسب حال الظهور، ولا یرتبط ذلک بما قلنا فی اقتضاء نفس دلیل الناسخ والمنسوخ من حیث أنفسهما ذلک لولا القرینة، بل وهکذا لو انعقد للدلیلین ظهور وتصرّفنا فیهما بالحمل علی الاستحباب.

أقول: ومن خلال ما ذکرناه ظهر فساد کلام المحقّق العراقی صاحب «نهایة الأفکار»(1) حیث شبّه المقام بأنّه کما یصحّ الجمع بین الدلیلین بحمل الوجوب علی مطلق الرجحان ونرفع الید عن ظهوره فی الإلزام وجهة المنع عن النقضین، وکذلک فی المقام أیضاً، لما قد عرفت من تفاوت المقامین من حیث جهة البحث، إذ لا یکون أحدهما مربوطاً بالآخر.

فظهر من جمیع ما ذکرنا أنّ الحقّ عدم إمکان القول بعد نسخ الوجوب ببقاء الإذن أو الرجحان، حیث یکون الأوّل مشترکاً بین أربعة من الأحکام، من الوجوب - حیث قد زال علی الفرض - والندب والإباحة والکراهة، والثانی مشترکاً بین الثلاثة، وفی غیر الأخیر من حیث الجنس والفصل، بل لابدّ من إثبات کلّ واحد منها من وجود دلیل یدلّ علیه، کما لا یخفی علی من أدنی له تأمّل وملاحظة فی حال الأحکام من حیث اعتباریّتها.

المرحلة الثانیة: وهی البحث عن مقام الإثبات.

أی بعد الغضّ عن إمکانه الثبوتی، والقول بإمکانه فی مقام الثبوت بأن یرفع الوجوب ویبقی الجواز، أو قلنا بعدم إمکانه من حیث دلیل النسخ کما هو المختار


1- نهایة الأفکار: 1 / 390 .

ص:388

یأتی البحث عن أنّه هل یمکن إثباته بدلیل آخر کاشف عن بقاء الجواز بعد زوال الوجوب بالدلیل أم لا.

والأقوی عندنا أن یُقال: إن حاولنا إثبات ذلک من نفس دلیل المنسوخ، فهو ما قد عرفت عدم دلالته علی فرض قبول إمکانه، کما لا یدلّ دلیل الناسخ علیه أیضاً، لأنّ مفاده لیس إلاّ رفع الوجوب علی الفرض، ولا لسان له لإثبات حکم آخر بعده.

وإن شئت إثبات الجواز من دلیل آخر غیرهما، مثل أن یقال الأصل الأوّلی فی الاشیاء هو الإباحة مثلاً ومنه المقام، أو یقال بأنّ الأصل هو المنع أو إثباته من جهة وجود قرینة دالّة علی کون الحکم الباقی بعد رفع الوجوب فی موردٍ بالخصوص هو الإباحة، فله وجه إلاّ أنّ الکلام فی أصل وجوده.

وأمّا الکلام فی المرحلة الثالثة، وهی ملاحظة إجراء استصحاب الجواز الجامع بین الوجوب المنسوخ والاستحباب المشکوک، بعد رفع الوجوب، فهو لا یتمّ إلاّ بعد إثبات عدّة اُمور وهی :

أوّلاً: إنّه موقوف علی إثبات کون النسخ هو الرفع علماً لا الدفع وانتهاء الأمَد، وإلاّ لا معنی لجریانه، کما لا یجری أیضاً لو شککنا بینهما والتزمنا باختصاص جریان الاستصحاب فی خصوص الشکّ فی الرافع دون غیره.

وثانیاً: موقوف علی القول بجواز جریان الاستصحاب فی الأحکام الکلّیة، وإلاّ فإنّ من لم یلتزم بجواز ذلک کالمحقّق الخوئی قدس سره ، فلا وجه لإجرائه هنا، لأنّه یرید أیضاً إثبات حکم کلّی شرعی فی المقام.

وثالثاً: أنّ إجرائه منوط علی کون الجواز الجامع هنا حکماً شرعیّاً، لأنّ

ص:389

المعتبر فی جریان المستصحب کون المستصحب بنفسه حکماً شرعیّاً أو موضوعاً لحکم شرعی، مع أنّک قد عرفت أنّ الجواز مثلاً لا دلیل علیه، لأنّ الوجوب والاستحباب معدودان من الاُمور الانتزاعیّة العقلائیّة، حیث ینتزع من بعث المولی وغیره ولیس بمجعول شرعی، إلاّ مع قیام دلیل دالّ علیه.

ورابعاً: لو سلّمنا جمیع ذلک، إنّما یجری فیه الاستصحاب بناءً علی کون الجواز فی الوجوب وغیره بمنزلة الجنس والفصل، لیأتی البحث عن أنّه إذا رفع الوجوب هل یبقی فیه الجواز المثبت للاستحباب أم لا، مع أنّه قد عرفت خلافه، وأنّ الوجوب أمرٌ بسیط ولا ترکّب فیه.

وخامساً: لو سلّمنا کونه مرکّباً أیضاً، فجریانه فیه منوط علی القول بصحّة جریان الاستصحاب فی القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلّی وحجّیته، لأنّ الوجوب قد ارتفع قطعاً، والاستحباب مشکوک الحدوث، فالأصل عدمه، فلا یمکن الحکم ببقاء الجواز حینئذٍ.

مضافاً إلی أنّ إثبات أصل الجواز الکلّی غیر مثمرة لإثبات خصوص الاستحباب، لکونه أصلاً مثبتاً، وإن اُرید إثبات جواز المطلق من دون وجود قید معه لیثبت به سائر الأحکام، فإنّه أیضاً لا یفید إلاّ أن یفرض فی مورد بالخصوص کون الأثر الشرعی مترتّباً علی إثبات أصل الجواز، فله وجه، إلاّ أنّه خارج عن فرض کلام القوم.

وبالجملة: فقد تحصّل من جمیع ما ذکرنا، أنّه بعد نسخ الوجوب - کما فی آیة النجوی الواردة فی سورة المجادلة: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذَا نَاجَیْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیْ نَجْوَاکُمْ صَدَقَةً»(1) مع الآیة الناسخة لها وهی قوله تعالی فی الآیة


1- سورة المجادلة: 12 .

ص:390

اللاّحقة لها: «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیْ نَجْوَاکُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا»(1) إلی آخر الآیة، لا دلیل لها بالخصوص علی إثبات حکم من الأحکام، فیکون المرجع حینئذٍ العمومات أو الإطلاقات إن کانت، وإلاّ فالاُصول العملیّة بحسب اختلاف الموارد، واللّه العالم.

نعم، التزم المحقّق الحکیم رحمه الله بإمکان إجراء الاستصحاب فی باب النسخ، وإثبات الاستحباب بواسطته حیث یقول فی بیان ذلک :

(یکفی فی إثبات الجواز، استصحاب الرضا بالفعل الثابت حال وجوبه، إذ لو ثبت الرضا به بعد ارتفاع الوجوب، لا یکون وجوداً آخر للرضا، بل یکون الرضا الأوّل باقیاً، وإذا ثبت الرضا به ولو بالاستصحاب، کان جائزاً عقلاً، لأنّ الأحکام التکلیفیّة إنّما تکون موضوعاً للعمل فی نظر العقل، بمناط حکایتها عن الإرادة والکراهة والرضا، لا بما هی هی، ویکفی فی إثبات الاستصحاب استصحاب نفس الإرادة النفسانیّة، إذ مجرّد رفع الوجوب لا یدلّ علی ارتفاعها، وإذا ثبت الإرادة المذکورة ثبت الاستحباب، لأنّه یکفی فیه الإرادة للفعل مع الترخیص فی الترک الثابت قطعاً بنسخ الوجوب)، انتهی کلامه(2).

أقول: ولا یخفی ما فی کلامه من الإشکال :

أوّلاً: دعواه أنّ مجرّد رفع الوجوب لا یدلّ علی ارتفاع الإرادة، فیلزم أن یکون المرتفع بواسطة النسخ شیئاً آخر، دعوی ممنوعة ناشئة من توهّم کون حتمیّة الإرادة وشدّتها قد ارتفعت لا أصلها، فیُقال حینئذٍ :

إن اُرید بأنّ أصل الإرادة باقیة، وإنّما المرفوع مجرّد حالتها لا أصلها، فعلی


1- سورة المجادلة: 13 .
2- حقایق الاُصول: 1 / 331.

ص:391

هذا التقدیر لا یبقی شکّ فی المسألة، وتکون الإرادة بنفسها باقیة، فلا حاجة حینئذٍ إلی الاستصحاب، لعدم وجود شکّ بعد الیقین بوجود المتیقّن کما هو المستفاد من کلامه.

وإن اُرید بأنّ أصل الإرادة أیضاً مشکوکة، لاحتمال أن یکون معنی نسخ الوجوب رفع أصل الإرادة حتّی وإن التزمنا بصحّة قوله: بأنّ مجرّد رفع الوجوب لا یدلّ علی ارتفاع الإرادة، وإذا ثبتت الإرادة ثبت الاستحباب، إلاّ أنّه قد عرفت منّا آنفاً بأنّ الإرادة من الصفات النفسانیّة القائمة بالنفس، ولابدّ من وجودها بأیّ وضع کانت من مبادئ مستقلّة، سواء کانت الإرادة شدیدة أو غیرها، وکذلک الکراهة، ولیست الحتمیّة وغیرها من قبیل العوارض المستقلّة من حیث الوجود المنحازة من نفس الإرادة حتّی یصحّ جعل الإرادة الکلّیة معقداً للاستصحاب، نثبت من خلاله فرداً آخر منها وهو الاستحباب، بل هو بنفسه یحتاج إلی مبادئ مستقلّة وإرادة خاصّة به .

وثانیاً: إنّ استصحاب أصل الإرادة إن اُرید به إثبات الاستحباب الذی یعدّ قسیماً للوجوب عُدّ ذلک من الاُصول المثبتة، وإن اُرید إثبات أصل الجواز الکلّی بوجود الإرادة، فهو مخالف لظاهر قوله: (وإذا ثبتت الإرادة المذکورة ثبت الاستحباب).

وخلاصة الکلام: ظهر من جمیع ما ذکرنا، عدم إمکان إثبات الجواز فی حکم من الأحکام عن طریق الاستصحاب مطلقاً، لما قد عرفت من الإشکالات الواردة علیه، واللّه العالم.

ص:392

***

فی الواجب التخییری

فصل

فی بیان تصویر الواجب التخییری

لا إشکال ولا خلاف فی وجود الواجب التخییری فی الشرع والعرف، کما فی بعض الکفّارات ومنها ما ورد ذکرها فی الآیة الشریفة فی قضیّة إفطار الصائم عمداً من لزوم إطعام ستّین مسکیناً أو صیام ستّین یوماً أو عتق رقبة، بل وغیرها من الکفّارات ککفّارة القتل والیمین حیث وردت فی الأدلّة بأنّ علی ذمّته للتکفیر عمّا ارتکب أحد الأمر من الاُمور، ولذلک یقتضی المقام البحث عن کیفیّة تصویر هذا الواجب المخیّر بین أمرین أو ثلاث، فنقول:

الکلام فی الواجب التخییری یقع فی مقامین:

أحدهما: فی المتباینین.

والثانی: فی الأقلّ والأکثر.

الکلام فی المقام الأوّل: فقد وقع الخلاف فیما هو الواجب فیه علی أقوال ووجوه، وعلّة الوجوه والأقوال نشأت من جهة ملاحظة استحالة تعلّق الإرادة التکوینیّة والفاعلیّة علی شیء مبهم مردّد واقعی، وکذلک الإرادة التشریعیّة، والسرّ فی ذلک هو أنّ الوجود سواء کان خارجیّاً أو ذهنیّاً مساوق للتشخّص والتعیّن، لأنّ الشیء ما لم یتشخّص لم یوجد، فالتردّد الواقعی والإبهام الحقیقی مضاد ومناف للموجودیّة، فإذا لم یکن الشیء المردّد موجوداً لا فی الخارج ولا فی الذهن، لما أمکن أن یتعلّق به الإرادة التکوینیّة أو التشریعیّة حتّی ینتزع من الثانی

ص:393

الواجب التخییری.

ولذلک التجأ کلّ من العلماء فراراً عن هذا المحذور إلی بیان ما یصحّ کونه متعلّقاً للإرادة التشریعیّة، ومن هنا ظهرت المسالک والمذاهب والأقوال.

فنشیر أوّلاً إلی الأقوال، وما یترتّب علیها من الثمرات، ثمّ نختار ما هو الحقّ عندنا، إن شاء اللّه تعالی.

القول الأوّل: هو أنّ الواجب کلّ واحد منهما علی التخییر، بمعنی عدم جواز ترکه إلاّ إلی بدل، وهذا هو القول الذی نسبه صاحب الفصول إلی أصحابنا رضوان اللّه تعالی علیهم، بل هو مختار صاحب «الکفایة» لکن مع زیادة یجعله قولاً آخر وهو:

القول الثانی: هو التخییر علی تقدیر کون کلّ واحد من الفردین مشتملاً علی الغرض والمصلحة، لیصبح التخییر حینئذٍ شرعیّاً، وإلاّ کان الواجب هو الجامع بینهما المشتمل علی الغرض والمصلحة لیکون التخییر عقلیّاً.

القول الثالث: وهو أن یکون الواجب أحدهما لا بعینه، وهذا القول نسبه صاحب الفصول إلی الأشاعرة، غیر أنّ مرادهم مردّد بأنّهم أرادوا بأنّ الواجب هو مفهوم أحدهما أو مصداقه، وإن کان الظاهر من العضدی هو نسبة الأوّل إلیهم .

أُورد علی القول الأوّل: بأنّ لازمه ترتّب العقوبتین علی ترکهما، لأنّ القید المأخوذ فی کلّ واحد من الفردین وهو الترک لا إلی بدل، صادقٌ ومتحقّق فی کلّ منهما مع ترکهما، فترک الواجبین یوجب استحقاق عقوبتین، مع أنّ العقوبة فی الواجب التخییری لیست إلاّ واحدةً.

کما یرد هذا الإشکال علی القول بالواجب المشروط الذی قال به صاحب

ص:394

«الکفایة» أیضاً، باعتبار أنّه بعد فرض کون الغرض مترتّباً علی کلیهما، حیث أنّ الشرط فی کلّ منهما قد تحقّق فأصبح الواجب المشروط واجباً مطلقاً، فترک ما هو واجب فی کلّ منهما موجب لترتّب عقوبتین علیه. فیرد علیه ما ذکرناه، هذا کما فی «عنایة الاُصول»(1).

وأمّا الإشکال الوارد علی القول الثالث: فهو الذی ذکره صاحب «الکفایة» فی تعلیقته علی الکتاب ما هذا لفظه علی ما نقله صاحب «عنایة الاُصول»:

(فإنّه یعنی به عنوان أحدهما، وإن کان ممّا یصحّ أن یتعلّق به بعض الصفات الحقیقیّة ذات الإضافة کالعلم، فضلاً عن الصفات الاعتباریّة المحضة کالوجوب والحرمة، وغیرهما ممّا کان من خارج المحمول الذی لیس بحذائه فی الخارج شیء غیر ما هو منشأ انتزاعه، إلاّ أنّه لا یکاد یصحّ البعث حقیقة إلیه والتحریک نحوه، کما لا یکاد یتحقّق الداعی لإرادته والعزم علیه، ما لم یکن مائلاً إلی إرادة الجامع والتحریک نحوه، فتأمّل جیّداً)، انتهی کلامه(2).

أقول: هذا الإشکال غیر وجیه، فیما لو کان مراده عنوان أحدهما، أی الوصف المنتزع منه، لوضوح أنّه قابل لأن یتعلّق به البعث حقیقة والتحریک نحوه، کما یصحّ أن یتعلّق به العلم والوجوب وغیرهما من الصفات.

نعم، إن کان یقصد مصداق ذلک حقیقة فهو لیس إلاّ الفرد المشخّص المعیّن الخارجی لا المردّد؛ لأنّ الشیء بما هو مردّد ومبهم لا وجود له خارجاً، فالعنوان وإن یصحّ أن یتعلّق به الوجوب والإرادة التشریعیّة، إلاّ أنّ الذی یرد علیه هو الذی


1- عنایة الاُصول: 1 / 465 و 466 .
2- عنایة الاُصول: 1 / 465 و 466 .

ص:395

ذکره صاحب «فوائد الاُصول»(1) قدس سره من أنّه مخالفٌ لظاهر الأدلّة التی وردت فی الواجب التخییری، حیث لم یجعل الواحد لا بعینه موضوعاً للواجب التخییری، وإلاّ لولا ذلک لکان هذا الوجه من أحسن الوجوه والأقوال.

القول الرابع: هو القول بأنّ الواجب هو الجمیع، أی کلّ واحد منهما یعدّ واجباً، غیر أنّه یسقط الوجوب بفعل أحدهما.

والفرق بین هذا والقول الأوّل هو أنّه فی الأخیر یعدّ کلّ واحد واجباً فی عرض الآخر، إلاّ أنّه فی مقام السقوط یوجب کلّ واحد سقوط الآخر دون الأوّل.

وفیه: بأنّه مخالف لظاهر ما یکون فی الواجب التخییری من کون الواجب واحداً من الشیئین لا الاثنین، ولذلک تترتّب علیه عقوبة ومثوبة واحدة لا متعدّدة، مع أنّ لازم تعدّد الوجوب، تعدّد الثواب والعقاب عند الموافقة والمخالفة، والسقوط لابدّ أن یکون بأحدهما من الموافقة أو المخالفة وبالعکس، أو بانهدام الموضوع، وهنا لیس بواحد منها.

القول الخامس: هو ما نسبه المعتزلة إلی الأشاعرة، وتبرّأ کلّ واحد من الطائفتین عنه لسخافته، وهو مردّد بین الوجهین :

تارةً: یقرّر بأنّ الواجب هو المعیّن عند اللّه، ولکن یسقط بإتیانه أو بإتیان عِدْله.

واُخری: بأنّ الواجب هو المعیّن عند اللّه، ولکنّه عبارة عن ما یفعله المکلّف ویختاره .


1- فوائد الاُصول: 1 / 129 .

ص:396

فیرد علیه أوّلاً: کونه خلاف ظاهر الأدلّة، من حیث دلالتها علی کون الوجوب متعلّقاً بالفعلین تخییراً، إذ لا تعیّن لما یختاره فی الواقع حتّی یکون هو الواجب.

ثانیاً: یلزم اختلاف الواجب بحسب اختلاف اختیار المکلّفین، بأن یکون الواجب فی أحدهم هو القصر مثلاً لأنّه یختاره، وفی الآخر التمام أو هو مختاره، کما أنّه یختلف أیضاً فی مکلّف واحد من حیث زمان الاختیار إذا صار الاختیار متفاوتاً، ممّا یقتضی أن یصبح الواجب تارةً القصر واُخری التمام، والالتزام بذلک مشکل جدّاً .

وثالثاً: أنّه یلزم أن لا یکون الواجب متروکاً لو ترک کلّ واحد منهما، لأنّ مع إعراضه عن أحدهما وترکه له لا یکون حینئذٍ واجباً فی البین، لأنّ المفروض کون الوجوب مشروطاً بالاختیار، فقبله لیس بواجب حتّی یترکه، فلا یستحقّ عقوبة أصلاً.

اللَّهُمَّ إلاّ أن یقال: إنّ الواجب هو المختار المعلوم عند اللّه.

فیرد علیه: أنّه غیر معلوم لنا.

ورابعاً: أنّه لو کان کلّ واحد منهما محصِّلاً للغرض، فلِمَ انحصر الواجب فیما یختاره دون الآخر، وإن لم یکن محصِّلاً للغرض إلاّ واحداً فأیّهما هو، وهو غیر معلوم، لأنّ ما یختاره فیما بعد لا تعیّن له فی الخارج، فلا وجه لجعل المختار هو الواجب.

ولعلّه لکثرة ورود الإشکال علیه قد تبرّء کلّ من الأشاعرة والمعتزلة عنه، ففساده أوضح من أن یخفی .

ص:397

کما أنّ مختار صاحب «الکفایة» من التفصیل بین ما یکون کلّ واحد منهما محصّلاً لغرض واحد، فکان الجامع هو الواجب تعیّناً، فیکون التخییر فی الأفراد عقلیّاً، لأنّ الواحد لا یصدر عنه إلاّ الواحد، من جهة لزوم السنخیّة بین العلّة والمعلول، فإذا صار الغرض واحداً وهو الجامع بینهما استلزم أن یکون الواجب واحداً، بخلاف ما لو کان کلّ واحد منهما محصّلاً للغرض، فحینئذٍ یکون کلّ واحد منهما واجباً تخییراً شرعیّاً، بمعنی عدم جواز ترکه إلاّ إلی الآخر، وترتّب الثواب علی فعل الواحد منهما، والعقاب علی ترکهما.

لیس بوجیه، لأنّه یرد علیه :

أوّلاً: بأنّه مخالف لظاهر الأدلّة، إذ لسانها فی الواجب التخییری یکون علی نسق واحد، فالقول بالتفصیل خارج عن ظاهرها.

وثانیاً: أنّ قاعدة الواحد لا یصدر عنه إلاّ الواحد مرتبطة بالواحد الشخصی الذی یکون علّةً فی إیجاد المعلول الطبیعی، دون الواحد النوعی والجنسی، وهکذا قاعدة عدم صدور الکثیر عن الواحد.

توضیح ذلک: ورد فی کتب المتأخّرین مثل «نهایة الدرایة» و«تهذیب الاُصول» و«المحاضرات» وغیرها شرح وبیان لهذه القاعدة، فلا بأس بالإشارة إلیها لیتّضح عدم صحّة الاستناد إلی هذه القاعدة فی أمثال هذه الموارد، فنقول ومن اللّه التوفیق، وعلیه التکلان:

إنّ کلّ معلول طبیعی متعیّن فی مرتبة علّته، أی له وجودان: وجود سابق وهو وجوده بمرتبة فی ذات علّته المسمّی بمرتبة الوجوب، ووجود آخر له بوجوده الخاصّ اللاّحق المسمّی بمرتبة وجود التشخّص، وهذا هو الذی اشتهر

ص:398

علی ألسن أهل المعقول بأنّ (الشیء ما لم یجب لم یتشخّص) أی ما لم یجب وجوده بواسطة وجود علّته لم یتشخّص فی مرتبة وجوده فی مرتبة معلولیّته.

فعلی هذا الأساس لا یمکن أن یوجد المعلول مع کونه واحداً شخصیّاً فی مرتبةٍ ذات علّتین مستقلّتین، إذا فرض کون ذات العلّتین متباینتین، لأنّ وجود کلّ علّة فی مرتبتها، یباین مع وجود علّة ومرتبة اُخری منها، فکیف یمکن تحقّق المعلول الشخص الواحد فی مرتبة علّتین، فإنّه محال قطعاً.

فهکذا یکون فی فرض عکسه، کما لو کان المعلولین موجودین فی مرتبة علّة واحدة شخصیّة، فإنّه لا یلزم أن تکون فی ذات علّة واحدة جهتان متباینتان المتحقّقتان من المعلولین، ویستحیل أن تکون ذات وجود علّة واحدة متعیّنة بوجودین المتباینین الموجودین فی المعلولین.

وهذا صحیح واضح فی الواحد الشخصی کما عرفت فی طرفی المسألة ولا کلام فیه، بخلاف الواحد النوعی أو الجنسی، إذ لا مانع من صدور الکثیر عن الواحد بالنوع، لأنّ مردّه بحسب التحلیل والواقع إلی صدور کلّ معلول شخصی عن فرد منه، وإسناد صدوره إلی الجامع باعتبار ذلک، وهو جائزٌ کما هو واضح.

کما أنّه لا مانع عن صدور الواحد النوعی عن الکثیر، فإنّه خارج عن تلک القاعدة، إذ نتیجته استناد کلّ فرد منه علی علّته، مثل وجود الواحد النوعی کالحرارة مثلاً حیث یستند تارةً إلی الشمس واُخری إلی النار وإلی الغضب مرّة ثالثة وإلی الحرکة مرّة رابعة، فإذا اجتمعت هذه العلل والأسباب أصبح المجموع مؤثّراً، إلاّ أنّ حرارة الماء لو استندت إلی کلّ واحد منهما بمرتبة ضعیفة، فإذا اجتمعت صارت مرتبة شدیدة، فالحرارة حینئذٍ تنحلّ إلی مراتب متعدّدة،

ص:399

فالحرارة لیست واحدة من جمیع الجهات، بل هی ذات مراتب، وکلّ مرتبة مستندة إلی علّته المربوطة به، کما لا یخفی .

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول: إنّ المتحقّق فی المقام هو أنّ الغرض المترتّب علی الواجب التخییری الموجب لإثبات الوجوب، لیس من قبیل الواحد الشخصی حتّی یستحیل صدور الکثیر منه أو بالعکس، بل هو واحدٌ نوعی، وجامع انتزاعی للفعلین أو الأفعال، لا جامع ماهوی بینهما أو بینها، فلا مانع أن یتحقّق الوجوب متعدّداً لکلّ واحد من الفردین، مع کون الغرض فی کلّ واحد منهما واحداً، لأنّ أثر الانطباق علیه کونه فرداً منه، ولیس الجامع ذاتیّاً حتّی لا یمکن انطباقه علی المتعدّد. ولذلک نعتقد أنّ استعانة صاحب «الکفایة» بهذه القاعدة فی المقام لا یخلو عن وهن، کما اعترض علیه کثیر من متأخّری المحقّقین.

وثالثاً: إنّ الجامع الذی فرضه المحقّق الخراسانی قدس سره هنا لا یخلو: إمّا المراد منه هو الجامع الذاتی نظیر جامعیّة الإنسان لأفراده، أو الجامع المفهومی والانتزاعی.

فإن کان الأوّل مقصوداً ورد علیه: بأنّه إنّما یمکن فیما إذا کان الأفراد أو الفردین من مقولة واحدة وطبیعة فاردة. وأمّا إذا اختلفت کما هو الأکثر فی الواجبات التخییریّة کخصال کفّارة إفطار الصوم، حیث أنّ کلّ واحد من الإطعام والصیام والعتق من مقولات متباینة، فکیف یمکن فرض جامع حقیقی ذاتی بین مثل هذه الأفراد، بل ربما یکون أحدهما من الأمر الوجودی والآخر عدمی، ونظائر ذلک فی الشرع والعرف کثیرة، فإحالة أمثال ذلک إلی وجود جامع ذاتی للأفراد، حتّی یکون هو المحصّل للغرض مشکل جدّاً .

ص:400

وإن کان الثانی مراداً: فإنّ مرجعه إلی کون متعلّق الوجوب هو عنوان أحدهما، وقد عرفت أنّه مخالف لظاهر الأدلّة من کون الوجوب متعلّقاً بالأفراد الخارجیّة دون العناوین، وإلاّ کان هذا أحسن الوجوه بلا لزوم تفصیل بین وحدة الغرض وتعدّده.

هذا کلّه بالنظر إلی کلامه الأوّل من وحدة الغرض.

وأمّا ما یرد علیه بالنسبة ما التزم به فی صورة تعدّد الغرض، بأن یکون کلّ واحد منهما محصّلاً للغرض مع وجود التضادّ بین الغرضین، بحیث لا یقدر علی الجمع بینهما لأجله فیکون التخییر شرعیّاً.

فیرد علیه أوّلاً: بعدم کلیّة ذلک فی جمیع الموارد، إذ قد یکون الواجب التخییری من غیر هذا القبیل، کما لو کان کلّ واحد من الفردین محصّلاً للغرض، إلاّ أنّه لا تنافی بینهما من حیث الغرضیّة، فیمکن الجمع بینهما خارجاً حیث یبقی السؤال حینئذٍ عن المحقّق قدس سره بأنّ أیّهما یکون واجباً ؟ فإن أجاب بأنّ أحدهما المعیّن هو الواجب، لزم الترجیح بلا مرجّح، وإن اعتبر الواجب کلاهما لزم خروجه عن الواجب التخییری، لأنّ ما فیه الغرض الملزِم لابدّ أن یکون واجباً تعیینیّاً لا تخییریّاً.

وإن کان أحدهما لا بعینه واجباً - فهو مضافاً إلی أنّه قدس سره أنکره صریحاً فی ذیل کلامه بقوله: (فلا وجه فی مثله للقول بکون الواجب هو أحدهما لا بعینه مصداقاً ولا مفهوماً کما هو واضح) - فإنّه یرد علیه ما ذکرناه سابقاً من أنّ المراد لا یخلو إمّا أنّه المصداق أو المفهوم، والأوّل غیر محقّق فی الخارج، والثانی قد عرفت صحّته وحسنه، إلاّ أنّه مخالف لظاهر الأدلّة .

ص:401

وثانیاً: أنّ الکلام فی الواجب التخییری لا یمکن أن یکون مرتبطاً بحال الأغراض، لأنّها مرتبطة بنفس الأمر والواقع، مع أنّ البحث فی الواجب التخییری کان فی مرحلة الإثبات والاستظهار من حیث الدلالة، ولیس لنا کاشف عن إثبات کیفیّة الغرض والملاک، حتّی یوجب الاستعانة بهذا التفصیل.

وثالثاً: إنّه لو سلّمنا وجود تعدّد الغرض، وکون کلّ واحد منهما محصّلاً له، وسلّمنا عدم إمکان الجمع بینهما لأجل وجود المضادّة بین الغرضین. ولکن هذا لا یوجب إلاّ کون الثواب واحداً مترتّباً علی إتیان أحدهما، کما أنّ ذلک یوجب عدم استحقاق العقوبة فی ترک واحد منهما عند الإتیان بالآخر.

وأمّا هذا فهو لا یوجب عدم إمکان القول بتعدّد العقاب، فیما لو ترک کلّ واحد منهما - الذی کان بحسب الفرض واجباً ومحصّلاً للغرض - فیستلزم علی مبناه استحقاق عقوبتین فی صورة ترکهما، مع أنّک قد عرفت منّا کراراً بأنّ الالتزام بالتعدّد فی العقوبة یعدّ مخالفاً للسیرة والإجماع، بل وخلاف ظاهر الأدلّة أیضاً، فما اختاره قدس سره بعیدٌ عن الصواب جدّاً .

فالتحقیق الحریّ للتصدیق هو أن یُقال: إنّ الموضوعات المأخوذة فی الأوامر التخییریّة تکون علی ضربین:

تارةً: یجعل المولی أمره متعلّقاً علی نفس أحدهما، أی یتّخذه فی متعلّق أمره، بأن یقول: (جئنی بأحدهما)، المشیر إلی الشیئین الموجودین فی الخارج، أو یقول: (صلِّ خلف أحدهما) ویقصد بذلک زید أو عمرو.

ففی مثل هذا القسم لا إشکال فی کون معقد الأمر لیس الأفراد الخارجیّة، بل الموضوع هو العنوان المنتزع عنهما المسمّی والمتّخذ بعنوان (أحدهما) الذی

ص:402

جعله مشیراً إلی الخارج بلحاظ قابلیّته للانطباق علی کلّ واحدٍ منهما ولو انطباقاً عرضیّاً، فیشابه ذلک قوله: (جئنی بمَن کان علی رأسه قلنسوة حمراء) مثلاً حیث یکون الانطباق لکلّ من کان متلبّساً بذلک عرضیّاً لا ذاتیّاً، هکذا الحال فی المقام، ومثل هذا العنوان کما یمکن تعلّق الصفات الحقیقیّة به کالعلم مثلاً - نظیر تعلّق العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإنائین، وجواز الصلاة خلف أحد الإمامین - کذلک یصحّ تعلّق الإرادة التشریعیّة والآمریّة بأحدهما القابل للانطباق علی کلّ واحد منهما، وفی مثل هذا القسم لا یکون مخالفاً لظاهر الدلیل، بل له کمال الملائمة لأنّ نفس العنوان مأخوذ فی موضوع الدلیل.

ویکفی فی صحّة هذا القسم وجود ذلک فی الاعتبارات العقلائیّة، مثل ما لو اشتری أحد الشیئین المعلومین من حیث جمیع الخصوصیّات، أو باع کذلک، فإنّ العقلاء یرتّبون علیه الصحّة، بل وهکذا وقع مثله فی الشرع فی باب الوصیّة کما لو أوصی بملکیّة أحد المالین لزید مثلاً، فقد حکم الشرع بنفوذها وصحّتها، وصحیح ونظائرها فی الشرعیّات والعرفیّات کثیرة فلا نحتاج إلی مزید بیان.

واُخری: ما لو کان متعلّق الأمر والحکم الأفراد الخارجیّة ظاهراً، بالإشارة إلی خصوصیّاتها، مثل أن یُقال: (جئنی بزیدٍ أو عمروٍ)، أو یقول: (صلِّ فی الأماکن الأربعة بالقصر أو التمام)، أو مثل ما ورد فی القرآن الکریم فی حکم کفّارة الیمین بقوله تعالی: «لاَ یُؤَاخِذُکُمْ اللّه ُ بِاللَّغْوِ فِی أَیْمَانِکُمْ وَلَکِنْ یُؤَاخِذُکُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الاْءَیْمَانَ فَکَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاکِینَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِیکُمْ أَوْ کِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِیرُ رَقَبَةٍ»(1) الآیة، ونظائر ذلک حیث یستفاد منه مفهوم التخییر من استعمال


1- سورة المائدة: 89 .

ص:403

أداة (أوْ) أو الواو المفیدة لمعناه، حیث أنّ ظاهر الجملة والکلمة کون تعلّق الأمر والإرادة هو نفس الفرد الخارجی، مع أنّ الخارج بنفسه یکون موجباً ومسبّباً لسقوط الأمر بالامتثال لا کونه مرکزاً لمتعلّقه به، إلاّ أن یکون الأمر شخصیّاً متوجّهاً إلی شیء موجود فی الخارج.

فالکلام فیه یقع فی مرحلة الإرادة، فلا إشکال فی أنّ الإرادة کما یمکن أن تتعلّق بهذا الفرد، هکذا یمکن أن تتعلّق بالفرد الآخر، أی یکون کلاهما مطلوباً له، لکن لا بالجمع بینهما، بل یکفی وجود أحد الفردین.

کما أنّ الإرادة التی تعلّقت بهما کذلک، تکون مثل الإرادة المتعلّقة بشیء واحد مطلوب تعیّنی من دون تفاوت فی سنخیّة الإرادة بینهما، فإذا کان الواقع کذلک، صحّ أن یُقال بأنّ مآل الأمر فی مثل هذه الموارد إلی کون المطلوب والمراد هو أحدهما، وإن کان ظاهر التعبیر یوهم خلافه، فاتّصاف کلّ واحد منهما بالإرادة من جهةٍ صحیح؛ لأنّ إرادته قد تعلّقت بکلّ واحد بخصوصه، بمعنی أنّه لاحظ أحدهما المنحاز عن الآخر وأراده وصدّقه من جهة تحصیله للفائدة وغیر ذلک من المبادئ، کما هو الحال فی الآخر أیضاً کذلک، إلاّ أنّه حیث یری کفایة أحدهما فی تحصیل المطلوب، استعمل أداة (أوْ) فیه لإفهام جواز ترک أحد المرادین من دون أن یترتّب علی ترکه عقوبة، وهکذا بیّن أنّ الثواب فی فعلهما أو العقاب فی ترکهما لا یکون إلاّ واحداً.

وبالجملة: فظهر من جمیع ما ذکرناه:

أوّلاً :إنّ أحسن الوجوه هو الذی ذکره المحقّق النائینی من أنّ العنوان الملاحظ هو عنوان (أحدهما)، غایة الأمر کان فی أحد القسمین من ذلک حسناً

ص:404

من دون تأویل وخلاف لظاهر الدلیل. وفی آخر لابدّ أن یرجع إلیه لکن من خلال الاستعانة بواسطة تأویل فیه، لإفهام ذلک بأداة تفید للتخییر.

وحیث کان لفظ أحدهما مشیراً أو حاکیاً عن أحد المصداقین الحقیقی، وکان الانطباق عن قبیل انطباق العرضی، صحّ أن یقع واسطة فی الهیئات، فلا یلزم حینئذٍ شیء من المحاذیر التی ذکروها فیما اخترناه، فالأمر علی کلّ تقدیر - أی سواء کان نفسیّاً أو تخییریّاً، وفی التخییری سواءً کان بصورة التخییر فی اللّفظ أو فی العنوان - یعدّ متعلّقاً بالعنوان القابل للانطباق علی الأفراد لا أن یکون متعلّقاً بنفس الفرد خارجاً، وإن کان یوهم ذلک ظاهر اللّفظ والعبارة.

وثانیاً: ظهر ممّا ذکرناه أنّ التخییر فی الواجبات التخییریّة بکلا قسمیها یکون تخییراً شرعیّاً، بأن یکون الأمر الشرعی بواسطة انطباق العنوان علی الخارج متعلّقاً بالفرد بمعنی، وإن لم یکن متعلّقاً له بمعنی آخر، فلا یکون حینئذٍ تخییراً عقلیّاً، بلا فرق فیما ذکرنا بین کون الغرض المتعلّق بهما واحداً أو متعدّداً، لما سبق وأن ذکرنا عدم ارتباط بحث المقام بالغرض أصلاً فلا نعید، واللّه هو العالم بالحقائق.

وأمّا الکلام فی المقام الثانی: وهو بیان التخییر بین الأقلّ والأکثر کالتخییر فی تسبیحات الصلاة بین الواحدة والثلاث فی التدریجیّات، أو التخییر فی مسح الرأس بإصبع واحد أو ثلاثة أصابع فی الدفعیّات، وهکذا فی رسم الخطّ بین القصیر والطویل فیما إذا کان دفعیّاً، حیث أنّ علیه أن یرسم الخطّ المذکور دفعةً واحدة، فیأتی البحث عن إمکان تصویر التخییر وعدمه، لأنّه من الواضح أنّه من خلال وجود الأقلّ یحصل الغرض فیسقط الواجب، وإلاّ لزم أحد المحذورین:

ص:405

إمّا أن لا یکون المأتی به مصداقاً للواجب، وهو خلف، لأنّه فرد منه قطعاً علی الفرض.

أو یکون طلباً للحاصل، وهو مُحال أیضاً؛ لأنّ الواجب قد حصل وسقط بالأقلّ، فلا یبقی غرض للآمر لیجب تحصیله بعد ذلک، ولذلک قیل باستحالة التخییر بینهما.

وقد أجاب عن ذلک صاحب «الکفایة» قدس سره بقوله: (لکنّه لیس کذلک، فإنّه إذا فرض أنّ المحصِّل للغرض فیما إذا وجد الأکثر هو الأکثر لا الأقلّ الذی فی ضمنه، بمعنی أن یکون لجمیع أجزائه حینئذٍ دخل فی حصوله، وإن کان الأقلّ لو لم یکن فی ضمنه، کان وافیاً به أیضاً، فلا محیص عن التخییر بینهما، إذ تخصیص الأقلّ بالوجوب حینئذٍ کان بلا مخصّص، فإنّ الأکثر بحدّه یکون مثله علی الفرض، مثل أن یکون الغرض الحاصل من رسم الخطّ ترتّباً علی الطوعی إذا رسم بما له من الحدّ لا علی القصیر فی ضمنه، ومعه کیف یجوز تخصیصه بما لا یعمّه ؟ ومن الواضح کون هذا الفرض بمکان من الإمکان..) إلی آخر کلامه(1).

أقول: ولا یخفی ما فی کلامه، حیث وافق من خلال هذا التقریر عدم معقولیّة الواجب التخییری بین الأقلّ والأکثر، لأنّه قد فرض حال الأقلّ والأکثر بصورة الماهیّة بشرط لا، والآخر الماهیّة بشرط شیء، وهذا هو المستفاد من تصریحه هنا حیث یقول: (إنّ المحصّل للغرض فیما إذا وجد الأکثر هو الأکثر لا الأقلّ فی ضمنه)، کما صرّح بعد ذلک حین ردّه علی الإشکال - فی قلت - بقوله: (لا یکاد


1- الکفایة: 1 / 227 .

ص:406

یترتّب الغرض علی الأقلّ فی ضمن الأکثر، وإنّما یترتّب علیه بشرط عدم الانضمام، ومعه کان مترتّباً علی الأکثر بالتمام) فیصبح الفردین من طرفی التخییر متباینین لا من مصادیق الأقلّ والأکثر المفروض فی الظهور، لأنّ النسبة بین الماهیّة بشرط لا والماهیّة بشرط شیء هو التباین والتضادّ دون الأقلّ والأکثر.

وأمّا إذا فرض وجود الأقلّ بصورة الماهیّة اللاّ بشرط، فلا محالة یتحقّق الواجب بوجوده حینئذٍ، سواءً کان قد وجد فی ضمن الأکثر أو بحدّه فقط، وقیل إنّ هذا هو مقصود القوم فی المبحث لا القسم الأوّل، لأنّه تخییر صوری لا واقعی، بخلاف الأوّل حیث إنّه عکس ذلک لأنّه تخییر واقعی، والأقلّ والأکثر صوری ظاهری، إذ فی الحقیقة یکونان متباینین.

وبالجملة: فما أجاب به عنه لا یُسمن ولا یُغنی عن جوع، بل یکون خروجاً عن فرض البحث.

والذی ینبغی أن یُقال هنا: هو أنّ الفردین وهما الأقلّ والأکثر إن کانا من التدریجیّات کالتخییر فی التسبیحة بواحدة أو ثلاث، فلا إشکال فی عدم معقولیّة التخییر فیها، لأنّ وجود الأقلّ دائماً یعدّ مقدّماً وسابقاً علی وجود الأکثر، والمفروض أنّ وجوده محصّل للغرض ومُسقِط للواجب، فلا یبقی بعده غرض حتّی یجب تحصیله. وبالتالی فمجرّد کون الغرض الحاصل من الأکثر یباین الغرض الحاصل من الأقلّ لا یرفع الإشکال، لأنّ الغرض الآخر الحاصل من الأکثر، بعد فرض حصول الغرض المحصَّل (بالفتح) من الأقلّ لا یخلو حاله:

إن کان واجب التحصیل، فیخرج الواجب عن کونه واجباً تخییریّاً.

وإن لم یکن بعد ذلک واجباً، فوجوده وعدمه علی حدٍّ سواء ویکون لغواً،

ص:407

لأنّه لم یبلغ الوجوب فیه إلی حدّه أبداً، فصدور مثل هذا الوجوب عن الحکیم لما لا یتحقّق فی الوجود أصلاً محالٌ کما لا یخفی.

هذا فی التدریجیّات غیر القصدیّة.

وأمّا إن کان الواجب من التدریجیّات القصدیّة، والغرض الذی یحصل بالأقلّ وإن کان یسقط به الواجب فی حال تفرّده، إلاّ أنّه یمکن أن یفرض بصورةٍ کان الإتیان بالأکثر أیضاً بعد الأقلّ مسقطاً له دون الأقلّ الموجود فی ضمنه، وهو أن یجعل الامتیاز فی وجه السقوط والتشخّص به من الأقلّ أو الأکثر بالقصد للمکلّف فی مقام الإتیان، إذا کان قصدیّاً، أی یجوز للمکلّف فی حال الإتیان بالتسبیحة أن یقصد تحقّق الواجب بالواحدة فقط، فهو المحصّل له حینئذٍ دون الأکثر، کما له أن یقصد تحقّق الواجب بالثلاث، فهی المحصّل له حینئذٍ دون الأقلّ فی ضمنه، فیصحّ الحکم بالتخییر فی الأقلّ والأکثر فی التدریجیّات، إذا کان العمل من الاُمور القصدیّة لا غیرها من الاُمور الحقیقیّة، حیث أنّ القصد غیر دخیل فیها، فإذا تحقّق به الأقلّ لا یبقی مورد حینئذٍ للأکثر کما قرّر، فلا نعید.

أقول: الإنصاف رجوع هذا القسم من الأقلّ والأکثر إلی المتباینین، لأنّ القصد حینئذٍ یحدّد کلّ واحد منهما ویجعله منحازاً عن الآخر، فإذا قصد الأقلّ فالمحصّل حینئذٍ لا یکون إلاّ الأقلّ بشرط عدم انضمام الزائد، بحیث لو انضمّ إلیه فی هذا الفرض لما کان الغرض محصّلاً.

کما أنّ الأکثر إذا قصد لا یکون الأقلّ حینئذٍ محصّلاً أصلاً، لعدم کونه مأخوذاً لا بشرط، بل یعدّ الأقلّ فی هذا الفرض مأخوذاً بشرط الانضمام بواسطة قصده نفی الحقیقة حیث یرجع التخییر فیه إلی التخییر بین الأقلّ والأکثر

ص:408

المتباینین، وإن کان هو أخفی ممّا فرضه الخصم فی السابق.

وأمّا التخییر بین الأقلّ والأکثر فی الدفعیّات، نظیر مسح الرأس المخیّر وقوعه باصبع واحد أو ثلاث أصابع، حیث وقوع المسح بالثلاث یقع فی ضمنه الأقلّ دفعة واحدة، واُخری یقع بالواحدة فقط دون الأکثر، فلیس هنا ما یتحقّق به الأقلّ قبل الأکثر حتّی لا یتصوّر فیه التخییر.

والمستفاد من صاحب «تهذیب الاُصول» التفصیل فی الدفعیّات بما لا یخلو عن إشکال، حیث قال فی معرض بیانه:

(وأمّا الدفعیّات فإن کان هنا غرض واحد یحصل بکلّ واحد، فلا یعقل التخییر بینها، لأنّ الغرض إذا یحصل بنفس ذراع من الخطّ بلا شرط، یکون التکلیف بالزیادة من قبیل إلزام ما لا یلزم، فیکون تعلّق الإرادة والبعث إلیها لغواً ممتنعاً، ومجرّد وحدة وجود الأقلّ بلا شرط مع الأکثر خارجاً یدفع الامتناع، لکون محطّ تعلّق الأمر هو الذهن، وفیه تجرید طبیعة المطلوب من غیره من اللّواحق الزائدة.

وإن کان لکلّ منهما غرض غیر ما للآخر، فإن کان بین الغرضین تدافع فی الوجود لا یمکن اجتماعها، أو یکون اجتماعها مبغوضاً للآمر، فلا یعقل التخییر أیضاً، لأنّ الأقلّ بلا شرط موجود مع الأکثر، فإذا وجدا دفعةً لا یمکن وجود أثرهما للتزاحم الوجودی، فلا یعقل تعلّق الأمر بشیء لأجل غرض لا یمکن تحصیله فی الخارج. وکذا فیما إذا کان اجتماع الغرضین مبغوضاً لا یعقل التخییر أیضاً.

وأمّا إذا کان الغرضان قابلین للاجتماع، ولا یکون اجتماعهما مبغوضاً له،

ص:409

وإن لم یکن مراداً له، فالتخییر بینهما یمکن، لأنّ الأقلّ مشتمل علی غرض والأکثر علی غرض آخر، فإذا أوجد العبد الأکثر وجد متعلّق الغرضین وکان للمولی أن یختار ما یشاء)، انتهی کلامه(1).

أقول: ولا یخفی أنّ محصّل کلامه هو أنّه جعل صور المسألة أربعة، فثلاث منها یمتنع فیها التخییر، وواحد منها یجری فیه ذلک .

ومن فروض الممتنع عنده ما إذا کان کلّ واحد من الأقلّ والأکثر محصّلاً لغرض واحد، حیث جعل وجه الامتناع کونه من قبیل إلزام ما لا یلزم بالنسبة إلی الأکثر، لأنّ الذهن یجرّد ما فیه عن الزوائد اللاّحقة .

وفیه: أنّ للمناقشة فیه مجال واسع؛ لإمکان أن یُقال بعدم لغویّة ذلک، لوضوح أنّ الشارع إذا لاحظ بأنّ کلّ واحد من المسحتین یحصّل غرضاً واحداً، وهو الواجب المسمّی بالمسح فی الوضوء، ولکن لا ینافی ذلک أن یکون فرداً لآخر لأجل أحمزیّته وأسبغیّته وکثرة أفراده موجباً لمزیّة زائدة من الثواب، مضافاً إلی أصل الغرض الحاصل به کما یحصل ذلک بالأقلّ أیضاً، بل ربما یکون وجوب الأکثر موجباً لمعرفة مقدار محبّة العبد لمولاه، حیث یأتی بما هو الأصعب والأشقّ فی سبیله وحبّاً منه لمولاه، مع کون الغرض حاصلاً بالأقلّ، وهو أمر محبوب عند العقلاء. والأقلّ لا یتحقّق بحسب الوجود قبل الأکثر، حتّی یقال بسقوط الواجب به، فیرد ما فیه ما ورد فی التدریجیّات، فإجراء التخییر فی مثل ذلک یکون مثل التخییر الوارد فی المتباینین إذا کان الآخر منهما أحمز وأصعب


1- تهذیب الاُصول: 1 / 289 .

ص:410

من عِدله، مع فرض کون العِدل أهون وأیسر منه فی الامتثال، فکما أنّه حسن من حیث وجوب التخییر ولا ینافیه، هکذا یکون فی المقام أیضاً کذلک.

نعم، قد یشکل تصویر هذه الصورة بکون کلّ واحد منهما محصّلاً لغرض واحد کما سیأتی.

وأمّا الصورة الثانیة والثالثة: وهما ما إذا کان کلّ واحد محصّلاً لغرضٍ غیر ما للآخر من الغرض، وکان بین الغرضین تدافع، أو کان اجتماعهما مبغوضاً، فهما خارجان عن موضوع فرض الواجب التخییری من أصله، لوضوح أنّ الواجب حینئذٍ لیس إلاّ تعییناً لخصوص الأقلّ، بل التعبیر بالأقلّ بالنسبة إلی الواجب غیر صحیح، لعدم إمکان أن یکون الأکثر حینئذٍ متعلّقاً للوجوب أصلاً لا تعییناً ولا تخییراً، لأنّ الأقلّ قد فرض أنّه محصّل لغرضٍ مضادّ بصورة الماهیّة اللاّ بشرطیّة، فیدافع الواجب الأکثر، فاتّصاف الأقلّ بالأقلّیة کان بالنظر إلی حال الخارج لولا تعلّق الأمر به، لا بالنظر إلی حال الأمر وکونه واجباً.

أمّا الصورة الثالثة: فالحال فیها أیضاً کذلک، لأنّه إذا کان اجتماع الغرضین مبغوضاً له وفرض کون الأقلّ بصورة اللاّ بشرطیّة محصّلاً له، فلا محیص عن أن یکون هو بنفسه واجباً تعیینیّاً کسابقه، وذکر مثل هذه الصور لا یضرّ، لکونها خارجة عن موضوع البحث، وإلاّ لنا کان بیان صورة اُخری مثلهما أیضاً، وهی ما لو فرض کون کلّ واحد من الأقلّ والأکثر محصّلاً لغرض مستقلّ، إلاّ أنّ الغرض الحاصل من الأقلّ کان مطلوباً، بخلاف الغرض الحاصل من الأکثر، فإنّه مبغوض للمولی، حیث إنّه لا إشکال أیضاً فی عدم إمکان جریان التخییر فیهما، لکنّه لا یضرّ بما هو المقصود فی الواجب التخییری کما لا یخفی، لأنّ مسیر بحث الواجب

ص:411

التخییری فیما لا یکون فیه محذوراً آخر غیر ما یقتضیه نفس التخییر لذلک .

وأمّا الصورة الرابعة: وهی فیما إذا کان کلاهما محصّلاً لغرض مستقلّ، وکان اجتماعهما غیر مبغوض، ولکنّه غیر مرادٍ، حیث حُکم فیها بجواز إجراء حکم التخییر فیها.

وفیه: یمکن أن یرد علیها أیضاً بما قد أورده المحقّق الخمینی علی الصورة الاُولی، من أنّه إلزام بما لا یلزم، لأنّه إذا فرض کون الأقلّ محصّلاً للغرض، وکان مطلوب المولی غرضاً واحداً، فإیجاب الأکثر الذی کان محصّلاً للأقلّ فی ضمنه الذی اُخذ بنحو ماهیّة اللاّ بشرط فی الأکثر، یکون من قبیل إلزام ما لا یلزم. فربّما کان إیجاب إیجاد الأقلّ فقط حینئذٍ أولی من الحکم بالتخییر بینه وبین الأکثر الذی یوجد فیه غرضین وکان أحدهما زائداً، فکما أنّه لا یکون عند العقلاء قبیحاً لأنّه یختار المولی ما یشاء من أحد الغرضین، بل قد یثیب عبده بالنسبة إلی الغرض الحاصل من الأکثر. هکذا فیما إذا کان کلّ واحد منهما محصّلاً لغرض واحد.

أقول: لکن العمدة فی الإشکال ما یرد علی الصورة الاُولی، ولعلّها کان مقصود المحقّق المذکور، وإن کان کلامه وعبارته لا یخلو عن مسامحة، کما سنشیر إلیه إن شاء اللّه، وهو أنّه کیف یمکن تصویر کون کلّ واحد من الأقلّ والأکثر محصّلاً لغرض واحد، مع کون الأقلّ مفروضاً بصورة الماهیّة اللاّ بشرطیّة، إذ لا یصل الدور فی تحصیل الغرض إلی الأکثر أبداً، بل یکون الأقلّ فقط محصّلاً للغرض دائماً، وعلیه فدعواه: (إن کان هنا غرضٌ واحد یحصل بکلّ واحد) لایخلو عن مسامحة، کما هو أوضح من أن یخفی.

ص:412

اللَّهُمَّ إلاّ أن یُراد بالاستناد فی الغرض إلی الأکثر، استناداً عرفیّاً مسامحیّاً لا عقلیّاً.

أقول: بل قد یجری هذا الإشکال فی الصورة الرابعة مع الدقّة والتأمّل أیضاً، لوضوح أنّ الأقلّ إذا فرض وجوده بذاته وبماهیّته اللاّ بشرطیّة محصّلاً للغرض، فهذا الوجود کلّما وجد - سواءً کان منفرداً بحدّه أو فی ضمن الأکثر - وکان الغرض مستنداً إلیه ومسقطاً للواجب، فلا یمکن أن یکون الطرف الآخر مصداقاً للواجب، ومتعلّقاً للغرض الحاصل من الأکثر، لعدم بقاء وجوبٍ فی هذه الرتبة حتّی یستند الوجوب إلی هذا فی الفرض ولو تخییراً، حتّی یقال بأنّ المولی یختار ما یشاء.

والنتیجة: ثبت ممّا ذکرنا بأنّ الحقّ عدم إمکان إجراء التخییر فی الأقلّ والأکثر مطلقاً، سواءً کان فی التدریجیّات أو فی الدفعیّات، وسواءً کانت التدریجیّات أو الدفعیّات من العناوین القصدیّة، أو کانت من غیرها. وظهر أنّ الحقّ مع المحقّق النائینی وبعض آخر من تلامذته اللّذین حکموا بعدم إمکان جریان التخییر فیه، فلابدّ أن یکون للمقدار الزائد له مزیّة خاصّة استحبابیّة من دون تعلّق وجوب به، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

***

ص:413

فی الواجب العینی والکفائی

فصل

فی الواجب العینی والکفائی

اعلم أنّ الأمر کما یحتاج فی تحقّقه بأیّ معنی کان - سواءً الإرادة التشریعیّة، أو بمعنی الطلب الإنشائی کما هو المشهور، أو اعتبرناه من أفراد الأمر الاعتباری النفسانی المبرز فی الخارج بالصیغة أو غیرها (کما علیه المحقّق الخوئی)، أو کانت عبارة عن نفس البعث والتحریک کما عن جماعة، وهو الحقّ عندنا - فإنّ مثل هذا الأمر کما أنّه بحاجة إلی وجود متعلّق، کذلک یحتاج فی تحقّقه إلی الموضوع والمکلّف، بلا فرق فی هذه الجهة بین الواجبات العینیّة والکفائیّة.

نعم، یفرّق بینهما ویمتاز عنهما من جهة أنّ المطلوب فی الواجبات العینیّة توجّه الطلب إلی کلّ فرد فرد من المکلّفین بالمباشرة، بحیث لا یسقط التکلیف عن المکلّف بإتیان مکلّف آخر، بل لکلّ مکلّف تکلیف مستقلّ وامتثال مخصوص له.

بلا فرق فیه بین أن یکون الفعل فی الواقع ملحوظاً بنحو الإطلاق والسریان، أو بنحو الإطلاق البدلی الذی یعبّر عنه بصرف الوجود، أو ملحوظاً بنحو الإطلاق والعموم المجموعی، لوضوح أنّ التکلیف فی العینی ینحلّ بانحلال أفراد المکلّف ویتعدّد بتعدّدها.

هذا بخلاف الواجبات الکفائیّة، حیث أنّ المطلوب فیها شیء واحد، ولا یتعدّد بتعدّد أفراد المکلّف فی الخارج، ولأجل ذلک وقع الکلام فی أنّه کیف یمکن

ص:414

ویعقل أن یطلب المولی ویأمر بمطلوب واحد من عدّة أفراد بنحو الجمیع، بحیث یصحّ کلّ واحد منهم مورداً للتکلیف فی الامتثال والعصیان فی صورتی الفعل والترک.

أقول: وما قیل فی تصویره، أو یمکن أن یُقال یکون بوجوه:

الوجه الأوّل: إنّ التکلیف متوجّه إلی واحد معیّن عند اللّه، ولکنّه یسقط عنه بفعل غیره، لأنّ المفروض أنّ الغرض واحد، فإذا حصل فی الخارج سقط الأمر لا محالة، هذا.

وفیه أوّلاً: لا یخلو التعیّن عند اللّه إمّا أن یکون مع التعیّن عند المکلّفین أو لا:

فإن کان الأوّل مراداً، فلابدّ أن یکون المتعیّن له واجباً دون غیره.

وإن کان الثانی مراداً، فلیس أحد منهم یعلم التکلیف لنفسه بل یحتمل، والاحتمال فیه مساوٍ للشکّ فیه، فیوجب جریان البراءة شرعاً وعقلاً فی حقّه، فإذا جری هذا الأصل لکلّ أحد مستقلاًّ، استلزم ترک الواجب برأسه، مع أنّ المتّفق علیه عند الکلّ أنّ ترک الجمیع مستلزم لصحّة عقوبتهم جمیعاً، کما أنّ امتثال الجمیع لا یستلزم استحقاق المثوبة لکلّ أحد، مع أنّه مسلّم بینهم، لوضوح أنّ الامتثال لا یتحقّق إلاّ فیما إذا کان الوجوب والحکم فیه موجوداً، فإذا فرض أنّ الواجب علیه شخصٌ معیّن عند اللّه لا جمیعهم، فلا وجه لإعطاء الثواب لغیر ما هو المعیّن عند اللّه، کما لا یخفی.

وثانیاً: لو سلّمنا أنّ الواجب علیه إنّما هو المعیّن عند اللّه، فلِمَ کان الآخر مسقطاً للواجب عنه، ودعوی أنّ الغرض قد حصل بفعل الغیر، فمع حصول الغرض یسقط الواجب، مدفوعة، فیفهم منه أنّ الواجب لم یکن لخصوص شخص معیّن،

ص:415

بل الواجب هو أصل حصول الغرض من أیّ مکلّف کان، فهذا بنفسه دلیل علی بطلان المدّعی وهو المطلوب. مضافاً إلی أنّ ظاهر الأدلّة لا یساعده.

الوجه الثانی: أن یکون معنی الواجب الکفائی هو توجّه التکلیف إلی المکلّفین جیمعاً بصورة مجموع المکلّفین، بدعوی أنّ التکلیف کما یمکن تعلّقه بالمرکّب من الاُمور الوجودیّة والعدمیّة علی نحو العموم المجموعی، إذا کان الغرض المترتّب علیه واحداً شخصیّاً، کذلک یمکن تعلّقه بمجموع الأشخاص علی نحو العموم المجموعی.

وفیه أوّلاً: لو کان الأمر کما قاله، فلابدّ أن یکون الامتثال والعصیان دائراً مدار مجموع المکلّفین، بحیث لو أحضروا الفعل لأثابوا کما أنّهم یعاقبون علی الترک دون ما لو کان قد امتثل بعضهم، مع أنّ الأمر لیس کذلک، لوضوح سقوط الواجب عن الجمیع بإتیان بعضهم کما فی عملیّة تکفین المیّت ودفنه.

وثانیاً: أنّ التکلیف کذلک لغو لعدم إمکان الحکم بوجوب الإتیان بالامتثال بعمل واحد من مجموع المکلّفین، لأنّه إن اُرید من المجموع مجموع المکلّفین الموجودین، فغیر ممکن الحصول قطعاً فی محلّ تحقّق ذلک، وإن اُرید لمن یتمکّن منهم فی ذلک العمل، فهو غیر معلوم أیضاً، لأنّ ما یصدق علیه المجموع مع التمکّن یختلف فی حقّ الأفراد. فربما یلزم أن یکون فرداً واحداً تارةً داخلاً تحت حکم الوجوب لکونه من المجموع المتمکّن، واُخری خارجاً عنه لعدم انطباقه علیه، والالتزام بمثل هذه القیود لابدّ من دلیل إثباتی یدلّ علی ذلک، وأنّی لهم بإثبات ذلک، کما لا یخفی .

وثالثاً: قد یأتی البحث عن الداعی لإثبات ذلک؛ والذی یظهر من کلامه کون

ص:416

الغرض المترتّب علیه واحداً شخصیّاً، مع أنّ وحدة الغرض لا یقتضی ذلک التصویر فی الواجب الکفائی، لإمکان حصوله بتصویر آخر، بأن یجعل التکلیف علی نحوٍ لو أتی به فرداً واحداً منهم لحصل الغرض وسقط الواجب، کما سنقرّره إن شاء اللّه، فهذا التصویر فاسد جدّاً .

الوجه الثالث: أن یُقال بأنّ التکلیف متوجّه إلی عموم المکلّفین علی نحو العموم الاستغراقی، بأن یکون التکلیف ثابتاً لکلّ فرد من أفراد المکلّفین وواجباً علیه، إلاّ أنّ وجوبه مشروط بعدم إتیان فرد آخر له، وإلاّ لا یکون واجباً علیه.

فیرد علیه أوّلاً: بأنّ مقتضی ذلک عدم صدق الواجب فیما لو شارک جماعة علی إتیان الواجب، لأنّ شرط الوجوب ترک الآخر وهو غیر حاصل، فعند عدم تحقّق الشرط فلیس الواجب حینئذٍ واجباً، فلا یتحقّق الامتثال لجمیعهم، لأنّ الامتثال متفرّع علی الوجوب، مع اتّفاق الکل علی صدق الامتثال للجمیع حینئذٍ.

وثانیاً: لو کان هذا هو المقصود من الجعل کذلک عدّ الوصول إلی الغرض المطلوب واجداً، فلا یلزم أن یکون التکلیف بنحو العموم الاستغراقی لجمیع المکلّفین، لإمکان حصول الغرض بجعل الواجب علی نحو العموم البدلی للمکلّفین مشروطاً بترک الآخر، فأیّ داع اقتضی جعله بصورة العموم الاستغراقی دون البدلی؟!

لا یقال: لعلّه کان من جهة إمکان الإتیان للجمیع، حیث یصحّ مع کون کلّ واحد منهم مکلّفاً دون البدلیّة.

لأنّا نقول: هذا متین لو لم یشترط وجوبه بترک الآخرین، وإلاّ لما أمکن شمول التکلیف لهم، لما قد عرفت من عدم حصول شرط الوجوب حینئذٍ.

ص:417

وثالثاً: أنّ الغرض الحاصل من ذلک الواجب :

إن کان یحصل بالوحدة، فلا وجه حینئذٍ لتقییده بتوجّه التکلیف والخطاب إلی جمیع المکلّفین، بل لابدّ أن یجعل الملاک فی الوجوب حصول الغرض الواحد بأیّ طریقٍ ممکن، سواء کان تحقّقه من فرد واحد أو من أفراد متعدّد معاً، فتقیید الواجب بترک الآخر ممّا لا وجه له.

وإن قیل بأنّ الغرض الحاصل یحصل متعدّداً بتعدّد المکلّفین، فهو فاسدٌ قطعاً، لأنّ مقتضاه حینئذٍ عدم سقوط غرض آخر لمکلّف آخر بحصول غرضٍ لمکلّفٍ غیره، لأنّ کلّ واحد منهم مأمور بتحصیل غرض المرتبط بتکلیف نفسه، وفساده أوضح من أن یخفی.

الرابع: أن یُقال بأنّ الواجب الکفائی یکون کالواجب التخییری من حیث التردید وتعلّق الوجوب بأفراده، فکما أنّ الواجب التخییری یقتضی الإتیان بواحد من الفردین أو من الأفراد، بحیث یصحّ انطباق الوجوب علی کلّ واحد من الأفراد من جهة انطباق العنوان علی المعنون بتمام أفراده، کذلک یکون فی الواجب الکفائی. غایة الأمر فی الفرق بینهما إنّما یکون من حیث ما تعلّق به التخییر، فإنّ فی الواجب التخییری یکون التخییر فی متعلّق الحکم، بخلاف الواجب الکفائی حیث یکون التخییر فیه فی موضوع التکلیف، أی أفراد المکلّفین، بحیث یکون التکلیف متوجّهاً إلی عنوان (أحدهم)، فینطبق علی کلّ واحد منهم، لأنّ المقصود فی الواجب الکفائی لیس إلاّ حصول الغرض المطلوب للمولی، المفروض أنّه یتحقّق بفرد واحد منهم وبالجمیع، فبأیّ صورة تحقّق کان مصداقاً للوجوب، وامتثالاً للواجب.

ص:418

ولذلک لو أحضره جمیعهم کان الامتثال صادقاً علی الامتثالات الصادرة من جمیعهم فیستحقّون الثواب، کما أنّهم لو ترکوا وفات بذلک غرض المولی استحقّ الجمیع العقاب لمسؤولیّتهم الجماعیّة فی ترکه، لأنّهم کانوا قادرین علیه وتخلّفوا فیثبت استحقاق العقاب فی حقّهم، فهذا المعنی أمرٌ صحیح عرفی ویقع کثیراً فی العرف والشرع، نظیر وجوب دفن المیّت وتکفینه والصلاة علیه.

هذا کلّه بالنظر إلی حصول غرض واحد مطلوب، الذی یمکن تحصیله بطریقین، بما یصدر من فرد واحد أو أکثر من فرد واحد من المکلّفین أو أزید مع کونه هو المقصود فی الواجب الکفائی.

وأمّا بالنظر إلی صورة تعدّد حصول الغرض بفرد واحد سواء کان فی عرض هذا الغرض الواحد، أو کان فی طوله، فهو غیر مرتبط بمسألة الواجب الکفائی، لوضوح أنّ الغرض لو تعدّد بتعدّد المکلّفین أصبح الوجوب المتعلّق لکلّ أحد حینئذٍ واجباً عینیّاً لا کفائیّاً، لأنّ کلّ غرض بنفسه یدعو صاحبه إلی تحصیله، سواء أتی الآخر بوظیفته أم لا، ولا یخفی أنّه خارج عن محطّ البحث.

کما أنّ البحث عن أنّ الغرض الآخر الصادر من فرد آخر هل یکون مطلوباً أو مبغوضاً أو لا مطلوباً ولا مبغوضاً، أو لا یمکن أن یوجد إلاّ مرّةً واحدة، خارج عمّا نبحث عنه من الواجب الکفائی.

قال المحقّق الخمینی: (والتحقیق أنّ الواجب الکفائی یتصوّر علی وجوه، لأنّه:

إمّا لا یمکن أن یوجد إلاّ مرّة واحدة کقتل سابّ النبیّ صلی الله علیه و آله ، أو یمکن. وعلی الثانی: فإمّا أن یکون المطلوب فرداً من الطبیعة، بحیث یکون الفرد الآخر مبغوضاً

ص:419

أو لا مبغوضاً ولا مطلوباً، وإمّا أن یکون المطلوب صرف وجودٍ مّا.

فنقول: إنّه لا یمکن أن یکون لمکلّفٍ کلّ الإحالة فی جمیع الصور، أمّا الاُولی فظاهر لعدم إمکان بعثهم عرفاً إلی ما یتکرّر، وأمّا الثانیة والثالثة فهما وإن أمکن انبعاث الجمیع، إلاّ أنّه مع مبغوضیّة ما عدا الفرد الواحد أو عدم مطلوبیّته، لایمکن تشریعاً بعث الجمیع، لأدائه إلی نقض الغرض، أو البعث إلی ما لیس مطلوباً.

وأمّا الصورة الرابعة فإمکانه وإن کان لا ینکر، إلاّ أنّ لازم بعث الجمیع بنحو الإطلاق، هو اجتماعهم فی إیجاد صرف الوجود، ومع عدم اجتماعهم یکون المتخلّف عاصیاً لترک الأمر المطلق بلا عذر.

وممّا ذکرنا یظهر عدم صحّة التکلیف بصرف وجود المکلّف فی بعض الصور، کما إذا کان الزائد من الفرد الواحد مبغوضاً، بل لا یبعد عدم الصحّة فی بعض صور اُخری أیضاً، فلابدّ من القول بأنّ المکلّف فی الکفائی فردٌ من المکلّفین بشرط لا فی بعض الصور، ولا بشرط فی الاُخری)(1).

أقول: وللمناقشة فی کلامه مجالٌ واسع .

أمّا أوّلاً: فعن کلامه فی الصورة الاُولی من ما لا یمکن أن یوجد إلاّ مرّة واحدة کسابّ النبیّ صلی الله علیه و آله ، حیث قال بعدم إمکان تعلّق التکلیف بکلّ الآحاد لعدم إمکان بعثهم عَرَضاً إلی ما یتکرّر.

فنقول: بأنّ قتل سابّ النبیّ الذی یعدّ واجباً کفائیّاً، یکون مثل وجوب دفن


1- تهذیب الاُصول: 1 / 290 .

ص:420

المیّت أو کفنه، وأیّ فرق بینهما من جهة تحقّق وجوب الکفائی خارجاً بوجود واحد غیر قابل للتکرار، إلاّ بوجود آخر غیر مرتبط بالواجب الأوّل، إذ من المعلوم أنّ دفن المیّت واجب بوجوب کفائی لا یتحقّق إلاّ مرّةً واحدة. فإذا دفن المیّت سقط الوجوب، فلا یبقی للواجب بعده مصداقاً ومتعلّقاً حتّی یتعلّق به الوجوب مرّةً اُخری، إلاّ أن یقوم أحد بنبش قبره فیخرجه من الأرض، فإنّ وجوب دفنه یعدّ حینئذٍ مرّةً اُخری، واجباً آخراً غیر الأوّل، وإلاّ فإنّ أصل الدفن أو الکفن لیس إلاّ واجباً بوجوده الواحد فی الأوّل، کما هو الحال فی القتل الواجب أیضاً حیث إنّه یحصل لمرّة واحدة، بحیث لو فرض وجود مثل عیسی النبیّ علیه السلام وأحیا مقتولاً المقتول فلابدّ من وجوب قتله ثانیاً من إثبات وجوب آخر لسابّ النبیّ غیره، نظیر وجوب آخر لدفن المیّت إذا اُخرج من الأرض.

ثمّ إنّ الدفن کما یمکن تحقّقه من فرد واحد بما أنّه مکلّف بهذا التکلیف، کذلک یمکن تحقّقه من جماعة معاً ومشترکاً، وکلاهما یکون مصداقاً للواجب الکفائی ویکون ممتثلاً للأمر، هکذا یکون الأمر فی قتل سابّ النبیّ صلی الله علیه و آله ، حیث یمکن أن یقتله فرد واحد امتثالاً للواجب الکفائی، أو یقتله جماعة شراکةً امتثالاً للأمر الواجب الکفائی، فکیف تفوّه المحقّق بأنّه لا یمکن بعث الجمیع عَرَضاً إلی ما یتکرّر، لوضوح أنّ البعث لا یحتاج إلی تکرّر القتل، بل یبعثهم جمیعاً لإیجاد القتل أفرداً أو إجماعاً، وهما ممکنان بلا إشکال .

وثانیاً: عن کلامه فی الصورة الثانیة والثالثة، بأن یکون الفرد من الطبیعة مبغوضاً أو لا مبغوضاً ولا مطلوباً، حیث قال: (لا یمکن البعث إلی الجمیع لأدائه إلی نقض غرضه) فی الثانیة، أو (إلی ما لیس بمطلوب) فی الثالثة.

ص:421

فنقول: إنّ مصداق الواجب الکفائی فی جمیع الموارد لیس إلاّ ما هو الموجود أوّلاً، سواء کان وجوده بواسطة فرد واحد، أو بعدّة أفراد، وما یوجد بعده من فرد الطبیعة لا یمکن عدّه مصداقاً للواجب الکفائی قطعاً فی تمام الموارد، سواء کان الفرد الآخر بنفسه مطلوباً مستحبّاً - کالصلاة علی جنازة الرسول صلی الله علیه و آله ، حیث کان المسلمون یدخلون ویصلّون علیه واحداً بعد واحد، إن قلنا باستحبابه کذلک ولو کانت الصلاة تتمّ بتلاوة قوله تعالی: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَیْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِیما» کما ورد فی الحدیث - أو کان مبغوضاً أو لا مبغوضاً ولا مطلوباً لعدم ارتباط ذلک الفرد بالواجب الکفائی حتّی نجعله ملاکاً لعدم إمکان البعث للجمیع، کما لا یخفی.

وثالثاً: کما لا یخلو کلامه فی الصورة الرابعة عن المناقشة أیضاً، لوضوح أنّ جعل صرف وجود المکلّف متعلّقاً للواجب یوجب إمکان تعلّق التکلیف بمکلّف واحد وبجمیع المکلّفین، لصحّة انطباق هذا العنوان علیهما معاً، ولیس لازمه صدق التخلّف والعصیان لمن لا یطیع مع وجود من یکفی الواجب فی الخارج، لعدم صدق ترک أمر المطلق، لأنّ الأمر لا یکون منوطاً بحال الجمیع حتّی یصدق التخلّف والعصیان، بل متعلّق بصرف الوجود، فهو صادق لمن یمتثله ولو فرداً واحداً أو بغیره من الأفراد الذی یقومون بإتیانه فی عرض ما یأتی به الآخرون، فیکون المجموع المرکّب من عمل الجمیع هو الواجب، لأنّه محصّلٌ للغرض الواحد، وإن کان إتیانه فی طول الفرد الأوّل لما عدّ ذلک مصداقاً للواجب، بل یکون تابعاً لدلالة دلیله من کونه مبغوضاً أو محبوباً أو لیس بشیء منهما.

وبعبارة اُخری: أخذ موضوع التکلیف (صرف وجود المکلّفین لتحصیل

ص:422

الغرض الواحد) لیس حاله إلاّ کحال أخذ عنوان أحد المکلّفین، فکما ینطبق هذا الفرد علی واحد منهم وعلی الجمیع، کذلک یکون فی مثل صرف الوجود، وإن کان الأولی التعبیر بأحدهم بدلاً من التعبیر بصرف الوجود، لأنّه تعبیر عقلائی ولیس بعرفی، بخلاف التعبیر بأحدهم حیث أنّه عامّی عرفی، بل قد یستعمله العرف فی أوامرهم المتعارفة کما لا یخفی علی من راجع العرف والوجدان.

وبالجملة: فظهر حینئذٍ أنّ الامتثال والعصیان یدوران مدار تحقّق الواجب وترکه، فإن أتی بالواجب سواء کان بمکلّف واحد أو بالجمیع یصیر الامتثال والثواب لمن تلبّس به، وسقط التکلیف عن الآخرین، وإن تُرک الواجب بترک جمیعهم کانوا یستحقّون العذاب والعقوبة لقدرتهم علی الإتیان والامتثال وترکهم عن اختیار فیعاقبون به، وهو المطلوب.

ولعلّه لما ذکرنا - من عدم إمکان فرض وجود الواجب الکفائی، إلاّ مع فرض وجود غرض واحد مترتّب علی الجمیع، أو علی الفرد الصادر منه بالتکلیف، لا أن یکون الغرض متعدّداً بتعدّد المکلّفین، بحیث کان ترتّب الغرض فی کلّ واحد علی فعله متوقّفاً علی عدم وجود غرض آخر مترتّب علیه، لأجل وجود المضارّة بین الأغراض، إمّا فی مرحلة الوجود والتحققّق، وإمّا فی مرحلة أصل الاتّصاف بالغرض والمصلحة - نصّ المحقّق العراقی فی تقریراته بأنّ تلک الفروض لیس إلاّ مجرّد فرض لا تحقّق له فی الواجب الکفائی، واعترف بذلک بالصراحة بقوله: (ولکن الذی یسهّل الخطب هو أنّ ما ذکرناه من الفروض الاُخر فی الواجب الکفائی، مجرّد فرض وبیان إمکان جریان فروض الواجب التخییری فی الکفائی أیضاً، وإلاّ فما هو الواقع فی الواجبات الکفائیّة طُرّاً إنّما هو خصوص

ص:423

الفرض الأوّل)(1) حیث یقصد بذلک کون الغرض وحدانیّاً مترتّباً علی الفرد أو الجمیع کما قلناه، بل الأولی أن یُقال بعدم إمکان تصویر الواجب الکفائی إلاّ بما ذکرنا فی مرحلة الأغراض، لأنّ الأغراض عبارة عن المصالح الواقعیّة الخارجیّة، فلا معنی لجعلها حین خروجه عن الغرضیّة بتحقّق آخر بعدما کان غرضاً وملاکاً، فالأحری ترک البحث عنه.

وبالجملة: فلا فرق فیما ذکرنا فی الواجب الکفائی من کون أحد المکلّفین موضوعاً للتکلیف فی الواقع، بین أن یکون لسان الدلیل فی مقام الإثبات موجّهاً إلی جمیع المکلّفین - کما فی مثل أمر المولی بوجوب الصلاة علی المیّت ودفنه - أو کان لسان الدلیل متوجّهاً إلی أحدهم من غیر تعیین - کما إذا قال: (فلیفعل هذا أحدکم) - أو کان لسان الدلیل مردّداً فی الإیجاب مع توجّه الخطاب إلی الأفراد بالخصوص، کما إذا قال: (افعل أنت یا زید أو أنت یا عمرو أو أنت یا خالد) ونظائرها، ففی جمیع ذلک یکون فی الواجب الکفائی هو الذی ذکرنا فی الواقع، وإن کان علی لسان الدلیل متفاوتاً.

تتمیمٌ: إذا عرفت الفرق بین الواجب العینی والکفائی، وکان التکلیف فی الأوّل متوجّهاً لکلّ أحد مستقلاًّ بامتثال علی حدة وعصیان مستقلّ له، بخلاف التکلیف فی الثانی حیث یکون التکلیف متوجّهاً إلی واحد من المکلّفین القابل للانطباق علی الفرد أو الأفراد، ففی کثیر من الموارد یکون الحکم فیها معلوماً بأنّه من أیّ قسم منهما کان .


1- نهایة الأفکار: 1 / 395 .

ص:424

ولکن یمکن أن یشتبه الأمر فی بعض الموارد وذلک فیما لو جهل أنّ الوجوب فیه عینی أو کفائی، فلا بأس بذکره وبیان ما قیل فیه، أو یمکن أن نقول نحن فیه، وهو مثل ما لو أمر المولی لجماعة برفع حجر ثقیل مشترکاً، بحیث لا یمکن رفعه إلاّ بتعاونهم جمیعاً، فیأتی البحث عن أنّه هل الوجوب لکلّ واحد منهم متّصف بوصف العینی أو الکفائی من الإطلاق أو التقیید.

أقول: والذی یظهر من بعضٍ کصاحب «عنایة الاُصول» ما لا یمکن المساعدة علیه، حیث قال : (وأمّا إذا أمر الجمیع بفعل واحد بنحو الشرکة فیه، بحیث لا یتمکّن منه بعضهم دون بعض إلاّ المجموع من حیث المجموع، کما إذا أمرهم برفع حجر ثقیل لا یتمکّن من رفعه إلاّ الکلّ إذا اجتمعوا، فهل هو واجب کفائی أو واجب عینی مشروط بمساعدة البقیّة، أو واجب عینی مطلق غیر مشروط بمساعدة البقیّة.

ربما یشکل الأمر علی جمیع التقادیر، فإنّه إن کان واجباً کفائیّاً بحیث یسقط التکلیف بفعل البعض، فالبعض لا یکاد یتمکّن من امتثاله وحده کی یسقط التکلیف بفعله، وإن کان عینیّاً مشروطاً بمساعدة البقیّة، فیلزمه أن لا یعاقبوا أصلاً فیما إذا لم یأتوا به جمیعاً، لعدم فعلیّة شرط التکلیف فی حقّ واحد منهم، مع أنّهم یستحقّون العقاب جمیعاً، وإن کان عینیّاً مطلقاً فیلزمه وجوب الامتثال لکلّ واحد منهم وإن لم یساعده الباقون، ولو بإعمال قوّته مهما أمکن، مع أنّ ذلک لغوٌ جدّاً بعد فرض عدم تمکّنه وحده من رفع الحجر الثقیل إلاّ باجتماع الکلّ.

والحقّ فی دفع الإشکال أن یُقال: إنّه واجب عینی مطلق فی لسان الدلیل مشروط عقلاً بمساعدة البقیّة، نظراً إلی عدم حصول الامتثال بفعل أحدهم إن لم

ص:425

یساعده الباقون، فإن أتوا به جمیعاً یستحقّون الثواب جمیعاً، وإن لم یأت به أحدٌ منهم، فالتکلیف وإن کان ساقطاً عن الجمیع، لعدم فعلیّة الشرط العقلی فی حقّ أحد منهم، ولکنّهم یستحقّون العقاب جمیعاً لتفویتهم الملاک بسوء الاختیار، إذ المفروض أنّ التکلیف لم یکن مشروطاً شرعاً کی إذا انتفی الشرط الشرعی بما ینتفی الملاک قطعاً، بل کان مشروطاً عقلاً، فإذا انتفی الشرط العقلی لم ینتف الملاک قطعاً)، انتهی کلامه(1).

وجه عدم المساعدة، أوّلاً : أنّه یرد علیه بما ذکره فی وجه عدم کونه واجباً کفائیّاً، بأنّ البعض وحده لا یکاد یتمکّن من امتثاله وحده کی یسقط التکلیف بفعله، بأنّه لیس ذلک شرطاً فی الواجب الکفائی، لوضوح أنّ دفن المیّت وتجهیزه، أو بعض الصنایع والحِرف الذی کان واجباً کفائیّاً، ربما لا یمکن تحقّقه بدون مشارکة آخرین ومساعدتهم فی إیجاده، ممّا یقتضی أن لا یکون واجباً کفائیّاً، مع أنّ الأمر لیس کذلک، وهکذا مثل تعلّم الفقه والفقاهة، حیث لا یمکن إلاّ بمساعدة الاُستاذ والمعلّم، فمع ذلک یکون کلاًّ من التعلیم والتعلّم واجباً کفائیّاً، فلو قلنا بأنّ الوجوب هنا کان کفائیّاً، فإنّه لا یکون مثل ذلک مانعاً عنه کما لا یخفی.

وثانیاً: حتّی لو سلّمنا ذلک، قلنا بجریان مثل هذا الإشکال فیما اختاره من الواجب العینی المطلق لکلّ أحد، مشروطاً مستقلاًّ بمساعدة الباقین أیضاً، لأنّه کیف یمکن إیجابه علیه مع عدم قدرة شخص واحد علی امتثاله، مع أنّ الوجوب المتعلّق بالمکلّف لابدّ أن یکون متعلّقاً بشیء مقدوراً له وتحت اختیاره، ومعلوم


1- عنایة الاُصول: 1 / 471 .

ص:426

أنّ عمل الغیر لا یکون بیده، فلا معنی لتکلیفه بما لا یکون فی قدرته وتحت یده.

وأخیراً: ثمّ علی مختاره قدس سره قد بیّن صورتین من المسألة، وهما: صورة توافق الجمیع بالإتیان فیثیبون علیه، وصورة ترکهم جمیعاً فیعاقبون، حیث تصحّ هذا التقریب أیضاً لفرض کونه واجباً کفائیّاً علیهم کما عرفت، لکنّه لم یتعرّض لذکر صورة ثالثة فیها، وهو ما لو لم یأت بواحد منهم أو الاثنین، بخلاف الآخرین، فحینئذٍ بمن یتعلّق الثواب والعقاب ؟ أو لا یکون بشیء منهما مترتّباً لعدم وجود التکلیف حینئذٍ، لعدم تحقّق القدرة لواحد منهم علیه، مع عدم مساعدتهم جمیعاً معاً، فلا وجه لبقاء الوجوب حینئذٍ حتّی لمن کان حاضراً للامتثال لعدم تحقّق شرطه وهو القدرة، فلا عقاب فی ترکه بعدم وجوبه، کما لا ثواب لهم لعدم تحقّق الامتثال لهم حینئذٍ. فکیف یکون حال مثل هذا الواجب ؟ ولا یخفی أنّ الالتزام بانتفاء کلّ من العقاب والثواب ممّا لا یقبله العقل السلیم، فکیف التوفیق فی الاستخلاص عن هذا الإشکال ؟

والتحقیق أن یقال: بأنّ المثال المذکور - وهو الأمر بالجماعة برفع الحجر الثقیل بالمشارکة - یمکن تصویره علی ضربین :

تارةً: یکون الخطاب إلی کلّ المکلّفین، أو الجماعة القادرة علی دفعه.

واُخری: یکون الخطاب متوجّهاً إلی جماعة محدودة کعشرة، بحیث أنّ مقصود المولی من توجیه التکلیف إلیهم، لأجل حصول رفع الحجر بتلک العشرة بالخصوص لا مطلق الحجر ولو بمشارکة جماعة اُخری کما کان المفروض فی الأوّل کذلک .

فإن کان القسم الأوّل مراداً، فلا إشکال فی کون الوجوب فی مثل هذه

ص:427

الاُمور کفائیّاً، لوضوح أنّ أکثر الواجبات الکفائیّة تکون هکذا، أی لا تتحقّق بفرد واحد من المکلّفین، بل لابدّ من مساعدة جماعة فی امتثاله کما فی أغلب الصنائع والحرف بل فی تجهیز الجنائز وأمثال ذلک .

ومن الواضح أنّ جمیع هذه الاُمور لو لم تقع المساعدة من بعض لبعض لما أمکن الامتثال فیها، ولکن ذلک لا یضرّ بالمقصود، لوضوح أنّ الملاک فی تحقّق الامتثال والعصیان هو حصول الغرض وعدمه، فلو حصل الغرض فقد امتثل من یکفله ویساعده ویستحقّ علیه الثواب، ولو ترک الواجب استحقّ العقوبة کلّ من استند الترک إلیه من المکلّفین، سواء کان المستند إلیه فرداً واحداً أو أفراداً عدیدة، نظیر الواجب الکفائی الذی یمکن إتیانه منفرداً من دون مساعدة آخرین، فهذه الصورة واضحة ولا تکون داخلة تحت ما قاله الخصم، کما لا یخفی.

وأمّا إن کان القسم الثانی مراداً، فهو الذی ینبغی أن یبحث فیه، والظاهر أنّه لا یکون داخلاً فی الواجب الکفائی، لا لما ذکره المحقّق المزبور من عدم إمکان الامتثال من دون مساعدة، بل من جهة أنّ التکلیف علی الفرض شخصی متوجّه إلی جماعة معیّنة بأشخاصها، بحیث لو قام به غیرهم لما سقط الواجب عن ذمّتهم، لعدم حصول ما هو غرضه، لأنّ المفروض کون الغرض هو رفع الحجر المتحقّق عن تلک الجماعة لا مطلقاً.

فحینئذٍ یمکن أن یُقال: بأنّ الواجب حینئذٍ عینی مطلق، غایة الأمر یکون الواجب لکلّ أحد هو إعداد نفسه لذلک، وإعمال ما هو وظیفته فی تحقّق الغرض. وهذا المتعلّق یکون تحت اختیاره من حیث الفعل والترک، بمعنی قدرته وتمکّنه علی الرفع، فیکون حینئذٍ ممتثلاً ومستحقّاً للثواب لو أصاب الواقع من جهة

ص:428

اجتماع سائر القوی، وحصول رفع الحجر بهم، فیکون علی هذا جمیعهم ممتثلین ومستحقّین للثواب.

کما أنّه لو ترک هذا الإعداد من نفسه وتبعه الآخرون علی ذلک، کان الترک مستنداً إلیهم جمیعاً فیستحقّون العقوبة لکونهم قادرین علی الإعداد إلاّ أنّهم ترکوا ذلک.

وأمّا لو کان بعضهم قد أعدّ نفسه للرفع دون الآخرین، فحینئذٍ وإن لم یحصل الغرض بمجرّد استعداده وهو الرفع المطلوب، لکنّه لا یستحقّ إلاّ ثواب الانقیاد لا ثواب الإصابة لو قلنا بالثواب فی الانقیاد، لأنّ تهیّؤ لوحده علی الفرض لم ینتهی إلی حصول الغرض، لوجود مانع فی البین وهو استنکاف الآخرین.

وأمّا المتخلّفون والمستنکفون فیستحقّون العذاب، لصحّة استناد ترک الرفع إلی امتناعهم، وهو کافٍ فی صحّة العقوبة، بلا فرق بین کون المتخلّف واحداً أو متعدّداً، مع أنّک قد عرفت أنّ نفس ترک التهیّؤ الذی کان واجباً یوجب العقوبة، إن قلنا کونه بنفسه واجباً، ولو لم یترتّب علیه رفع الحجر الواجب لوجود المانع عنه، فعلی ما ذکرنا لا یحتاج وجوب التهیّؤ لکلّ واحد إلی جعل مساعدة الآخرین شرطاً عقلیّاً فی وجوبه، لأنّ هذا شرط لو قلنا بوجوبه من جهة حصول الرفع خارجاً، وهکذا تصبح المسألة مثمرة ثمرة مفیدة وهی أنّ الواجب حینئذٍ یعدّ واجباً عینیّاً مطلقاً من دون اشتراط عقلی ولا شرعی، مع ما عرفت من إمکان صدق الواجب الکفائی علی بعض صورها، کما هو الغالب، من جهة کون المطلوب الرفع مطلقاً لا من جماعة خاصّة کما فرضناه ثانیاً، واللّه العالم بحقائق الاُمور .

تکملة مفیدة

إذا عرفت حال تعریف الواجب العینی، وأنّه تکلیف لکلّ واحد من

ص:429

المکلّفین من دون أن یکون فعل الغیر دخیلاً فی حقّه، بخلاف الکفائی حیث یکون واجباً علی صرف الوجود من المکلّفین، بحیث لو أتی به غیره لسقط عن الجمیع، فحینئذٍ لو عُلم حال واجب بأنّه فی أیّ قسم کان منهما فهو المأخوذ، وإن لم یعلم حال واجب بأنّه عینی أو کفائی، فقد ناقش الأصحاب فی الواجب حینئذٍ ؟

فعن صاحب «الکفایة» فی مباحث الأوامر: أنّ مقتضی الإطلاق هو حمله علی غیر الکفائی، بتقریب أن یقال إنّ کلّ واحد من المکلّفین مکلّفٌ فی العینی سواءً أوجد الطبیعة غیره أم لا، بخلاف الکفائی حیث إنّ کلّ واحد منهم مکلّف بإیجادها إذا لم یوجدها غیره، فهذا قید إضافی، فالأصل عدمه.

لکن العلاّمة البروجردی قدس سره علّق علیه فی «نهایة الاُصول»، بقوله :

(أقول: وقد ظهر ممّا حقّقناه فی الواجب الکفائی أنّ الأمر بالعکس، بمعنی أنّ مقتضی الإطلاق هو الحمل علی الکفائیّة، وذلک لما عرفت من أنّ الفرق بین العینی والکفائی هو أنّ المطلوب والمطلق للتکلیف فی الواجب الکفائی، هو نفس الطبیعة المطلقة الغیر المتقیّدة بصدورها عمّن کلّف بها، بخلاف الواجب العینی، فإنّ المکلّف به فیه عبارة عن الطبیعة المقیّدة بصدورها عن خصوص من کُلّف بها، وحینئذٍ فمقتضی إطلاق المتعلّق حمل الوجوب علی الکفایة لاحتیاج العینیّة إلی قید زائد.

نعم، لا ننکر أنّ ظهور الأمر المتوجّه إلی المکلّف یقتضی مطلوبیّة صدور الفعل عن نفسه.

وبعبارة اُخری: نحن نُسلّم ظهور الأمر فی العینیّة، ولکن لا من جهة الإطلاق، فإنّ مقتضی الإطلاق الحمل علی الکفائیّة، بل من جهة أنّ المتبادر من

ص:430

الأمر المتوجّه إلی المکلّف أنّ المطلوب هو صدور الفعل عن نفسه)، انتهی کلامه(1).

وفیه أوّلاً: سبق وأن تحدّثنا عن هذا الأمر بالتفصیل، وقلنا هناک بأنّ المراد من الإطلاق هل الإطلاق المربوط بالصیغة من الهیئة أو المادّة أو الإطلاق المقامی المستفاد من مقدّمات الحکمة، أو أنّ المقصود هو الإطلاق من جهة أصل البعث والإغراء بأیّ وسیلةٍ کانت، سواء بالصیغة واللّفظ أو الإشارة والکتابة ونظائرها، وقلنا إنّ نفس البعث عند العقلاء یقتضی کون الأمر عینیّاً لا کفائیّاً، لا أن یکون إطلاق المادّة مقتضیة لذلک، حتّی یقال فی قبال صاحب «الکفایة» بکون الإطلاق یقتضی الکفائیّة لا العینیّة. فإذا فرض کون الأمر بنفسه یقتضی العینیّة، فلا أثر حینئذٍ لإطلاق المتعلّق من جعل الوجوب کفائیّاً، لوضوح أنّ مقتضی الأمر والبعث کان مقدّماً علی مقتضی المتعلّق لو سلّمنا إطلاقه.

وثانیاً: لنا أن ننکر أصل التقیید فی الواجب الکفائی، بأن نلتزم بعدم کون وجوب الواجب الکفائی لکلّ أحد مشروطاً بعدم إتیان الآخرین، بل نعتبر الواجب من حیث طبعه مطلقاً، أی کان واجباً علی صرف الوجوب، غایة الأمر کان إتیان فردٍ موجباً لسقوط الغرض، فیسقط الواجب حینئذٍ، وهذا أمرٌ طبیعی لا أن یکون عدم إتیان الآخر اُخذ شرطاً فیه.

فعلی هذا، إذا کان الواجب الکفائی مطلقاً من حیث الوجوب، والواجب العینی واجباً مطلقاً علی ما فرضه صاحب «الکفایة» - لا بحسب دعوی المحقّق


1- نهایة الاُصول: 212 .

ص:431

البروجردی - فیلزم أن لا یکون حال وجود الشکّ بینهما لنا قیدٌ فی أحدهما حتّی یحمل الآخر المطلق علیه، فیلزم حینئذٍ الرجوع إلی الاُصول العملیّة، وهی قاعدة الاشتغال لا أصالة عدم التکلیف، لأنّ تعلّق الوجوب عینیّاً أو کفائیّاً به ثابت، فبعد إتیان الآخر یشکّ فی سقوط الواجب عنه، فالشغل التعیّنی یقتضی الفراغ الیقینی، فیجب علیه عیناً، لولا وجود الظهور العقلائی والإطلاق المقامی فی الأمر المتوجّه إلی الشخص فی کون البعث متوجّهاً إلیه عیناً، فبذلک یصحّ الاحتجاج علیه کما عرفت حجّیته کما بالنسبة إلی قبول العلاّمة البروجردی أیضاً .

وبالجملة: ثبت ممّا ذکرنا أنّ الحقّ مع صاحب الکفایة، لا من الدلیل الذی ذکره، بل لما ذکرناه من أنّ مقتضی الأمر والبعث عند العقلاء هی العینیّة، فلیتأمّل.

ص:432

***

فی الواجب الموقّت وغیر الموقّت

فصل

فی الواجب الموقّت وغیر الموقّت

اعلم أنّ الإنسان حیث کان زمانیّاً - أی یعیش خلال الزمان - فلابدّ من أن یکون أفعاله أیضاً زمانیّاً، ومن جملة أفعاله أوامره ونواهیه، فکما أنّ نفس الأمر زمانی یحتاج إلی زمان، هکذا ما یتعلّق به الأمر لابدّ من أن یکون واقعاً فی الزمان عقلاً، وهذا الوقوع تکوینی وطبیعی ولا تناله ید الجعل والتشریع. غایة الأمر حیث أنّ الأمر والنهی تابعان للغرض، وهو ینقسم:

تارةً: ما یکون عبارة عن وجود المصلحة الملزمة أو غیر الملزمة فی مقام الحصول.

واُخری: ما یکون عبارة عن ترک هذه المصلحة الملزمة وغیر الملزمة الذی قصد ترکها ویسمّی هذا الترک بالغرض لا نفس وجود المفسدة.

فعلی هذا، قد لا یکون الغرض حاصلاً ومحصّلاً لنفس الطبیعة المطلقة المتعلّقة من دون مدخلیّة الزمان فیها أصلاً، بحیث لو أمکن جدلاً تفکیکه عن الزمان لکان المطلوب نفس الطبیعة، نظیر ما لو قال الأب لولده: (ادفع للفقیر درهماً) فإنّ المطلوب فیه لیس إلاّ نفس الإعطاء، لا إعطائه فی زمان کذا دون کذا، فیسمّی هذا بواجب مطلق أو غیر موقّت، فإنّ الإطلاق هنا کان بالنسبة إلی الزمان لا بالنسبة إلی خصوصیّة اُخری غیره کما لا یخفی.

وآخر ما لا یکون کذلک، أی کانت الطبیعة مطلوبة بوقوعها فی زمان خاصّ

ص:433

بحیث لولا ذلک لما کانت مطلوبة، ولما حصل الغرض المطلوب، فیسمّی هذا الواجب بالموقّت.

ثمّ الموقّت ینقسم إلی قسمین؛ لأنّه :

تارةً: یکون الزمان المحدّد له مقداره هو مقدار نفس الواجب والفعل، بحیث کان أوّل الفعل مقروناً بأوّل الوقت وآخره بآخره. فیسمّی هذا الواجب بالمضیّق، نظیر الصوم فإن أمر المولی عباده بوجوب الصوم من الفجر إلی المغرب یعنی وجوبه فی هذه الفترة، بحیث لو مضی جزء من الوقت ولم ینو الصوم متعمّداً لبطل. وهذا القسم من الواجب موجود بلا إشکال، وأحسن دلیل لإمکانه وقوعه خارجاً من الشرع والعرف.

نعم، قد أورد علیه کما عن بعض قدماء الاُصولیّین دون المتأخّرین منهم بما لا یخلو عن وهن، وهو أنّه کیف یمکن تصویره بما لا یلزم أن یکون زمان الوجوب أوسع من زمان الواجب، لأنّه من الواضح أنّ الانبعاث لا یمکن تحقّقه إلاّ بعد تحقّق البعث، فإن کان زمان البعث واقعاً فی أوّل زمان الفجر، لزم أن یکون الانبعاث إلی الصوم بعد مضیّ مقدار من الزمان الذی وقع فیه البعث، فیلزم أن یکون الصوم أقلّ من الفجر إلی المغرب بجزء من الزمان، وهو باطل.

وإن کان زمان البعث واقعاً فیما قبل الفجر، لزم أن یکون زمان الوجوب أوسع من زمان الواجب، لأنّ زمان الواجب لا یحصل إلاّ بعد الفجر من أوّله، مع أنّ زمان الوجوب کان قبله.

وفیه أوّلاً: إن وصف الواجب من حیث اتّصاف الزمان والوجود مأخوذ عن وجود الوجوب وزمانه سعةً وضیقاً، فلابدّ أن یکونا متساویین من دون تفاوت

ص:434

بینهما کما لا یخفی.

وثانیاً: یلزم تقدّم المشروط علی الشرط، لأنّ الصوم لا یجب قبل الفجر، مع أنّه قد وجب قبله، وهو محال.

وقد اُجیب عنه أوّلاً: بأنّ هذا الإشکال یلزم علی القول باستحالة الواجب المعلّق. وأمّا إن قلنا بإمکانه کما هو المختار، فلا بأس أن یکون الوجوب قبل زمان الواجب، وإن لزم منه وسعة زمانه علی زمان الواجب، ولذلک لم یتوهّم أحد من عدم إمکان تصوّر الواجب المضیّق علی القول بتحقّق الواجب المعلّق .

وثانیاً: إنّ تقدّم البعث علی الانبعاث لا یکون بالزمان، بل یکون بالرتبة. فلو التزمنا بأنّ زمان البعث عبارة عن نفس زمان الانبعاث من أوّل الفجر إلی المغرب کان صحیحاً، أمّا لو قلنا باستحالة الواجب المعلّق فهو ممنوع، إذ لیس بمحال لعدم احتیاجهما لتعدّد الزمان أصلاً کما لا یخفی، مع أنّ التعبیر بکون زمان البعث مقدّماً أو رتبته متقدّمة علی الانبعاث وزمانه - کما وقع فی کلام بعضٍ مثل صاحب «المحاضرات»(1) وصاحب «تهذیب الاُصول»(2) - لا یخلو عن مسامحة، لوضوح أنّ البعث یعدّ من أفعال الموالی والانبعاث للعبد، فلا إشکال فی تقدّمه علیه زماناً لا رتبةً.

فلابدّ أن یکون المراد منه هو الوجوب بالنسبة إلی الواجب، فیصحّ أن یُقال: بأنّ الوجوب متقدّم رتبةً علی الواجب، مع أنّک قد عرفت إمکان تقدّمه الزمانی علیه بلا لزوم محذورٍ.


1- المحاضرات: 4 / 62 .
2- تهذیب الاُصول: 1 / 292 .

ص:435

وثالثاً: إنّ مرکز الوجوب فی الأوامر الکلّیة والقانونیّة لیس هو الشیء الخارجی الواجب، حتّی یقال بلزوم تقدّم الوجوب زماناً علی الواجب فی الواجب المشروط، بل یکون مرکزه الطبیعة الکلّیة للصوم الذی یکون واجباً مقیّداً بخصوص الوقت، فحینئذٍ إذا دخل الوقت أصبحت الطبیعة الکلّیة منطبقة علی الواجب الذی هو فردها، والانطباق لا یحتاج إلی تقدّم زمانی أصلاً، وهو واضح لما قد عرفت فی محلّه بأنّ صدق الکلّی مع أفراده یکون بالعینیّة، سواءً کان طبیعیّاً أو غیر طبیعی، ولا ینفکّ عن أفراده فی زمان أصلاً، بل یکون محالاً، فإشکال التقدّم غیر وارد جدّاً .

واُخری: ما کان الزمان المحدّد له أوسع من الواجب والفعل، بحیث لا یمکن جعل أوّله فی أوّله وآخره فی آخره، أو لا یلزم وإن فرض إمکانه کذلک خارجاً، کما فی الصلاة الیومیّة وصلاتی الکسوف والخسوف وغیرهما، ووقوعه دلیل علی إمکانه.

ولا یصغی إلی ما اعترض علیه من المتقدّمین، بأنّ تصویر الواجب الموسّع یستلزم القول بجواز ترک الواجب، لأنّ فی کلّ جزء من الوقت إذا فرض أنّه یجوز ترکه، فهکذا یکون إلی آخر الوقت، فیستلزم جواز ترکه، وهو فاسد قطعاً لأنّه لا یناسب مع کونه واجباً.

وفیه: ما لا یخفی، بأنّ الواجب لیس عبارة عمّا هو یقع فی کلّ جزء جزء من الوقت، حتّی یقال بلزوم جواز ترک الواجب لو لم یکن واجباً فیه، بل الواجب عبارة عن الطبیعة الواقعة بین الحدّین من المبدأ والمنتهی، أی الصلاة الکلّیة هی الواجبة ومنطبقة علی أفرادها العرضیّة، من إمکان إیقاعها فی زمان واحد فی

ص:436

أمکنة متعدّدة علی سبیل البدلیّة، وعلی أفرادها الطولیّة وهی الواقعة فی طول الزمان من المبدء إلی المنتهی، فکأنّه یصحّ إتیانها فی کلّ وقت من الأوقات علی سبیل البدلیّة بین الحدّین، وکان اختیار کلّ فرد من العرض والطول بید المکلّف ولا تعیّن له من الشارع، فجواز ترکه فی کلّ جزء من الوقت لیس مطلقاً حتّی یستلزم ترک الواجب، بل جواز ترکه یکون إلی بدلٍ، نظیر ترک کلّ واحد من الواجب التخییری بخصوصه إلی بدل لا مطلقاً، فکما أنّ التخییر فی الواجب التخییری لا ینافی الوجوب مع جواز ترک کلّ فرد بخصوصه بإتیان الآخر، فهکذا یکون التخییر هنا بین الأفراد العرضیّة والطولیّة کما لا یخفی .

وعلی ما ذکرنا یتفرّع أمران:

أحدهما: أنّ الواجب الموسّع حیث کان الواجب عبارة عن الجامع بین الحدّین لا کلّ واحد واحد من قِطع الزمان، فالواجب الموسّع لا یتبدّل عن هذا الوصف بصیرورة الوقت مضیّقاً لعدم إمکان انقلاب الشیء علی ما هو علیه.

فکما أنّ امتثاله فی أوّل الوقت یکون امتثالاً لذلک الواجب الجامع بین الحدّین، هکذا یکون الامتثال فی آخر الوقت أیضاً، حیث یعدّ امتثالاً لذلک الواجب الموسّع، لا أن یصبح الموسّع مضیّقاً.

نعم، عدم جواز ترکه فی آخر الوقت لیس من جهة تبدّل عنوانه، بل کان من جهة أنّ ترکه فی ذلک الوقت مستلزم لترک أصل الواجب، وهو غیر جائز، لعدم وجود بدل له حینذٍ، فذلک لا یدلّ علی تحقّق التبدّل کما زعمه کثیر من الأعلام بحسب ما یترائی من کلماتهم فی کتبهم.

ثانیهما: بأنّ الواجب الموسّع الذی کان هو الجامع، فهل یکون تخییره بین

ص:437

أفراده - سواءً کان عرضیّاً أو طولیّاً - تخییراً شرعیّاً أو عقلیّاً ؟

فذهب إلی الأوّل المحقّق العراقی صاحب «نهایة الأفکار»، وصاحب «عنایة الاُصول» تبعاً للعلاّمة. وقد فصّل الحکیم قدس سره فی حقائقه(1) بین ما لو کان ملاک الامتیاز بین التخییرین هو تعدّد الغرض ووحدته، حیث یکون التعدّد دلیلاً علی کونه عقلیّاً، ووحدته دلیلاً علی کونه شرعیّاً، فحینئذٍ یکون تعیّن کلّ واحد من الشرعی والعقلی تابعاً لوحدة الغرض وتعدّده. وبین أن یکون المایز هو کون التخییر الشرعی ما وقع فی لسان الشرع بیان الوجوب لکلّ فرد، والعقلی ما لا یکون کذلک، فیکون المقام من الثانی، لأنّ الشارع لم یبیّن لخصوص قطع الزمان، بل ذکره علی النحو الکلّی بین الحدّین ولذلک لا یعدّ کونه تخییراً شرعیّاً.

خلافاً لجماعة اُخری کالمحقّق النائینی والمحقّق الإصفهانی فی «نهایة الدرایة»، والبجنوردی فی «منتهی الاُصول»، وصاحب «الکفایة» والبروجردی والخوئی والخمینی بکونه عقلیّاً، وهو الأقوی عندنا، لما قد عرفت من أنّ متعلّق الأمر لیس إلاّ الطبیعة الواقعة بین الحدّین، وانطباق الکلّی علی أفراده - سواءً کان عمومه شمولیّاً أو بدلیّاً - یکون عقلیّاً لا شرعیّاً، وصیرورته شرعیّاً منوطة بتصریح الشارع فی بیان کلّ واحد من الأفراد بلسان الوجوب، نظیر الواجب التخییری فی خصال الکفّارات، حیث یجعل وجوبه علی سبیل التردید علی کلّ واحد من الطعام والصیام والعتق، لأنّها إذا جعل وجوبه علی الکلّی القابل للانطباق علی کلّ فرد، ولو اُطلق علیه شرعیّاً أحیاناً یکون مسامحیّاً کما لا یخفی.


1- حقائق الاُصول: 1 / 339 .

ص:438

وأمّا مسألة تعدّد الغرض ووحدته فهی غیر مرتبطة بذلک، لإمکان أن یکون الغرض واحداً مع کون التخییر عقلیّاً، کما هو المفروض فی المقام، کما یمکن تصویر التخییر شرعیّاً مع کون الغرض لکلّ واحد من أفراده متعدّداً لا أن یکون بغرضٍ واحد.

وکیف کان، لا یکون الملاک فی صدق أحد العنوانین منوطاً بالغرض أصلاً، بل الملاک لیس إلاّ ما عرفت من أنّ علی الشارع بیانه وعدمه.

أقول: وأمّا تصویر کون الزمان أضیق من الفعل الواجب، فغیر ممکن، لأنّه یستلزم التکلیف بالمحال، لعدم إمکان الامتثال للفعل فی ذلک الوقت المضیّق منه.

نعم، قد یکون الزمان وقفاً لبعضه واعتبره الشارع بمنزلة درک جمیعه فی الوقت، وهو مثل ما ورد فی الشرع من أنّ مَنْ أدرک رکعة من الوقت فی الفریضة کمَن أدرک تمامها وجمیعها، بناءاً علی عدم کون الخارج وقتاً لباقی الأجزاء، کما هو الظاهر، فإنّ التنزیل وقع بالنسبة إلی بقیّة الأجزاء والرکعات، فیکون هذا إلحاقاً بالموقّت المضیّق، وهو أمرٌ ممکن ولا کلام فیه.

وبالجملة: ثبت ممّا ذکرنا انقسام الواجب إلی ثلاثة تقسیمات:

إمّا مطلق أو موقّت، والموقّت إمّا مضیّق أو موسّع.

وتوهّم کون الموقّت قسماً واحداً، والمطلق قسمین کما توهّمه بعض.

لیس علی ما ینبغی، لأنّ ما یقع فی زمان معیّن أیضاً ینقسم بقسمین من کونه معیّناً بما کان مبدأ الواجب بمبدئه ومنتهاه بمنتهاه، أو ما لا یکون کذلک، بل یکون معیّناً بالحدّین.

وأمّا فرض کون مطلق الزمان دخیلاً فیه، فإنّه لا معنی له إلاّ کونه واقعاً فی

ص:439

الزمان، وإلاّ لو کان غیر ذلک فلابدّ فی التقیید بالزمان بتصوّر أحدٍ من الوجهین، لعدم إمکان تصوّر ثالث غیرهما، لأنّ خروج العمل عن الزمان فی الزمانیّات غیر معقول، فلا معنی للإطلاق إلاّ کون الزمان ظرفاً له لا دخیلاً، نظیر ما مثّلناه من أمر الوالد ولده بإعطاء المال للفقیر.

وعلیه فما وقع فی «تهذیب الاُصول»(1) من جعل الموقّت قسماً واحداً لا یخلو عن تأمّل.

تنبیهٌ :

لا یذهب علیک أنّه وقع الخلاف بین الأعلام فی أنّ القضاء هل هو تابع للأداء، أم أنّ وجوبه بفرض جدید ؟

ومنشأ الاختلاف من ناحیة أنّ الدلیل الذی یدلّ علی وجوب الموقّت، هل یدلّ علی وجوبه بعد الوقت أم لا؟ وهذا أمرٌ یقتضی البحث عنه فی المقام، واستعراض الأدلّة الدالّة علی أحدهما.

فنقول ومن اللّه الاستعانة: إنّ الکلام فی ذلک یقع فی مقامین:

تارةً: فی مقام الثبوت والواقع.

واُخری: فی مقام الإثبات والدلالة.

فأمّا الأوّل: فإنّ الزمان المعیّن :

تارةً: یکون دخیلاً فی أصل المطلوب، بحیث لولا الزمان لما کان الشیء مطلوباً أصلاً، بل وتفوت المصلحة بفوت الوقت، ویعبّر عن هذا القسم بوحدة المطلوب.


1- تهذیب الاُصول: 1 / 291 .

ص:440

واُخری: ما لا یکون الزمان دخیلاً إلاّ فی تمامیّة مراتب المصلحة وکمالها الملتزمة، بحیث لولا ذلک الزمان لما کانت المصلحة منتفیة، بل أصل المطلوب باقٍ، بل وتمام کمال مراتبها قد انتفیت بفوت الوقت.

فعلی الفرض الأوّل لا وجه للقول بوجوب الفعل فی خارج الوقت، لعدم وجود مصلحة حینئذٍ، ولو فرض وجود دلیل یدلّ علی وجوبه لابدّ وأن یکون کاشفاً عن أن یکون هو القسم الثانی، أو إن علم کونه علی النحو الأوّل، فلا محیص إلاّ أن یجعله من باب الجبران والتدارک، نظیر وجوب بعض الکفّارات المترتّبة علی ترک بعض الواجبات خطأً، بلا فرق بین أن أوجب مثل ما کان واجباً فی الوقت، وبین أن یکون من غیره.

وأمّا علی الفرض الثانی فالمصلحة الباقیة عن فوت الواجب فی الوقت تکون علی ضربین:

تارةً: تکون المصلحة الباقیة بمقدار ما یوجب العمل فی خارج الوقت فیجب.

واُخری: ما لا یکون بهذا المقدار، بل کانت بما یوجب الاستحباب لا الوجوب، والمقصود هنا هو ما یوجب الإلزام فی خارج الوقت کما لا یخفی. هذا کلّه فی مقام الثبوت والواقع.

وأمّا الکلام فی المقام الثانی: وهو أنّ التوقیت الثابت بواسطة الدلیل:

تارةً: یکون بدلیل متّصل، کقوله: (اغتسل للجمعة).

واُخری: بدلیل منفصل، کقوله: (صلِّ وصلِّ فی الوقت)، و(اغتسل، واغتسل فی الجمعة).

ص:441

ففی القسم الأوّل لا إشکال فی أنّه لا یقتضی الوجوب فی خارج الوقت، بل لا یمکن دعوی لذلک، لوضوح أنّ الأمر بأیّ صورة وقع لا یدعو صاحبه إلاّ إلی ما هو متعلّقه، فإذا کان متعلّقه أمراً موقّتاً ومقیّداً بالوقت، فلا یعقل دعوة صاحبه إلی المطلق العاری عن القید، کما لا یمکن دعوته إلی موضوع آخر، ولا مقیّد آخر واستحالة ذلک واضح لا خفاء فیه، فإذا لم یکن ذلک الدلیل دالاًّ علی إثبات حکم ولا علی نفیه، فلا محیص فی إثبات حکم خارج الوقت إلاّ من ملاحظة وجود دلیل آخر یدلّ علی حکم فیه فیؤخذ ویتبع، وإلاّ یکون المرجع فیه إلی الأصل العملی، وهو هنا لیس إلاّ البراءة عن التکلیف، وهذا ممّا لا بحث فیه ولا کلام.

أمّا القسم الثانی: فهو الذی ینبغی أن یُبحث فیه، أی بأن یکون دلیل التوقیت منفصلاً عن أصل دلیل الوجوب، وهو یتصوّر علی وجوه:

تارةً: لا یکون لدلیل الأوّل إطلاق أصلاً، کما لا یکون فی الدلیل الثانی وهو التوقیت أیضاً إطلاق، بل یدلّ علی کون الوجوب منحصراً بوقت خاصّ، وکون المطلوب أمراً واحداً لا تعدّد فیه نظیر ما قلنا فی المتّصل، فعلی هذا الفرض یکون حکم خارج الوقت کحکم سابقه فی الموقّت المتّصل، أی لا یکون حکمه إلاّ تابعاً لدلیل آخر، أو إلی الأصل العملی عند فقده کما عرفت فلا نعید.

واُخری: ما یکون لأحدهما إطلاق، فقد یکون الإطلاق للدلیل الأوّل الدالّ علی کون المطلوب هو الأعمّ من الوقت وغیره، دون الثانی وهو دلیل التوقیت، حیث یدلّ علی کون المطلوب بصورة الوحدة لخصوص الوقت، فالظاهر تقدّم الثانی علی الأوّل من جهة أظهریّة الأخصّ والمقیّد من العامّ والمطلق.

وقد یکون الأمر عکس ذلک، أی یدلّ الثانی علی الإطلاق لخارج الوقت،

ص:442

ویدلّ علی أنّ ما یدلّ علیه الأوّل کان لأعلی مراتب المصلحة، أی کان بصورة تعدّد المطلوب، فهنا أیضاً مقدّم، وملاک التقدّم هو ما عرفت من الأظهریّة عند العرف، ولو کان مقتضی الدلیل هو الإطلاق والتوسعة.

وثالثة: ما لو کان لکلّ منهما إطلاق یقتضی کون الوقت مقتضیاً لتمام مراتب المصلحة، لا لأصل المصلحة، حتّی یکون بصورة وحدة المطلوب، فحینئذٍ لا تنافی بین الإطلاقین، بل یکونان متوافقین بالنسبة إلی کون الوجوب غیر ساقط فی خارج الوقت، غایة الأمر یکون إطلاق دلیل الأوّل دالاًّ علی أصل المطلوب، وهو نفس الفعل سواء کان فی الوقت أو خارجه، وإطلاق دلیل الثانی یدلّ علی أنّ مراتب کمال المصلحة یکون فی الوقت، أی فی الوقت یکون له مطلوب آخر غیر أصل المطلوبیّة، کما أنّ أصل المطلوبیّة فی خارج الوقت موجودٌ أیضاً بدلالة دلیل التوقیت، ودلالة دلیل إطلاق الأوّل.

هذا ولکن لا یخفی أنّ هذا القسم خارج عن قبیل حمل المطلق علی المقیّد، ولم نعهد من أحد تبیّنه لذلک حتّی یعترض علینا بأنّه یکون خارج عن الفرض المزبور، بل مقصودنا بیان أقسام ما یمکن أن یتصوّر فی الأدلّة من حیث قید الوقت وعدمه، ومن حیث وحدة المطلوب وتعدّده، ومن حیث حمل المطلق علی المقیّد وعدمه.

أقول: وما ذکرناه من التفصیل فی المنفصل، قد لا یمکن تصویره فی المتّصل، لأنّه حیث لا ینعقد له ظهور إلاّ بعد إتمام قیده وخصوصیّته، فلذلک لا ینعقد له إطلاق حتّی یحتسب فیه ذلک، هذا بخلاف المنفصل حیث أنّ ظهور الکلام یتمّ بعد تمامیّة الجملة، فحجّیته موقوفة علی ما یستفاد من القرائن، فهو یقع علی

ص:443

أنحاء قد عرفت أقسامها.

وبالجملة: إذا عرفت منّا صحّة هذه التقسیمات فی بیان ما یمکن أن یقع فی الخارج من ما یقتضی إطلاق کلّ واحد من دلیل وجوب أصل الفعل، حیث یسمّی بالدلیل الأوّل، وإطلاق دلیل المقیّد والتوقیت المسمّی بدلیل الثانی، وکون الثمرة هی وجود الوجوب لأصل الفعل فی خارج الوقت فی بعضها، وعدمه فی آخر. إذا تبیّن لک جمیع ذلک یظهر لک الإشکال الوارد فی کلام صاحب «المحاضرات» تعقیباً منه علی کلام صاحب «الکفایة» حیث جعل متعلّق الإطلاق فی دلیل التوقیت حالتی تمکّن المکلّف من إتیان الواجب فی الوقت وعدم تمکّنه، واستنتج منه ورتّب علیه بأنّه یلزم سقوط الواجب لو لم یقدر علی إتیانه فی الوقت، وإن کان الدلیل الأوّل مطلق بالنسبة إلی وجوبه فی خارج الوقت إذ لا یثبت به ذلک، فضلاً عمّا لا یکون له إطلاق مثل ما لو کان الدلیل لبّیاً من الإجماع ونحوه، أو کان لفظیّاً ولکنّه لا یکون فی مقام البیان من هذه الناحیة.

ثمّ ذکر وجه عدم وجوبه بأنّه إذا لم یکن الدلیل الأوّل مطلقاً فواضح، وإن کان له الإطلاق فیقدّم ظهور القرینة - وهو دلیل التوقیت - علی ظهور ذی القرینة وهو إطلاق دلیل الواجب.

وأمّا لو لم یکن لدلیل المنفصل إطلاق لکلتا الحالتین من التمکّن وعدمه، فما یدلّ علیه دلیل التوقیت، هو خصوص وجوبه فی الوقت، فلا وجوب لما هو خارج عن الوقت إلاّ أن یدلّ علیه إطلاق دلیل الواجب إن کان له إطلاق، وإلاّ فلا.

ثمّ قال: بأنّ هذا المعنی ثابت فی جمیع القیود غیر الزمان ولا اختصاص للزمان حکماً آخراً غیر ما کان لسائر القیود.. إلی آخر کلامه بطوله.

ص:444

توضیح الإشکال علیه أوّلاً: إنّ المراد من الإطلاق فی دلیل المنفصل الموقّت لیس الإطلاق من جهة التمکّن وعدمه کما زعمه؛ لإمکان أن یکون ترکه فی الوقت عن عمد واختیار لا بالجبر والاضطرار، فمع ذلک یصحّ ویمکن البحث فیه، بأنّه هل یجب علیه القضاء بعد خروج الوقت عمّا ترکه فی الوقت بالاختیار أم لا یجب ذلک، بل المراد من الإطلاق هو إطلاقه بالنسبة إلی کون الوجوب والمصلحة لخصوص الوقت أو یشمل حتّی لخارجه؟ کما یؤیّد ذلک ملاحظة کلمات القوم کالعلاّمة البروجردی فی «نهایة الاُصول» والمحقّق الحکیم فی «حقائق الاُصول» وغیرهما من الاُصولیّین. ولازم الإطلاق بهذا المعنی وعدمه، هو ما عرفت من ثبوت کون الواجب فی الوقت علی نحو وحدة المطلوب أو تعدّده، لا سقوط الواجب عن وجوبه، ولو کان لدلیل الأوّل إطلاق کما توهّمه، ویبدو أنّه یعود إلی ما أشکلنا به علی کلام المحقّق الخراسانی صاحب «الکفایة».

وبالجملة: التقیّد بالوقت کما یکون بنحو وحدة المطلوب، کذلک یکون بنحو تعدّد المطلوب.

قال فی ذیله: (وأمّا دلالته علی کمال المطلوب فی الوقت، فهو یحتاج إلی عنایة زائدة، وإلاّ فهو فی نفسه ظاهر فی تقیید أصل المطلوب لا کماله).

وفیه: إنّ اختیارکم لهذا المبنی لا یوجب أن یصرف معنی الإطلاق عن ظاهره إلی معنی آخر غیر مراد هنا.

وأمّا توقّف إثباته علی عنایة زائدة، فیلتزم به من أراد إثبات الإطلاق لدلیل التوقیت، وهو ممّا لا بأس به لو کان الدلیل متضمّناً لما یظهر منه ذلک کما لا یخفی.

وثانیاً: أنّه لو سلّمنا الإطلاق الذی ذکره، لکن لماذا فرّق بین صورة کون

ص:445

الدلیل علی التوقیت له إطلاقاً من جهة جعله قرینة علی التصرّف فی إطلاق دلیل الواجب وجعله مقدّماً علیه، وبین غیرها حیث لم یجعل ظهور دلیل التوقیت فی الاختصاص بالوقت مقدّماً علی إطلاق دلیل الواجب الذی یدلّ علی وجوبه فی خارج الوقت، مع أنّ ظهور المقیّد کان عند العرف أظهر مطلقاً، ویعدّ مقدّماً علی ظهور الإطلاق فی المطلق کما لا یخفی .

وبالجملة: فما تعرّض له رحمه الله خارج عن ما وقع فیه البحث بین الأعلام فی باب وجوب تبعیّة القضاء للأداء وعدمه .

نعم، والذی ینبغی أن ینبّه علیه، هو أنّ مورد النزاع والبحث فی باب التبعیّة إنّما هو فیما إذا لم یکن لدلیل الواجب إطلاق أو عموم یقتضی إیجابه فی خارج الوقت، وإلاّ لکان الدلیل علی إثبات وجوبه نفس ما یدلّ علی وجوب أصل الواجب، لو لم یقتض التقیّد کون المصلحة مختصّة بالوقت، فیکون الواجب حینئذٍ علی نحو تعدّد المطلوب قطعاً، وعلّة عدم إطلاقه :

إمّا لأنّه من أوّل الأمر مقیّد بخصوص الوقت، حیث قد عرفت أنّ الأمر لا یدعو صاحبه إلاّ إلی متعلّقه .

وإمّا من جهة أنّه قد فهم من دلیل خارجی أنّ الوجوب ثابت لخصوص الوقت.

فلابدّ حینئذٍ لو عُرض الشکّ فی ذلک مع هذا الوصف، من الرجوع إلی دلیل آخر، بلا فرق بین کونه أصلاً عملیّاً من الاستصحاب أو البراءة .

الکلام فی مقتضی الاُصول بالنسبة إلی وجوب القضاء

اعلم أنّ الرجوع إلی الاُصول العملیّة إنّما یکون فیما إذا فقدنا الدلیل

ص:446

الاجتهادی من العموم أو الإطلاق، أو دلیل خاصّ علی الوجوب بعد الوقت، وعلی عدمه، لوضوح أنّه مع وجود أحدهما لا یصل الدور إلی الدلیل الفقاهتی من الاُصول العملیّة، فبناءاً علی هذا إذا لم نقل بتبعیّة القضاء للأداء کما فی القسم الأوّل والثانی من الدلیل المنفصل مع القسم الأوّل بالمتّصل، ولم نقل بوجود دلیل یدلّ علی وجوب القضاء، فحینئذٍ هل مقتضی الأصل فی المقام هو الاستصحاب أو البراءة أو الاشتغال ؟

لا إشکال أنّه إذا کان الأصل الجاری هو الاستصحاب قدّم علی أصل البراءة والاشتغال.

ولقائلٍ أن یقول: بجریان الاستصحاب هنا، لأنّ الوجوب قد تعلّق بأمر مرکّب من طبیعة الصلاة ومن القید وهو الوقت، فنیحلّ الوجوب حینئذٍ، فإذا زال وجوب المتعلّق للقید بواسطة زوال قیده، کان وجوب المتعلّق للطبیعة باقیاً بالاستصحاب، لأنّ بزوال وجوب المتعلّق للقید یتحقّق الشکّ فی زوال الوجوب المرتبط للطبیعة، فیستصحب.

ولنا فی ذلک نظیرٌ فی الفقه، وهو ما إذا قیل: (الماء المتغیّر نجس) فإذا زال تغیّره من عند نفسه، یوجب الشکّ فی بقاء النجاسة، لاحتمال أن یکون زوال التغیّر موجباً لزوال النجاسة، لأنّه قد خرج بذلک عن موضوع الدلیل، وهو (الماء المتغیّر نجس) فیستصحب النجاسة. وهکذا الحال فی المقام إذ بخروج الوقت نشکّ فی بقاء الوجوب، فنحکم بواسطة الاستصحاب بالبقاء، وهذا هو المطلوب.

وفیه: هذا القول لا یخلو عن مناقشة واضحة، وهو أنّ الوقت الذی اُخذ فی الواجب علی قسمین:

ص:447

تارةً: یکون علی نحو الظرفیّة للحکم، أی نعلم کونه کذلک، ففی مثل ذلک لا إشکال فی کون الوجوب بالنسبة إلی الصلاة باقیاً بعد خروج الوقت، بل لا یحتاج إلی الاستصحاب، لأنّ مقتضی نفس الدلیل هو الحکم بوجوب القضاء، فضلاً عن وجود الاستصحاب أیضاً لو فرض عروض الشکّ له بسبب من الأسباب، لکن هذا القسم خارج عمّا نحن فیه قطعاً، لأنّ فرض کلامنا فی الموقّتات، أی فی الواجبات المقیّدة بالزمان والوقت لا ما یعدّ الزمان ظرفاً له کما لا یخفی .

واُخری: ما یقابل ذلک وهو ما کان الوقت قیداً للواجب، فهو أیضاً یتصوّر علی أنحاء أربعة:

تارةً: یعلم کون الوقت قیداً للموضوع، کما لو قال: (الصلاة المقیّدة بالزوال مثلاً واجبة).

واُخری: ما یعلم کونه قیداً للحکم والمحمول کما لو قال: (تجب حین الزوال الصلاة).

وثالثة: ما لو یعلم کونه قیداً لکلیهما.

ورابعة: ما لو تردّد بین أحدهما.

وخامسة: تردّد فی کون الوقت ظرفاً للحکم أو قیداً لأحد من الاُمور الثلاثة التی ذکرت.

ففی تمام هذه الأقسام الأربعة لا یجری فیها الاستصحاب.

فأمّا عدم جریانه فی الثلاثة الأخیرة، لما قد قرّر فی محلّه بأنّ فی جریان الاستصحاب لابدّ من اتّحاد القضیّة المتیقّنة والمشکوکة. وبعبارة اُخری من وحدة الموضوع والمحمول، وهی غیر محفوظة هنا.

ص:448

توضیح ذلک: أنّه لا إشکال فی أنّ الأحکام الکلّیة والقانونیّة کما عرفت منّا سابقاً تتعلّق بالعناوین الکلّیة من الصلاة والصوم والحجّ وغیرها، فهذه العناوین المتعلّقة للأحکام قد تکون مطلقة، وقد تکون متقیّدة، فإذا کانت من قبیل القسم الثانی کما فیما نحن فیه لأنّ الوجوب هنا قد تعلّق بالصلاة المقیّدة بکونها فی وقت الزوال مثلاً لا مطلقاً، فعلی هذا إسراء الحکم من عنوان مقیّد إلی عنوان آخر سواءً کان بصورة الإطلاق أو بالتقیید بقید آخر یعدّ عرفاً من إسراء حکم موضوع إلی موضوع آخر وهو قیاس لا استصحاب، فإثبات الوجوب للصلاة المطلقة خارج الوقت عن طریق إسراء حکم الوجوب الموجود للصلاة المقیّدة بالوقت یکون من ذلک القبیل، وعلیه فلا استصحاب فی المقام لعدم وحدة الموضوع أو المحمول کما لا یخفی.

نعم، لو تعلّق الحکم علی عنوان لا بما أنّه عنوان کلّی، بل بما أنّه منطبق علی الخارج، وکان الخارج مصداقاً له، فحینئذٍ یمکن أن یجعل القید فیه من حالات الموضوع لا من مقوّماته کما فی القسم الأوّل، وهو کما فی المثال الذی مثّل به الخصم وهو قوله: (الماء المتغیّر نجس)، حیث لا یکون الموضوع عنوان الماء الکلّی بدون الانطباق علی الخارج، بل قد جعل ذلک عنواناً مشیراً إلی الماء المتّصف بالتغیّر فی الخارج، فحینئذٍ لا زال تغیّره باقیاً فی الخارج الذی کان من حالاته، فیصحّ أن یستصحب ذلک ویُقال إنّ هذا الماء الذی کان متّصفاً بالتغیّر وکان نجساً فالآن کما کان، لأنّ زوال التغیّر عرفاً لا یوجب تغییراً موضوعیّاً، فالاستصحاب هنا جارٍ بلا إشکال .

والفرق بین هذین القسمین یظهر فی باب البیع، حیث إنّه لو کان متعلّق البیع

ص:449

هو (الفرس العربی) بعنوانه الکلّی فلو دفع البایع غیره إلی المشتری لا یوجب التخلّف الخیار للمشتری، بل کان اللاّزم علی البایع إعطاء ما هو المورد للبیع ولو بتحصیله فی الخارج.

هذا بخلاف ما لو کان البیع واقعاً علی الفرس المشار إلیه الخارج بعنوان أنّه عربی فظهر خلافه، فإنّه یوجب للمشتری خیار تخلّف الشرط، لا أن یکون البیع لازماً کما کان فی الأوّل.

وجه الفرق: هو ما عرفت من تفاوتهما عند العرف من جهة تعدّد الموضوع وعدمه، فإجراء الاستصحاب هنا غیر صحیح. ولا فرق فیما ذکرنا بین أن یکون موضوع الاستصحاب متّخذاً عن لسان الدلیل، أو کان متّخذاً عن العرف.

ودعوی: المحقّق الحکیم رحمه الله من الفرق بینهما بقوله: (لکن قد یشکل بأنّه مبنی علی الرجوع فی اتّحاد موضوع الاستصحاب إلی الدلیل. أمّا لو کان المرجع فیه العرف، فالموضوع فی نظره واحد، ویصحّ أن یُقال کانت الصلاة واجبة فهی علی ما کانت)(1)، انتهی کلامه.

ممنوعة: ولیس علی ما ینبغی، لأنّ موضوع الاستصحاب ولو اُخذ من لسان الدلیل کان المشخّص لذلک هو العرف أیضاً.

فإذا تبیّن التفاوت بینهما، أی بین ما لو کانت العناوین الکلّیة موضوعاً، وبین ما لو کانت منطبقة علی الخارج موضوعاً بحسب فهم العرف، فلا یبقی لما ذکره من الفرق وجهٌ وجیه.


1- حقایق الاُصول: 1 / 341 .

ص:450

أقول: وممّا ذکرنا ظهر وجه عدم جریانه فی الأخیرة أیضاً، لأنّ الشکّ فی کون الزمان قیداً له أو ظرفاً، مساوقٌ للشکّ فی أنّ إسراء الحکم إلی آخر هل هو کان من وحدة الموضوع فیکون استصحاباً کما فی صورة الظرفیّة، أو یکون من تعدّده حتّی یکون قیاساً، من جهة احتمال کونه قیداً، فکأنّه شکّ فی أنّه هل هو مورد للاستصحاب أم لا، ومعه لا مجال لجریانه، فإذا لم یجر الاستصحاب فی تمام أقسام الأربعة، فلیس لنا حینئذٍ أصل إلاّ البراءة إن لم نقل بتبعیّة القضاء للأداء، کما هو المفروض فی المقام.

نعم، من قال بوجود التبعیّة، فإذا عرض له الشکّ، فیجری فیه قاعدة الاشتغال لا البراءة، لأنّ أصل التکلیف یقینی فلابدّ من الفراغ الیقینی أیضاً کما لایخفی.

أقول: هاهنا مسألتان متفرّعتان علی السابق:

المسألة الاُولی: فی أنّ المکلّف إذا شکّ فی الواجبات الموقّتة - سواءً کانت موسّعة کالصلاة الیومیّة، أو مضیّقة کالصوم، وسواءً کان توقیتها بالذات کالأمثلة المذکورة، أو کان بالعرض بواسطة النذر والیمین - بعد خروج الوقت بأنّه هل أتی بالواجب فی وقته، أو ترکه بسهو ونسیان أو بعهدٍ واختیار أو بعنف واضطرار، فهل یجب علیه القضاء حینئذٍ أم لا ؟ وما هو مقتضی الاُصول هنا وأیّ أصل یمکن إجرائه فی المقام ؟

فلابدّ من تقریر فروض المسألة أوّلاً، فنقول :

تارةً: یفرض عدم اقتضاء دلیل الأوّلی والتوقیت بنفسهما للوجوب فی خارج الوقت ولا دلیل آخر، ومع ذلک یحتمل بقاء علم الموضوع للموقّت إلی

ص:451

خارج الوقت، فقد عرفت فی هذا الفرض عدم إمکان إجراء الاستصحاب، لاستلزامه إسراء الحکم من موضوع إلی موضوع آخر، فیکون مجری الأصل هنا هو البراءة فقط.

واُخری: یکون فیما إذا کان الواجب دالاًّ علی أنّه إذا ترک فی الوقت وجب علیه الإتیان بقضائه إمّا بمقتضی نفس دلیل الواجب، أو بمفاد دلیل التوقیت، أو بدلیل مستقلّ آخر دالّ، علی أنّ هذا الواجب لو ترک فی الوقت وجب إتیانه فی خارجه، فإن کان وجوبه ثبت بدلیل مستقلّ بالخصوص - کما لا یبعد أن یکون الصوم والصلاة کذلک - فلا یمکن الحکم بوجوب القضاء إلاّ بإحراز وجود أمر جدید علی الوجوب، وإثبات هذا منوط علی إحراز الفوت فی الوقت، سواءً کان ذلک الإحراز وجدانیّاً أو تعبّدیّاً. فیدور الأمر حینئذٍ علی أنّه یمکن إحراز ذلک بالأصل بعد عدم تحقّقه بالوجدان علی الفرض، وذلک الأصل لیس إلاّ الاستصحاب، لأنّه شاکّ فی أنّ ترکه کان فی الوقت أم لا، أی أتی بالواجب فیه أم لا، وحینئذٍ فاستصحاب عدم الإتیان یوجب صدق عنوان الفوت، حیث لا یکون معناه عرفاً إلاّ ترک شیء فی وقته، إذ الفوت عنوان اعتباری ینتزعه العرف من الترک، بل هو فی نظر العرف لیس إلاّ نفس الترک، لا أن یکون شیئاً وجودیّاً مستقلاًّ ملازماً لعدم الإتیان، لأنّه إن کان أمراً وجودیّاً لابدّ من أن یکون قائماً علی شیء موجود، لأنّه بنفسه یعدّ من الاُمور المضافة إلی شیء آخر، لأنّ الفوت لا یقوم بنفسه، بل ینتسب إلی مثل الصلاة والصوم وهما غیر موجودین فی الخارج حتّی یقال بأنّ فوتهما وجودی، لأنّ المفروض عدم تحقّقهما، هذا بخلاف ما لو أسندت الفوت إلی درهم فی کیسه عند فقده، حیث أنّه قد فاته شیئاً کان موجوداً وأصبح

ص:452

خارجاً من کیسه، ولکنّه قلیل الاستعمال فی هذه الموارد عرفاً، بل کثیراً ما یستعان من سایر الألفاظ مثل (زال) و (بقی) و (ذهب) وغیرهما.

وکیف کان، فدعوی کون الفوت أمراً وجودیّاً ملازماً لعدم الإتیان، کما توهّمه صاحب «المحاضرات» غیر مسموعة، فمقتضی جریان الاستصحاب عند عدم الإتیان هو إحراز موضوع دلیل وجوب القضاء بأمرٍ جدید.

لا یُقال: إنّه یکون من مورد أصل البراءة من الأمر الجدید، لأنّه شکّ فی أصل حدوث التکلیف به، بل قد یمکن التمسّک باستصحاب عدم حدوث الأمر الجدید عند الشکّ فی تحقّقه، فلازمه عدم وجوب القضاء فی فرض المسألة.

لأنّا نقول: إنّ الأصل والاستصحاب الجاری فی الفوت یعدّ أصلاً موضوعیّاً سببیّاً بالنسبة إلی أصالة عدم حدوث الأمر الجدید الذی هو أصلٌ حکمی مسبّبی؛ لأنّ الشکّ فی تحقّق الأمر الجدید وعدمه یزول باستصحاب عدم الإتیان، المحقّق بعنوان فوت الواجب الذی کان موضوعاً للأمر الجدید، لوضوح أنّ منشأ الشکّ فی وجوب الأمر لیس إلاّ الشکّ فی تحقّق الفوت وعدمه، فالأصل الجاری فی السبب یرفع الشکّ عن المسبّب، فیثبت حینئذٍ وجود أمر جدید فیجب علیه القضاء.

هذا کلّه إذا کان دلیل وجوب القضاء هو الأمر الجدید، کما هو الغالب فی الواجبات بالنظر إلی الاستصحاب.

وهمٌ ودفعٌ:

أمّا الوهم: فقد یُقال بأنّ مقتضی قاعدة الاشتغال لولا الاستصحاب، هو وجوب القضاء بتقریب أنّه قد علم فی الوقت بتنجّز التکلیف علیه، فحصل له الشغل الیقینی بالواجب، ففی خارج الوقت یشکّ فی فراغ ذمّته عنه، فلا یخلص

ص:453

عن اشتغال الذمّة إلاّ بالفراغ الیقینی، وهو لیس إلاّ بإتیان القضاء، وهو المطلوب.

وأمّا الدفع: إنّ الشغل الیقینی یقتضیی ذلک إذا عرض له الشکّ فی الوقت وأراد إتیانه فیه فیصحّ ذلک، وأمّا إثبات کون ذمّته مشغولة حتّی فی خارج الوقت، فهو منوط علی إثبات دلیل علی ذلک من الأمر الجدید، وهو أوّل الکلام لولا الاستصحاب، لعدم إحراز الفوت بدون النظر إلی الأصل، فمع التوجّه إلیه یرجع الدلیل إلی وجوب القضاء إلی ما ذکرناه.

وبعبارة اُخری: یحتمل أن تکون الذمّة مشغولة فی خصوص الوقت، سواء کان ترکه عن عذر أو معصیة فی الوقت، وهو لا یقتضی ولا یطلب إثبات وجود الذمّة فی خارج الوقت أیضاً کما لا یخفی.

هذا لو کان الدلیل لوجوب القضاء هو الأمر الخارج عمّا هو فی الوقت من الدلیل الأوّل والثانی وهو التوقیت.

وأمّا لو کان دلیل وجوب القضاء فی خارج الوقت ثابتاً بدلیل أصل الواجب أو بدلیل توقیته، فإذا شکّ فی أنّه هل أتی بالواجب فی الوقت أو ترکه؟ ففی هذا القسم کان الدلیل لإثبات وجوب القضاء هو الاستصحاب والاشتغال کلاهما؛ لأنّ وجوب القضاء حینئذٍ کان مترتّباً علی عدم إتیانه فی الوقت، والمفروض أنّ نفس الدلیل متکفّل لإیجابه، فبالأصل یحرز ویثبت وجود التکلیف.

کما أنّ قاعدة الاشتغال بالنسبة إلی أصل التکلیف الذی قد فرض عدم انحصاره بالوقت تجری حینئذٍ؛ لأنّ ذمّته کانت مشغولة بالواجب، إمّا بإتیانه فی الوقت، أو فی خارجه لو ترکه فی الوقت، فالاشتغال الیقینی یقتضی الفراغ کذلک، وهو لا یحصل إلاّ بإتیان القضاء.

ص:454

أقول: فقد ظهر من جمیع ما ذکرنا، أنّه بناءً علی وجوب القضاء فی الواجبات الموقّتة - کالصلاة والصوم، سواءً کان وجوبه بأمرٍ جدید، أو بدلیل أصل الواجب - لابدّ للشاکّ فی الإتیان بها فی الوقت إتیانه فی خارج الوقت قضاءاً.

بل نزید هنا بأنّه علی الفرض الثانی من کون الوجوب للقضاء ثابتاً بدلیل أصل الواجب لا بأمر جدید، أنّه تجری قاعدة الاشتغال هنا لإیجاب القضاء لا البراءة ولو لم نقل بجریان استصحاب عدم الإتیان لإثبات الفوت، بناءً علی ما زعمه الخصم من کون الفوت أمراً وجودیّاً ملازماً لعدم الإتیان .

فإثبات الفوت بواسطة استصحاب عدم الإتیان فی الوقت، یصیر أصلاً مثبتاً وهو لیس بحجّة؛ لما قد عرفت بیان وجود قاعدة الاشتغال علی فرض کون الوجوب ثابتاً من دلیل الواجب.

فدعوی کون الأصل هنا البراءة فیما لم یجر فیه الاستصحاب، کما عن السیّد الخوئی(1)، لا یخلو من وهن.

اللَّهُمَّ إلاّ أن یکون مقصوده صورة کون الوجوب تابعاً للقضاء بأمرٍ جدید، فحینئذٍ یصحّ کلامه، لأنّه علی مبناه لا یکون الاستصحاب جاریاً لاستلزامه الأصل المثبت، وقاعدة الامتثال غیر جاریة، لما قد عرفت فی رفع الوهم، فلیس هناک أصل إلاّ البراءة، فله وجه، ولکن کان ینبغی له أن یبیّن تفصیل الکلام فی ذلک.

وبالجملة: ومن ما حقّقناه ظهر لک حال ما لو شکّ فی کون الفوت من قبیل


1- المحاضرات: 2 / 72 .

ص:455

ما ذکرناه لیجری فیه الاستصحاب، أو من قبیل ما اختاره السیّد الخوئی لکی لا یجری فیه، حیث إنّه علی تقدیر کون وجوب القضاء ثابتاً بأمرٍ جدید، لازمه عدم ثبوت وجوب القضاء علیه، لأنّه یعدّ شکّاً فی مصداق الاستصحاب، ولا یمکن التمسّک ب- (لا تنقض الیقین بالشکّ) هاهنا، لاحتمال أن یکون من قبیل الأصل المثبت، وهو لیس بحجّة.

وأمّا علی تقدیر کون الوجوب ثابتاً بالأمر المتعلّق بأصل الواجب، فلازمه القضاء بواسطة جریان قاعدة الاشتغال هنا کما عرفت، ولو لم یکن الاستصحاب هنا جاریاً فیه، فلیتأمّل.

المسألة الثانیة: وهی أنّه لا إشکال فی أنّه إذا شکّ المکلّف فی أثناء الوقت بإتیانه الواجب وعدمه، فإنّ مقتضی قاعدة الاشتغال والاستصحاب هو وجوب الإتیان، فحینئذٍ لو لم یأت بالواجب بعد ذلک إلی أن خرج الوقت، فلا إشکال حینئذٍ بأنّه قد فوّت الواجب، فإثبات وجوب القضاء علیه حینئذٍ منوط بکون الواجب ممّا ثبت فیه وجوب القضاء إمّا بأمرٍ جدید متعلّق علی إحراز الفوت فی الوقت، أو بمقتضی دلیل التبعیّة عند من ذهب إلیها. فهنا لا یکون إثبات وجوب القضاء محتاجاً إلی الأصل وهو الاستصحاب کما لا یخفی .

وأمّا لو فرض ذهاب الوقت بعد حصول الشکّ فی الأثناء، والحکم بوجوب الإتیان بالواجب، ثمّ عرض له الشکّ فی أنّه هل أتی بما قد وجب علیه بالشکّ والأصل، أو أنّه ترکه بعد وجوبه علیه ولو عن نسیان، لو لم نقل بإمکانه عن اختیار، فحینئذٍ هل یجب علیه القضاء حینئذٍ أم لا ؟

وتوهّم إمکان إجراء استصحاب الوجوب هنا، لأنّه فی الوقت قد علم

ص:456

بالوجوب بواسطة الاُصول، ثمّ شکّ فی ارتفاعه، فیستصحب فیثبت القضاء.

مندفع بما قد عرفت سابقاً بأنّ الاستحصاب لا یمکن إجرائه هنا، لعدم وحدة الموضوع والمحمول فی المستصحب، والمعتبر فیه اتّحاد القضیّة المتیقّنة والمشکوکة؛ لأنّ ما کان واجباً سابقاً کان هو الواجب المقیّد بالوقت، والآن اُرید إثبات الوجوب لخارجه فهو موضوع آخر فیکون قیاساً لا استصحاباً.

فلا یمکن إثبات القضاء هنا أیضاً إلاّ بأحد من الطریقین:

1) إمّا باستصحاب عدم الإتیان فی الوقت، المستلزم لإثبات الفوت تعبّداً، فیثبت الموضوع للأمر الجدید من وجوب القضاء لمن فات منه الواجب.

2) أو إثباته من طریق القول بإمکان التبعیّة، فیجری فیه حینئذٍ قاعدة الاشتغال، واستصحاب عدم الإتیان لو عرض له الشکّ، وإلاّ کان نفس الدلیل کافیاً لإثبات وجوب القضاء علیه، فیکون حکم الواجب الذی ثبت وجوبه بالأصل وفات منه بالشکّ والتردید فیه، مثل حکم من شکّ وتردّد فی أوّل الأمر بأنّه هل أتی بالواجب فی الوقت أم لا، من جهة ثبوت وجوب القضاء بالأصل وعدمه، وإجراء دلیل الوجوب من الأمر الجدید، أو من التبعیّة، فکلّ من ذهب إلی وجوبه فی السابق یقول به هاهنا، وکلّ من اعترض فی السابق - کالسیّد الخوئی - فیعترض علیه هاهنا، فلا یکون الأصل عنده إلاّ البراءة، کما لا یخفی.

ص:457

***

فی أنّ الأمر بالشیء هل هو أمرٌ به

فصل

فی أنّ الأمر بالشیء هل هو أمرٌ بذلک الشیء أم لا

أقول: وهذا یتصوّر فی عالم الثبوت علی ثلاثة أقسام أو أربعة:

تارةً: یکون غرض الآمر من الأمر هو التوصّل إلی نفس الفعل، ولو بواسطة أمر المأمور الأوّل بحیث لو حصل الفعل خارجاً ولو من غیر ناحیة هذا الأمر الثانی، لکان الغرض حاصلاً، وهذا هو الغالب وقوعه فی الخارج.

واُخری: ما لو کان الغرض تحقّق أمر المأمور الأوّل من دون غرض له فی تحصیل الفعل خارجاً، بل لیس المقصود من الأمر به إلاّ وسیلة لتحقّق أمر الآمر الثانی، وهو کثیراً ما یقع فی الخارج حیث یأمر الوالد ولده بالجلوس ویقصد بذلک إفهام الآخرین بأنّ أمره یکون أمراً له، ففی مثل ذلک لیس المقصود منه إلاّ تحقّق أمره من دون تحصیل الفعل فی الخارج، بل ربما یمکن أن یمنع عن تحقّقه بعد ملاحظة إطاعة الناس لامتثال أمره وانقیادهم بذلک، وهو أمر شایع فی العرف کما لایخفی.

وثالثة: ما یکون الغرض هو التوصّل إلی کلّ واحد منهما بنحو الشرطیّة، بأن یکون المقصود هو حصول الفعل خارجاً، لکن مع أمر الآمر الثانی، بحیث لو حصل من غیر طریقه لما عدّ الامتثال متحقّقاً کما لو انعکس بأن تحقّق الأمر من الآمر الثانی دون الفعل وعدّ غیر ممتثل، أو کان بنحو تعدّد المطلوب، أی کان کلّ واحد منهما مطلوباً مستقلاًّ.

ص:458

هذا کلّه بحسب مقام التصوّر والثبوت.

وأمّا فی مقام الإثبات والدلالة: ففیه احتمالان:

الأوّل: تارةً تکون القرینة المقامیّة أو المقالیّة لأحد هذه الوجوه موجودة، فحینئذٍ لا إشکال فی وجوب العمل بمقتضی دلالة القرائن.

واُخری: تکون القرائن مفقودة وکان الدلیل من حیث نفسه مطلقاً، فهل یحمل علی أحد الوجوه الثلاثة أو الأربعة أم علیه التوقّف والرجوع إلی مقتضی الاُصول العملیّة.

أقول: والذی یظهر من صاحب «الکفایة» هو الثانی، خلافاً للمحقّق العراقی والحکیم والخوئی من الحمل علی القسم الأوّل من الثلاثة أو الأربعة، أی بأن یکون الأمر للتبلیغ إلی مطلوبیّة أصل الوجود کما هو المتعارف فی أمر الرسل بالأمر والنهی.

ولکن الأقوی عندنا بحسب حال الارتکاز، وملاحظة حال حکمة المولی من أفعاله وأوامره، وکونه منزّهاً عن اللّغویّة فی توسیط الآمر الثانی، هو أنّ مقصوده فی أکثر الموارد هو الرابع، لکن لا بحیث یکون نفس الفعل لو کان حاصلاً لکان غیر ممتثل لأمره، بل من جهة کونه إذا امتثل بتوسّط أمر الثانی کان أحسن وأولی فی الامتثال والثواب، لتحقّق الامتثال لکلا الأمرین، وإن کان الغرض بإتیان نفس الفعل أیضاً حاصلاً.

والحاصل: بأن لا یکون وجود أمر الثانی فی الواسطة علی نحو الشرطیّة، بحیث لو لم یوجد لما کان المشروط حاصلاً، بل کان من جهة تعدّد المطلوب، بأن یکون أصل الفعل بنفسه مطلوباً، ووجوده بتوسّط أمر الثانی الذی کان أوجه

ص:459

مطلوباً آخر، لوضوح أنّه لو کان المطلوب أصل وجود الفعل، لما احتاج إلی التوصّل بالأمر الثانی. وحمله فیما لا یقدر إلاّ بذلک، خصوصاً فی مثل التکالیف الکلّیة الإلهیّة، بعیدٌ جدّاً، بل وهکذا فی جمیع القوانین الکلّیة حتّی غیر الشرعیّة.

نعم، یصحّ فی الأوامر الشخصیّة، وذلک لکونهم قد رتّبوا علی هذا البحث ثمرة یؤیّد ما ذکرناه، وهی کون عبادات الصبی شرعیّة بواسطة أمر الشارع لآبائهم بقوله: (مُروهم بالصلاة فی تسع سنین)، لأنّ الأمر بالأمر بالشی أمرٌ بذلک الشیء، فإنّ الشارع کان یمکنه توجیه الأمر إلیهم مستقیماً، فحیث لم یفعل، یفهم أنّه کانت المصلحة فی ذلک علی نحو تعدّد المطلوب.

وکیف کان، فما اخترناه أمره برزخٌ بین الوجه الأوّل من ناحیة والثالث من ناحیة اُخری، لأنّه من جهة أنّ نفس الفعل کان مطلوباً للشارع مثل الصلاة، ولو لم یحصل من ناحیة أمر الأب والجدّ، إذ یعدّ صرف المطالبة للمأتی به مع المأمور به الواقعی موجباً لصدق الامتثال، وکافیاً، وإن لم یقصده خارجاً، کما هو کذلک فی المقام، هذا من جهة.

ومن جهة اُخری لو أتی بذلک مع قصد امتثال أمر الأب الذی کان مصداقاً للمأمور به الأمر الأوّلی، وکان واجداً لمصلحة اُخری، ولو بملاحظة حال إعمال مقام الاُبوّة والولایة فی ذلک، أو من جهة ملاحظة أنّهم أعرف بحال الأبناء فی الخارج ونظائر ذلک، اندرج فی الوجه الرابع، فیکون المرکّب منهما بنحو تعدّد المطلوب، وهو الرابع من الوجوه المذکورة، وهو المطلوب.

وإن صرفنا النظر عمّا ذکرناه، وکان المقصود ملاحظة حال نوع مطلوبیّة نفس الفعل، کان الوجه الأوّل أقوی من جهة کثرة وجوده خارجاً کما علیه تبلیغ

ص:460

المرسل من جهة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر، نظیر ما ورد فی قوله تعالی: «وَأْمُرْ أَهْلَکَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَیْهَا»(1).

أقول: ثمّ لا یخفی علیک بأنّ شرعیّة عبادات الصبی ثابتة من طریق هذا البحث، وذلک فیما لو قلنا بأنّ الأمر إلیهم کان بواسطة الأدلّة الدالّة علی أمر الولی لیکون بذلک من صغریات کبری البحث هنا، ولکن التزم بعض الأعلام - وهو المحقّق الحکیم قدس سره - بأنّ شرعیّتها ثابتة من دلیل آخر غیر ما ذکروه حیث قال: (یمکن إثبات شرعیّة عبادة الصبی بعموم أدلّة التشریع، مثل قوله تعالی: «کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیَامُ»(2) و «أَقِیمُوا الصَّلاَةَ» ونحوها ممّا یعمّ البالغ وغیره، وحدیث رفع القلم عن الصبی حتّی یحتلم، لا یقتضی أکثر من رفع الإلزام، لأنّه وارد مورد الامتنان، وحینئذٍ فیکتفی بعبادته لو فعلها فی الوقت ثمّ بلغ، ولا یحتاج إلی الإعادة)، انتهی کلامه(3).

وفیه: وفی کلامه من الإشکال مجالٌ واسع:

أوّلاً: بأنّ ظاهر تلک العمومات هو إثبات متعلّقاتها علی المکلّف بصورة الوجوب، لأنّ قرینة الوجوب فی أکثرها لو لم یکن کلّها موجودة، مثل کلمة «علی» الظاهر فی التکلیف الإلزامی فی مثل «کُتِبَ عَلَیْکُمُ»، مضافاً إلی ظاهر لفظ (کُتب) حیث یکون المقصود منه هو الوجوب کما فی نظائره مثل قوله تعالی: «کُتِبَ عَلَیْکُمْ الْقِصَاصُ فِی الْقَتْلَی»(4)، وفی الوصیّة فی قوله تعالی: «کُتِبَ عَلَیْکُمْ


1- سورة طه: 132.
2- سورة البقرة: 183.
3- حقائق الاُصول: 1 / 342 .
4- سورة البقرة: 178.

ص:461

إِذَا حَضَرَ أَحَدَکُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَکَ خَیْرا الْوَصِیَّةُ»(1)، وفی الصلاة: «إِنَّ الصَّلاَةَ کَانَتْ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ کِتَابا مَوْقُوتا»(2)، کما أنّ فی الحجّ یستفاد الوجوب من حرف علی فی قوله: «وَللّه ِِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً»(3)، مضافاً إلی ما وقع فی ذیله لتارکه من ترتّب الکفر علیه بقوله تعالی: «وَمَنْ کَفَرَ فَإِنَّ اللّه َ غَنِیٌّ عَنِ الْعَالَمِینَ»(4)، ومضافاً إلی أنّ ظهور الأمر فی «أَقِیمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّکَاةَ»(5) ونظائرهما هو الوجوب أیضاً .

فبناءً علی ذلک، کیف یمکن دعوی شمولها للصبی الذی لا یکون له التکلیف إلزامیّاً قطعاً، ولو من جهة ملاحظة دلیل حدیث الرفع الشامل له لرفع الإلزام قطعاً، کما اعترف به القائل، فلابدّ القول حینئذٍ بعدم عمومیّتها للصبی حتّی لا یحتاج لرفعه إلی ذلک الحدیث أصلاً، کما هو الأقوی.

أمّا دعوی المحقّق العراقی: فقد ظهر من ما ذکرنا عدم صحّة ما ادّعاه المحقّق العراقی فی «نهایة الأفکار» لتصحیح شمول دلیل العمومات للصبی، بقوله فی کتابه ناسباً إلی البعض: (إنّ شمول إطلاق الخطابات فی التکالیف مثل قوله تعالی: «أَقِیمُوا الصَّلاَةَ»ونحوه للصبی الذی یبلغ بعد یوم أو نصف یوم أو ساعة حیث أنّ دعوی انصرافها عن مثل هذا الصبی بعیدة غایته، إذ لا یکاد یفرّق العرف فی شمول تلک الخطابات بین البالغ سنّه إلی خمس عشرة سنة کاملة، وبین من نقص سنة من ذلک بیوم أو نصف یوم أو ساعة واحدة، بل العرف یری شمول تلک


1- سورة البقرة: 180 .
2- سورة النساء: 183 .
3- سورة آل عمران: 97 .
4- سورة آل عمران: 97 .
5- سورة البقرة: 43 .

ص:462

الخطابات لکلّ منهما، وحینئذٍ فإذا شمل تلک الخطابات لمثل هذا الصبیّ، یتعدّی عنه بمقتضی عدم الفصل إلی من هو دون ذلک فی العمر إلی أن یبلغ فی طرف القلّة إلی ستّ أو سبع سنین، فیستفاد من ذلک حینئذٍ أنّ الصبی الممیّز والمراهق کالبالغ فی کونه ممّن شُرّع فی حقّه العبادة علی نحو مشروعیّتها فی حقّ البالغین، من حیث اشتمال عباداته علی المصالح الملزمة، غایة الأمر بمقتضی دلیل رفع القلم، یرفع الید عن جهة إلزام التکلیف، ویقال بأنّه غیر مکلّف بالإیجاد بتکلیف لزومی فی حال عدم بلوغه.

ونتیجة ذلک إنّما هو سقوط التکلیف عنه بالإیجاد لو فرض بلوغه فی أثناء العبادة، أو بعد الفراغ عنها، نظراً إلی استیفائه بفعله حینئذٍ قبل البلوغ، فتلک المرتبة من المصلحة الملزمة الداعیة علی الأمر والتکلیف، هذا.

ولکن فیه: أنّه لا قصور فی هذا التقریب لإثبات المشروعیّة بالمعنی المزبور، لولا دعوی کون اعتبار البلوغ فی أذهان المتشرّعة بمقتضی دلیل رفع القلم ونحوه فی الارتکاز بمثابةٍ یکون من القرائن الخاصّة الموجبة لصرف الخطابات إلی خصوص البالغین، کما لعلّه لیس ببعید أیضاً، وإلاّ فلا مجال لإثبات مثل هذا النحو من الشرعیّة أیضاً، حتّی یترتّب علیه الاجتزاء به عن فعل الواجب بعد البلوغ، فیما لو کان بلوغه فی أثناء العبادة أو بعد الفراغ عنها کما لا یخفی)، انتهی کلامه(1).

أقول: ویمکن توجیه عدم صحّته:

أوّلاً: ما عرفت من أنّ الخطابات مشتملة بما لا یمکن شمولها لمثل غیر البالع ولو بساعة أو نصفها ما لم یبلغ إلی حدّ التکلیف، ولیس هذا مرتبطاً بالإطلاق حتّی


1- نهایة الأفکار: 399 .

ص:463

یدّعی انصرافه إلی بعض أفراده، فیلحق به بعض آخر بالقول بعدم الفصل بینهما کما توهّمه، بل وقبیل ذلک بعده فی آخر الکلام بقوله: (لولا وجود القرائن الموجبة لکونها تخصیصاً للبالغین).

وثانیاً: لو سلّمنا شموله لمثل ذلک، وکان دلیل حدیث رفع القلم قد أخرجه عن حریم التکلیف الإلزامی، فکما أنّه خرج عنه بذلک، فقد خرج عن المصلحة الملزمة التی کانت فیه للبالغین، لأنّه لا یصحّ القول بخروجه عن حریم التکلیف والمصلحة باقیة بحالها الإلزامی، فإذا خرجت المصلحة عن حالها الإلزامی، فلا یمکن القول حینئذٍ بکفایة مثل هذه الصلاة الواقعة قبل البلوغ - الفاقدة لتلک المصلحة - واجزاءها عن الصلاة الواجبة علیه بعد البلوغ، المشتملة علی المصلحة الملزمة، ولیس هذا إلاّ من قبیل دعوی بلا إقامة برهان کما لا یخفی علی من أدنی له تأمّل.

فالإشکال الثانی وارد علی کلا العلمین، لأنّ المحقّق الحکیم قدس سره قد اعترف فی آخر کلامه بالاجتزاء عن العبادة الواجبة علیه، سواء بلغ فی الأثناء أو بعد الفراغ.

أقول: وبما حقّقناه ربما نبلغ إلی موضوع آخر، وهو أنّه لعلّ الحکمة فی أمر الشارع لأولیاء الأطفال بالأمر إلیهم فی سبع سنین إلی زمان البلوغ، ولو بالضرب للقیام بالصلاة هو تفاوت واقع المصلحة فی المرحلتین من حال البلوغ وقبله حیث إنّ المصلحة الموجودة قبل البلوغ سنخُ مصلحةٍ لا تقتضی مباشرة الشارع للتکلیف إلیهم، بل اقتضت أن یکون الأمر بواسطة أولیائهم، بخلاف المصلحة الموجودة بعد البلوغ، حیث تکون المصلحة فی مرتبة تقتضی مباشرة الشارع فی

ص:464

التکلیف، فهذا أیضاً دلیلٌ آخر علی عدم کفایة عباداته قبل البلوغ عن عبادته بعده، ولو سلّمنا شرعیّتها أیضاً قبل البلوغ من أدلّة عمومات التشریع.

وکیف کان، یعدّ الإحراز والقطع بالاجتزاء بمثل ذلک عمّا هو الواجب بعد البلوغ، فی غایة الإشکال، مع أنّه یلزم فیما إذا بلغ فی أثناء العمل العبادی أن یکون عمله مرکّباً من المستحبّ والواجب، لأنّ ما وقع قبل البلوغ غایته الاستحباب، وما وقع بعده هو الوجوب، فوجود مثل هذا الواجب المرکّب فی الإسلام والشریعة قلیل.

نعم، قد یتحقّق فی مثل صوم الاعتکاف حیث یکون مستحبّاً فی یوم الأوّل والثانی، وواجباً فی الیوم الثالث، وهکذا فی کلّ یومٍ ثالث من الثلاثة من الستّة أو التسعة، ولکن لابدّ فی إثباته من عنایة زائدة، مع أنّه عمل اجتمع فیه الواجب والمستحبّ وهو مختلف عن المرکّب منهما کما فی المقام، مع أنّ الکفایة أمرٌ واقع فی مرحلة الشکّ فی الفراغ، فلابدّ من إحرازه لأنّه شغل یقینی یقتضی الفراغ کذلک.

***

ص:465

فی حکم الأمر بعد الأمر

فصلٌ

فی الأمر بعد الأمر

البحث فی أنّ الأمر الواقع عقیب الأمر الأوّل وقبل قیام المکلّف بامتثاله، هل یعدّ تأکیداً للأوّل أو یحمل الثانی علی التأسیس، بما یوجب التکرار فی متعلّقه أم لا ؟

أقول: والمسألة محلّ خلاف بین الأعلام، فقد ذهب صاحب «الکفایة» و«عنایة الاُصول» والمحقّق الحکیم وصاحب «المحاضرات» إلی التأکید، خلافاً للمحقّق العراقی فی «نهایة الأفکار» حیث رجّح أوّلاً تقدیم إطلاق الهیئة المقتضی للتأسیس، ثمّ یستشکل ویبقی المسألة بصورة الإشکال، الظاهر فی توقّفه والرجوع إلی الأصل المتبقّی للتأکید، لأنّه هنا عبارة عن أصل البراءة عن التکلیف الزائد، المساوی للتأسیس، فیثبت التأکید.

وتحقیق الحال فی المسألة أن یُقال: لابدّ أوّلاً من بیان موضوع النزاع، ثمّ ذکر ما هو المختار فیه، فنقول ومن اللّه الاستعانة:

البحث الأوّل: إنّ الأمر المتکرّر له تقسیمات متعدّدة، أمّا الأمر الواحد فلا إشکال ولا خلاف فی أنّ مقتضی کلّ أمر هو التأسیس، أی لزوم الإتیان بمتعلّقه إذا کان واحداً، وإنّما الکلام فی صورة تکرار الأمر، وهو أیضاً یتصوّر علی أنحاء:

التقسیم الأوّل: تارةً: یکون التکرار فی المادّتین المتفاوتتین.

واُخری: فی المادّتین المتساویتین، والمراد من التساوی وحدة الأمرین من

ص:466

حیث المادّة لا التساوی المستعمل فی باب المنطق کالإنسان والناطق.

ثمّ فی الاُولی: قد یکون التفاوت بین المادّتین:

تارةً: علی نحو التباین کالإکرام والضرب، کما لو قال: (أکرم زیداً) ثمّ قال: (اضرب زیداً).

واُخری: علی نحو العموم والخصوص من وجه، کالإکرام والإعطاء کما لو قال: (أکرم زیداً) ثمّ قال: (أعطه درهماً)، حیث إنّه قد یتصادقان فی مادّة واحدة، وقد یفترقان فی مرحلتین بأن یکون إعطاء الدرهم للجریمة، واُخری للإحسان، کما أنّ الإکرام قد یتحقّق بالإعطاء للدرهم، وقد یتحقّق بغیره.

وثالثة: بصورة العموم والخصوص المطلق، نظیر الإکرام والضیافة، حیث یکون کلّ ضیافة إکرام مثلاً دون العکس، فقال: (أکرم زیداً) و(أضف زیداً).

فلا إشکال فی أنّ النزاع المذکور فی تکرار الأمر هل یفید التأکید أو التأسیس، لیس فی شیء من الأقسام الثلاثة المتفاوتة، لوضوح أنّ تکرار الأمر فیها یحمل علی التأسیس لا التأکید، إلاّ أن یجعل فی اللّفظ قرینة دالّة علی خلاف ما هو المتعارف، فیکون هو المتّبع.

بل النزاع إنّما کان فی المتساویین بالمعنی الذی ذکرناه، کما لو قال: (صلِّ رکعتین) مرّتین، وهو واضح لا خفاء فیه.

التقسیم الثانی: إنّ التکرار فی الأمر:

تارةً: قد یأتی الأمر مکرّراً من مادّة واحدة، لکنّه یقیّد کلّ واحد منهما بقید وجودی أو عدمی، الموجب لامتیاز أحدهما عن الآخر، کما لو قال: (صلِّ رکعتین عند الزوال)، ثمّ قال: (صلِّ رکعتین فی اللیل)، أو قال: (صلِّ رکعتین عند مجیء

ص:467

زید) و(صلِّ رکعتین إن لم یجئ عمرو).

واُخری: قد یأتی ذلک بقید لکلّ واحد منهما، لکنّه بقید تارةً یفید التکرار التأسیس، مثل أن یقول: (صلِّ) و (صلِّ) مرّةً اُخری، واُخری یفید التأکید، بأن یکون المقصود منهما لیس إلاّ الإتیان لمرّة واحدة متأکّدة، کما لو صرّح بذلک فی ذیل الأمر الثانی.

ورابعة: ما لیس بشیء من الأقسام الثلاثة، بل یکون الأمر فی کلّ واحد بذاته مطلقاً غیر مقیّد بشیء یستفاد منه أحد الأمرین، کما لو قال: (صلِّ صلِّ) والنزاع یدور فی المقام فی هذا القسم دون الأقسام الثلاثة السابقة کما لا یخفی.

التقسیم الثالث: إنّ تکرار الأمر قد ینقسم من جهة العلّة والسبب وذکره وعدمه إلی أقسام :

تارةً: یکون السبب فی کلّ من الأمرین مذکوراً.

واُخری: ما لا یکون کذلک فی شیء منهما.

وثالثة: ما یکون السبب فی واحد منهما مذکوراً دون الآخر.

ثمّ فی هذا القسم قد یکون السبب المذکور الواحد منهما سبباً لسببٍ لهما أیضاً، حیث یکون هذا من القسم الأوّل، لأنّه فی الحقیقة کان السبب لهما، غایة الأمر لکلّ منهما یکون علی قسمین؛ إمّا أن یکون متفاوتاً أو یکون فی کلیهما متّحداً.

والذی یکون مورد النزاع والکلام هو فیما لا یکون السبب فیهما مذکوراً أصلاً. أو کان السبب فی کلّ واحد منهما مذکوراً، إلاّ أنّ نوعه کان واحداً مثل أن یُقال: (إن ظاهرت أعتق رقبة)، (وإن ظاهرت أعتق رقبة).

ص:468

وأمّا ما کان السبب فی واحد منهما مذکوراً دون الآخر، مثل قوله: (إن ظاهرت أعتق)، ثمّ قال: (أعتق رقبة)، فظاهر کلام صاحب الفصول هو الجزم بالتأسیس من جهة تقدیم ظهور إطلاق الهیئة علی ظهور إطلاق المادّة، المقتضی للتأکید، خلافاً للآخرین من التوقّف فیه وعدم ترجیح أحدهما علی الآخر.

وأمّا إن کان السب فی کلّ منهما مذکوراً ومتفاوتاً، فلا إشکال فی أنّ التکرار ظاهر فی التأسیس دون التأکید، مثل أن یُقال: (إن ظاهرت فاعتق رقبة) و(إن أفطرت فاعتق رقبة).

وبالجملة: ظهر من جمیع ما ذکرناه أنّ مورد النزاع إنّما هو فی الأمرین المشتقّین عن مادّة واحدة مطلقة عن کلّ القیود المفهمة لأحد الوجهین من التأکید أو التأسیس، ومن السبب بأن لم یکن السبب فیهما مذکوراً، أو کان السبب فی کلیهما مذکوراً وواحداً، أو کان السبب فی أحدهما مذکوراً دون الآخر، مع احتمال جریان النزاع فیه کما عرفت وجود الخلاف فیه أیضاً عن صاحب «الفصول».

أقول: إذا عرفت هذه المقدّمة، وظهر لک موضع النزاع، فنشرع إلی تقریر أصل المطلب، فنقول ومن اللّه الاستعانة:

البحث الثانی: أنّ منشأ الإشکال والاختلاف إنّما هو من جهة الاختلاف فی تقدیم مقتضی إطلاق المادّة أو إطلاق الهیئة:

لأنّ الأوّل یقتضی کون الأمر الثانی تأکیداً للأوّل؛ لأنّ الطبیعة بوجودها السعی إذا صارت متعلّقة للأمر، لا یمکن تکرّرها إذا کان تعلّق الأمرین بصورة الإطلاق من دون أن یکون مقیّداً بقید، ولو بقوله مرّة اُخری أو بوجود آخر، لأنّه یستلزم اجتماع المثلین، فلابدّ أن یکون الثانی تأکیداً حتّی لا یلزم ذلک.

ص:469

وأمّا من ناحیة أنّ إطلاق الهیئة یقتضی کون البعث فی کلّ واحد من الأمرین مستقلاًّ من دون ارتباط بالآخر؛ لأنّ ظاهر البعث والإرادة المتوجّهة إلی شیء هو هذا المعنی.

وعلیه، یکون مقتضی إطلاق الهیئة هو التأسیس لا التأکید، فحینئذٍ یدور الأمر بین أن یرجّح أحدهما علی الآخر وبیان ما هو المرجّح فیهما.

قد یُقال: بأنّ إطلاق المادّة مقدّم علی إطلاق الهیئة، فالتأکید یرجّح علی التأسیس؛ لأنّ المادّة تعدّ متقدّمة علی الهیئة لکونها بمنزلة المعروض، لعروض الهیئة علیها، فیحکم علی طبق مقتضی إطلاق المادّة .

وقد یُقال: بأنّ إطلاق الهیئة مقدّم علی إطلاق المادّة، فیرجّح التأسیس علی التأکید، لأنّ الهیئة بمنزلة العلّة، لأنّها توجب التشکّل للمادّة، فالعلّة مقدّمة علی المعلول، ممّا یقتضی أن یکون إطلاقها مقدّم علی مقتضی إطلاق المادّة، فیکون الحمل علی التأسیس أولی من التأکید، خلافاً لما ذهب إلیه أکثر الاُصولیّین، ولأجل ذلک تری المحقّق العراقی قد تحیّر فیه، وإن مالَ إلی تقدّم إطلاق الهیئة علی إطلاق المادّة، إلاّ أنّه انتهی فی آخر کلامه بأنّ الحکم بتقدّم أحدهما علی الآخر لا یخلو عن إشکال، ثمّ أتمّ البحث بأنّه لولا التشخّص بأحدهما، وتردّد الأمر بینهما، کان المقتضی الرجوع إلی الأصل وهو البراءة، فیوافق إثبات التأکید لا التأسیس.

هذا ملخّص کلامه فی «نهایة الأفکار»(1).


1- نهایة الأفکار: 401 .

ص:470

ولکن التحقیق أن یقال: بتقدّم إطلاق المادّة علی إطلاق الهیئة لوجوه متعدّدة:

الوجه الأوّل: إنّ السعة والضیق فی الهیئة - فی جمیع الموارد - تابعتان للسعة والضیق فی المادّة، کما یشاهد ذلک فی باب المطلق والمقیّد، ولا مجال لتوهّم تبعیّة المادّة للهیئة فی المقام، فإذا قال: (أعتق رقبة) أو (أعتق رقبة مؤمنة) أو فی مکان کذا وزمان کذا، فلا إشکال فی أنّ الهیئة بحسب مقتضاها لا تؤثّر فی المادّة، بل یکون الوجوب المستفاد من الهیئة تابعاً لمتعلّق المادّة، فهکذا یکون فی المقام، فإنّه إذا اقتضت المادّة بأنّ ما تعلّقت به الهیئة هی الطبیعة بوجودها السعی، عدّ ذلک تأکیداً لما سبق.

الوجه الثانی: بأنّ الحکم بتقدّم إطلاق الهیئة علی المادّة مستلزم لمحذور بخلاف الآخر وهو لزوم اجتماع المثلین فی طبیعة واحدة، وقد عرفت أنّ هذا المحذور لا یرتفع إلاّ أنّ تتقیّد الطبیعة بقید من القیود، ولو کان هذا القید بلفظ (مرّة اُخری) حتّی یناهض مصداق الطبیعة عن مصداقها الآخر، فهو أمر مرجّح لتقدیم هذا الوجه الآخر کما لا یخفی.

الوجه الثالث: إنّ تکرار اللّفظ بتمام خصوصیّاته الموجب للتأکید أمر معمول ومتعارف علی الألسنة، کما یشهد بذلک ما ورد فی کلام النبیّ والأئمّة علیهم السلام ، مثل قول رسول اللّه صلی الله علیه و آله لعلیّ علیه السلام : (علیک بصلاة اللیل، علیک بصلاة اللیل). ونظائر ذلک، حیث یفهم أنّ التکرار بحسب المعمول یستعمل للتأکید فی شیء دون التأسیس، بل إذا قصد من التکرار الثانی بما یدلّ علی مطلوبیّته متکرّراً بلفظ (مرّتین)، مثل قوله: (صلِّ مرّتین)، واستعمال لفظ (صلِّ) مکرّراً وإرادة التکرار فی أصل الصلاة مصداقاً لا یخلو عن استقباح عند العرف والعرب، والشاهد علی ذلک النصوص

ص:471

الصادرة عن فصائحهم.

وبالجملة: فظهر من جمیع ما ذکرنا أنّ الحکم بتقدیم التأکید علی التأسیس قویّ جدّاً.

مضافاً إلی ما عرفت من أنّ ذلک مقتضی الأصل عند التردّد والتخییر فی التقدیم، لأنّ الشکّ یکون فی زیادة التکلیف، فالأصل البراءة کما لا یخفی.

هذا تمام الکلام فی البحث عن الأوامر، ویلیه البحث عن النواهی، والحمدُ للّه أوّلاً وآخراً.

***

ص:472

صفحة بیضاء

ص:473

المقصد الثانی

ف-ی¨ الن---واهی¨

ص:474

صفحة بیضاء

ص:475

فی دلالة مادّة النهی وصیغته

فصل

فی دلالة مادّة النهی وصیغته

البحث فی هذا الفصل عن مدلول مادّة النهی وصیغته، فقد وقع الخلاف بین الأعلام فی ذلک، والذی ذهب إلیه صاحب «الکفایة» قدس سره : (أنّ دلالة النهی بمادّته وصیغته علی الطلب کدلالة الأمر بمادّته وصیغته علیه، غیر أنّ متعلّق الطلب فی أحدهما الوجود وفی الآخر العدم، فیعتبر فیه ما استظهرنا اعتباره فیه بلا تفاوت أصلاً. نعم، یختصّ النهی بخلافٍ وهو أنّ متعلّق الطلب فیه هل هو الکفّ أو مجرّد الترک وأن لا یفعل ؟ والظاهر هو الثانی .

وتوهّم: أنّ الترک ومجرّد أن لا یفعل خارج عن تحت الاختیار، فلا یصحّ أن یتعلّق به البعث والطلب .

فاسد، فإنّ الترک أیضاً یکون مقدوراً، وإلاّ لما کان الفعل مقدوراً وصادراً بالإرادة والاختیار.

وکون العدم الأزلی لا بالاختیار، لا یوجب أن یکون کذلک بحسب البقاء والاستمرار، الذی یکون بحسبه محلاًّ للتکلیف)(1).

أقول: ومحصّل کلامه هنا مشتمل علی عدّة اُمور :

الأمر الأوّل: أنّ دلالة مادّة النهی مثل نهی ینهی، وحقیقة مثل لا تفعل علی


1- کفایة الاُصول: 149 .

ص:476

الطلب تکون کالأمر مع فرق واحد بینهما وهو أنّ النهی یتعلّق بالعدم والأمر بالوجود، أی أخذ عنوان الوجود فی متعلّق الأمر بمادّته وصیغته، وعنوان العدم فی متعلّق النهی بمادّته وصیغته، أی المطلوب من الأمر إیجاد الطبیعة ومن النهی ترکها.

الأمر الثانی: أنّ کلّ ما یعتبر فی الأمر بمادّته وصیغته، من العلوّ فی الآمر واستعلائه، وکون التکلیف إلزامیّاً وبعثیّاً، یکون فی النهی أیضاً معتبراً، مضافاً إلی أنّ الأمر یجب أن یقع بداعی البعث والتحریک، والزجر والمنع بإنشاء طلب الترک فی النهی.

الأمر الثالث: التزامه رحمه الله بأنّ الظاهر أنّ المتعلّق فی النهی هو الکفّ ولیس مجرّد الترک وأن لا یفعل.

أقول: وللمناقشة فی کلامه مجالٌ واسع:

فیرد علیه أوّلاً: بأنّ الوجود والعدم لیسا مأخوذین فی مفهوم متعلّق الأمر والنهی، لا فی مادّتهما ولا فی صیغتهما، لوضوح أنّه لو کان الوجود مأخوذاً فی متعلّق مادّة الأمر، فلابدّ أن لا یصحّ أن یؤخذ الترک فی متعلقه فی مادّته، مع أنّه کما یصحّ أن یقال بأنّی آمرک بإیجاد الصلاة، کذلک یصحّ أن یقال بأنّی آمرک بترک الغیبة التی یعدّ ترکها أمراً عدمیّاً متعلّقاً لمادّة الأمر ، بل قد یشتقّ صیغة الأمر من مادّة الترک بقوله اترک، حیث یکون الأمر هنا بمعنی الأمر بالترک لا الأمر بوجود الترک .

هکذا لا یکون العدم مأخوذاً فی مفهوم مادّة النهی، لأنّه قد یتعلّق بالوجود کما یتعلّق بالعدم، فیقال: (نهاه عن الفعل) کما یقال (نهاه عن الترک)، وکذلک الحال

ص:477

فی صیغته، فیقال (لا تفعل)، کما یقال (لا تترک) .

فالحقّ أن یُقال: إنّ النهی بمادّته یعدّ مضادّاً للأمر، فهما یتواردان علی موضوع واحد من الوجود والعدم، غایة الأمر، أنّ الأمر یقتضی البعث إلیه، والنهی یقتضی المنع والزجر عنه. نعم، لابدّ أن یُراد من متعلّقه - سواء کان فعلاً أو ترکاً - ما هو بالحمل الشایع فعلاً أو ترکاً لا باعتبار نفس المفهومین من حیث هما، فمعنی النهی عن الشیء عبارة عن الزجر والمنع عنه، فلا یلزمه طلب عدمه وهو وجود الطرف الآخر مثلاً لو نهی عن القیام الخارجی الذی هو أمر وجودی یلازمه طلب عدمه وإیجاد حال آخر، کما أنّ معنی الأمر بالقیام هو البعث إلیه، ویلازمه النهی عن عدمه، فالوجود والعدم یلازمان لما تعلّق به الأمر والنهی بطرف ضدّه لا أن یکونان داخلین فی مفهومها، کما یظهر ذلک من کلام صاحب «الکفایة» حیث التزم بأنّ الأمر یتعلّق بطلب وجود الطبیعة، والنهی یتعلّق بعدم الطبیعة.

وما ذکرناه فی معنی الأمر والنهی بمادّتهما، من عدم أخذ الوجود والعدم فی المدلول علیه فیهما، بل کان لازم الأمر بالشیء هو لزوم إیجاده وترک عدمه، کما أنّ لازم النهی عن الشیء هو الکراهة والزجر عن وجوده، ولازمه طلب عدمه هو الأحسن والأولی فی الجواب عمّا التزم به صاحب «الکفایة» دون ما أجاب به حیث یقول:

(ومن المعلوم أیضاً أنّ الإرادة الحقیقیّة - سواء کانت کیفیّة نفسانیّة کما ذکروه، أو نسبةٌ نفسانیّة کما ذکرناه - أمرٌ وجودی لا معنی لتعلّقه بالعدم إذ لا ذات للعدم ولا حکم إلاّ بعرض الوجود الذی ینتزع هو عنه، علی أنّهم یصرّحون بأنّ الإرادة علّة لوجود المراد، ثمّ یصرّحون بأنّ عدم المعلول مستند إلی عدم العلّة،

ص:478

ولازمه استناد الفعل إلی الفاعل إلی عدم إرادة الفعل لا إرادة عدم الفعل، ولازم ذلک کلّه کون مدلول الأمر هو طلب الفعل، ومدلول النهی هو عدم طلب الفعل، بدعوی أنّ فعل الغیر یترتّب وجوده علی إرادة العالم، فعدمه مترتّب علی عدم إرادته، هذا ما یقتضیه أصل الاعتبار)(1)، انتهی موضع الحاجة من کلامه.

لما یرد علیه: بأنّ استناد عدم المعلول إلی عدم العلّة، أمرٌ مسلّم صحیح فی موطنه، لکن ذلک لا یرتبط بما نحن فیه، لوضوح أنّه لابدّ أن یُقال إنّ الإرادة کما کانت علّة لترتّب فعل الغیر علی إرادة الحاکم، کذلک عدم الکراهة فی الحاکم مستلزم لعدم ترتّب فعل الغیر علیه، من باب استناد عدم المعلول إلی عدم علّته، لو سلّمنا هذه العلّیة هاهنا؛ لأنّ الصحیح أن یُقال بأنّ إدارة الحاکم علّة لإمکان تحقّق الفعل عن الغیر مستنداً إلیها، لا کونها علّة لأصل تحقّق فعل الغیر وترتّبه علیها، إذ لا یصحّ أن یکون مدلول النهی حینئذٍ هو عدم طلب الفعل الذی کان مفاده عدم وجود الإرادة للأمر، أو هی أعمّ من وجود الکراهة عن الفعل أو لا، وهو واضح.

ومن المعلوم کما أنّ الإرادة فی الأمر تکون علّة لترتّب فعل الغیر علیها، کذلک تکون الکراهة علّة اُخری لترتّب ترک الفعل الذی یتحقّق من الغیر مع الکراهة للحاکم، بحیث لو عدمت هذه الکراهة، استلزم من باب استناد عدم المعلول إلی عدم علّته، عدم کون ترک الفعل مترتّباً علی تلک الکراهة، لأنّ عدم وجود الکراهة للحاکم مستلزم لعدم ترتّب ترک الفعل عن الغیر علیه، فالمشکلة فی کلامه من جهة أنّه قد فرض مدلول النهی عبارة عن عدم إرادة الفعل، فتوهّم أنّه


1- الحاشیة علی الکفایة للطباطبائی: 1 / 138 .

ص:479

یصبح من قبیل عدم المعلول المستند إلی عدم العلّة، مع أنّ الواقع لیس کذلک، بل الحقیقة أنّ الإرادة کما تکون علّة لوجود الترتّب لفعل الغیر، هکذا تکون الکراهة علّة لترتّب عدم فعل الغیر علیها، لما ثبت أنّ عدم إرادة الفعل یکون لازماً أعمّ من کون الفعل مکروهاً وعدمه. فتأمّل حتّی لا یشتبه علیک الأمر.

ویرد علیه ثانیاً: أنّ کلامه - أی صاحب الکفایة - بعد ذلک من وقوع الخلاف فی أنّ تعلّق الطلب فی النهی هل یعنی الکفّ، أو مجرّد الترک وأن لا یفعل، ثمّ اختیاره قدس سره الثانی یوهم أنّه یقول بالغرق بینهما ولکنّه انتخب الثانی منهما.

مع أنّه مجرّد توهّم لا وجه فی الافتراق بالتردید بینهما، ولابدّ من توضیح ذلک، فنقول:

إنّ الإنسان حینما تعمل مشاعره لابدّ من أن یکون فی فعل من الأفعال؛ لوضوح أنّ کلّ فعل وحرکة أو سکون لا یصدر عنه إلاّ عن إرادة، بل وهکذا فی کلّ اجتماع أو افتراق من الأکوان الأربعة للإنسان بما لا یتحقق إلاّ بالإرادة ووجود الداعی له، مثلاً لو أنّ إنساناً کان فی حال الحرکة والمشی ثمّ سکن وتوقّف، فإنّه لایسمّی هذا التوقّف والسکون أنّه لیس بفعل، بل هو بنفسه فعل آخر نظیر فعل الحرکة، هکذا یکون فی القیام بالنسبة إلی القعود، یعنی إذا قعد فی موضع لساعةٍ مثلاً لا یطلق علیه أنّه ترک فعلاً أو لم یکن شاغلاً لفعل من الأفعال، بل یعدّ مشغولاً بالفعل دائماً ولو باستمرار إرادة البقاء فی القعود.

فحینئذٍ إذا نهی الشارع عن الشیء، أی زجر المکلّف عنه ومنعه عن تحقّقه، فترکه ولم یأت بشرب الخمر مثلاً امتثالاً للشارع، فإنّه لا یتحقّق منه الترک إلاّ بإتیان فعل آخر ینافی معه ولو بإرادة القعود فی مکان یستلزم ترکه، أو اشتغاله

ص:480

بأمرٍ یوجب ترک الشراب، وأمثال ذلک، فوجود الداعی إلی الفعل منتزع عن فعل ما لا یجتمع وجوداً مع فعل المنهی عنه، فیسمّی مثل هذا الترک المنتزع عن الإشکال بالفعل الآخر المنافی لفعل النهی عنه، بالترک تارةً، وأن لا یفعل اُخری، وبالکفّ ثالثة، لأنّ الإعراض عنه لیس إلاّ الملازم مع وجود فعل آخر منافٍ للمنهیّ عنه.

وعلیه فإن کان المراد من العدول عن لفظ الکفّ إلی مجرّد الترک أولی، أن لا یفعل أو یعدل عنهما إلی الکفّ، باعتبار أنّ الترک وأن لا یفعل أمرٌ عدمی لا یمکن أن یتعلّق به الطلب.

قلنا: لیس الأمر کذلک لوضوح أنّ الترک المتعلّق بالطلب فی باب النهی لابدّ أن یکون عدماً مضافاً للذی له حظّ من الوجود، لا أن یکون الترک من العدم المطلق، لأنّه من الواضح أنّ الترک بعد ذلک یضاف إلی عدم الشیء المنهی عنه لا العدم المطلق، وقد ثبت أنّه لا میز فی الأعدام من حیث العدم.

هذا بالنسبة إلی العدول من الترک إلی الکفّ.

وإن أراد العدول عن الکفّ، بمعنی الإعراض إلی الترک، لأنّ النهی لا یکون متعلّقاً بأمر وجودی، بل لابدّ أن یکون متعلّقه أمر عدمیّاً کما التزم به صاحب «الکفایة»، فإنّه یرد علیه بما عرفت من أنّ الکفّ والترک کلاهما سیّان من جهة کونهما من الأعدام المضافة، ولها حظّ من الوجود، ولا تفاوت بینهما من تلک الناحیة، لانشغال الإنسان دائماً، غایة الأمر أنّ اشتغاله قد یلازم تارةً مع ترک المنهی عنه الذی ینتزع منه أنّه ترکه أو کفّ عنه، کما لا یخفی علی المتأمّل الدقیق.

ثمّ یرد علیه ثالثاً: بأنّ المستفاد من الإشکال الذی ذکره صاحب «الکفایة»

ص:481

وتصدّی لجوابه - بأنّ الترک أیضاً یکون مقدوراً، وإلاّ لما کان الفعل مقدوراً وصادراً بالإرادة والاختیار، وکون العدم الأزلی لا بالاختیار لا یوجب أن یکون کذلک بحسب البقاء والاستمرار الذی یکون بحسبه محلاًّ للتکلیف - هو أنّ الترک الاستمراری من الأعدام الأزلیّة، غایة الأمر ذکر بأنّ الترک بلحاظ حال سابقه لا یکون متعلّقاً للقدرة، لا بحال بقائه واستمراره، حیث یکون مقدوراً، وإلاّ لما کان نقیضه - وهو الفعل - مقدوراً، ویوافقه فی هذا البیان صاحب «عنایة الاُصول» و«المحاضرات».

مع أنّک قد عرفت منّا سابقاً وآنفاً، بأنّ الترک فی حال استمراره یکون من الأعدام المضافة لا من الأعدام المطلقة التی تسمّی بالعدم الأزلی، لوضوح أنّه قد اُضیف الترک حینئذٍ إلی ترک الشیء الذی قد نهی عنه، وهو أمر انتزاعی یلازم مع الاشتغال بفعل آخر، لعدم خلوّ الإنسان عن الفعل فی وقت من الأوقات، والأعدام المضافة ربما یکون مقدوراً ویصحّ تعلّق التکلیف به، لکونه مضافاً إلی شیء فرض وجوده، ونفس الإضافة إلی الوجود یکفی فی کونه متعلّقاً للنهی، کما لا یخفی.

وبالجملة: ثبت ممّا ذکرنا أنّ الأمر من حیث المتعلّق متّحد مع النهی، حیث إنّهما یتعلّقان بالطبیعة من دون ملاحظة الوجود فی متعلّق الأمر والعدم فی النهی کما أشار إلیه صاحب «الکفایة» تبعاً لصاحب الفصول ووافقه المحقّق النائینی فی فوائده.

کما أنّ الموضوع له فی الأمر والنهی متفاوت، حیث إنّ الأمر وضع للبعث والتحریک إلی الطبیعة، والنهی إلی الزجر والمنع عن الطبیعة، وجهته أنّ کلّ واحد منهما مرکّب من المادّة والهیئة، فالمادّة فی الأوّل لا تدلّ إلاّ علی نفس الطبیعة

ص:482

کالصلاة، وأمّا الهیئة فلا تدلّ إلاّ علی نفس البعث والتحریک إلیها، فلا دلیل یدلّ علی أخذ الوجود فی متعلّقه.

نعم، لازمه وجود الطبیعة، لأنّ الأمر لا یتعلّق إلاّ بطبیعة کان فی وجودها مصلحة ملزمة، فلازم ذلک هو لزوم وجودها فی الخارج. کما أنّ الموضوع له فی النهی لیس إلاّ الزجر والمنع عنها، لأنّ مادّته لیست إلاّ دالّة علی الطبیعة الصرفة، والهیئة علی الزجر والمنع بالنسبة إلیها، ولا یکون لأخذ العدم فی متعلّقه دلیلاً یدلّ علیه.

نعم، یلازم ذلک من جهة أنّ الزجر منها لا یکون إلاّ من جهة وجود مفسدة ملزمة فی وجودها، فلذلک یطلب ترکها بالملازمة، لا أن تکون المصلحة فی ترکها حتّی یقال بأنّه متعلّق لعدم الطبیعة.

نعم، ربما یتوهّم من بعض کلمات القوم وجود إشکالات علی هذا المبنی والمختار، فلابدّ من التعرّض لها، والإجابة عنها، فنقول:

قد عرفت - علی ما اخترناه - بأنّ متعلّق النهی لا یکون إلاّ الطبیعة، والموضوع له هو الزجر والمنع عنها، لکن أورد علیه المحقّق البجنوردی فی «منتهی الاُصول» بأنّ (ما ذکر اُستاذنا المحقّق قدس سره من أنّ المادّة حاکیة عن وجود تلک الماهیّة، سواء کانت فی الجمل الخبریّة أو الإنشائیّة، والإنشائیّة سواء کانت فی الأوامر أو النواهی، فلابدّ وأن یکون مفاد النهی معناً قابلاً لأن یتعلّق بالوجود، ولیس هو إلاّ الزجر والردع کما أنّه فی الأمر یسمّی بالبعث.

ففیه: أنّ ألفاظ الموادّ موضوعات للماهیّات المهملة، غیر مأخوذ فیها لا الوجود ولا العدم، فالوجود والعدم لابدّ وأن یُؤخذ فی جانب مفاد الهیئة. نعم، لا

ص:483

شکّ فی أنّ لازم طلب ترک الشیء هو الزجر والردع عنه. کما أنّ لازم طلب وجود الشیء هو البعث والتحریک نحوه، فلا الأمر موضوع للبعث، ولا النهی موضوع للزجر والردع، لأنّهما معنیان إسمیّان، ومفاد الهیئة معنی حرفی لما تقدّم. نعم، من الممکن أن یُقال إنّ هیئة النهی موضوعة للنسبة الزجریّة، کما أنّ هیئة الأمر موضوعة للنسبة البعثیّة)(1).

أقول: فإنّ ما ذکره ردّاً علی اُستاذه وإن کان صحیحاً من جانب المادّة حیث إنّها لا تدلّ إلاّ علی نفس الطبیعة من دون ملاحظة حیثیّة الوجود ولا العدم فیها، إلاّ أنّه مخدوش من وجهین:

أوّلاً: أنّه قد أحال حیث الوجود والعدم فی متعلّق مفاد الهیئة، مع أنّک قد عرفت أنّه لا یکون شیء منهما مأخوذاً لا فی المادّة ولا فی الهیئة، ولا فی الأمر ولا فی النهی، لأنّه لا یکون لنا دلیل یدلّ علی هذا القید حتّی یقال به.

وثانیاً: أنّه کیف أنکر کون الموضوع له فی الأمر هو البعث وفی النهی هو الزجر لما بینهما معنی اسمی، مع أنّ المقصود لیس أن یکون الموضوع له هو الزجر والبعث بما أنّه لهما مفهوم اسمی، بل بما أنّه بالحمل الشایع الصناعی زجر أو بعث وهما المعبّر عنهما فی الفارسیّة ب- (واداشتن) أو (بازداشتن)، وهما بذلک لا یکونان إلاّ معناً حرفیّاً مساعداً لمفاد الهیئة.

والعجب منه أنّه استدرک وسلّم کون الموضوع له هو الزجر بالمعنی الحرفی أی النسبة الزجریّة، کما أنّ موضوع له فی الأمر هی النسبة البعثیّة، مع أنّه فیما قبله


1- منتهی الاُصول للبجنوردی: 1 / 377.

ص:484

قد أحال حیث الوجود والعدم إلی ناحیة مفاد الهیئة، یعنی بأن یکون الموضوع له فی الهیئة هو النهی والزجر عن وجود الطبیعة وعدمها، وفی الأمر هو البعث إلی وجود الطبیعة وعدمها، إذ لازم ذلک أن یکون صدور الوضع لمرّتین؛ أحدهما وضع للزجر عن الوجود، واُخری للزجر عن العدم، لعدم وجود جامع بینهما حتّی یکون الوضع المتعلّق به شاملاً لکلیهما ویکتفی بوضع واحد. ودون إثبات تعدّد الوضع فی الهیئة لکلّ من الأمر والنهی خرط القتاد، کما لا یخفی.

قال صاحب «المحاضرات»: فی معرض المناقشة معه والاعتراض علیه، بأنّه جعل الموضوع له فی الأمر والنهی إبراز الأمر الاعتباری النفسانی من حرمان المکلّف عن الفعل، وجَعَل مبرزه الصیغة، کما أنّ فی الأمر أیضاً کذلک حیث إنّه موضوع للدلالة علی إبراز الأمر الاعتباری النفسانی علی ذمّة المکلّف بالإتیان وجعل مبرزه صیغة الأمر، فلیس البعث والتحریک فی الأمر، والزجر والمنع فی النهی، إلاّ مصداقاً لهما لا أن یکونا الموضوع له لهما.

ثمّ قال فی معرض استدلاله:

(وبالجملة: فالأمر والنهی لا یدلاّن إلاّ علی ما ذکرناه، لا علی الزجر والمنع والبعث والتحریک. نعم، المولی فی مقام الزجر عن فعلٍ باعتبار اشتماله علی مفسدة لزومیّة یزجر عنه بنفس قوله لا تفعل أو ما شاکله، غایة الأمر الزجر قد یکون خارجیّاً، کما إذا منع أحد آخر عن فعل فی الخارج، وقد یکون بقوله (لا تفعل) أو ما یشبه ذلک، فیکون قوله (لا تفعل) عندئذٍ مصداقاً للزجر والمنع، لا أنّه وضع بإزائه.

کما أنّ الطلب قد یکون طلباً خارجیّاً، وتصدّیاً نحو الفعل فی الخارج

ص:485

کطالب ضالّة أو طالب العلم أو نحو ذلک .

وقد یکون طلباً وتصدّیاً فی عالم الاعتبار، نحو الفعل فیه بقوله: (افعل) أو ما یشبه ذلک، فیکون قوله (افعل) وقتئذ مصداقاً للطلب والتصدّی، لا أنّه وضع بإزائه.

وعلی ضوء بیاننا هذا قد ظهر أنّ الأمر والنهی مختلفان بحسب المعنی، فإنّ الأمر معناه الدلالة علی ثبوت شیء فی ذمّة المکلّف، والنهی معناه الدلالة علی حرمانه عنه، ومتّحدان بحسب المتعلّق، فإنّ ما تعلّق به الأمر بعینه هو متعلّق النهی، فلا فرق بینهما من هذه الناحیة أصلاً)، انتهی موضع الحاجة(1).

فیرد علیه أوّلاً: فی أنّ الموضوع له فی الأمر والنهی هل هو نفس إبراز الأمر الاعتباری النفسانی فی الإتیان فی ذمّة المکلّف، أو حرمانه عنه بحث، أی إنّ الموضوع هل هو إبراز هذا الأمر، أو أنّه ثبوت الشیء فی ذمّة المکلّف ونفس حرمانه، فقد اختلفت تعابیره، فتارةً یقول بأنّ الأمر (والصیغة وضعت للدلالة علی إبراز ذلک الأمر الاعتباری النفسانی)(2)، وکما یقول فی النهی: (بأنّ الصیغة أو ما یشاکلها موضوعة للدلالة علی إبراز ذلک الأمر الاعتباری النفسانی لا للزجر والمنع)(3)، واُخری یعبّر (بأنّ الأمر دالّ علی ثبوت شیء فی ذمّة المکلّف، والنهی دالّ علی حرمانه عنه)(4).


1- المحاضرات للخوئی قدس سره : 4 / 87 .
2- المحاضرات للخوئی قدس سره : 4 / 85 .
3- المحاضرات: 4 / 86 .
4- المحاضرات: 4 / 87 .

ص:486

مع أنّ الفرق بین هذین العنوانین والتعبیرین واضح، لأنّ مقولة (کلّ) تباین مع الآخر لوضوح أنّ الإبراز یعدّ من مقولة الفعل وله واقعیّة خارجیّة، هذا بخلاف ثبوت شیء فی ذمتّه أو حرمانه، فلیس هذا إلاّ أمراً اعتباریّاً إذا لوحظ بالنسبة إلی الآمر والناهی، وأمراً خارجیّاً إن کان وجودیّاً من الأعیان، أو خارجیّاً جعلیّاً إن کان من المجعولات کالصلاة. هذا فی الأمر.

وأمّا فی النهی کان من أعدام ما یفرض وجوده إن کان ممّا لا وجود له فی الخارج، أو کان من جهة منعه عن إزالة وجود فی الخارج کالنهی عن رفع شیء عن محلٍّ وأمثال ذلک فی النهی.

وعلی أیّ حال، کیف یمکن أن یقال بأنّ الموضوع له فیهما تارةً الإبراز، واُخری نفس الثبوت والحرمان، مع أنّک قد عرفت اختلاف مقولتها. ومجرّد إمکان تفسیر الأمر بالثبوت والنهی بالحرمان لا یوجب کونهما موضوعاً لهما، کما لا یخفی.

ویرد علیه ثانیاً: أنّه کیف یمکن أن یکون نفس (إفعل) فی الأمر و (لا تفعل) فی النهی مصداقاً للبعث ومصداقاً للزجر، مع أنّ المصداقیّة عبارة عن مرحلة المدلول للشیء، والحال أنّه لیس کذلک، لأنّ صیغة الأمر والنهی فی مرحلة الدالّیة أی صیغتهما دالّتان علی البعث والزجر، وهما مدلولان لهما، فکیف یمکن جعل ما هو فی مرحلة الدالّ، فی مرحلة المدلول وهی المصداقیّة؟!

ویرد علیه ثالثاً: أنّ الإبرازیّة قد لا تکون باللّفظ، بل تکون بالإشارة أو بغیرها، فإنّه لا یصدق فی إبراز ذلک بالإشارة أو غیرها نهی أو أمر، إلاّ بلحاظ تحریکه ومنعه، وإلاّ نفس الإظهار والإبراز باللفظ أو غیره کیف یکون أمراً أو نهیاً،

ص:487

بل هو لیس إلاّ واسطة لإفهام المقصود، لا أن یکون داخلاً فی الموضوع له، بل لو أمکن وقوع البعث والزجر بغیر ذلک لکان هو المطلوب، فالأولی جعل البعث والزجر نفس المدلول والموضوع للأمر والنهی کما علیه بعض المحقّقین من الاُصولیّین کما قد یستظهر عن صاحب «عنایة الاُصول»، بل وهکذا عن صاحب «نهایة الدرایة» حیث قال: (إن قلت: ولو سلّمنا بأنّه وإن جعل الموضوع له والمتعلّق فی النهی هو مجرّد الترک، إلاّ أنّه لابدّ فی صدق الامتثال وتحصیل الثواب من الکفّ، ففی الأوّل ما هو لفظه. نعم، الظاهر أنّ متعلّق الطلب فی النهی هو مجرّد الترک وأن لا یفعل، کما أفاد المصنّف لا الکفّ، ولکن لا یبعد أن یکون صدق الامتثال وحصول القرب، بل واستحقاق الثواب علی القول به متوقّفاً علی الکفّ، کما أنّ صدق الکفّ یتوقّف علی المیل والرغبة إلی الفعل، فما لم یکن مائلاً إلیه راغباً فیه لا کفّ هناک ولا امتثال ولا قرب ولا ثواب.

وبالجملة: أنّ المکلّف فی المحرّمات الإلهیّة :

تارةً: لا یتمکّن من الفعل أصلاً، وهاهنا لا یکون مخاطباً بالنهی أبداً، إذ النهی عن الشیء هو کالأمر به فرع القدرة علیه، وإلاّ لم یصحّ النهی عنه عقلاً کما لا یصحّ الأمر به کذلک .

واُخری: یقدر علی الفعل، لکن لا یمیل إلیه ولا یرغب فیه ولو مع قطع النظر عن حرمته شرعاً، بحیث کان ترک الفعل مستنداً إلی عدم المیل إلیه وعدم الرغبة فیه بطبعه، لا إلی نهیه تعالی وزجره عنه جلّ وعلا، وهاهنا مخاطب بالنهی، ولکن لا یثاب علی الترک، لعدم کون الترک مستنداً إلی امتثال نهیه وإطاعة زجره.

وثالثة: یقدر علی الفعل ویمیل إلیه ویرغب فیه، ولکن یکفّ نفسه عنه

ص:488

بداعی نهیه تعالی وزجره عنه جلّ وعلا، وهاهنا یکون ممتثلاً للنهی ومتقرّباً بالکفّ مثاباً علیه إن شاء اللّه تعالی)، انتهی کلامه(1).

وأمّا فی «نهایة الدرایة» فقد تعرّض له بقوله: (إن قلت: کما لا یقع الفعل امتثالاً للأمر إلاّ إذا کان الإتیان بداعی الأمر، کذلک النهی إذا لم یکن داعیاً إلی الترک، بل کان الترک بعدم الداعی لم یقع الترک امتثالاً للنهی، ومثله لا یکون مطلوباً، بل فیما إذا کان له داعٍ إلی الفعل لیکون النهی رادعاً وموجباً لبقاء العدم علی حاله)(2).

أقول: ولا یخفی أنّ المحقّق الإصفهانی قدس سره بنفسه قد أجاب عنه، ولقد أجاد فیما أفاد، ونحن نستکمل ذلک وما وقع فی جوابه هو .

(قلت: عدم الداعی إلی الفعل قد یکون بواسطة عدم القوّة المنبعث عنها الشوق إلی الفعل، وفی مثله لا یعقل النهی، وقد یکون بواسطة الردع الموجب لعدم انبعاث الشوق عنها، وفی مثله یصحّ النهی والترک حینئذٍ بواسطة النهی، فلا ینحصر دعوة النهی فی صورة حدوث المیل حتّی یکون النهی منحصراً فی صورة الکفّ، بل عموم حدوث المیل والشوق ربما یکون بواسطة النهی، فتدبّر)، انتهی کلامه.

ونحن نقول فی توضیح ذلک: إنّ ما لا یمکن ولا یصحّ النهی عنه ثابت فیما إذا لم یتحقّق له میلاً وداعیاً ذاتیّاً لعدم وجود میل فطری وشوق للنهی عنه فی نوعه لا فی شخصه، لأنّ الأحکام الإلهیّة متعلّقة بنوع الإنسان، لا بأشخاصهم حتّی یُنتقض بفرد خاصّ لیس له شهوة من جهة کونه غنیّاً، وأمّا إذا کان نوع الإنسان


1- عنایة الاُصول: 2 / 3 .
2- نهایة الدرایة: 2 / 82 .

ص:489

بحسب فطرته وشهوته الغریزیّة راغباً وشائقاً إلی مناکحة النساء ولو عن حرام، فحینئذٍ یصحّ للشارع النهی عنه، الذی یوجب ذلک ردعه عن توجیه النفس وشوقها إلیه، فنفس الترک المنتهی إلی نهی الرّب یکفی فی صدق الامتثال لیصدق فی حقّه أنّه عبد ممتثل وإن لم یرغب به نفسه فعلاً إلی الفعلیّة، لکن عدم رغبتها کان بواسطة النهی، وإلاّ لکان الرغبة عنها ممکناً ومحقّقاً وإلاّ لا یکفی فی صدق الامتثال وجود الکفّ عن مثل العنّین، لأنّه لا یقدر علی المیل بذلک حتّی یعرض عنه. نعم، یمکن القول بأنّ من امتنع عن الارتکاب برغم میله النفسی الشدید - کما هو الحال بالنسبة إلی الشبّان - احتراماً لردع اللّه سبحانه عن ذلک کان ذلک أکثر ثواباً ممّن لا شهوة فیه کذلک إمّا لکبر سنّه أو لبرودة مزاجه أو لجهات اُخری دخیلة فیه، وهذا الأخیر برغم برودته الجنسیّة یصحّ توجیه النهی إلیه، فیصبح متعلّق النهی الذی هو الزجر والمنع لا الترک ولا الکفّ .

وبالجملة: لا حاجة لصدق الامتثال إلی وجود المیل والرغبة حتّی یصدق الکفّ عنه امتثالاً کما لا یخفی.

الکلام فی وجه الاختلاف فی مقتضی الأمر والنهی: قد وقع الخلاف بین الأعلام أنّه کیف یقتضی النهی ترک جمیع أفراد متعلّقه، بخلاف الأمر حیث یقتضی وجود فرد واحد منه المسمّی بصرف الوجود. ومنشأ هذا الاختلاف :

هل کان بالوضع کما علیه المحقّق النائینی فیما نحن فیه، وإن ذهب إلی غیره فی باب العام المخصّص.

أو کان بالعقل کما صرّح بذلک صاحب «الکفایة» ووافقه صاحب «عنایة الاُصول».

ص:490

أو کان بمقتضی مقدّمات الحکمة والإطلاق المقامی، کما علیه المحقّق الإصفهانی صاحب «نهایة الدرایة» والنائینی وصاحب «منتهی الاُصول» وصاحب «المحاضرات»، بل لا یبعد استناده إلی المحقّق الحکیم فی حقایقه.

أو لا یکون بشیء منها، بل کان لفهم العرف ذلک ویکون متّبعاً کما علیه المحقّق الخمینی.

أقول: والأقوی عندنا هو الثالث ثمّ الرابع لو لم یکن المقصود من العرف هو حکم العقلاء المستکشف بواسطة مقدّمات الحکمة، وإلاّ أصبح متّحداً مع القول الثالث، فلابدّ لتوضیح ذلک من بیان مقدّمة، وهی:

أنّ ملاحظة حال الأمر والنهی بالنظر إلی متعلّقهما، یقع فی مرحلتین من الثبوت والإثبات.

وأمّا الکلام فی المرحلة الاُولی: وهو الثبوت، فنقول:

فکما أنّ الأمر بالنظر إلی متعلّقه یتصوّر علی أنحاء ثلاثة، هکذا یکون فی النهی؛ لأنّه :

تارةً: یفرض کون الطبیعة المتعلّقة للأمر بصرف وجود ما مطلوبه، بحیث یحصل الامتثال إذا تحقّقت بوجود واحد، سواء کان فی فرد واحد أو فی أفراد متعدّدة بدفعة واحدة، کما فی صلاة المیّت لو قلنا بأنّ امتثال الأمر فیها یکون بوجود واحد منها لا أنّ کلّ فرد فرد طولی منها له أمرٌ مستقلّ بذاته.

واُخری: تکون الطبیعة بوجودها الاستغراقی والانحلالی مطلوبة، بحیث کان لکلّ منها امتثالاً ومعصیة مستقلّة، نظیر ما لو قال (أکرم کلّ عالم).

وثالثة: أن تکون الطبیعة بصورة العام المجموعی مطلوبة، بحیث لو فقد فردٌ

ص:491

من الطبیعة لما عُدّ ممتثلاً للأمر، وهو کما یتّفق فی العسکر والجند حیث أنّ المطلوب عددٌ معیّن مضبوط منهم، فلو نقص من تلک العدّة شخصاً واحداً لما تحقّق الامتثال والإطاعة .

والاختلاف بین هذه الثلاثة لأنّ الغرض المترتّب علی کلّ واحد من الثلاث متفاوتاً، کما لا یخفی.

وکذلک یکون حال النهی بالنسبة إلی متعلّقه :

تارةً: یکون صرف وجود الطبیعة مبغوضاً لا أزید کما فی النهی عن ارتفاع أصوات الجنود عند الحرب حتّی لا یلتفت العدوّ لوجودهم فی ذلک المکان، فالمبغوض هو رفع الصوت من جندی واحد من الجنود. لا کلّ فرد فرد منهم طولاً بعد التفات العدوّ، وکذلک فی العرفیّات کما لو نهی المولی عبده عن أکل الثوم والبصل لرائحتهما الکریهة، وکان المقصود هو ورد مجلس لا یناسب مع وجود هذه الرائحة فی فمه، فإنّ المنهی عنه بحسب المتعارف هو صرف وجود أکل الثوم والبصل، وإلاّ بعد ما أکل وتلوّثت فمه برائحته الکریهة لا یکون أکلهما بعد ذلک موضوعاً للنهی، بل ربما أجاز بعده، ففی مثل هذا یکون وجود العام المجموعی من الثوم مبغوضاً، بحیث ینتقض بفرد واحد .

واُخری: ما یکون المنهی عنه هو وجود کلّ فرد فرد من الطبیعة، بحیث یکون فرد منها امتثالاً وعصیاناً من دون ارتباط بین الأفراد بعضها مع بعض فی الطاعة والعصیان، وهو کما تری فی المنهیّات الشرعیّة والعرفیّة، مثل قوله علیه السلام : (لا تشرب الخمر)، وقوله تعالی: «وَلاَ یَغْتَبْ بَعْضُکُمْ بَعْضا»(1) وأمثال ذلک.


1- الحجرات: 12 .

ص:492

وثالثة: ما یکون المنهیّ عنه هو نفی جمیع الأفراد مجموعاً من الطبیعة المنهی عنها، فمثّلوا لذلک فی العرفیّات بما لو قال المولی: (لا تأکل کلّ رمّانة فی البستان) أو فی طرف خاصّ، حیث یستفاد منه أنّ أکل بعضها غیر مبغوض، حتّی إذا لم یبلغ إلی الجمیع، بل ویمکن أن یمثل فی الشرعیّات بمثل نهی الشارع للصائم عن ارتماس جمیع رأسه فی الماء، وکذا قوله: (لا تهجر الفراش أربعة أشهر)، حیث یستفاد أنّ بعضه أو أقلّ منه لا یضرّ بحاله وبصومه مثلاً، ونظائر ذلک یوجد فی الشرعیّات والعرفیّات، هذا کلّه فی مقام التصوّر والثبوت ممّا لا کلام ولا إشکال فی إمکانه، بل ووقوعه.

وأمّا الکلام فی مرحلة الإثبات: فقد اشتهر فی الألسنة بأنّ الطبیعة قد توجد بفرد واحد، وتنعدم بعدم جمیع أفرادها، وشهرة ذلک علی حدّ یقرب أن یصیر أصلاً شایعاً فی لسان القوم، وکأنّه من المسلّمات عندهم، ولذلک ربما استفاد منه بعضهم فی المقام بأنّ وجه کون الأمر یتحقّق بصرف الوجود، والنهی یحصل بعدم جمیع أفراده باعتبار أنّهما من شعب هذا الأصل، بل استدلّوا فی کلماتهم علی ذلک، وفهم صاحب «منتهی الاُصول» حیث یقول:

(والسرّ فی ذلک أنّ وجود الطبیعة یحصل بوجود فرد واحد، وأمّا انعدام الطبیعة فبانعدام جمیع الأفراد.. إلی آخره)(1).

مع أنّ هذا الأصل غیر مربوط بما نحن فیه، کما سیتّضح لک الأمر فی ذلک إن شاء اللّه.


1- منتهی الاُصول: 1 / 378 .

ص:493

ولکن نشاهد فی قبال هذه الطائفة جماعة اُخری قد أنکروا ذلک وجعلوه غیر صحیح، والشاهد علیه صریح کلام صاحب «نهایة الدرایة» حیث یقول:

(فما اشتهر من أنّ تحقّق الطبیعة یتحقّق بفرد، وانتفائها بانتفاء جمیع أفرادها، لا أصل له، حیث لا مقابلة بین الطبیعة الملحوظة علی نحو تتحقّق بتحقّق فرد منها، والطبیعة الملحوظة علی نحو تقتضی بانتفاء جمیع أفرادها)، انتهی کلامه(1).

وتبعه علی هذا الکلام المحقّق الخمینی فی تقریراته علی حسب ما قرّره المقرّر حیث قال فی جواب المحقّق الخراسانی الذی التزم بأنّ مقتضی العقل أنّ الطبیعی یوجد بفرد ما وینعدم بعدم جمیع الأفراد:

(وأنت خبیر بفساد هذه القاعدة، لأنّ المراد منها إن کان هو الطبیعة المهملة - أی بلا شرط - فهی کما توجد بفرد ما کذلک تنعدم بانعدام فرد ما.

وإن اُرید الطبیعة الساریة فی مصادیقها علی اصطلاح القوم، فهی لا توجد إلاّ بوجود جمیع مصادیقها) انتهی کلامه(2).

ولکن الإنصاف أن یقال: إنّ هذه القاعدة والأصل کان فی مورده صحیحاً، لوضوح أنّ وجود الطبیعة یصدق بوجود فرد واحد، یعنی إذا وجد فرد صدق بأنّ الطبیعة قد وجدت، لأنّ الحقّ عندنا أنّ وجود الطبیعة بعین وجود أفرادها ولو کان بفرد واحد، کما أنّ عدم الطبیعة - إذا اُرید عدمها - لا یکون إلاّ بعدم وجود فردٍ منها، یعنی إذا وجد فرد منها فقد تحقّقت فلا یصدق عدمها، فصدقها کذلک منوط


1- نهایة الدرایة: 2 / 82 .
2- تهذیب الاُصول: 1 / 295 .

ص:494

علی عدم وجودها خارجاً أبداً ولو بفرد، وهو لا یکون إلاّ بعدم جمیع أفرادها، إذ بوجود فرد منه تخرج عن حالة العدم إلی الوجود، وهو أصل مسلّم عند العقل والعقلاء ولا مجال لإنکاره.

لکنّه لا یرتبط بالبحث الذی کنّا فیه من جهة تعلّق الأمر والنهی بها، فإنّه أمر آخر لابدّ من ملاحظة کیفیّة الدلالة بأحد طرق ذکرناه فی صدر المسألة، ویتعیّن من الأقسام الثلاث بعدما عرفت إمکان کلّ واحد منها ثبوتاً، فنقول:

أمّا فی طرف الأمر: حیث یکون مقتضاه صرف الوجود، فلما قد بیّناه فی باب الأمر فی بحث المرّة والتکرار وغیره بأنّ الأمر لا یطلب إلاّ أصل الماهیّة من دون تقیّد بمرّة ولا تکرار. غایة الأمر، أنّ العقل یحکم بوجوب الإطاعة والامتثال، وهو یحصل بوجود مصداق واحد، فعلی هذا یکون فی طرف الأمر وجود فرد واحد من الطبیعة ضروریّاً عقلاً قضیّةً للامتثال وللطاعة. فما زاد منه لابدّ من دلالة دلیل یدلّ علیه من قرینة مقالیّة أو مقامیّة أو غیر ذلک ممّا یمکن إفهام غیر ما یقتضیه حکم العقل، هذا فی ناحیة الأمر .

وأمّا فی طرف النهی: حیث قد عرفت إمکان وقوع کلّ من الثلاث، إلاّ أنّ مقتضی تعلّق النهی بالطبیعة، وإحراز أنّ الطبیعة کانت مبغوضة للمولی ولم یکن فی اللّفظ أو المقام قرینة تدلّ علی کون مبغوضیّتها بصورة فرد واحد أو بصورة المجموعیّة إذا وجدت بأن کانت مبغوضة لا کلّ واحد واحد، یفهم من ذلک عند العقلاء کون الطبیعة مبغوضیّتها بتحقّقها وبوجودها فی أیّ فردٍ منها کانت ولو متکرّراً، لأنّ المفروض أنّ فهم وجودها بأیّ حال کان مبغوضاً بمقدّمات الحکمة، بل الغلبة فی الاستعمالات ربما توجب اُنس الذهن وتبادره إلی ذلک، کما أنّ

ص:495

الماهیّات فی العرف کثیراً ما یکون کذلک، فإن کان مراد المحقّق الخمینی سلّمه اللّه من العرف هو ما ذکرناه فکان کلامه متّحداً مع ما عرفت وإلاّ فلا.

فظهر ممّا ذکرنا أنّ حکم العقل یصحّ فی طرف الأمر دون النهی؛ لأنّ دلالته علی عدم جمیع أفراد الطبیعة بالإطلاق المقامی ومقدّمات الحکمة، فیکون الحقّ هو التفصیل بینهما، ولعلّه لهذا السبب أصبح قولاً آخراً غیر ما ذکروه، لأنّهم لم یصرّحوا فی المقام فی الأمر والنهی بهذا التفصیل، فتأمّل.

أقول: ثمّ لا یخفی علیک أنّ مقتضی الإطلاق بمقدّمات الحکمة، هو ترک الأفراد بجمیع عناوینها من الأفراد الدفعیّة للطبیعة أو التدریجیّة، غایة الأمر کان هذا البحث لإثبات الترک للتدریجیّة، لأنّها واقعة فی الطول من الزمان بخلاف الأفراد الدفعیّة حیث تکون واقعة فی مرحلة العرض، إذ ربّما یکون التحقیق بوجود عدّة أفراد فی زمان واحد، أو واحداً علی سبیل البدلیّة تدریجاً، بلحاظ إمکان وقوعه فی أمکنة متعدّدة، وأنّ الترک بلحاظ الثانی هل هو داخل تحت النهی أو لا، ولو بلحاظ کونه لأوّل وجود من الطبیعة فی الأفراد مثلاً.

البحث عن اقتضاء النهی بعد المخالفة: بعدما ثبت عدم دلالة النهی بمادّته وهیئته علی لزوم الاستمرار والتکرار، وثبت إمکان وجود النهی علی أنحاء ثلاثة فی مقام الثبوت والتصوّر، یقع الکلام حینئذٍ فی أنّه لو خالف العبد للنهی وارتکب المنهیّ عنه، وعصی الأمر بالترک، فهل یقتضی النهی لزوم ترکه فی سایر أفراده بعده أم لا یقتضی ذلک، أو یقتضی عدم لزوم ترکه ؟ وجوه.

فعن صاحب «الکفایة»: (إنّه لا دلالة للنهی علی إرادة الترک لو خُولِف أو عدم إرادته، بل لابدّ فی تعیین ذلک من دلالته ولو کان إطلاق المتعلّق من هذه

ص:496

الجهة، ولا یکفی إطلاقها من سایر الجهات فتدبّر جدّاً)، انتهی کلامه(1).

وعن صاحب «حقائق الاُصول» للحکیم قدس سره : (والطریق إلی معرفة أنّها ملحوظة علی أیّ النحوین، یمکن أن یکون بإطلاق المادّة، فإنّ مقتضاه کونه ملحوظة صرف الوجود کما تقدّم بیانه فی المرّة والتکرار، کذلک إطلاق قوله (لا تضرب) یقتضی الزجر عن صرف الوجود، فإذا خولف بالوجود لم یقتض الزجر عن الوجود بعد ذلک، فإنّه وجودٌ بعد وجود، لا وجودٌ بعد العدم الذی هو صرف الوجود کما عرفت.

نعم، الغالب فی المفسدة أن تکون قائمة بکلّ حصّة بحیالها، وفی المصلحة أن تکون قائمة بصرف الوجود، فلعلّ هذه الغلبة تقتضی کون مقتضی الإطلاق هو الثانی لأنّ الأوّل حینئذٍ یحتاج إلی بیان، فتأمّل)، انتهی کلامه(2).

أقول: الحقّ عدم دلالة النهی لا بمادّته ولا بهیئته علی شیء من المحتملات الثلاث التی ذکرناها، لما قد عرفت منّا کراراً بأنّ المادّة لا تدلّ إلاّ علی أصل الماهیّة من دون نظر إلی وجودها مرّة أو أزید، ومن دون توجّه إلی حال العصیان أو الامتثال .

کما أنّ الهیئة بذاتها لا تدلّ إلاّ علی الزجر والمنع عن الطبیعة بأیّ کیفیّة وقعت، من دون نظر فیها إلی هذه الجهات، فلابدّ لإثبات أحد من الاُمور الثلاثة من الرجوع إلی القرینة المقالیّة أو المقامیّة، فإن فقدت القرینة بتمام أقسامها فلابدّ من الرجوع إلی مقدّمات الحکمة، وهی کما عرفت بیانها منّا سابقاً دالّة علی کون


1- الکفایة: 150 .
2- حقایق الاُصول: 1 / 349.

ص:497

الطبیعة بوجودها مبغوضة، سواء کانت تحقّقت الأفراد عرضیّة أو طولیّة، أی سواء کانت فی الأفراد الدفعیّة أو التدریجیّة، فإذا کان هذا اقتضاء مقدّمات الحکمة فلازم ذلک کون کلّ فرد من الأفراد له امتثال مستقلّ وعصیان علی حدة، فإنّ مخالفة فرداً من أفراد المنهی عنه، لا یوجب سقوطه عن سایر الأفراد، کما هو مقتضی کون النهی بصورة العامّ الاستغراقی .

وعلی ما ذکرنا یظهر أنّ ما ذکره الحکیم قدس سره بأنّ مقتضی إطلاق المادّة هو صرف الوجود:

إن کان مقصوده من حیث إطلاق المادّة، من جهة عدم تقییدها بقید، ومع هذا الوصف قد تعلّق النهی بها، فقد عرفت أنّ مقتضاها المبغوضیّة لکلّ فرد فرد من الطبیعة کما هو المتفاهم عند العرف.

وإن کان مقصوده إطلاق المادّة من دون نظر إلی النهی المتعلّق بها، فقد عرفت بأنّ المادّة لا تدلّ إلاّ علی أصل الطبیعة من دون إفهام للمرّة أو التکرار أو الفرد والأفراد.

وممّا ذکرنا یظهر وجه النظر فی کلام صاحب «الکفایة» إن کان مقصوده من إطلاق المتعلّق غیر ما ذکرناه، ولکن الأظهر أنّه أراد نفس المعنی الذی تحدّثنا عنه لقوله رحمه الله : (ولو کان إطلاق المتعلّق من هذه الجهة) حیث یحتمل کون مراده من (الجهة) أی من جهة تعلّق النهی به وجریان مقدّمات الحکمة فیه، واللّه العالم.

أقول: هنا تنبیهان ینبغی التعرّض لهما:

التنبیه الأوّل :

ثمّ لا یذهب علیک أنّ النهی قد یتعلّق بوجود طبیعة من جهة کون وجودها

ص:498

مشتملة علی مفسدة، فهنا مرکز تعلّق النهی لا الأمر بالعدم، لأنّ الأمر یتعلّق بما فی وجودها مصلحة، ولکن قد یتعلّق الأمر بشیء کان عدم خاص منه ومقارناته معنوناً بعنوان حسن ذی مصلحة، فیکون المقام حینئذٍ مقام تعلّق بعث وأمر وإن کان مورد متعلّقه هو الأعدام المضافة إلی الأشیاء المتضمّنة للمصلحة کالصوم الذی حقیقته الإمساک وهو أمرٌ عدمی، ولکنّه له حظّ وجودی بلحاظ النیّة المرتّبة علیه، کما أنّ النهی قد یتعلّق بترک شیء، إذا فرض کون ترکه موجباً للمفسدة من دون المصلحة فی فعله، فربما یعبّر عنه فی هذا الفرض بالزجر عن الترک کما فی: (لا تترک)، کما یتّفق ذلک بالنسبة إلی الجنود فی باب الحرب .

وکیف کان، فاعلم بأنّ الملاک فی الأمر والنهی لیس خصوص کونه متعلّقاً بالوجود والآخر بالعدم، کما هو الغالب، بل الملاک کون المتعلّق ذی مصلحة ملزمة، فهو مرکز للأمر سواء کان بوجوده أو بعدمه، أو کون المتعلّق ذی مفسدة ملزمة، فیکون مرکزاً للنهی، سواء کان تعلّقه بوجوده أو بعدمه، وعلیه فالبعث والزجر الذی یعدّ مفادهما قد یتعلّقان بالوجود تارةً وبالعدم اُخری .

التنبیه الثانی: وهو أنّه لا إشکال فی أنّ الأمر ینقسم إلی تعبّدی وتوصّلی، باعتبار أنّ وجوده فی الخارج إن کان مع قصد امتثال الأمر عُدّ تعبّدیّاً، وإلاّ کان توصّلیّاً.

والإشکال إنّما وقع فی النهی، فی أنّه هل یمکن تقسیمه إلیهما أم لا؟

والذی یظهر من کلام العلاّمة البروجردی قدس سره فی «نهایة الاُصول» حیث یقول: (إنّ توهّم جریانه فیه فاسد، إذ النهی إنّما یتعلّق بوجود الطبیعة، وقد عرفت أنّ نفس امریّته عصیان له، ولا یعقل أن یقع متعلّقه مصداقاً لامتثاله، وحقیقة

ص:499

التعبّدیّة هی کون المتعلّق للتکلیف مقیّداً بصدوره بداعی هذا التکلیف المتعلّق به، فیشترط فی تحقّقها کون المتعلّق بتحقّقه مصداقاً للامتثال کما فی الأوامر لا للعصیان کما فی النواهی)، انتهی کلامه(1).

وفیه: قد عرفت بأنّ الأمر والنهی کما قد یتعلّقان بوجود شیء فیه المصلحة أو المفسدة الملزمتان کذلک، قد یتعلّقان بعدم شیء کان فیه المصلحة أو المفسدة الملزمتان، کما عرفت فی مثل الصوم الذی هو عبارة عن الإمساک، فمع ذلک یؤتی بقصد القربة، مع أنّه بحسب مبناه عدم خاص فیه المصلحة، فکیف التزم فی التعبّدی اعتبار أن یکون أمراً وجودیّاً مصداقاً للامتثال، وهکذا نقول فی ناحیة النهی أیضاً، حیث إنّه قد یکون فی عدم شیء مفسدة ممّا یستلزم أن تکون فی وجودها مصلحة، وهکذا یتعلّق النهی بترک شیء لأنّ فی ترکه مفسدة لا فی وجوده مصلحة، کما یتّفق ذلک فی الحرب حیث یعدّ ترک الجندی لمحلّ خاصّ مستلزماً لمفسدة هزیمة سائر الجنود، وإن لم یکن بقائهم فیه مستلزماً للفتح والنصر المتضمّنان للمصلحة، ولذلک ینهی عن ترکه ویقول لا تترک موضعک، فیکون مفهومه وملازمه هو وجوب الکون فی المقام .

وکیف کان، فأیّ مانع یمنع عن القول بجواز إتیان الممنوع الذی نهی عن وجوده، أو الموجود الذی قد نهی عن ترکه بقصد نهی مولاه وامتثالاً للتکلیف والتعبّد، وإتیان اُمور اُخری لا بقصد التعبّد وإطاعةً لأوامره تعالی، بل کان امتثاله للتکلیف لملاحظة جهات اُخری توصّلیّة.


1- نهایة الاُصول 224 .

ص:500

فعلی هذا یصحّ أن یقال بأنّ النهی أیضاً ینقسم إلی التوصّلی والتعبّدی ویکون الثواب والأجر فیهما متفاوتاً.

نعم، الذی ینبغی أن یُقال: إنّه لیس لنا فی الأخبار والأدلّة ما یدلّ علی لزوم قصد امتثال المکلّف فی النواهی لیصدق الإطاعة والامتثال إذ یصدق علی فعله الامتثال حتّی ولو کان امتثاله من دون توجّه إلی قصده، ولعلّه لذلک لا لعدم إمکان التقسیم کما توهّمه العلاّمة البروجردی، فافهم واغتنم.

***

ص:501

اجتماع الأمر والنهی

فصل

فی اجتماع الأمر والنهی

اعلم أنّه وقع الخلاف بین الأعلام فی جواز اجتماعهما وتصادقهما فی واحد وامتناعه علی أقوال ثلاثة:

الأوّل: قول بالجواز مطلقاً، کما علیه کثیر من المتأخّرین، وسوف نصرّح بأسمائهم لاحقاً.

الثانی: وقول بالامتناع، وعلیه أکثر الجمهور والمعتزلة وبعض الأشاعرة، والعمیدی وصاحبی المدارک والمعالم وبعض المتأخّرین من الإمامیّة .

الثالث: التفصیل بین حکم العقل والعرف، فیجوز الاجتماع عقلاً ولا یجوز عرفاً، وهو المنسوب إلی الأردبیلی فی «شرح الإرشاد» وصاحب «الکفایة».

أقول: فلابدّ قبل الخوض فی المقصود وبیان المختار من تقدیم اُمور :

الأمر الأوّل: فی المراد من الواحد الواقع فی العنوان، هل المقصود منه هو الواحد الشخصی کما قد یؤیّده المحقّق الخمینی فی تهذیبه، والحکیم فی حقایقه، معلّلین ذلک بأنّه مرتکز البحث فی صحّة العبادة وعدمها لا الکلّی منه، خلافاً للمحقّق العراقی فی نهایته بقوله: (ولئن تأمّلت تری اختصاصه أیضاً بالواحد الکلّی، وعدم شموله لما یعمّه والشخصی کشخص الصلاة الواقعة فی هذا الغصب، إذ ذلک أیضاً وإن کان مجمعاً للعنوانین، ولا بتوسیط کلّی عنوان الصلاة فی الغصب،

ص:502

إلاّ أنّ المناسب للمسألة بعد کونها اُصولیّة لا فقهیّة هو خصوص الکلّی دون ما یعمّه والشخصی کما هو واضح)، انتهی کلامه(1).

خلافاً لصاحب «الکفایة» حیث قال: (المراد من الواحد هو مطلق ما کان ذا وجهین، ومندرجاً تحت عنوانین، بأحدهما کان مورداً للأمر، وبالآخر للنهی، وإن کان کلّیاً مقولاً علی کثیرین کالصلاة فی المغصوب).

ولکن الحقّ أن یُقال: بأنّ الواحد یطلق علی اُمور متعدّدة:

تارةً: یُراد بالواحد الواحد الشخصی والجزئی الحقیقی من جمیع الجهات کزید.

واُخری: یُراد به أن یکون نوعیّاً کالإنسان.

وثالثة: یُراد أن یکون محکوماً بالوحدة جنسیّاً کالحیوان.

والوحدة فی جمیع هذه الثلاثة ربما تکون حقیقیّة، وقد یُراد بالوحدة هو الوحدة بالنوع، کمقایسة بعض القبایل بعضها مع بعض، حیث تکون وحدتهم بالوحدة النوعیّة، وهی کونهم إنساناً کما یقال إنّ الرومی والزنجی یکون من نوع واحد أی من إنسان فارد، وقد یکون الواحد هو الواحد بالجنس کما یُقال بأنّ البقر والغنم واحد أی من جنس واحد وهو الحیوان والوحدة فی هذین یکون مجازیّاً لا حقیقیّاً، لأنّهما بالحقیقة اثنان إلاّ أنّهما بالعرض والمجاز ینسبان إلی واحد لأنّ جنسهما واحد حقیقةً، فالوحدة أوّلاً وبالذات تحمل علی الجنس، وثانیاً وبالعرض تنسب إلی الفردین الخارجین.


1- نهایة الأفکار: 1 / 408 .

ص:503

ثمّ الواحد الشخصی قد یکون من حیث الجهة واحدة، کما أنّ ذاته واحد، وقد یکون ما یکون معنوناً بعنوانین وموجّهاً بوجهین کالجلوس فی محلّ إذا صار واجباً لجهة وحراماً لاُخری، کالصلاة فی الأرض المغصوبة، فإنّ الصلاة واجبة من جهة ومحرّمة من جهة کونها غصباً، والذی یکون مراداً للبحث هو الثانی من الواحد الشخصی وهو لا یکون کلّیاً، بل یکون فرداً لکلّیین من العنوانین.

وجهه - مضافاً إلی ما ذکره المحقّق الحکیم قدس سره من أنّ الحکم بالصحّة والفساد یکون للصلاة الفردیّة الخارجیّة الفاقدة للشرائط، أو واجدة للموانع - إنّ البحث فی الجواز وعدمه کان بعد الفراغ من انطباق العنوانین علی المعنون خارجاً، غایة الأمر یقع البحث فی أنّ الأمر المتعلّق بشیء هل یوجب سرایته إلی متعلّق النهی لوحدة المتعلّق أو لا یوجب ؟ فالامتناعی کان علی الأوّل والجوازی علی الثانی، فثبت أنّ الحقّ مع المحقّق الحکیم ومن تبعه فی أنّ المراد من الواحد هو الشخصی الذی کان له وجهین وعنوانین، لا ما یکون موجّهاً بوجه واحد ومعنوناً بعنوان فارد، ولا ما یکون واحداً بالجنس، کما فی تعلّق الأثر بواحد والنهی عن الآخر کالسجود للّه والصنم لتعدّد متعلّقهما وعدم تصادقهما فی واحد.

الأمر الثانی: هل النزاع هنا صغروی کما علیه جماعة من المتأخّرین کالمحقّق النائینی وصاحب «المحاضرات» وغیرهم، أو أنّ النزاع کبروی کما علیه صاحب «تهذیب الاُصول»، والظاهر کون الأوّل أولی .

بیان ذلک: موقوف علی ذکر مقدّمة، وهی:

أنّ کلّ تکلیف یحتاج إلی اُمور أربعة سواء کان أمراً أو نهیاً، وهی عبارة عن

ص:504

المکلِّف (بالکسر) وهو الآمر، والمکلَّف (بالفتح) وهو العبد، والمکلف به وهو العمل، وزمان امتثال التکلیف.

ولا إشکال عند العقل والعقلاء بأنّ المولی والعبد والعمل وزمان الامتثال إذا کانت واحدة وکان وجه العمل واحداً، وجهته واحدة، کان توجّه تکلیفین من الأمر والنهی معاً بالنسبة إلیه محالاً، أی یعدّ نفس صدور التکلیف محالاً لا تکلیفاً بالمحال کما وقع فی بعض العبایر؛ لعدم إمکان تحقّق الإرادة والکراهة معاً من المولی الحکیم فی شیء واحد للشخص الفارد من جهة واحدة، فهو محذور آخر غیر محذور أصل عدم إمکان جمع الإرادة والکراهة واقعاً فی شیء واحد، کما لایخفی.

نعم، یعدّ تکلیفاً بالمحال أیضاً بالنظر إلی حال العبد، لو أمکن وقوع التکلیفین کذلک عن المولی الواحد بفرض محال، کما یعدّ حینئذٍ من التکلیف بالمحال لا التکلیف المحال لو فرض تعدّد المولی، فأمر أحدهما بذلک الشیء ونهاه عن الآخر، مع فرض الوحدة فی المتعلّق من جمیع الجهات، أی من حیث الزمان والمکان والجهة وغیرها، وهذا الکبری مسلّم عند العقل والعقلاء فی القسمین المزبورین بلا کلام ولا إشکال .

وإنّما الکلام والإشکال وقع فیما إذا کان المتعلّق من حیث ذاته واحداً، کما أنّ زمان الامتثال والمکلَّف (بالفتح) واحداً والمفروض وحدة المولی - وإن أمکن فرضه متعدّداً بتعدّد الأمر والنهی، ولکنّ المفروض عند القوم هو وحدة المولی - إلاّ أنّ المتعلّق فی الأمر والنهی قد ینطبق علی شیء واحد ذاتاً ومتعدّدٍ جهة وعنواناً أی کان المتعلّق لهما کلّیاً منطبقاً علی الفرد الواحد بحسب الذات والمتعدّد

ص:505

بحسب الجهة تارةً وبغیره اُخری .

وجه الإشکال: أنّه هل هو یکون من قبیل القسمین الأولیین اللّذین کانا متعلّقهما بحسب الذات والجهة متّحداً لیکون مستحیلاً، ولو من جهة کونه تکلیفاً بالمحال، لو لم نقل إنّه تکلیفٌ محال کما قد عرفت، فیکون من صغریات تلک الکبری.

أو لا یکون من هذا القبیل، لکفایة تعدّد الجهة والعنوان فی رفع غائلة الاستحالة، وعدم سرایة ما هو المتعلّق فی أحدهما للآخر، فلیس حینئذٍ من صغریات تلک المسألة.

أقول: ظهر من جمیع ما ذکرنا أنّ النزاع هنا صغروی لا کبروی کما توهّمه المحقّق الخمینی، ولم یذکر لمدّعاه وجهاً مبیّناً، اللَّهُمَّ إلاّ أن یراد أنّ البحث بما أنّه فی کلّی هذه القضیّة، وأنّ تعدّد الجهة مع وحدة المحلّ هل یکفی فی رفع المحذور من التکلیف بالمحال أم لا، حیث یصبح البحث حینئذٍ کبرویّاً، واللّه العالم.

الأمر الثالث: أنّه قد وقع الخلاف بین الأعلام فی أنّ هذه المسألة التی تعدّ من أهمّ المسائل هل هی مسألة اُصولیّة أو کلامیّة أو فقهیّة أم تعدّ من مبادئ الأحکام أو من المبادئ التصدیقیّة للمسائل الاُصولیّة ؟ وجوه وأقوال واحتمالات:

والذی یظهر من المحقّق القمّی قدس سره أنّه عدّها من المسائل الکلامیّة، حیث قال فی «القوانین»:

(وهذه المسألة وإن کانت من المسائل الکلامیّة، ولکنّها لمّا کانت یتفرّع علیها کثیر من المسائل الفرعیّة، ذکرها الاُصولیّین فی کتبهم، ونحن نقتفی آثارهم

ص:506

فی ذلک)، انتهی کلامه(1).

أقول: لکنّه مخدوش بأنّ علم الکلام علم یبحث فیه عن المبدأ والمعاد وعن أفعال اللّه تعالی، ولیس المقصود هنا هو البحث عن ذلک من حیث صدوره عن المولی الحکیم وعدم صدوره، وإن کان ذلک من أثر سرایة متعلّق أحدهما علی الآخر وعدمها، إلاّ أنّ ذلک لیس الغرض من البحث .

وأمّا اعتبارها من المسائل الکلامیّة لأنّ البحث فیها عن إمکان الاجتماع بین متعلّقی الأمر والنهی وعدم إمکانه، استلزم أن تکون أکثر مسائل المعقول والمنطق من المسائل الکلامیّة، وهو واضح الفساد کما لا یخفی .

وأمّا کونها من المسائل الفرعیّة، وإن احتمله المحقّق الحکیم فی «حقائق الاُصول» من جهة ملاحظة حال صحّة الصلاة فی الدار المغصوبة وعدمها، إلاّ أنّه لم یشهد ولم ینقل عن أحد علی ما بأیدینا من کتب المتأخّرین من التصریح بذلک، ولعلّ وجه فساده واضح، إذ الصحّة وفساد الصلاة تعدّان من ثمرات هذه المسألة لا نفسها، کما لا یخفی .

وأمّا کونها من المبادئ التصدیقیّة فهو مختار المحقّق النائینی فی کتابه «فوائد الاُصول» حیث یقول: (فالإنصاف أنّ البحث فی المسألة أشبه بالبحث عن المبادئ التصدیقیّة؛ لرجوع البحث فیه إلی البحث عمّا یقتضی وجود الموضوع لمسألة التعارض والتزاحم، ولیس بحثاً عن المسألة الاُصولیّة.. إلخ).

وذکر قبل أسطر من العبارة السابقة فی وجه ذلک فی وجه ذلک ما لفظه:


1- القوانین: 1 / 140 .

ص:507

(والحاصل: أنّ البحث عن الملازمات العقلیّة للخطابات الشرعیّة :

تارةً: یکون بحثاً عن المسألة الاُصولیّة، کالبحث عن مسألة الضدّ، ومقدّمة الواجب، فإنّ المبحوث عنه فی هذه المسألة عن اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن ضدّه، واقتضاء إیجاب الشیء لإیجاب مقدّماته، یکون بحثاً عن کبری قیاس الاستنباط، وینتج منه حکم کلّی فقهی وهو فساد الضدّ إذا کان عبادة، ووجوب مقدّمة الواجب.

واُخری: لا یکون البحث عن الملازمات العقلیّة بنفسه بحثاً عن مسألة اُصولیّة، لعدم وقوع المبحوث عنه کبری لقیاس الاستنباط کما فی المقام.

فإنّ المبحوث عنه فیما نحن فیه فی المقام، إنّما هو استلزام تعلّق الأمر والنهی بعین ما تعلّق به الآخر عند اتّحاد المتعلّقین، أن یکون الأمر والنهی متعارضین، أو عدم استلزام ذلک، فلا تعارض، وثبوت التعارض وعدمه لا یقع بنفسه کبری القیاس، ما لم ینضمّ إلیه قواعد التعارض من الترجیح والتخییر.

وفی المقام الثانی إنّما هو فی کفایة وجود المندوحة فی رفع غائلة التزاحم وعدم کفایته، فیکون بحثاً عمّا یقتضی وجود التزاحم وعدمه، وهو أیضاً لیس بنفسه کبری القیاس ما لم ینضمّ إلیه قواعد التزاحم)، انتهی کلامه(1).

أقول: ولکن یمکن أن یناقش فی کلامه :

أوّلاً: إمکان أن یُقال بأنّ أثر الصحّة والفساد للعبادة لا یکون أثراً للتعارض والتزاحم وعدمهما، حتّی یستلزم توسیط التعارض وعدمه والتزاحم وعدمه بین


1- فوائد الاُصول: 1 / 400 .

ص:508

جواز الاجتماع وعدمه، وبین صحّة الصلاة وعدمها، خروجها عن المسألة الاُصولیّة، بل یکون للجواز وعدمه أثران مترتّبان فی عرض واحد علیها؛ أحدهما هو الحکم بالصحّة والفساد، والآخر وقوع التعارض والتزاحم وعدمهما، فلیس أثر الأوّل فی طول الأثر الثانی حتّی یقال إنّه لیس من المسائل الاُصولیّة، لعدم وقوع کبراها قیاساً لکبری الاستنباط.

وثانیاً: أنّه لو سلّمنا طولیّة ذلک، ولکن مع ذلک نقول لا یلزم من صدق کون المسألة اُصولیّة أن لا یتوسّط شیئاً بین ما هو مسألة اُصولیّة، وما هو من مسألة فقهیّة، بل یکتفی أن تکون نتیجتها ذلک، ولو کان بواسطة واحدة، خصوصاً إذا کانت واسطة خفیّة عقلیّة کما فی المقام.

والعجب منه قدس سره أنّه التزم قبل ذلک کونها من المسائل الاُصولیّة، ثمّ عدل عنه کما نقله تلمیذه الکاظمی قدس سره فی ذیل کلامه هنا.

ومن هنا یظهر عدم تمامیّة توهّم کونه من المبادئ الأحکامیّة، کما نسب ذلک إلی الشیخ فی التقریریات وشیخنا البهائی والعضدی والحاجبی؛ لأنّهم ذکروا فی دلیلهم ما ورد ذکره فی کلام المحقّق النائینی، لأنّهم جعلوا البحث فی الجواز وعدمه بحثاً عن أحوال الحکم وأوصافه، وعن جواز اجتماع الحکمین مع تضادّهما فی مجمع واحد وعدمه، فلازم الجواز عدم التعارض فکان العمل صحیحاً، بخلاف حال الامتناع فلازمه التعارض وتقدیم جانب النهی وهو الفساد.

وجه ذلک ما عرفت صحّة جعلها من المسائل الاُصولیّة، ولو کانت نتیجتها بواسطة واحدة فقهیّة إلی الحکم الفقهی، کما هو کذلک فی المقام.

فظهر أنّ الحقّ کون المسألة من المسائل الاُصولیّة، کما علیه صاحب

ص:509

«الکفایة» وشارحها صاحب «عنایة الاُصول» وأصحاب «نهایة الأفکار» و«نهایة الدرایة» و«منتهی الاُصول» و«حقایق الاُصول» و«تهذیب الاُصول» و«المحاضرات».

الأمر الرابع: فی بیان الفرق بین مسألتنا وبین مسألة النهی فی العبادات: وقد ذکر لذلک فروق سبعة أو أزید بحسب ما اطّلعنا علیه، بل ربما یکون أزید من ذلک.

الفرق الأوّل: وهو المنسوب إلی صاحب «الفصول» من أنّ البحث فی اجتماع الأمر والنهی إنّما یکون فیما إذا تعلّق الأمر والنهی لطبیعتین متغایرتین بحسب الحقیقة وإن کانت النسبة بینهما عموماً مطلق. وأمّا هنا - أی فی النهی فی العبادات - فیتعلّق الأمر والنهی فیما إذا اتّحدتا حقیقةً وتغایرتا بمجرّد الإطلاق والتقیید، بأن تعلّق الأمر بالمطلق والنهی بالمقیّد.

وهذا کلامه رحمه الله فی باب النهی فی العبادات.

ویؤیّد کلامه المذکور ما قاله فی باب اجتماع الأمر والنهی بقوله:

(ثمّ لا فرق فی موضع النزاع بین أن یکون بین الجهتین عموماً من وجه کالصلاة فی الغصب، وبین أن یکون بینهما عموم مطلق مع عموم المأمور به کما لو أمره بالحرکة ونهی عن التدانی إلی موضع مخصوص فتحرّک إلیه، فإنّ الحرکة والتدانی طبیعتان متخالفتان وقد أوجدهما فی فرد واحد والأولی منهما أعمّ)، انتهی کلامه.

الفرق الثانی: قیل إنّ الفرق بینهما إنّما فی النسبة الموجودة فیهما، وهو المشهور فی کلام المحقّق القمّی فی «القوانین» فی مسألة النهی فی العبادات حیث

ص:510

قال:

(وممّا ذکرنا یظهر أنّ ما تقدّم من اجتماع الأمر والنهی، هو فیما کان بین المأمور به والمنهی عنه عموم من وجه..

إلی أن قال: وبالجملة، النزاع فی هذا الأصل هو فیما کان بین المأمور به والمنهی عنه، أو المأمور والمنهی عموم وخصوص مطلقاً)، انتهی کلامه(1).

الفرق الثالث: قیل - کما فی الکفایة - بأنّ الفرق بینهما کان بحسب الجهة المبحوث عنها فی مسألة جواز الاجتماع وعدمه، التی بها تمتاز المسائل، وهی أنّ تعدّد الوجه والعنوان فی الواحد، یوجب تعدّد متعلّق الأمر والنهی، بحیث ترتفع غائلة استحالة الاجتماع فی الواحد بوجه واحد، أو لا یوجب التعدّد ذلک فلا ترتفع الغائلة، فالنزاع هنا واضح فی سرایة کلّ من الأمر والنهی إلی متعلّق الآخر، لاتّحاد متعلّقیهما وجوداً، وعدم سرایته لتعدّدهما وجهاً.

وهذا بخلاف الجهة المبحوث عنها فی المسألة الاُخری، حیث یکون البحث - بعد تعلّق النهی إلی العبادة - عن أنّه هل یوجب الفساد أم لا.

نعم، لو قیل بالامتناع مع ترجیح جانب النهی فی مسألة الاجتماع یکون مثل الصلاة فی الدار المغصوبة من صغریات تلک المسألة)، انتهی کلامه باختلاف یسیر(2).

الفرق الرابع: فی وجه الفرق بینهما بأنّ الحاکم فی مسألتنا بالجواز أو الامتناع هو العقل، فتکون المسألة عقلیّة، بخلاف تلک المسألة حیث تکون دلالة


1- القوانین: 1 / 155 .
2- الکفایة: 151.

ص:511

النهی علی الفساد لفظیّاً، فالمسألة تکون لفظیّة، لکن لم یظهر لنا القائل بذلک.

الفرق الخامس: - کما عن «المحاضرات» - حیث قال:

قد ظهر ممّا ذکرناه نقطة الامتیاز بین هذه المسألة والمسألة الآتیة کمسألة النهی فی العبادات، وهی أنّ النزاع فی تلک المسألة کبروی، فإنّ المبحوث عنها فیها إنّما هو ثبوت الملازمة بین النهی عن عبادة وفسادها، وعدم ثبوت هذه الملازمة بعد الفراغ عن ثبوت الصغری وهی تعلّق النهی بالعبادة، وأمّا النزاع فی مسألتنا هذه فقد عرفت أنّه صغروی، لفرض أنّ المبحوث عنه فیها هو سرایة النهی من متعلّقه إلی متعلّق الأمر وعدم سرایته - وعلی ضوء هذا فالبحث فی هذه المسألة بحث عن إثبات الصغری للمسألة الآتیة، فإنّها علی القول بالامتناع وسرایة النهی من متعلّقه إلی ما ینطبق علیه المأمور به، تکون من إحدی صغریاتها ومصادیقها دون القول الآخر.

فالنتیجة: أنّ النقطة الرئیسة لامتیاز إحدی المسألتین عن الاُخری، هی أنّ جهة البحث فی إحداهما صغرویّة وفی الاُخری کبرویّة)، انتهی کلامه(1).

الفرق السادس: وقیل فی وجه الفرق بینهما بما فی «نهایة الأفکار» ردّاً علی الاستدراک الواقع فی کلام صاحب «الکفایة» بقوله: (نعم علی القول بالسرایة والامتناع، وتقدیم جانب النهی، یکون المقام من صغریات المسألة الآتیة).

قال: (ولکن فیه ما لا یخفی، إذ نقول بأنّه لا وجه لجعل المسألة علی الامتناع وتقدیم جانب النهی من صغریات تلک المسألة الآتیة، لضرورة وضوح الفرق مع


1- المحاضرات: 4 / 165 .

ص:512

ذلک بین المسألتین، حیث أنّ الفاسد فی المقام علی الامتناع وتقدیم النهی، إنّما کان مستنداً إلی العلم بالنهی لا إلی النهی بوجوده الواقعی، بل فی الحقیقة یکون الفساد فی المقام حینئذٍ من جهة انتفاء قصد القربة، من جهة أنّه مع العلم بالنهی لا یکاد یتحقّق القرب المعتبرة فی حقّ العبادة، بخلافه فی المسألة الآتیة، حیث أنّ الفساد فیها إنّما کان مستنداً إلی نفس النهی بوجوده الواقعی. ومن ذلک لا یکاد یفرّق فیها بین العلم بالنهی أو الجهل به، فتفسد العبادة علی کلّ حال.

ومن المعلوم أنّه لا یکون الوجه فیه إلاّ من جهة انتفاء الملاک والمصلحة عنها، وکشف النهی عنها عن تخصیص الملاک والمصلحة من الأوّل بما عدا هذا الفرد المنهی عنه من الأفراد الاُخر.

ومن ذلک یندرج تلک المسألة فی مسألة تعارض الدلیلین، وتکاذبهما من جهة تکاذب الدلیلین حینئذٍ، وتمانعهما فی أصل الملاک والمصلحة أیضاً، مضافاً عن تمانعهما فی مقام الحکم، فلابدّ حینئذٍ من إعمال قواعد التعارض فیهما بالرجوع إلی المرجّحات السندیّة، وهذا بخلاف المقام حیث أنّه باعتبار وجود الملاکین فیهما، یندرج فی صغریات مسألة التزاحم، ولو علی الامتناع أیضاً، نظراً إلی تحقّق المزاحمة حینئذٍ بین الملاکین فی عالم التأثیر فی الرجحان والمرجوحیّة، کما یکشف عنه حکمهم بصحّة العبادة فی الغصب مع الغفلة، أو الجهل بالموضوع أو الحکم عن قصور لا عن تقصیر، ولو مع البناء علی تقدیم جانب النهی، حیث أنّه لولا ذلک لما کان وجه لحکمهم بالصحّة مع الجهل بالموضوع أو الحکم، بل لابدّ من الحکم بالبطلان وفساد العبادة مطلقاً، کما هو واضح.

ص:513

ومن ذلک نقول أیضاً فی المقام بلزوم الرجوع فیه إلی قواعد باب التزاحم، فیقدّم ما هو الأقوی من الملاکین فی مقام التأثیر فی الرجحان والمرجوحیّة، وإن کان أضعف سنداً من غیره، لا إلی قواعد باب التعارض والترجیح بالمرجّحات السندیّة من حیث العدالة والوثوق کما هو واضح)، انتهی کلامه(1).

أقول: علاوة علی ما ذکرناه فإنّ فی المقام أقوال اُخری، ودعاوی عدیدة کدعوی صاحب «تهذیب الاُصول» حیث ذهب إلی أنّ الفرق بینهما إنّما هو بحسب الموضوع والمحمول، فیکون ذاتیّاً فلا اشتراک بینهما حتّی نحتاج إلی ذکر الامتیاز بینهما.

فالأولی هو الاکتفاء بذلک المقدار، فلابدّ حینئذٍ من بیان ما هو المختار، وما هو الأقوی فی المقام عندنا فنقول:

قد یدّعی تارةً: کون وجه الفرق بینها هو اختلاف حقیقة تعلیقها فی ما نحن فیه، ووحدتها فی مسألة النهی عن العبادة.

واُخری: من حیث النسبة بأنّها تجری بکلا قسمیها فی اجتماع الأمر والنهی دون النهی فی العبادة.

أمّا الفرق الأوّل: فإن لوحظت المسألة فیما نحن بلحاظ ما هو المتداول بین أهل الاُصول کان الحقّ هو ما ذکر لما سیأتی من أنّ متعلّق الأمر هو الصلاة والنهی هو الغصب کما هو المتعارف فی عالم المثال، وهما حقیقتان مختلفتان بلا إشکال، وقد اجتمع المکلّف بینهما فی مورد واحد خارجاً، فیأتی الکلام فی جوازه وامتناعه.


1- نهایة الأفکار: 1 / 411 .

ص:514

وأمّا إن لوحظت المسألة بحسب حقیقتها، مع قطع النظر عمّا هو المتداول بینهم، فلا یکون ذلک وجه الاختلاف؛ لأنّ البحث یدور فی أنّ تعدّد الجهة والوجه فی الواحد الشخصی هل یکفی لرفع التضادّ بین الحکمین المتغایرین من الوجوب والحرمة من حیث المتعلّق، ولو کان تعلّقهما إلیه فی مورد شخصیّاً لا کلّیاً حیث قد ینطبق ویصدق علیه ویجمعهما المکلّف فی الخارج، مثل أن یقول لزید بأنّ علیک إکرام زید لعلمه وإهانته لمعصیته، من دون أن یجعل حکم وجوب الإکرام للعلماء عموماً والإهانة للعاصین کذلک حتّی یکون العمرو مجمعاً لکلیهما، فیوجب تعلّق التکلیفین إلیه من حیث صدق الکلّی علیه فی کلّ واحد منهما. فإنّه حینئذٍ یصحّ أن یقع مورداً للنزاع والکلام فی إمکانه وامتناعه، لأجل سرایة حکم أحدهما إلی الآخر وعدم السرایة .

وإن أراد من تغایرهما حقیقة فی متعلّقهما هو تغایرهما ذاتاً ومفهوماً، مع صرف النظر عمّا وقع فی الخارج، فهو أیضاً صحیح فی المثال المزبور، لأنّ حقیقة العلم الموجود فی عمرو ومفهومه مغایر مع مفهوم العصیان الموجود فیه، وإن لم یکونا بمفهومهما الکلّی متعلّقین للأمر والنهی.

ولکنّه خلاف ما یستفاد من ظاهر کلامه من بیان التغایر، حیث أنّه أراد التغایر من جهة افتراق بعض مصادیقه خارجاً عن بعض المصادیق الاُخر، کما لایخفی.

أمّا الفرق الثانی: حیث ادّعی أنّ النسبة بینهما تکون بصورة العموم والخصوص من وجه، لا العموم والخصوص المطلق الجاریة فی مسألة اجتماع الأمر والنهی دون النهی فی العبادات، کما ذکرها صاحب «الفصول».

ص:515

ففیه أوّلاً: قد عرفت أنّه خلاف لما هو المتعارف بین أهل الاُصول من تعلّق الأمر والنهی علی عنوانین کلّیین، بحیث قد یصدق علی الأفراد الغیر الجامع مع عنوان الآخر، وقد یصدق للجامع کما هو المتداول فی الأمثلة.

وثانیاً: إنّ الدنوّ والقرب عنوان انتزاعی عن الحرکة نحو الموضع المخصوص، ولا یعدّ عنواناً مستقلاًّ مبایناً حقیقةً عن الحرکة، بل حقیقته ترجع إلی الأمر بالحرکة نحو الموضع المعیّن والنهی عنهما، فیکون من قبیل النهی فی العبادات، بأن تعلّق النهی بما قد تعلّق به الأمر لا بحقیقة مباینة عن حقیقة الحرکة حتّی یصیر من قبیل اجتماع الأمر والنهی.

نعم، تصحّ هذه الدعوی بناءاً علی ما ادّعیناه من کون المقصود فی البحث هو أنّ تعدّد الوجه والجهة هل یکفی فی رفع غائلة التضادّ بین الحکمین، أم لا، بلا فرق فی ذلک بین أن یکون الأمر والنهی متوجّهاً إلی المتعلّق الشخصی الخارجی ذی عنوانین ووجهین، أو إلی عنوانین حکمیّین متباینین بحسب الحقیقة کالصلاة والغصب، أو تعلّق بعنوانین کان أحدهما من أفراد العنوان الآخر ولو کان بحقیقة واحدة، نظیر ما لو قال: حرّک ولا تتحرّک نحو الموضع المخصوص، فضلاً عمّا یوجب توهّم التباین بین العنوانین کالحرکة والقرب والدنوّ، فإنّه أیضاً داخل تحت بحث جواز اجتماع الأمر والنهی، لوضوح أنّه إذا کان المتعلّقان الشخصیّان داخلان تحت المسألة فمثل العموم والخصوص المطلق المعدودان من العناوین الکلّیة فیها بطریق أولی.

أمّا الفرق الثالث: وهو دعوی کون النسبة فی اجتماع الأمر والنهی، هو العموم والخصوص من وجه بین المأمور به والمنهی عنه، کما عن المحقّق القمّی قدس سره .

ص:516

فممنوعٌ، لما یرد علیه بإیرادین :

أحدهما: ما عن الشیخ الأعظم فی «التقریرات» بأنّ هذه النسبة فی باب اجتماع الأمر والنهی لا تکون إلاّ فیما إذا کانت بین نفس متعلّق الأمر والنهی کالصلاة والغصب، لا بین متعلّق متعلّق الأمر والنهی کالمثال المعروف بأکرم العلماء ولا تکرم الفسّاق، حیث إنّه مع کون النسبة بینهما هی العموم والخصوص من وجه، لأنّ مورد جمعهما هو العالم الفاسق، ومع ذلک لا یجری فیه حکم باب اجتماع الأمر والنهی، بل یجری فیه قاعدة باب التعارض من ملاحظة المرجّحات السندیّة وإلاّ یحکم بالتخییر.

فظهر أنّ صرف کون النسبة نسبة العموم من وجه لا توجب صدق عنوان المسألة کما ادّعاه القمّی قدس سره .

ولکن یمکن أن یجاب عنه: بأنّه لا فرق بین الموردین، فحیث جری البحث فی الأوّل منهما اقتضی جریانه فی الثانی أیضاً، ولا وجه لاختصاص البحث بالأوّل دون الثانی .

والعجب عن الشیخ الأعظم قدس سره أنّه قد ادّعی ذلک من دون ذکر وجه ودلیل لعدم إجراء البحث فی المثال الثانی علی ما حکی عنه.

مع أنّه یمکن أن نقول: لعلّ وجه ملاحظة باب التعارض فی الثانی، هو عند من یمنع عن جواز اجتماع الأمر والنهی فی الشیء الواحد ذاتاً والمتعدّد جهةً، فبالضرورة کما یختار فی مثال (أکرم العلماء) مع عِدله إجراء باب التعارض فیه وصدق أحد الدلیلین دون الآخر، کذلک یختار فی مثل الصلاة والغصب عدم الجواز، فلابدّ أن یقدّم أحدهما من الأمر والنهی، وهو لیس إلاّ من باب ملاحظة ما

ص:517

هو الأرجح منهما سنداً.

وفی مقابله من یجوّز اجتماع الأمر والنهی فی متعدّد الجهة، فلا یمتنع له أن یلتزم ذلک فی مثل (أکرم العلماء) و(لا تکرم الفسّاق) بأن یحکم بوجوب إکرام العالم الفاسق وحرمته لجهتین، ولا یکون حینئذٍ إلاّ من باب المتزاحمین من دون تقدیم أحدهما علی الآخر.

وکیف کان، فدعوی خروج مثل المثال عن المسألة دعوی بلا دلیل، فللمحقّق القمّی أن یلتزم بذلک فی مثل المثال أیضاً، ویحکم بجریان النزاع من حیث الجواز والاجتماع وعدمه فیه أیضاً .

إلاّ أن یعتبر فی باب اجتماع الأمر والنهی کون متعلّقهما حقیقتین متباینتین کما عن صاحب «الفصول» فیخرج المثال عن المورد حینئذٍ، لکونه متعلّقاً بکلیهما.

وثانیهما: أنّ دعوی وجود هذه النسبة - أی نسبة العموم والخصوص من وجه - فی مسألتنا هذه صحیحة علی ما هو المشتهر فی ألسنة القوم کما قد عرفت .

وأمّا کون البحث بحقیقته فقط جاریاً فی مثل هذه النسبة بین العنوانین دون غیرها، فممّا لا ینبغی أن یصغی إلیه، لما قد عرفت صحّة إجراء البحث فی موردین آخرین أیضاً، فلا نعید.

أمّا الفارق الرابع: وهو کون وجه الفرق بینهما من حیث العقل واللفظ.

ففیه: أنّه لا کلّیة فی ذلک، لأنّ الملازمة الثابتة فی النهی المتوجّه بالعبادة للفساد، قد یکون باللفظ وقد یکون بالعقل، أی الدلیل الدالّ علیه مختلف، ولذلک یجری النزاع أیضاً فیما إذا ثبت النهی بالإجماع الذی هو دلیل لبّی، وکذلک فیما

ص:518

ثبت بالسیرة المتشرّعة وغیرهما.

نعم، کثیراً ما یتّفق باللفظ مثل ما یقع بالأمارات والروایات الدالّة علی النهی، کما أنّ الدالّ فی طرف الاجتماع للأمر والنهی قد یکون لفظیّاً تارةً واُخری لبّیاً.

نعم، إن أراد بأنّ الحاکم فی الجواز وعدمه هنا هو العقل، وفی الفساد وعدمه هناک غیره فیکون متفاوتاً.

ففیه: أنّ الحاکم فی کلیهما إثباتاً ونفیاً یکون هو العقل، لما تشهد جریان النزاع فیما لیس فی البین لفظ أصلاً کما لا یخفی.

أمّا الفارق الخامس: وهو کون وجه الفرق هو أنّ النهی هنا بوجوده العلمی موجب للفساد علی فرض الامتناع وترجیح صاحب النهی، بخلاف هناک حیث أنّه بوجوده الواقعی موجب للفساد لعدم وجود ملاک فی متعلّقه.

وفیه: لکن ذلک لا یصحّ بالکلّیة هناک، لأنّ النهی المتوجّه إلی العبادات یکون علی قسمین:

تارةً: یکون علی طریقة ما ذکره قدس سره بأن یکون النهی کاشفاً عن عدم وجود ملاک للأمر فیه أصلاً، فیکون الباب باب التعارض والتکاذب، وهو مثل النهی المتوجّه إلی الحایض والنفساء للصلاة فی تلک الحالة، فإنّ النهی هاهنا یکون کاشفاً عن عدم وجود الملاک والمصلحة فی متعلّق الصلاة أصلاً، فیکون النهی بوجوده الواقعی مثلاً موجباً للفساد لا العلمی .

واُخری: ما لا یکون کذلک، بل یکون وجه الحکم بالفساد، هو أنّ وجود النهی مقدّم علی الأمر لعدم إمکان وجود الأمر، لاستلزامه الجمع بین الضدّین

ص:519

والتکلیف إلیهما وهو محال، فلا محیص عن رفع الید عن الأمر، وإن کان أصل الملاک والمصلحة فی متعلّقه موجوداً، فإذا رجّحنا جانب النهی هناک، وقلنا بأنّ النهی یوجب عدم تحقّق الأمر، ومن ناحیة اُخری التزمنا بعدم کفایة قصد الملاک والمصلحة فی صحّة العبادة، وأنّه لابدّ من قصد الأمر، فعلی هذا یوجب العلم بوجود النهی فی مثل هذا فساد العبادة لا نفس وجوده، وهو کما فی النهی المتحقّق عن الأمر بالشیء الذی یقتضی النهی عن ضدّه، کإزالة النجاسة عن المسجد الموجب لکون الصلاة منهیّاً عنها، حیث لا یکون النهی حینئذٍ کاشفاً عن عدم وجود الملاک والمصلحة فی متعلّق الصلاة، فلا نسلّم حینئذٍ أن یکون النهی بوجوده الواقعی مفسداً، بل یکون بوجود العلمی مفسداً إن قلنا بأنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه، فیصیر الباب حینذٍ باب التزاحم، نظیر النهی الموجود فی باب اجتماع الأمر والنهی، حیث نرجّح جانب النهی الذی قد قبله الخصم بکونه من باب التزاحم لا التعارض.

فظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیّة ما ذکره فی وجه الفرق بین المسألتین بالکلّیة، وإن کان صحیحاً فی بعض الموارد.

أقول: مضافاً إلی أنّک قد عرفت بأنّ النزاع فی مسألتنا - وإن حصره القوم فی خصوص مثل الصلاة والغصب الذی یصیر البحث فیه من باب التزاحم - غیر منحصر بذلک إذ حقیقة البحث إنّما یکون فی أنّ تعدّد الوجه فی الواحد الذاتی هل یعدّ کافیاً لرفع التضاد أم لا، وهو یتصوّر علی ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: هو ما عرفت من العنوانین الکلّیین حیث یکونان متعلّقین للأمر والنهی، وقد یجتمعان فی مورد واحد.

ص:520

القسم الثانی: ما إذا کانت النسبة هو العموم والخصوص المطلق، لو لم نقل بالتقیید فیه، وکان الخاصّ موجّهاً لجهتین.

والقسم الثالث: ما إذا توجّه الأمر والنهی إلی شخص واحد ذاتاً ومتعدّداً من حیث الجهة والعنوان.

بل قد عرفت فی الجواب عن الشیخ الأعظم إمکان إجراء البحث والنزاع فی متعلّق الأمر والنهی کما فی المثال المشهور من (أکرم العلماء ولا تکرم الفسّاق)، فیصیر هذا حینئذٍ قسماً رابعاً لمسألتنا کما لا یخفی علی المتأمّل، إلاّ أن یقبل مقالة صاحب «الفصول» من لزوم التباین فی حقیقة متعلّقهما، ولکن قد عرفت عدم اعتباره لعدم وجود دلیل علیه.

أمّا الفارق السادس: وهو الذی ذکره صاحب «الکفایة» من جعل وجه الفرق هو الجهة المبحوث عنها فی کلّ مسألة.

فنقول: إن کان مراده من الجهة المبحوث عنها هو المحمول الذی یحمل علی کلّ مسألة، بأنّ قصده رحمه الله أنّ امتیاز کلّ مسألة - سواءً ما نحن فیه أو غیره - یکون من حیث المحمول فهو صحیح فی الجملة، لما ستعرف عدم کون الامتیاز بینهما منحصراً فیه وإن کان منتسباً إلیه أیضاً، إلاّ أنّه مخالف لظاهر کلامه، کما اعترف بذلک المحقّق الخمینی أیضاً .

وإن أراد من الجهة المبحوث عنها، هو الغرض المترتّب علی کلّ مسألة کما هو المنتسب إلیه هنا، بل هو مختاره فی بدایة الاُصول فی باب ذکر امتیاز المسائل لکلّ علم.

ففیه: بأنّ مع وجود الامتیاز قبله بالموضوع أو المحمول فی المسألة أو

ص:521

بکلیهما، لا تصل النوبة إلی جعل الغرض موضوعاً للامتیاز. والحال أنّ المسألة التی نبحث عنها فی المقام کذلک من حیث الامتیاز، أی یکون بحسب الموضوع والمحمول، لوضوح أنّ الموضوع والمحمول فیما نحن فیه عبارة عن أنّه هل یجوز اجتماع الأمر والنهی، لأجل سرایة الاتّحاد من حکم متعلّق إلی متعلّق آخر أو عدم السرایة أم لا ؟

هذا بخلاف الموضوع والمحمول هناک، لأنّ الموضوع والمحمول فیه عبارة عن أنّ النهی المتوجّه إلی العبادة، موجب لفسادها أم لا، حیث فصّل صاحب «الکفایة» بین المسألتین، ولذلک یبطل توهّم من توهّم أنّهما مسألة واحدة حتّی حاول بعضهم الجواب عنه وبیان الامتیاز بینهما.

فإذا صار الفرق بینهما بالموضوع والمحمول، فلا نحتاج حینئذٍ إلی جعل وجه الفرق بینهما إلی کون النزاع هنا صغرویّاً وهناک کبرویّاً، لأنّا ندّعی وجود الفرق والامتیاز بینهما بالموضوع والمحمول، حتّی ولو سلّمنا وقبلنا مقالة المحقّق الخمینی من کون النزاع فی مسألتنا أیضاً کبرویّاً کالنهی فی العبادات.

کما أنّه بناءً علی ما ذکرنا لا نحتاج إلی جعل وجه الفرق بینهما بالنسبة، ولا باختلاف الحقیقة فی أحدهما دون الآخر ولا غیر ذلک ممّا ذکروا، مع أنّک قد عرفت الإشکال فی کلّ واحد منهما مستقلاًّ، فافهم وتأمّل حتّی یتّضح لک الأمر فی المسألة.

الأمر الخامس: یدور حول ما عرفت - فی مقام ردّ من جعل الفرق بین مسألتنا ومسألة النهی فی العبادات بالعقل واللفظ - من أنّ الحکم فی کلتا

ص:522

المسألتین یعدّ حکماً عقلیّاً، بلا فرق بین أن یکون الدلیل الدالّ علی الحکمین من الوجوب والحرمة لفظیّاً - کما هو الغالب، لما تری فی الأدلّة من الآیات والروایات من ثبوت الأحکام بالأوامر والنواهی وهما یکونان باللفظ - أو یکون الدلیل الدالّ علیهما لبّیاً کالإجماع والسیرة ونحوهما، کما تقع تلک المسألة بهذین النحوین، ولا یوجب ذلک صیرورة المسألة لفظیّة، لوضوح أنّ النزاع لیس واقعاً فی کیفیّة دلالة لفظ ما یقتضی الوجوب أو الحرمة من السرایة وعدمها، حتّی یکون البحث فی مقام اللّفظ، بل النزاع والبحث فی أنّ وحدة المتعلّق لهما من حیث الذات مع کون العنوان متعدّداً، هل یکفی فی رفع استحالة الجمع بین الضدّین وهما الحکمین، أو لا یکفی.

ومرجع الحکم فی المقام بید العقل، فتصیر المسألة عقلیّة، ولذلک کان الأولی جعل عنوان المسألة أنّه هل یجوز اجتماع الحکمین المتضادّین فی واحد کذلک أم لا، من دون التعرّض لذکر الأمر والنهی.

فما تری من ذهاب المقدّس الأردبیلی فی «شرح الإرشاد» إلی الجواز عقلاً والامتناع عرفاً، فلیس مقصوده بأنّ المسألة من حیث حکم العقل یکون جائزاً، ومن حیث دلالة اللّفظ - الذی کان فهمه بالعرف - ممتنعاً، بل یقصد أنّ العرف حیث لا یکون مبناهم إلاّ علی التسامح فی الأشیاء إثباتاً ونفیاً، فتارةً یوافق نظرهم مع حکم العقل، واُخری یخالف کما هو الغالب، ففی موارد تشخیص مفاهیم الألفاظ من حیث السعة والضیق حتّی یترتّب علیه الحکم، یکون نظرهم فی الشرع متّبعاً لا العقل الذی کان مبناه علی المداقة، کما تری أنّ الفقهاء یحکمون بأنّ لون الدم الباقی علی الثوب بعد الفصد محکوم بالطهارة، مع أنّه کیف یمکن

ص:523

الحکم عقلاً بزواله مع وجود عرضه وهو اللّون فیه، إذ زوال العین حقیقة لا یکون إلاّ بزوال أعراضه، فمع بقاء عرضه لابدّ من الحکم ببقاء ذاته وعینه، وبرغم ذلک حکموا بالطهارة مراعاةً لرأی العرف المتسامح دون العقل الدقّی.

وأمّا فی مقام تطبیق المفاهیم علی المصادیق، کباب الملازمات - نظیر باب مقدّمة الواجب، وباب النهی یقتضی الفساد فی العبادات أم لا، والأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضدّه أم لا. واجتماع الأمر والنهی فی شیء واحد ذاتاً ومتعدّد جهة هل یجوز أم لا - یکون الأمر عقلیّاً، وإن کان فی بعض الموارد عند مراجعة العرف بالنظر المسامحی کان ممتنعاً، لکنّه لا یکون متّبعاً فی مثله، ولا یترتّب علیه أثر، ولعلّ هذا هو مراد المحقّق الأردبیلی قدس سره ، وإن کان الحقّ هو إتمام المسألة من جهة حکم العقل بالجواز والامتناع، کما فی مورد النزاع فی المتقدّمین والمتأخّرین.

أقول: وأمّا ما ذُکر فی توجیهه (بأنّ المقصود من الامتناع العرفی فی المسألة، أنّ العرف یحکم باستحالة شمول دلیل وجوب الصلاة لمثل وقوعها فی الأرض المغصوبة التی حرم تصرّفها من ناحیة الشارع، فیحکم من أوّل الأمر بعدم شمول إطلاق وجوب الصلاة لمثل هذه الأمکنة، لاستحالة الجمع بین الحکمین) کما فی المحاضرات(1).

ممّا لا ینبغی أن یصغی إلیه، لأنّ عدم شمول الإطلاق لمورده، لابدّ أن یکون لجهة من الجهات العقلائیّة:


1- المحاضرات: 4 / 183 .

ص:524

إمّا من ناحیة وجود قرینة دالّة علی المحدودیّة من أوّل الأمر وکانت متّصلة بالکلام، فله وجه لکنّه خلاف المفروض.

وإمّا من ناحیة أنّ الحکم بالتقیید هو مقتضی الجمع عند العقلاء فی الخارج کما فی المطلق والمقیّد، فله وجه لکنّه خلاف المفروض، لعدم کون النسبة بین الصلاة والغصب نسبة العموم والخصوص المطلق، مع أنّک قد عرفت إمکان إسراء البحث فیه أیضاً.

وإمّا بملاک تقدیم أحدهما علی الآخر علی فرض التزاحم، وهو الذی ذهب إلیه من اعتقد الامتناع للإطلاق فی کلّ من الدلیلین بمورد تصادقهما.

وإمّا بملاک حفظ إطلاق کلّ منهما لمورد الإجماع، من دون لزوم استحالة أصلاً. وهو مذهب من اعتقد الجواز فی حفظ الإطلاقین وترتیب أثر کلّ منهما فی مورده.

وعلیه فمجرّد دعوی عدم الإطلاق للصلاة فی تلک الموارد عند العرف یعدّ دعوی بلا دلیل، وبیان بلا إقامة برهان.

وأیضاً: الاستدراک الواقع فی کلام صاحب «الکفایة» بعد ذلک بقوله: (وإلاّ فلا یکون معنی محصّلاً للامتناع العرفی، غایة الأمر دعوی دلالة اللّفظ علی عدم الوقوع بعد اختیار جواز الاجتماع، فتدبّر جیّداً)(1).

ممّا لا یخلو عن وهن، لوضوح أنّ ذلک یکون خلاف مقتضی إطلاق مادّة الأمر والنهی، لأنّ إطلاقهما من هذه الناحیة آبیان عن الحکم بعدم الوقوع.


1- الکفایة: 152 .

ص:525

ولو فرض تسلیمنا بعدم تمامیّة مقدّمات الحکمة المقتضیة للإطلاق، فالأحسن أن یقال إنّه لا دلالة للّفظ علی الوقوع ولا علی عدم الوقوع، بل غایته السکوت من تلک الناحیة من حیث الدلالة اللفظیّة، کما لا یخفی.

وإن أراد منه قیام قرینة خارجیّة عن مادّتها دالّة علی ذلک، فهو خارج عن فرض المسألة.

الأمر السادس: فی أنّ النزاع الواقع فی باب اجتماع الأمر والنهی، هل هو مخصّص للإیجاب والتحریم العینین المتناقضین، أم یعمّ جمیع أقسام الإیجاب والتحریم، لیشمل حتّی لو کان کلّ من الإیجاب والتحریم غیریّاً أو کفائیّاً أو تخییریّاً، بل سواء کانا تعبّدیّین أو توصّلیّین، وسواء کانا موسّعین أو مضیّقین، أو مشروطین، أو کان کلّ واحد منهما مختلفاً من الجهات المذکورة کما لو کان أحدهما نفسیّاً والآخر غیریّاً، أو کان أحدهما عینیّاً والآخر کفائیّاً، أو کان أحدهما تعیینیّاً والآخر تخییریّاً، وهکذا فی غیرها من الأقسام.

بل قد یمکن أن یدّعی بأنّ النزاع یجری فی کلّ من الحکمین المتضادّین إذا اجتمعا فی واحد ذاتاً ومتعدّد جهةً، ولو لم یکن شیء من الحکمین إلزامیّاً کالکراهة والاستحباب، فضلاً عمّا لو کان أحدهما إلزامیّاً أو کلاهما کذلک، بلا فرق بین أن یکون الوجوب والحرمة أو غیرهما من الأحکام مستفاداً من الأمر والنهی اللّذین کانا طلباً بالقول واللفظ، أو استفید من دلیل لبّی من الإجماع والسیرة وغیرهما، وجوهٌ وأقوال.

القول الأوّل: هو القول الأخیر وهو الأقوی عندنا، کما هو المستفاد من ظاهر

ص:526

کلام صاحب «الکفایة» حیث قال ما لفظه:

(الخامس: لا یخفی أنّ ملاک النزاع فی جواز الاجتماع والامتناع، یعمّ جمیع أقسام الإیجاب والتحریم، کما هو قضیّة إطلاق لفظ الأمر والنهی.

ودعوی الانصراف إلی النفسیّین التعیینیّن العینیّتین فی مادّتهما، غیر خالیة عن الاعتساف، وإن سلّم فی صیغتهما، مع أنّه فیها ممنوع.

نعم، لا یبعد دعوی الظهور والانسباق من الإطلاق بمقدّمات الحکمة الغیر الجاریة فی المقام، لما عرفت من عموم الملاک لجمیع الأقسام، وکذا ما وقع فی البین من النقض والإبرام، مثلاً إذا أمر بالصلاة أو الصوم تخییراً بینهما، وکذلک نهی عن التصرّف فی الدار، والمجالسة مع الأغیار، فصلّی فیها مع مجالستهم، کان حال الصلاة فیها حالها، کما إذا أمر بها تعییناً ونهی عن التصرّف فیهما کذلک فی جریان النزاع فی الجواز والامتناع، ومجیئ أدلّة الطرفین، وما وقع بین النقض والإبرام فی البین، فتفطّن). انتهی کلامه(1).

فإنّ کلامه هنا وإن کان فی خصوص الإیجاب والتحریم، المستفادین من اللّفظ وهو الأمر والنهی، إلاّ أنّه لذا انضمّ هذا مع کلامه فی الأمر الرابع بقوله: (ولا اختصاص للنزاع فی جواز الاجتماع والامتناع فیهما بما إذا کان الإیجاب والتحریم باللفظ)، استفید عمومیّة مقصوده من تلک الناحیة، کما أنّ ذکر دلیله من عمومیّة الملاک یفید أنّه لم ینحصر البحث فی خصوص هذین الحکمین الإلزامیّین، بل یجری حتّی فی غیرهما، فیوافق مذهبه بما اخترناه، کما هو الحقّ.


1- الکفایة: 152 .

ص:527

والقول الثانی: هو قول صاحب «عنایة الاُصول»(1) حیث یدّعی عدم وجود النزاع فی الأمر والنهی التخییرین ولو بعنوان واحد، فضلاً عمّا إذا کان بعنوانین، بینهما عموم من وجه، لأنّه لا ینبغی التأمّل فی جواز اجتماعهما فیه، وهکذا فی الموسّعین أو المشروطین ولو بعنوان واحد أیضاً، فضلاً عمّا إذا کان بعنوانین بینهما عموم من وجه.

والقول الثالث: هو استثناء صورة التخییریین فقط من مورد النزاع، وإلاّ کان الباقی داخلاً، وهو المستفاد من کلام صاحب «المحاضرات»(2).

والقول الرابع: هو للشیخ الأعظم علی ما فی تقریراته المسمّی ب- «مطارح الأنظار»، حیث جوّز جریان النزاع فی جمیع الأقسام حتّی فی الموسّعین والمشروطین التعبّدیین والتوصلّیین، إلاّ فی التخییرین، حیث یقول: (إنّه لا ینبغی التأمّل فی جواز اجتماعهما)(3).

ولکن یشکل فیما إذا کان الأمر واجباً عینیّاً، والنهی تخییراً حیث یحکم بعدم جواز الاجتماع، وفیما إذا کان الأمر تخییریّاً والنهی عینیّاً جعله من محلّ النزاع إذا کان التخییر عقلیّاً.

وأمّا إذا کان شرعیّاً وکان کلّ واحد منهما متعلّقاً للطلب، فذهب إلی عدم الجواز.

وأمّا إذا کان الطلب لواحد منهما، فیکون کالتخییر العقلی، فیجوز، إلی آخر کلامه.


1- عنایة الاُصول: 2 / 22 .
2- المحاضرات: 4 / 188 .
3- مطارح الأنظار: 131 .

ص:528

وقال أخیراً: (وأمّا سایر أقسام الأمر والنهی من الموسّعین والمضیّقین، أو المشروطین أو التعبّدیّین والتوصّلیین وغیر ذلک، فلعلّه لا فرق لها فی دخولها فی محلّ الکلام، لو لم یُدّعی ظهور الأمر والنهی فی بعضها، وعلی تقدیره فالمناط فیها واحد کما فی غیر الإلزامیّین علی ما عرفت). انتهی موضع الحاجة من کلامه.

أقول: بعد استعراض الأقوال فی المقام فلا بأس حینئذٍ بالتعرّض لما ذکروا وجهاً لخروج مثل التخییریین، الذی کان مورداً لوفاق صاحب «المحاضرات» و«عنایة الاُصول» والشیخ، فإذا تمکّنا من حلّ المشکلة فیه استهل الأمر فی سائر الأقسام.

فنقول ومن اللّه الاستعانة: حیث وجدنا أنّ صاحب المحاضرات تصدّی لذکره مستدلاًّ فنوجّه الکلام إلی ما ذکره، ولو بنقل خلاصة کلامه رعایةً للاختصار، قال:

(وأمّا الدعوی الثانیة - مقصوده عدم جریان النزاع فی التخییریین - فلعدم إمکان اجتماع الوجوب والحرمة التخییریین فی شیء واحد لیقع التنافی بینهما، والوجه فیه أنّ الحرمة التخییریّة تمتاز عن الوجوب التخییری فی نقطة، وهی أنّ مردّ الحرمة التخییریّة إلی حرمة الجمع بین فعلین، باعتبار قیام مفسدة ملزمة بالمجموع لا بالجامع بینهما، وإلاّ لکان کلّ منهما حراماً تعیینیّاً، لأنّ تعلّق النهی بالجامع ینحلّ إلی أفراده، کما هو مقتضی مقدّمات الحکمة فی الأفراد العرضیّة والطولیّة، ومردّ الوجوب التخییری إلی إیجاب الجامع بین شیئین أو أشیاء لا إلی إیجاب کلّ منهما بخصوصه.

فنقول: إنّه لا تنافی بین إیجاب الجامع بین شیئین وحرمة الجمع بینهما، لا

ص:529

بحسب المبدأ، ولا بحسب المنتهی.

أمّا بحسب المبدأ: فلا مانع من قیام مصلحة ملزمة بالجامع بینهما، وقیام مفسدة ملزمة بالمجموع منهما، ضرورة أنّ المانع إنّما هو قیام کلتیهما فی شیء واحد، لا قیام إحداهما بشیء والاُخری بشیء آخر.

وأمّا بحسب المنتهی فلفرض أنّ المکلّف قادر علی امتثال کلا التکلیفین معاً، لأنّه إذا أتی بأحدهما وترک الآخر فامتثل کلیهما.

هذا بناءً علی مختارنا فی الواجب التخییری، من کون الواجب هو الجامع بینهما.

وأمّا بناءً علی أن یکون الواجب هو کلّ واحد منهما بخصوصه، غایة الأمر عند الإتیان بأحد ممّا یسقط الآخر فأیضاً لا تنافی بینهما، أمّا بحسب المنتهی فواضح، وأمّا بحسب المبدأ فلأنّه لا منافاة بین قیام مصلحة فی کلّ واحد منهما خاصّة، بحیث مع استیفاء تلک المصلحة فی ضمن الإتیان بأحدهما، لا یمکن استیفاء الاُخری فی ضمن الإتیان بالآخر، وقیام مفسدة بالجمع بینهما فی الخارج کما هو ظاهر) انتهی خلاصة کلامه(1).

أقول: ولا یخفی ما فی کلامه من المناقشة لوضوح أنّ ملاک صدق الاجتماع للحکمین المتضادّین فی محلّ واحد، لیس إلاّ أن یکون فعل المکلّف لذلک الواحد موجباً لصدق انطباق الواجب بما له من الوصف - من العینی والکفائی، أو التعیینی والتخییری، أو النفسی والغیری - علی ذلک الفعل المأتی به، وهکذا یوجب صدق


1- المحاضرات: 4 / 188 .

ص:530

انطباق فعل الحرام علیه بما له من الأوصاف الثلاثة وغیرها علیه، فکما أنّه لو أتی بالصلاة خارجاً، فیما إذا کانت أحد فردی الواجب التخییری یصدق علیه أنّه فعل واجباً تخییریّاً، هکذا لابدّ أن یفعل من ناحیة الحرام عملاً یصدق علیه أنّه قد فعل حراماً تخییریّاً، وهو لیس إلاّ بإحضار کلا فردی المنهی عنه، فإنّه إذا أتی کذلک یصدق علیه أنّه فَعَل حراماً تخییریّاً لا تعیینیّاً وإلاّ لولا ذلک لما فعل حراماً حتّی یصدق مجمع الحکمین لیقال إنّه یجوز أم لا یجوز، مع أنّ فرض کلامهم کان فی مجمع الحکمین، فإذا کان الأمر کذلک، فلا فرق فیما ذکرنا بین أن یُقال فی الواجب التخییری إنّ کلّ واحد منهما واجباً أو کان الواجب واحداً منهما. کما لا فرق فی ناحیة النهی بین أن یکون کلّ واحد منهما منهیّاً عنه أو أن یکون واحد منهما کذلک.

کما أنّ التنافی الملحوظ فی الحکمین الموجب لملاحظة التنافی فی المبدأ یلاحظ مع کیفیّة ما ذکرنا، لا بما توهّمه المدّعی، ولذلک قال صاحب «الکفایة» فی المثال فی التخییر بأن یصلّی فی الدار المغصوبة مع المجالسة مع الاختیار الذی کان أحد فردی الحرام التخییری.

أقول: وظهر ممّا ذکرنا أنّ الإشکال الذی ذکره صاحب «عنایة الاُصول» فی ذیل کلام الخراسانی لهذا المثال بأنّه (کیف جمع بین فردی التخییر فی الحرام)، کان من جهة عدم التفاته إلی النکتة التی ذکرناها، ومع التوجّه إلی ما ذکرنا یصحّ جعل التخییرین أیضاً مورداً للنزاع بلا إشکال.

فإذا تبیّن الجواب هاهنا یمکن الإشکال والجواب عمّا قیل لعدم جریان النزاع فی الموسّعین أو المشروطین أیضاً؛ لأنّ المثال الذی ذکره صاحب «عنایة الاُصول» للأوّل لیس إلاّ قوله تحرّک فی کلّ یوم ساعة وهو للأمر، مع قوله لا

ص:531

تحرّک فی کلّ یوم ساعة للنهی، حیث قال: إنّه لا تنافی بینهما حتّی یجری فیه النزاع.

لکنّه توهّم فاسد وغفلة عن المعنی الموسّع فی الواجب والحرام، لإمکان إجراء النزاع فیه أیضاً، بتقریب أن یُقال :

إنّ القائل بجواز الاجتماع یقول بأنّه یصحّ أن یجعل اختیاره فی ساعة من الساعات للواجب والحرام، بأن یجعلهما فی ساعة واحدة فتکون هذه مصداقاً للواجب بالحرکة ومصداقاً للحرام من حیث عصیانه، لأنّه أراد جعلهما فی ساعة واحدة، بخلاف ما لو أراد جعل کلّ واحدٍ فی ساعةٍ مستقلّة، فإنّه حینئذٍ لا مجمع بینهما، فیکون أحدهما مصداقاً للواجب من جهة ومصداقاً للحرام من جهة اُخری.

وأمّا من یقول بالامتناع، یقول بأنّه لا یمکن جعل ساعة واحدة عنواناً لکلتیهما، بل لابدّ أن یجعل واحداً منهما للواجب والآخر للحرام، فهو أیضاً قابل لإجراء البحث فیه کسائر أقسام الواجب والحرام.

وأیضاً: یمکن أن یورد علیه بما ذکره من المثال للثانی بقوله: (إن جاءک زید فأکرمه، وإن لم یجئک فلا تکرمه)، من أنّه لا منافاة بینهما حتّی یجری فیه النزاع؛ لأنّ جعل الشرط فی کلّ من الأمر والنهی شیئاً غیر ما جعله شرطاً للآخر کما فی المثال، ممّا یوجب خروجه عن موضوع البحث، لأنّ النزاع إنّما یتحقّق فیما إذا صدق الاجتماع ولو علی شرط، وأمّا لو لم یکن اجتماعٌ أصلاً بلحاظ تعدّد الشرط الموجب لتعدّد موضوع الحکم، فلیس مورداً لتوهّم الدخول حتّی یقال بأنّه یجری فیه النزاع أصلاً.

نعم، یصحّ ذلک فیما إذا کان الشرط مأخوذاً فی کلا الحکمین، مع وحدة

ص:532

متعلّق الأمر والنهی، مثل أن یُقال: (أکرم زیداً إن جاءک لعلمه، ولا تکرمه إن جاءک لفسقه)، فإنّ الحکم فی کلّ من الأمر والنهی یکون مشروطاً، وبرغم ذلک یجری هذا النزاع فیه کما لا یخفی، بخلاف زید المشروط بالمجیء والمشروط بعدم المجیء، حیث یکون موضوعین لا تصادق بینهما أصلاً، فکلامه لا یخلو عن مسامحة من هذه الجهة.

کما أنّ مثاله لخروج التخییرین فی قول الآمر الناهی (تزوّج هنداً أو اُختها) و(لا تتزوّج هنداً أو اُختها) لا یخلو عن مسامحة لعدم وحدة الحکمین أصلاً حتّی یقال بأنّه یجری فیه النزاع أم لا، لوضوح أنّه لو تزوّج کلتیهما وإن کان قد فعل حراماً وواجباً، إلاّ أنّه کان فی کلّ موضوع مستقلّ غیر مرتبط بالآخر وهو الوجوب لإحداهما والحرمة للاُخری، هذا بخلاف المثال الذی ذکره صاحب «الکفایة» فإنّ التخییر فیه موجود، مع ذلک یجری فیه النزاع بلا إشکال کما لایخفی.

أقول: یظهر ممّا ذکرنا الإشکال الوارد علی کلام صاحب التقریرات من التفصیل فی بعض الموارد، کما فیما إذا کان الأمر واجباً عینیّاً والنهی تخییریّاً بالحکم فیه بعدم الجواز، بخلاف صورة عکسه حیث قد فصّل بین کونه تخییراً عقلیّاً فأجاز، وفی الشرعی فصّل فی تقدیریه، حیث جوّز ما لو کان واحد منهما متعلّقاً للطلب بخلاف ما لو کان کلّ واحدٍ کذلک .

وجه الإشکال: أنّه کیف حکم بالجواز وعدمه، مع أنّ البحث فیه متفرّع علی جریان النزاع فیهما، فإذا لم یفرض الجریان فلا یبقی وجه للحکم بالجواز وعدمه، إلاّ أن یکون مقصوده بحذف المتعلّق، أی لا یجوز جریان النزاع فیه أو یجوز،

ص:533

لکنّه خلاف الظاهر لما سبق من کلامه.

مع أنّک قد عرفت الإشکال فیما ذکره بأنّ عمومیّة الملاک فی النزاع - وهو کفایة تعدّد الجهة فی رفع استحالة التضادّ الموجود بین الحکمین وعدمها - یجری فی جمیع الأقسام برغم حاجة بعضها إلی توجیه غیر خفی علی أهله، واللّه العالم.

الأمر السابع: فی أنّ النزاع الواقع بین الاُصولیّین فی جواز الاجتماع وعدمه، هل یکون مختصّاً إذا کان للمکلّف مندوحة عن الإتیان بالمأمور به فی غیر ما یکون منهیّاً عنه، أم لا، بل یجری حتّی فیما إذا لم یکن للمکلّف مندوحة؟

أقول: والذی یظهر من صاحب «الفصول» والمحقّق الخراسانی فی فوائده، والمحقّق الحائری فی «درر الاُصول» هو الاعتبار، وذهب المحقّق القمّی إلی الاعتبار فیما إذا لم یکن ذلک بسوء اختیار المکلّف، وإلاّ فلا اعتبار فیه المندوحة؛ لأنّ العجز مستند إلی سوء اختیاره فلا قبح فی تکلیفه بکلا حکمیه.

خلافاً لکثیر من أعلام المتأخّرین کصاحب «الکفایة» وصاحب «حقائق الاُصول» و«عنایة الاُصول»، و«نهایة الأفکار» و«نهایة الدرایة» و«تهذیب الاُصول» و«المحاضرات» وغیرهم من عدم الاعتبار، وهذا هو الأقوی عندنا، فلا بأس أوّلاً بذکر دلیل من اعتبر المندوحة، ثمّ بیان وجه المختار.

أقول: أحسن ما قیل فی وجه اعتبارها، هو أنّه لا إشکال فی کون اعتبار القدرة فی متعلّق التکلیف لازماً، واستحالة توجیهه إلی نحو العاجز، فحینئذٍ إن کان المکلّف قادراً علی إیجاد متعلّقه ولو فی ضمن فرد مّا خارجاً، فحینئذٍ لا مانع من توجیه التکلیف إلیه بالصلاة مثلاً، ولا یکون هذا من التکلیف بالمحال.

ص:534

وأمّا إذا فرض أنّه غیر قادر علی الإتیان بهما فی غیر الدار المغصوبة لعدم المندوحة له، فلا یمکن توجیه التکلیف بالصلاة إلیه لأنّ الممتنع الشرعی کالممتنع العقلی، فإذن لو توجّه إلیه الخطاب بالصلاة لصار ذلک تکلیفاً بالمحال، ولا إشکال فی أنّ صدور مثل هذا التکلیف عن الحکیم محال.

وقد یمکن أن یقرّر ذلک بوجه آخر أدقّ منه، وهو أن یقال: بأنّ تعدّد حیثیّة المعنون بتعدّد العنوان وعدمه، حیثیّة تعلیلیّة للجواز وعدمه، لا تقییدیّة مقوّمة للموضوع، وذلک لئلاّ یحتاج عنوان البحث إلی التقیید بالمندوحة، ولیتمحّض البحث فی خصوص الجواز والامتناع من حیث خصوص التضاد وعدمه، وجعل البحث جهتیّاً، وأنّه غیر صحیح من هذا الحیث مع عدم مساعدة العنوان.

لکن بما أنّ الغرض الاُصولی یدور مدار الجواز الفعلی وعدمه فلابدّ من تعمیم البحث وإثبات الجواز من جمیع الوجوه اللاّزمة، من تعلّق الأمر والنهی بواحد ذی وجهین، لا الوجوه العارضة من باب الاتّفاق، فلا یقاس المندوحة وعدمها بسائر الجهات الاتّفاقیّة المانعة من الحکم بالجواز فعلاً.

لا یُقال: بعد القول باستحالة التکلیف بما لا یطاق، لا فرق بین وجود المندوحة وعدمها لأنّ امتثال الأمر والنهی فی المجمع محال علی أیّ حال، فإنّ القدرة علی امتثال الأمر فی غیر المجمع لا تصحّح الأمر بالمجمع.

لأنّا نقول: بإمکان الفرق بین وجود المندوحة وعدمها، بناءاً علی تعلّق الأمر بإیجاد الطبیعة من دون لحاظها فانیة فی أفرادها، بل بمجرّد الفناء فی حقیقة الوجود من دون لحاظ الکثرات، فإنّ الوجود المضاف إلی الطبیعة هکذا مقدور بالقدرة علی فرد فی الخارج، دون ما إذا لم یکن مقدوراً بوجهٍ أصلاً، ولذلک لابدّ

ص:535

أن یؤخذ قید المندوحة فی مورد النزاع، ولا یصحّ إذا لم یکن له مندوحة أصلاً کما لا یخفی .

هذا غایة ما یمکن أن یقرّر فی وجه لزوم أخذ قید المندوحة فی محلّ النزاع.

أقول: ولکن التحقیق عدم لزوم اعتبار قید المندوحة فی موضوع النزاع لوجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: إنّ البحث فی مسألة جواز الاجتماع وعدمه، إنّما یکون من حیث مقام تعلّق الحکمین المتضادّین بشیء واحد ذاتاً ومتعدّد جهةً من حیث تضادّ الحکمین بنفسهما، حیث إنّه لا نزاع فی أنّ تعلّقهما بشیء واحد ذاتاً وجهةً محال قطعاً من حیث وجود التضادّ بینهما، إنّما البحث فی أنّ تعدّد الجهة هل یبرّر الاجتماع أم أنّه کالمتّحد فی استحالة الاجتماع ؟

وجه التردّد: إنّما هی من جهة أنّ الوحدة فی المتعلّق هل تکفی فی السرایة من أحدهما إلی الآخر، أم لابدّ فیها من الوحدة فی الجهة أیضاً، ولا یخفی أنّه لا أثر لوجود المندوحة للمکلّف فی المقام، لأنّ البحث حینئذٍ عن حال المجمع بینهما لا فی غیره، فوجود المندوحة وعدمه فی ذلک سیّان، بمعنی أنّ وجود المندوحة لا یوجب رفع استحالة الجمع بین الضدّین، لو لم یکن تعدّد الجهة کافیاً فی رفع التضادّ.

کما أنّ عدم وجود المندوحة لا یوجب تحقّق الاستحالة من ناحیة الجمع بین الضدّین إن کفی تعدّد الجهة فی رفع الاستحالة.

هذا بخلاف البحث فی المندوحة من حیث الجهة وعدمها، حیث یکون من

ص:536

جهة عجز المکلّف عن موافقتهما معاً، برغم وجود الملاک فی موضوع الأمر الدالّ علی أنّ وجوده أرجح من عدمه، ووجود الملاک فی موضوع النهی الدالّ علی أنّ عدمه أرجح من وجوده، فیکون عجز المکلّف مانعاً عن الجمع بینهما، لأنّ الأمر بالجمع بینهما تکلیفٌ بالمحال نظیر الأمر بالضدّین، فقید المندوحة یؤثّر فی الجهة الثانیة دون الاُولی .

وبعبارة أوفی: أن یقال إنّ محور بحثنا کان فی ناحیة أنّ التکلیف المتضادّ المتعلّق بالشیء الواحد ذاتاً دون الحرمة، هل هو تکلیف بالمحال من جهة السرایة فی المتعلّق بحیث لا یمکن صدوره عن الحکیم جلّ وعلا، بل هو قبیح عقلاً، أم لا یکون مثل هذا التکلیف محالاً لوجود تعدّد الجهة فیه؟ وبعد الفراغ عن أنّ التکلیف به لا یعدّ تکلیفاً بمحال تصل النوبة إلی أنّه بواسطة عجز المکلّف عن امتثالهما، هل هو تکلیف بالمحال أم لا، ویأتی دور المندوحة فی هذه المرحلة دون الاُولی .

أقول: ومن هنا ظهر فساد ما قاله تحت عنوان (مطلب دقیق) بأنّ تعدّد العنوان من قبیل الحیثیّة التعلیلیّة لا التقییدیّة حتّی یوجب تعدّد الموضوع.

وجه الفساد: أنّ التقیید بوجود المندوحة وعدمه لا یکون مؤثّراً فیما هو المهمّ من بحثنا بأنّ الواحد بحسب ذاته یکون واحداً قطعاً، ومن حیث الجهة متعدّداً، فإن کان النظر فی تحقّق التضادّ إلی الوحدة المفروضة فی الذات، فلا یجوز الاجتماع حتّی وإن کانت له المندوحة. وإن کان النظر فی رفعه إلی تعدّد الجهة، فهو موجود فیجوز بلا إشکال، ولو فرض عدم وجود المندوحة له أصلاً.

ولا ینافی ما ذکرناه مع الغرض الاُصولی الذی کان هو إثبات الجواز الفعلی، لأنّ من یری فی کفایة جواز الاجتماع التعدّد ولو بالعنوان والجهة، فعلیه

ص:537

أن یحکم بالجواز جوازاً فعلیّاً مطلقاً، سواء کان مقیّداً بالمندوحة أم غیر مقیّد بها، ومن لا یری کفایة تعدّد الجهة فی ذلک، فلا یحقّ له أن یحکم بالجواز أصلاً، ولو کانت المندوحة موجودة فالمسألة من هذه الناحیة واضحة.

الوجه الثانی: یمکن أن یُقال بأنّ قید المندوحة لو کان معتبراً، لکان معتبراً من جهة عدم قدرة المکلّف فی مقام امتثال الأمر والنهی فی شیء واحد، لا فی ناحیة صحّة الصلاة وعدمها فی مثل وقوعها فی الدار المغصوبة، لإمکان القول بالافتراق بینهما، حیث أنّ تعدّد الجهة والعنوان الموجب لتعدّد المعنون ربّما لا یبرّر الجمع بین الأمر والنهی فیما لا مندوحة فیه، لعدم قدرته مع الامتثال، بخلاف وجود الرجحان فی متعلّقه بنفسه، بحیث یصحّ التقرّب به بواسطة هذا الرجحان، فمثل ذلک یوجب الحکم بالصحّة لو أتی بها بقصد القربة والتقرّب ولو لم تکن له مندوحة أصلاً، ولو لم نجیز تعلّق الأمر به علی الفرض، لعدم قدرته علی الامتثال المستلزم صحّة التکلیف به حینئذٍ التکلیف بالمحال.

وکیف کان، لیس قید وجود المندوحة وعدمه دخیلاً فی الحکم بصحّة الصلاة وعدمها، وإن سلّمنا دخالتها فی أصل تعلّق الأمر والنهی بشیء واحد، لعدم استلزام الحکم بصحّتها تکلیفاً بالمحال، لعدم وجود أمر حینئذٍ فی البین کما لایخفی.

أقول: ولکن الإنصاف عدم تمامیّة هذا الجواب :

أوّلاً: لما فیه خروج عن فرض اجتماع الأمر والنهی، لأنّ الکلام فیه عن أنّه لابدّ فی وقوع النزاع فیه من وجود المندوحة للمکلّف وإلاّ فلا یجوز. فنتیجة هذا هو التسلیم لذلک .

ص:538

وثانیاً: أنّ هذا نوع تسلیمٍ بإمکان وجود المبغوضیّة والمحبوبیّة فی شیء واحد إذا کان ذا وجهین، ومتعدّداً بتعدّد العنوانین، وإلاّ یمکن أن یُدَّعی امتناع ذلک بواسطة النظر إلی وجوده، بحیث یکون شیئاً واحداً، فلا یصحّ الالتزام فیه بهاتین الجهتین المتضادّتین، وعلیه فهذا الجواب لا یسمن ولا یُغنی عن جوع.

الوجه الثالث: بأنّ شرط وجود المندوحة إنّما یصحّ إذا کان هناک تکلیفان شخصیّان متوجّهان إلی شخص واحد، بخلاف ما لو کان التکلیف علی نحو القاعدة العامّة الموجّهة إلی المکلّف، حیث سبق وإن ذکرنا عدم شرطیّة وجود القدرة للمکلّف فی فعلیّة التکلیف فیها، بل هو شرط فی تنجّزه کما عرفت تفصیله فی باب الترتّب .

فحینئذٍ إذا توجّه الخطاب إلی عامّة المکلّفین القادرین غالباً علی امتثال الأمر والنهی فی کثیر من الموارد، وقد یتّفق وجودهما فی مورد واحد شخصی ذاتاً ومتعدّد جهةً، فلا یحتاج فی صحّة فعلیّة الخطاب ملاحظة إمکان قدرة الامتثال فی هذا الفرض أیضاً، حتّی یلاحظ فیه قید المندوحة، فالتکلیف فی کلٍّ من الأمر والنهی فعلی، ولو لم یکن للمکلّف فی مجمعهما مندوحة فی بعض الموارد.

نعم، إن فرض فی مورد کون العنوانین متلازمین فی الوجود، بحیث لا ینفکّ أحدهما عن الآخر فی الخارج أصلاً، بحیث کلّما وجد أحدهما وجد الآخر، فإنّه یمکن أن یُقال بلزوم اعتبار قید المندوحة فی هذه الصورة، مع أنّه أیضاً قد عرفت فی الجواب الأوّل أنّه لا حاجة إلیه فی بحثنا، إذ لا یختلف فی الاستعانة بالتعدّد فی العنوان والجهة لدفع الاستحالة من وجود قید المندوحة وعدمه.

ص:539

وبالجملة: ظهر ممّا ذکرنا أنّه لا وجه لذکر هذا القید، سواء قلنا بکون الخطابات خطابات جزئیّة شخصیّة، أو أنّها خطابات قانونیّة کلّیة.

الأمر الثامن: فی أنّ النزاع الواقع بین الاُصولیّین فی جواز الاجتماع وعدمه، هل هو مخصوص بما إذا کان متعلّق الأمر والنهی الطبایع دون الأفراد کما علیه کثیر من الاُصولیّین، وإلاّ لکان الامتناع ثابتاً کما یظهر ذلک من بعض کالمحقّق القمّی فی «القوانین» وصاحب «نهایة الاُصول» حیث صرّح الثانی منهما بذلک.

أم أنّ النزاع یکون جاریاً حتّی فیما لو التزمنا بأنّ متعلّق کلیهما أو أحدهما هو الأفراد دون الطبایع، لأنّ توهّم الاختصاص بالطبایع ممّا ینبغی أن لا یُصغی إلیه، حیث توهّم بأنّ الحکم بالجواز مبنیٌّ علی کون متعلّقهما هو الطبایع بلا نزاع، کما أنّ الحکم بالامتناع مبنیٌّ علی کون متعلّقهما هو الأفراد.

ووجه کلا التوهّمین هو أنّ الفرد إذا کان متعلّقاً للحکم، استلزم أن یتعلّق الحکمان المتضادّان بواحد شخصی ولو کان ذا وجهین، هذا بخلاف ما لو کان متعلّقهما الطبیعة، فیلزم عدم تعلّق الحکمین المتضادّین بشیء واحد بحسب حال تعلّقهما، وإن کان بحسب الإیجاد والوجود یتّحد کلا المتعلّقین خارجاً، ویکون المصداق مصداقاً لهما فی الخارج.

کما أنّه قد یتوهّم بأنّ الحکم بالجواز مخصوص بما إذا التزمنا فی مسألة أصالة الوجود والماهیّة بأصالة الماهیّة واعتباریّة الوجود.

وأمّا بناءً علی القول بأصالة الوجود - کما علیه المحقّقون - لا مناص إلاّ القول بالامتناع؛ لوضوح أنّ الصادر من الموجد حینئذٍ لیس إلاّ الوجود، وهذا هو

ص:540

الذی کان بإزائه فی الخارج شیء دون الماهیّة، بخلاف القائل بأصالة الماهیّة حیث یقول بأنّ الذی ما بإزائه فی الخارج هو الماهیّة لا الوجود، بل هو اعتباری، فعلی هذا لو کان الصادر هو الوجود، ولم یکن هو إلاّ واحداً حقیقةً، فلا یجوز أن یکون شیءٌ واحدٌ حقیقةً مرکزاً للحکمین المتضادّین.

هذا بخلاف ما لو کانت الماهیّة أصیلةً، إذ لا یکون حینئذٍ للوجود عینٌ ولا أثر، فیکون متعلّق الأمر ماهیّة مباینة مع متعلّق النهی، فلا مجمع بینهما بحسب الماهیّة، وإن اتّحدت بحسب الوجود فی الخارج الماهیّتان، وتعلّقتا بشیء واحد خارجاً.

فهذه التوهّمات بجمیعها وأسرها باطلة جدّاً وممنوعة.

أقول: ولکن لا بأس بالتعرّض لمقدّمة تکون وسیلة للجواب عنها، إذ بها یتّضح وجه خطأهم فی ذلک، فنقول:

اختلف الأعلام فی أنّ متعلّق الأمر والنهی هو الطبیعة أم شیء آخر، والظاهر أنّ الوجه فیه هو أنّهم رأوا بأنّ الطلب - سواء تعلّق بالوجود أو الترک - لابدّ أن یکون متوجّهاً إلی وجود شیء، ولذلک اختلفوا بأنّ الوجود اللاّزم اعتباراً، هل کان فی جانب الطبیعة لیکون وجودٌ مّا مورداً للأمر أو للزجر. أو یکون الوجود مفروضاً فی طرف الفرد ممّا یجعله مرکزاً للأمر والنهی دون الطبیعة.

کما أنّه یمکن أن یکون وجه اختلافهم أمراً آخر وهو أنّه لو سلّمنا لزوم اعتبار الوجود فی متعلّق الطلب، لکن النزاع فی أنّ المتعلّق یجب أن یکون أشخاص الوجودات الخاصّة، أو المعنی الواحد الجامع بین الوجودات.

ثمّ إنّه لو سلّمنا کون متعلّق الأمر والنهی مثلاً هو وجود الفرد، یأتی الکلام

ص:541

فیه أیضاً بأنّ هذا الوجود، هل هو بوجوده الذاتی یعدّ مرکزاً للأمر والنهی، أم مرکزهما هو الوجود الذاتی مع تمام المشخّصات والخصوصیّات الفردیّة من مقولات متعدّدة من الأین والفعل والزمان وغیرها.

فربّما یتفاوت حکم المسألة بحسب جواز الاجتماع وعدمه علی حسب ما اختیر فی تلک الوجوه، ولذلک التجأ کلّ واحدٍ منهم إلی التفصیلات المذکورة استخلاصاً لما یلزمهم من وهم المحذور من الجمع بین الضدّین.

أقول: ولکن الحقّ أنّ ذکر هذه الاُمور فی بیان المسألة وابتنائها علیها کان غفلةً عنهم، إذ لم یرتبط حکم الجواز وعدمه بشیء منها، بل الملاک فیه أمرٌ آخر غیر مرتبط بما هو متعلّق الأمر من الطبیعة أو الفرد؛ لأنّ من الواضح أنّ الأمر والنهی إذا تعلّقا بالطبیعة أیضاً لا یکون متعلّقاً بها مجرّدة عن ما هو الموجود فی الخارج، لما قد عرفت منّا سابقاً بأنّ مرکز الأمر والنهی عبارة عن الطبیعة بما هی هی التی قد تسمّی بالوجود الطبیعی، وقد عرفت أنّه تعبیرٌ مسامحیّ، لأنّ الطبیعی صادق فی الاُمور المتأصّلة کالإنسان والحیوان، لا الاُمور المخترعة المرکّبة الشرعیّة التی لیست إلاّ اُموراً اعتباریّة مجعولة، فالأصحّ أنّ إطلاق الکلّی علیه کإطلاق الطبیعی بحیث یعدّ وجوده عین وجود أفراده، فبالنتیجة یکون وجود الطبیعی بوجود فرده ومن خلال البعث إلی وجوده لا إلی ما هو الموجود فی الخارج؛ لأنّه حینئذٍ یکون ظرف السقوط لا الثبوت، فإذا تعلّق الحکم بالفرد من تلک الناحیة، لابدّ أن یکون متعلّق الحکم نفس الأمر لیصبح مرکزاً للأمر والنهی.

فإن قلنا باستحالة ذلک فی تعلّقهما بالفرد من جهة کون الاتّحاد فی المتعلّق موجباً للسرایة، فهذا یکون فی ناحیة کون الطبیعة متعلّقة لهما.

ص:542

وإن قلنا بأنّ الاتّحاد بحسب الذات لا یوجب ذلک، لأنّ الجهة فی کلّ واحد غیر الجهة الموجودة فی الآخر، وتعدّد الجهة یکفی فی رفع الاستحالة کان الأمر فی الحکم أیضاً کذلک .

ولو قلنا بأنّ متعلّق کلا الحکمین هو الفرد دون الطبیعة، فلابدّ أن ینحلّ ذلک فی تلک الناحیة من المسألة، لا من حیث ملاحظة ما هو متعلّقهما کما وردت الإشارة إلیه تصریحاً أو تلویحاً.

أقول: ومن هنا ظهر فساد توهّم الفرق بین کون الوجود أصیلاً أو الماهیّة، من الامتناع فی الأوّل دون الثانی .

وجه الظهور: أنّ الأثر إنّما یترتّب علی الوجود دون الماهیّة، ومن الواضح أنّ الوجود علی کلا القولین لیس إلاّ واحداً بحسب حقیقته وذاته، وإن کانت الجهة متعدّدة، فحینئذٍ یأتی ما ذکرناه بأنّ الوحدة فی الوجود هل هو مضرّ بحال متعلّقها أم لا، بلا فرق فی ذلک بین کون الوجود أصیلاً أو الماهیّة .

نعم، لو قلنا بأنّ متعلّق الأمر والنهی إنّما یکون هو الفرد بما له من الخصوصیّات والمشخّصات واللّوازم الفردیّة حتّی من حیث الجهة، یعنی أن یتعلّق الأمر بما تعلّق به النهی من جمیع الجهات من دون اختلاف أصلاً، فهو مستحیل قطعاً، من حیث کونه تکلیفاً محالاً إذ لا یعقل صدور الحم بالتضادّ فی موضوع واحد عن الحکیم، ولیس هو تکلیفاً بالمحال، مع أنّ المستفاد من ظاهر استدلالاتهم من أنّ القدرة علی الامتثال شرط التکلیف، وکون تعلّق الحکم کذلک مستلزماً للتکلیف بالمحال وأمثال ذلک، أنّهم لم یقصدوا هذا القسم من التعلّق، وإلاّ لکان خارجاً عن فرض اجتماع الأمر والنهی، کما لایخفی.

ص:543

الأمر التاسع: فی أنّه هل یعتبر فی باب اجتماع الأمر والنهی تحصیل الإطلاق فی الملاک والمناط لکلّ من متعلّقی الأمر والنهی، حتّی لمورد التصادق والاجتماع، أنّ الأمر غیر منوط بذلک، بل یجری النزاع فیه حتّی لو قلنا بعدم وجود ملاک فیهما أصلاً سواء کان فی مورد التصادق والاجتماع أم فی غیره؟

فیه وجهان، بل قولان:

والذی یظهر من صاحب «الکفایة» وتبعه فی ذلک صاحب «عنایة الاُصول» و«حقایق الاُصول» و«نهایة الدرایة»، هو الأوّل، خلافاً لمَن صرّح بعدم لزوم ذلک کما عن العلاّمة البروجردی والمحقّق الخمینی وصاحب «المحاضرات»، وهو الحقّ عندنا.

أقول: لابدّ أوّلاً من ذکر کلام صاحب «الکفایة» قدس سره والإجابة عنه، لیثبت ما هو المختار، فنقول:

قال صاحب «الکفایة» قدس سره :

(الثامن: أنّه لا یکاد یکون من باب الاجتماع، إلاّ إذا کان فی کلّ واحد من متعلّقی الإیجاب والتحریم مناط حکمه مطلقاً، حتّی فی مورد التصادق والاجتماع، کی یحکم علی الجواز بکونه فعلاً محکوماً بالحکمین، وعلی الامتناع بکونه محکوماً بأقوی المناطین، أو بحکم آخر غیر الحکمین فیما لم یکن هناک أحدهما أقوی کما یأتی تفصیله.

وأمّا إذا لم یکن للمتعلّقین مناط کذلک، فلا یکون من هذا الباب، ولا یکون مورد الاجتماع محکوماً إلاّ بحکم واحد منهما، إذا کان له مناط أو حکمٌ آخر غیرهما، فیما لم یکن لواحد منهما. قیل بالجواز أو الامتناع.

ص:544

هذا بحسب مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الدلالة والإثبات، فالروایتان الدالّتان علی الحکمین متعارضتان، إذا اُحرز أنّ المناط من قبیل الثانی. فلابدّ من عمل المعارضة حینئذٍ بینهما من الترجیح والتخییر، وإلاّ فلا تعارض فی البین، بل کان من باب التزاحم بین المقتضیین، فربما کان الترجیح مع ما هو أضعف دلیلاً لکونه أقوی مناطاً، فلا مجال لملاحظة مرجّحات الروایات أصلاً، بل لابدّ من مرجّحات المقتضیات المتزاحمات کما یأتی الإشارة إلیها .

نعم، لو کان کلّ منهما متکفّلاً للحکم الفعلی لوقع بینهما التعارض، فلابدّ من ملاحظة مرجّحات باب المعارضة لو لم یوفّق بینهما بحمل أحدهما علی الحکم الاقتضائی بملاحظة مرجّحات باب المزاحمة، فتفطّن). انتهی کلامه(1).

أقول: ولا یخفی ما فی کلامه من الإشکال :

أوّلاً: بأنّ النزاع الواقع فی باب الاجتماع الأمر والنهی لا یکون منحصراً بالإمامیّة القائلین بتبعیّة الأحکام للمصالح والمفاسد، لما تری فی کلام الشیخ الأنصاری قدس سره فی تقریراته المسمّی ب- «مطارح الأنظار» أنّه قدس سره ذکر الاختلاف فی الباب عن الأشاعرة أیضاً بقوله: (فذهب أکثر أصحابنا وجمهور المعتزلة وبعض الأشاعرة کالباقلانی إلی الامتناع...) إلی أن قال: (وأکثر الأشاعرة علی الجواز، ووافقهم جمعٌ من أفاضل متأخّری أصحابنا.. إلی آخره)(2).

مع أنّه من الواضح بأنّ الأشاعرة منکرون للتبعیّة، ووجود الملاک فی


1- الکفایة: 154 .
2- مطارح الأنظار: 133 .

ص:545

الأحکام؛ لأنّهم یعتقدون بأنّ الحُسن والقبح یتولّد ویتحقّق من نفس الأمر والنهی الصادرین من الشارع، وتقریر النزاع علی مذهبهم لا یکون إلاّ بملاحظة حال نفس الحکمین المتضادّین اللّذین یجتمعان فی موضوع واحد، سواء کان الملاک والمناط فی کلّ واحد منهما موجوداً أم لم یکن.

نعم، علی فرض مذهبنا لابدّ من وجود الملاک، بلا إشکال. غایة الأمر لابدّ أن یلاحظ مع فرض التصادق والاجتماع وجوده فیهما، وإلاّ لا یکون من باب الاجتماع، لعدم تحقّق الحکمین حینئذٍ حتّی یبحث فی أنّه جایز أم لا، وهو أمرٌ واضح لا یحتاج إلی البیان، مع فرض کون الکلام فی الجمع بین الحکمین کما لایخفی.

وأمّا ثانیاً: فإنّ قوله: (لابدّ من وجود الملاک فیهما حتّی یحکم بالحکمین فی الجواز وبالحکم الواحد الذی مناطه أقوی علی الامتناع)، لیس علی ما ینبغی؛ لوضوح أنّ القائل بالامتناع یقول بأنّ الملاک لیس إلاّ فی واحدٍ منهما، لأنّه یقول بصورة التکاذب والتعارض، فلابدّ من تحصیل أنّ أیّهما کان من جهة الدلالة والسند أقوی حتّی یؤخذ به، ویترک الآخر، نظیر باب التعارض، ومع التساوی فله الخیار فی التوقّف أو التخییر علی حسب الاختلاف الموجود، فالحکم بتقدیم أقوی الملاکین هنا ممّا لا وجه له.

وثالثاً: أنّ قوله فی مقام الدلالة والإثبات: (إذا کان الملاک فی کلا الحدثین والحکمین موجوداً یحکم بالتقدیم لما هو أقوی ملاکاً وإن کان أضعف دلیلاً)، ممّا لا یخلو عن إشکال:

أمّا دلالةً: لأنّ الطریق إلی تشخیص اقوائیّة ملاک أحدهما علی الآخر لا

ص:546

یکون إلاّ من نفس الدلیل، وهو إمّا أن یکون بمقتضی نفس هذا الدلیل الذی فرض کونه أضعف دلالة، ومن الواضح أنّ الدلالة إذا کان ضعیفاً فکیف یمکن الحکم بتقدیمه بواسطة ملاکه، لأنّه مکشوف بالدلالة، فإذا کانت هی ضعیفة من أساسها، کان مؤثّراً فی ضعف تحقّق الاطمئنان بالنسبة إلی ملاکه أیضاً .

وأمّا أن یکون الطریق إلیه من دلیل خارج غیر نفس الدلیلین المتعارضین، فحینئذٍ یخرج عن فرض کون الترجیح بواسطة هذین الدلیلین، فلا یکون وجه تقدیمه علی الآخر - بناءاً علی هذا - بواسطة اقوائیّة ملاکه، بل من جهة وجود دلیل آخر خارجی دالّ علی تقدیمه، ولو من جهة ملاکه، فیصیر هذا مرجّحاً دلالیّاً من المرجّحات الخارجیّة.

مضافاً إلی أنّ بیان اقوائیّة الملاک من وظائف المولی دون العبید، کما لا یخفی علی المتأمّل، فذکر هذه الاُمور هنا لا یخلو عن تأمّل.

وأخیراً: وممّا ذکرنا ظهر عدم احتیاجنا إلی أمر آخر الذی عقده صاحب «الکفایة» وعدّه أمراً تاسعاً فی کلامه، (من بیان ما یستکشف منه الإطلاق، لوجود الملاک فی مورد التصادق والاجتماع،وأنّه إمّا بدلیل خارجی من الإجماع وغیره، أو بنفس إطلاق الدلیلین، حیث فصّل فی الثانی منهما، باعتبار أنّ الإطلاق فی الدلیل یکفل بیان الحکم الاقتضائی، فیصحّ جعله من باب الاجتماع فی مورد التصادق.

وأمّا لو کان فی صدد بیان الحکم الفعلی، فیستکشف عن ثبوت المقتضی فی کلا الحکمین علی القول بالجواز، إلاّ إذا علم من خارج بکذب أحدهما فیکون کالمتعارضین.

ص:547

هذا بخلاف ما لو قلنا بالامتناع، فالإطلاقان متنافیان من غیر دلیل علی ثبوت المقتضی للحکمین فی مورد الاجتماع، لإمکان أن یکون التنافی بواسطة انتفاء المقتضی فی أحدهما لا لوجود المانع.

إلاّ أن یُقال: بأنّ مقتضی التوفیق بینهما هو حمل کلّ منهما علی الحکم الاقتضائی، لو لم یکن أحدهما أظهر، وإلاّ فخصوص الظاهر یحمل علی الاقتضائی دون الأظهر.. إلی آخر کلامه).

وجه عدم الاحتیاج: ما عرفت أنّ البحث هنا فی الأعمّ من جهة وجود الملاک وعدمه، حیث أنّ بحثنا یدور حول بیان وجود السرایة فی المتعلّقین لنحکم بعدم الجواز، أو عدم السرایة لنحکم بالجواز، کما عرفت منّا متکرّراً بلا فرق بین صورة وجود الملاک فیهما أو عدمه أصلاً کما لا یخفی.

تنبیهٌ: اعلم أنّ الاُصولیّین تعاملوا مع الدلیلین المتعارضین علی نحو العموم والخصوص من وجه مثل (أکرم العلماء) و(لا تکرم الفسّاق) معاملة فی باب التعادل والتراجیح معاملة باب التعارض، من جهة تعارضهما فی مورد التصادق وهو (العالم الفاسق) فحکموا بلزوم ملاحظة المرجّحات السندیّة والدلالیّة فیهما، والأخذ بما هو المرجّح أو الحکم بالتوقّف أو التخییر، من دون ملاحظة کونه من باب اجتماع الأمر والنهی فی مورد التصادق حتّی یبحث بأنّه هل هو جایز أم لا، ولیس من یتعامل معهما معاملة باب التعارض منحصراً فیمن کان هنا امتناعیّاً، بل القائل بجواز الاجتماع أیضاً یقول بذلک .

والحاصل: أنّه ما هو السبب فی تفریق الأصحاب بین قوله: (صلِّ) و(لا تغصب) فی کونه بنحو العموم من وجه الثابتین بالدلیلین، وبین قوله: (أکرم

ص:548

العلماء) و(لا تکرم الفسّاق)، حیث اعتبروا الأوّل کونه من قاعدة اجتماع الأمر والنهی دون المثال الثانی .

وممّن تصدّی لبیان الفرق هنا - بل جعل ذلک علّة فی کلام صاحب «الکفایة» من جهة لزوم وجود الإطلاق لتحصیل الملاک والمناط فی مورد التصادق - المحقّق الخمینی حفظه اللّه حیث ورد فی «تهذیب الاُصول» ما لفظه:

(والذی یختلج فی البال، ولیس ببعید عن مساق بعض عبائره، أن یکون مراده قدس سره فیما أفاده فی الأمر الثامن والتاسع هو إبداء الفرق بین هذا المقام، وبین باب التعارض، دفعاً عن إشکالٍ ربما یرد فی المقام، وهو أنّ القوم رضوان اللّه علیهم لمّا عنونوا مسألة جواز الاجتماع مثّلوا به بالعامّین من وجه، واختار جمع منهم جواز الاجتماع، ولکن هذا الجمع لما وصلوا إلی باب التعارض جعلوا العامّین من وجه أحد وجوه التعارض، ولم یذکر أحدٌ منهم جواز الجمع بینهما بصحّة اجتماع الأمر والنهی فی عنوانین بینهما عام من وجه، فصار قدس سره بصدد رفع هذا الإشکال بالفرق بین البابین، بأن یکون العامّین من وجه من باب الاجتماع مشروط بإحراز المناط حتّی فی مورد التصادق، وإلاّ دخل باب التعارض.

وبالجملة: فالمیز التامّ هو دلالة کلّ من الحکمین علی ثبوت المقتضی فی مورد الاتّفاق أو عدمها، هذا.

ولکن یمکن أن یُقال: إنّ المیز بین البابین لیس بما ذکر، إذ المیزان فی عدّ الدلیلین متعارضین، هو کونهما کذلک فی نظر العرف، ولذا لو کان بینهما جمعٌ عرفی خرج من موضوعه. فالجمع والتعارض کلاهما عرفیّان، وهذا بخلاف المقام، فإنّ التعارض فیه إنّما هو من جهة العقل، إذ العرف مهما أدق النظر وبالغ فی

ص:549

ذلک لا یری بین قولنا: (صلِّ) و(لا تغصب) تعارضاً، لأنّ الحکم علی عنوانین غیر مرتبط أحدهما بالآخر، کما أنّ الجمع أیضاً عقلی مثل تعارضه، وعلیه فکلّ ما عدّه العرف متعارضاً مع آخر وإن أحرزنا المناط فیهما، فهو داخل فی باب التعارض، ولابدّ فیه من إعمال قواعده من الجمع والترجیح والطرح.

کما أنّ ما لم یعدّه متعارضاً مع آخر، وآنس بینهما توفیقاً وإن عدّها العقل متعارضین، فهو من باب الاجتماع، وإن لم یحرز المناط فیهما.

وبالجملة: موضوع باب التعارض هو الخبران المختلفان، والمناط فی الاختلاف هو الفهم العرفی، والجمع هناک عرفی لا عقلی بخلافه هاهنا، فإنّ المسألة عقلیّة، فلا ربط بین البابین أصلاً، فما ادّعی من المناط غیر تامّ طرداً وعکساً کما عرفت.

والسرّ فیه أنّ رحی باب التعارض یدور علی العمل بالأخبار الواردة فیه، وموضوعها مأخوذ من العرف، کموضوع سائر ما ورد فی الکتاب والسنّة، فکما یحکم العرف باختلاف الخبرین وتعارضهما یعمل بالمرجّحات، وکلّ ما یحکم بعدمه لأجل الجمع العرفی أو عدم التناسب بین الدلیلین لا یکون من بابه، فقوله: (صلِّ) و(لا تغصب)، غیر متعارضین عرفاً، لأنّ الحکم علی العنوانین بنحو الإطلاق بلا ارتباط بینهما، فلیس بینهما اختلاف عرفاً ولو لم نحرز المناطین.

کما أنّ قوله: (أکرم کلّ عالم)، معارض عرفاً فی الجملة لقوله: (لا تکرم الفسّاق)، ولو فرض إحراز المناطین فی مورد الاجتماع، وقلنا بجواز الاجتماع حتّی فی مثله، لأنّ الحکم فیهما علی الأفراد بنحو العموم فیدلاّن علی الإکرام عدمه فی المجمع.

ص:550

وبذلک یظهر أنّ ما ذکره بعض الأعاظم من أنّ هذه المسألة محقّقة لموضوع مسألة التعارض فی غیر محلّه، لما عرفت من أنّ المسألتین لا جامع بینهما، ولا إحداهما مقدّمة الآخر، کما أنّ ما ادّعاه من أنّ التمایز بین البابین هو أنّ الترکیب فی باب الاجتماع انضمامی، وفی باب التعارض اتّحادی، لا یرجع إلی محصّل، وسیتّضح أنّ حدیث الترکیب الانضمامی والاتّحادی أجنبی عن هذه المقامات فارتقب)، انتهی کلامه(1).

أقول: ولکن لا یخفی فی کلامه من الإشکال :

أوّلاً: لو سلّمنا ما ذکره من الفرق بین البابین، فذلک إنّما یصحّ فیما إذا لم نقل بمقالة الشیخ الأنصاری قدس سره وبعض من تبعه من کون نزاع باب اجتماع الأمر والنهی مخصوصاً بما إذا کان العموم والخصوص من وجه فی خصوص متعلّق الأمر والنهی، لا فی متعلّق متعلّقه، وإلاّ لکان الفرق بین البابین موضوعیّاً، فلا یحتاج إلی ما ذکره من وجه الفرق بینهما، لأنّ حکم الصلاة والغصب یکون داخلاً فی باب الاجتماع دون (أکرم العلماء) و(لا تکرم الفسّاق)، کما أنّ المثال الثانی داخل فی باب المتعارضین دون الأوّل .

نعم، هذا الجواب لا یصحّ بناءً علی ما اخترناه من عدم القول بالفرق فی النزاع المذکور فی باب الاجتماع، بین کون الحکمین المتضادّین فی متعلّقیهما أو فی متعلّقی متعلّقیهما.

وثانیاً: إنّا لا نفهم وجه الفرق بین المثالین بالحقیقة، إذ أنّ العرف قد لاحظ


1- تهذیب الاُصول: 1 / 303 .

ص:551

الدلیلین بنظرة مسامحیّة فی نفس العنوانین، من دون لحاظ ما ینطبق علیه خارجاً من الأفراد، فکما أنّ بین (صلِّ) و(لا تغصب) بحسب الظاهر لا تنافی أصلاً لکونهما عنوانین متفاوتین، فهکذا لا تنافی بین قوله: (أکرم العلماء)، و(لا تکرم الفسّاق) بالنظر التسامحی العنوانی.

وإن لاحظهما العرف بالنظر الدقّی، وبما ینبطق علیه خارجاً من الأفراد، فکما أنّ (أکرم العلماء) و(لا تکرم الفسّاق) یتنافیان فی (العالم الفاسق)، هکذا یکون هذا التنافی موجوداً عرفاً بین (صلِّ) و(لا تغصب) فی الصلاة فی الدار المغصوبة التی کانت مجمعاً بینهما، وانّا لا نفهم الفرق فیهما من تلک الناحیة لکی نقوم بالتفریق بینهما من جهة باب الاجتماع وباب التعارض.

نعم، یمکن أن یکون مقصوده فی الفرق بینهما، أنّ دلالة مثل (صلِّ) و(لا تغصب) علی الأفراد یکون بحسب الإطلاق، أی اعتبر الطبیعة متعلّقة للأمر والنهی وهی متّحدة مع الأفراد کاتّحاد الکلّی الطبیعی مع أفراده، هذا بخلاف مثل (أکرم العلماء) و(لا تکرم الفسّاق) حیث أنّ سرایة الحکم إلی الأفراد لا یکون بالإطلاق، بل یکون بالوضع من جهة دلالة الجمع المحلّی بالألف واللاّم علی ذلک، لیکون العموم فیه وضعیّاً، بخلاف مثل (صلِّ) و(لا تغصب) حیث یکون إطلاقیّاً لا وضعیّاً، فلذلک یری العرف المعارضة فی مثل الوضع بعمومه، بخلاف المطلق بإطلاقه .

فهذا الفرق وإن کان موجوداً بینهما، إلاّ أنّ جعله ملاکاً لصدق المعارضة وعدمه، بمقتضی نظرة العرف مشکل جدّاً، لوجود ملاک المعارضة فی المجمع فی کلا المثالین، سواء کان تلاقی الحکمین المتضادّین فی المجمع وضعیّاً کأدوات العموم، أو إطلاقیّاً مثل مقدّمات الحکمة.

ص:552

وهکذا ثبت أنّ الجواب لا یُسمن ولا یُغنی عن الإشکال .

أقول: ولکن بعد التأمّل والدقّة ینبغی أن یقال بأنّ الحقّ کون البابین قد امتاز کلّ واحد منهما عن الآخر من جهة البحث والنزاع امتیازاً موضوعیّاً غیر مرتبط أحدهما مع الآخر، لوضوح أنّ البحث فی باب الاجتماع عن العموم والخصوص من وجه، مضافاً إلی عدم اختصاصه فیه کما عرفت، إذ کان البحث عن مرحلة إمکان صدور حکمین متضادّین من الشارع والمولی الحکیم من جهة صدق وحدة المتعلّق من حیث الذات دون الجهة، وأنّ ذلک هل یستوجب السرایة أم لا یوجبها، سواء کان الدلیل فی کلّ من طرفی الإیجاب والتحریم علی نحو التعارض الموجب لصدق أحد الدلیلین دون الآخر، بحیث لا یبقی حینئذٍ للمجمع وجود بینهما أصلاً، أو کان بصورة التزاحم بحیث یکون التکلیف فی کلّ منهما بحسب مقام الدلالة ثابتاً، إلاّ أنّ المکلّف ربما لا یقدر علی الامتثال، ولکنّه من هذا الحیث لا یکون مورداً للبحث فی باب الاجتماع، بل یجیء البحث حتّی لو فرض بفرض المحال قدرة المکلّف علی الجمع بین التکلیفین حین الامتثال، ولذلک قلنا بأنّ البحث هاهنا إنّما کان من جهة لزوم ذلک التکلیف المحال لا التکلیف بالمحال.

کما ثبت أنّ البحث غیر منحصر بالإمامیّة القائلین بالتبعیّة، بل یجری حتّی علی مسلک الأشاعرة، کما عرفت منّا أیضاً بأنّ البحث لا یکون فی خصوص ما تکون النسبة بین الحکمین هو العموم من وجه، بل یجری فی غیرها من العموم والخصوص المطلق، بل فی الحکمین الشخصیّین، بل قد عرفت عدم انحصاره فی خصوص متعلّقی الأمر والنهی، بل یجری حتّی فی متعلّق متعلّقهما، خلافاً للشیخ الأنصاری ومن تبعه، فالامتیاز بین البابین حاصل وواضح لا خفاء فیه فلا نعید،

ص:553

فلیتأمّل لأنّه من موارد مزالّ الأقدام.

الأمر العاشر: فی أنّ النزاع فی باب اجتماع الأمر والنهی، هل یجری فیما إذا کان الترکیب بین العنوانین انضمامیّاً کالصلاة والغصب، أم یجری حتّی فی الترکیب الاتّحادی کما فی (أکرم العلماء) و(لا تکرم الفسّاق) بالنسبة إلی العالم الفاسق.

وبعبارة اُخری: النزاع ثابت حتّی فیما إذا کان ما تعلّق به الأمر هو عین ما تعلّق به النهی أم لا ؟

أقول: والذی یظهر عن بعض کالمحقّق النائینی وبعض تلامذته کالعلاّمة البجنوردی الذهاب إلی الأوّل، خلافاً لبعض آخر کالمحقّق الخمینی من الالتزام بالثانی، وهو الحقّ عندنا.

فلابدّ لإثبات صحّة ما التزمنا به التعرّض لکلام المحقّق النائینی قدس سره ولو إجمالاً لیتّضح المقصود فی ما هو الحقّ فی المقام .

قال المحقّق الکاظمی فی کتابه المسمّی ب- «فوائد الاُصول» ضمن کلام طویل ما خلاصته:

(إنّ العناوین المجتمعة:

تارةً: تکون من العناوین الاشتقاقیّة کالعالم والفاسق.

واُخری: من المبادئ.

وفی الثانیة أیضاً، تارةً: یکون اجتماعهما لا علی وجه الانضمام والترکیب، بل کان ما بحذاء أحدهما خارجاً غیر ما بحذاء الآخر، وکان کلّ واحد منهما قابلاً للإشارة الحسّیة إلیه، وکان اجتماعهما لمجرّد وحدة الموضوع واجتماعها فیه،

ص:554

سواء کان ذلک من جهة تلازمهما فی الوجود کالاستقبال والاستدبار للقبلة، حیث إنّه وإن کان وجدانی الشخص، إلاّ أنّ الاستقبال إنّما یکون باعتبار مقادیم البدن والاستدبار باعتبار مآخیره، وکان کلّ واحد منهما غیر ما بحذاء الآخر، وإن کانا متلازمین فی الوجود.

أو ما یکون ذلک من جهة الاتّفاق والمقارنة من دون أن یکون بینهما تلازم، کالعلم والفسق المجتمعین فی زید، فإنّهما وإن اجتمعا فی زید إلاّ أنّه کان لکلّ منهما ما بحذاء فی الخارج غیر ما بحذاء الآخر.

واُخری: یکون اجتماعهما علی جهة الترکیب والانضمام والالتصاق، کما فی الصلاة والغصب، فإنّهما وإن اجتمعا فی الدار المغصوبة، إلاّ أنّ اجتماعهما یکون علی وجه الانضمام والترکیب بینهما، وکان الموجود فی الدار المغصوبة مرکّباً بینهما علی وجه لا یمکن الإشارة الحسّیة إلی أحدهما دون الآخر، مع أنّه لا یمکن حمل أحدهما علی الآخر للمغایرة بینهما.

وهذا بخلاف العناوین الاشتقاقیّة، فإنّها ملحوظة لا بشرط بالنسبة إلی أنفسها وبالنسبة إلی الذات القائمة بها، ومن هنا کان الترکیب فیها ترکیباً اتّحادیّاً بحیث یصحّ حمل کلّ من العنوانین علی الآخر، وحملهما علی الذات وحمل الذات علیهما، فیُقال: (زید عالم وفاسق) و(العالم والفاسق زید) و(العالم فاسق) و(الفاسق عالم) لمکان اتّحاد الجمیع بحسب الخارج، إلی أن قال:

ومنها: أنّ الترکیب الاتّحادی یقتضی أن تکون جهة الصدق والانطباق فیه تعلیلیّة، ولا یعقل أن تکون تقییدیّة؛ لأنّ الجهة لا تکون مکثّرة للموضوع، فإنّا قد فرضنا کون الترکیب اتّحادیّاً، ومع الترکیب الاتّحادی لا تکثّر لوحدة الموضوع.

ص:555

وبالجملة: علم زید وفسقه لا یوجب أن یکون زید العالم غیر زید الفاسق، بل هو هو، وإنّما یکون العلم والفسق علّة لانطباق العالم والفاسق علیه، وهذا بخلاف الترکیب الانضمامی، فإنّ الجهة فیه تکون تقییدیّة ولا تصلح أن تکون تعلیلیّة، لأنّا قد فرضنا عدم الاتّحاد بین العنوانین، والجهتان فی الترکیب الانضمامی هما عبارة عن نفس العنوانین المجتمعین، ولیس هناک عنوان آخر حتّی یصحّ کون الجهة تعلیلیّة.

إلی أن قال: فظهر أنّ هذه المقدّمات الثلاث الأخیرة کلّها متلازمة وترتضع من ثدی واحد، فإنّ لازم کون العنوانین ملحوظین علی وجه اللاّ بشرطیّة، هو أن یکون الترکیب بینهما اتّحادیّاً، وکون الجهتین تعلیلیّتین کالعالم والفاسق والمصلّی والغاصب، ولازم لحاظها بشرط لا کون الترکیب بینهما انضمامیّاً، وکون الجهتین تقییدیّتین کالصلاة والغصب وما شابه ذلک من المبادئ التی أمکن الترکیب بینها لا مثل العلم والفسق الذین لیس بینهما ترکیب .

ثمّ قال: والغرض فی المقام الفرق بین تصادق مثل العالم والفاسق وتصادق مثل الصلاة والغصب، والذی یدلّ علی أنّ التصادق فی مثل العالم والفاسق یکون علی وجه الترکیب الاتّحادی، وفی مثل الصلاة والغصب یکون علی وجه الانضمام، هو أنّ العناوین الاشتقاقیّة لیس الموجود منها فی مادّة الافتراق نفس الجهة، وتبدّل تلک الذات التی کان العنوانان قائمین بها بذات اُخری، حیث إنّ الذی یکون عالماً هو بکرٌ، والذی یکون فاسقاً هو عمروٌ، والذی یکون عالماً وفاسقاً هو زید، فهناک ذوات ثلاث بحسب مادّة الاجتماع ومادّتی الافتراق، ولا یکون تمام ما هو مناط الصدق فی مادّة الاجتماع من المبدأ والذات محفوظاً فی

ص:556

مادّة الافتراق.

وهذا بخلاف مثل الصلاة والغصب، فإنّ تمام ما هو مناط صدق الصلاة بهویّتها وحقیقتها محفوظة فی مادّة الافتراق من دون نقصان شیء أصلاً، وکذا فی مادّة الافتراق فی جانب الغصب ولو کان الترکیب فی مثل الصلاة والغصب اتّحادیّاً، وکانت الجهة تعلیلیّة، لکان ینبغی أن یکون مثل العناوین الاشتقاقیّة موجباً لأن لا یکون فی مادّة الافتراق الصلاة بتمامها محفوظة، کما لا یخفی.

ثمّ قال: إنّ مورد البحث یدور فی العموم والخصوص من وجه لا فیما قاله صاحب «الفصول»، لأنّ فیه یلزم أن یکون تعلّق الأمر بعین ما تعلّق به النهی فی العموم المطلق، لو لم نقل بالتخصیص، مثل (صلِّ) و(لا تغصب) بالصلاة، وإن قلنا بالتخصیص خرج عن الاجتماع.

وکذلک لا یجری البحث فی النسبة بین الموضوعین، کما فی العالم والفاسق، لأنّ الترکیب فیهما اتّحادی لا انضمامی، فیجری فیه قاعدة التعارض لا الاجتماع.

ثمّ أخرج من مورد البحث ما إذا کانت النسبة بین العناوین المتولّدة من الفعل الصادر عن المکلّف، کما إذا کان للفعل عنوانان تولیّدیان، تکون النسبة بین العنوانین العموم من وجه، کما لو أکرم العالم المأمور بإکرامه والفاسق المنهی عنه بفعل واحد، تولّد منه کلّ من الإکرامین، کما لو قام بقصد التعظیم لکلّ من العالم والفاسق، فإنّ تعظیم کلّ منهما وإن اجتمعا بتأثّر واحد، وکان اجتماع التعظیمین علی وجه الترکیب الانضمامی لا الاتّحادی، إلاّ أنّه لمّا کان التعظیمان من المسبّبات التولیدیّة التی لم تتعلق إرادة المکلّف بها أوّلاً وبالذات، لکونها غیر

ص:557

مقدورةٌ له بلا واسطة، فلا جرم یکون متعلّق التکلیف هو السبب الذی یتولّد منه ذلک، فیجتمع الأمر والنهی فی شیء واحد شخصی، ولابدّ حینئذٍ من إعمال قواعد التعارض، ولا یکون من مسألة اجتماع الأمر والنهی)(1).

أقول: هناک مواضع للنظر فی کلامه رحمه الله ، فیرد علیه:

أوّلاً: إنّا لا نسلّم الفرق بین قوله: (صلِّ) و(لا تغصب)، وبین (أکرم العلماء) و(لا تکرم الفسّاق) بأن تکون الجهة فی الأوّل جهة تقییدیّة حتّی یصبح الترکیب ترکیباً انضمامیّاً، وفی الثانی جهة تعلیلیّة حتّی یصبح الترکیب ترکیباً اتّحادیّاً، إذ من الواضح أنّ وجوب إکرام زید العالم لیس إلاّ من جهة علمه، کما أنّ حرمة إکرامه یکون من جهة فسقه، لا أن یکون زید المقیّد بالعلم واجب الإکرام والمقیّد بالفسق حراماً.

وکذلک الحال فی ناحیة الصلاة والغصب، إذ الکون أو الحرکة الواقعة فی الدار المغصوبة لا یکون وجوبهما وحرمتهما إلاّ من جهة تعلیلیّة، وهی کونهما صلاتیّة أو غصبیّة، لا أن یکون الکون أو الحرکة المتقیّدان بالصلاة شیئاً مستقلاًّ ومنحازاً عنها بالغصب، فالالتزام بالتعدّد فی مرحلة تعلّق الحکمین من متعلّقیهما، یستلزم ذلک فی ناحیة مثالی (أکرم العلماء) و(لا تکرم الفسّاق) أیضاً .

مع أنّ منشأ ما یوهم الاختلاف کان من جهة أنّه لاحظ حال العنوانین فی أحدهما بلحاظ مبدئهما، وفی الآخر بلحاظ اشتقاقهما، وإلاّ فإنّهما فی الحقیقة متّحدان حیث یکون المقال والحال فی مثل المصلّی والغاصب کحال العالم


1- فوائد الاُصول: 1 / 403 - 414 .

ص:558

والفاسق بلا فرق بینهما.

وثانیاً: أنّ دعواه الفرق بینهما من جهة مانعیّة الاجتماع والافتراق، وکونهما متفاوتة بحسب الذات فی مثل (أکرم العلماء)، بخلاف الصلاة والغصب أیضاً فی غیر محلّها؛ لأنّه من الممکن أن نجعل ونفرض وجود مادّة الاجتماع والافتراق فی ذات واحدة فی مثال (أکرم العلماء) بأن نفرض إنساناً کان فاسقاً غیر عالم، ثمّ أصبح عالماً وخرج عن الفسق بالتوبة، ثمّ صار عالماً وفاسقاً بارتکاب الفسق حال علمه، فإنّ الذات فی هذه الحالة لم تتفاوت فی مادّتی الافتراق والاجتماع، ومن الواضح أنّ مثل ذلک لا یمکن أن یصیر وجهاً للفرق بین الموردین.

مع أنّ ما قاله من: (أنّ ما بحذاء العالم والفاسق یکون منفکّاً علی نحو یصحّ الإشارة الحسّیة إلیه) لا یخلو عن تأمّل فی بعض الموارد، مثل ما إذا کان حال إبراز علمه توأماً مع الفسق والمعصیة ونظائر ذلک .

وکیف کان، فإنّ جعل مثل هذا الاُمور وجهاً للفرق بین الموردین لا یخلو عن إشکال.

وثالثاً: أنّ إخراجه عن النزاع کلّ ما یکون متعلّق النهی خارجاً عن ما تعلّق به الأمر، حیث أخرج بواسطة ذلک صورة العموم والخصوص المطلق، ومثل (أکرم العلماء) و(لا تکرم الفسّاق)، ومثل العناوین التولیدیّة کالتعظیم بالقیام إذا کان مأموراً به ومنهیّاً.

لا یخلو عن مناقشة، لما سبق وأن ذکرنا بأنّ ملاک النزاع الموجود فی اجتماع الأمر والنهی جارٍ فی جمیع هذه الصور، وهو أنّ وحدة المتعلّق من حیث الذات - دون الجهة - هل تصحّح وتجیز سرایة الحکم أم لا تجیزها، فصرف وحدة

ص:559

متعلّق الأمر والنهی بالمفهوم لا یؤثّر فیما هو المقصود، وإن ناقش فیه بعض المحقّقین - وهو المحقّق الخمینی - ثمّ قال بعد التأمّل: (الأشبه عدم جریان النزاع فیه) ولکن الحقّ عندنا أنّ الأشبه جریانه فیه.

مضافاً إلی أنّه لا نسلّم کون الأمر والنهی المتعلّق بالمسبّب یعدّ أمراً إلی سببه، لعدم کون المسبّب مقدوراً، لوضوح أنّ الشیء المقدور بالواسطة یصدق أنّه مقدور، فالعبرة بترکیب المسبّب الذی کان انضمامیّاً علی فرض تسلیم مبناه، لا السبب حتّی یدّعی أنّه اتّحادی.

وکیف کان، فظهر من جمیع ما ذکرنا أنّ النزاع جار فی تمام الأقسام، ولا یرتبط بحثنا ببحث باب التعارض کما لا یخفی، واللّه العالم.

الأمر الحادی عشر: وهو الذی جعله صاحب الکفایة أمراً عاشراً فی «الکفایة»، ویعدّ بمنزلة ثمرة مسألة اجتماع الأمر والنهی، ولذلک تری أنّ بعض الاُصولیّین کالعلاّمة البروجردی وغیره لم یتعرّضوا لهذا الأمر - بل حتّی للأمرین قبله من التاسع والثامن - بدعوی أنّها لیست من مقدّمات المسألة، بل هی من نتائجها، ولکن نحن نسیر علی خُطی صاحب «الکفایة» رحمه الله ونتعرّض لهذا الأمر کما تعرّضنا للأمرین المذکورین فیه قبله، فنقول:

قال المحقّق الخراسانی قدس سره أوّلاً : (العاشر: أنّه لا إشکال فی سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتیان المجمع بداعی الأمر علی الجواز مطلقاً، ولو فی العبادات، وإن کان معصیة للنهی أیضاً)(1) .

قال صاحب «المحاضرات»: المستفاد من ظاهر کلامه من الإطلاق هو الحکم


1- کفایة الاُصول: 156 .

ص:560

بصحّة العمل وسقوط أمره بالامتثال ولو فی العبادات، أی سواء کان العمل المجمع علیه الأمر والنهی توصّلیّاً أو تعبّدیّاً، وسواء کان عالماً بالحکم أو جاهلاً به، وسواء کان فی الجهل أیضاً جهلاً بالموضوع أو جهلاً بالحکم، وفی الجهل بالحکم سواء کان جاهلاً به عن تقصیر أو عن قصور، وبلا فرق أیضاً بین أن یکون قد قصد امتثال الأمر فی مجمعه، أو کان الإتیان بملاک محبوبیّته ولم یقصده، لأنّ المفروض وجوده هنا سواء قصد الأمر أم لا. وما ذکره هو المشهور بین الأصحاب قدیماً وحدیثاً، حیث نسبوا إلیهم بأنّ العبادة تکون صحیحة إذا قلنا بجواز الاجتماع، وفاسدة إذا قلنا بالامتناع.

ثمّ نقل عن شیخه (الظاهر أنّه المحقّق النائینی قدس سره ) الاعتراض علی ذلک، وذهب إلی التفصیل بین صورة علم المکلّف بالحرمة ممّا توجب عدم صحّة العبارة، وبین صورة الجهل والنسیان حیث تفید الصحّة .

ثمّ قال: (وفیه حینئذٍ دعویان:

الاُولی: عدم صحّة العبادة مع العلم باعتبار أنّ منشأ اعتبار القدرة فی التکلیف، إنّما هو اقتضاء نفس التکلیف ذلک، لا حکم العقل بقبح التکلیف العاجز، والوجه فی ذلک هو أنّ الغرض من التکلیف حیث إنّه کان جعل الداعی للمکلّف نحو الفعل، فمن الواضح أنّ هذا بنفسه یقتضی کون متعلّقه مقدوراً، ضرورة استحالة جعل الداعی نحو الممتنع عقلاً وشرعاً، وإن کانت حصّة غیر المقدورة داخلة تحت الطبیعة علی الإطلاق، إلاّ أنّها لیست من حصّتها بما هی مأمورٌ بها ومتعلّقة للتکلیف، فبالنتیجة لا تکون الصلاة الواقعة فی الدار المغصوبة من الحصّة المقدورة شرعاً، لأنّ الممتنع الشرعی یکون کالممتنع العقلی، فلا تکون الصلاة

ص:561

حینئذٍ مأموراً بها، فلا یمکن الحکم بصحّة الصلاة بما أنّها مأمورٌ بها کما لا یخفی .

کما لا یمکن تصحیح العبارة من طریق الترتّب، بأن یکون أمر الصلاة متحقّقاً علی عصیان النهی للغصب، کما أنّ الترتّب جارٍ فی المتزاحمین من جهة تقیید إطلاق کلّ منهما بعدم الإتیان بمتعلّق الآخر دون الزائد علیه.

وجه عدم جریانه: هو أنّ عصیان النهی فی مورد الاجتماع لا یخلو من أن یتحقّق بإتیان فعلٍ مضادٍّ للمأمور به فی الخارج، وهو الصلاة مثلاً، کأن یشتغل بالأکل أو الشرب أو النوم أو ما شاکل ذلک، وأن یکون بنفس الإتیان بالصلاة ولا ثالث لهما.

ومن الواضح أنّه علی کلا التقدیرین، لا یمکن أن یکون الأمر بالصلاة مشروطاً به:

إمّا علی التقدیر الأوّل: فلأنّه یلزم أن یکون الأمر بأحد الضدّین مشروطاً بوجود الضدّ الآخر، وهذا غیر معقول، ضرورة أنّ مردّ هذا إلی طلب الجمع بین الضدّین فی الخارج، لفرض أنّه أمرٌ بإیجاد ضدّ علی فرض وجود ضدّ آخر، وهو محال، لأنّه تکلیف بالمحال.

وأمّا علی التقدیر الثانی: فلأنّه یلزم أن یکون الأمر بالشیء مشروطاً بوجوده فی الخارج، وهو محال لأنّه طلب الحاصل.

کما لا یمکن تصحیح العبادة فی هذا المورد بالملاک، وذلک لأنّ ملاک الأمر إنّما یصلح للتقرّب به فیما إذا لم یکن مزاحماً بالقبح الفاعلی، وإلاّ فلا یکون صالحاً للتقرّب به، فإنّ صحّة العبادة کما هی مشروطة بالحسن الفعلی - بمعنی أن یکون الفعل فی نفسه محبوباً وحسناً لیکون صالحاً للتقرّب به إلی المولی - کذلک

ص:562

هی مشروطة بالحسن الفاعلی، بمعنی أن یکون إیجادها من الفاعل أیضاً حسناً، وإلاّ لم تقع صحیحة، والمفروض فیما نحن فیه أنّ إیجادها من الفاعل لیس کذلک، لأنّ الصلاة والغصب بما أنّهما ممتزجان فی الخارج، ویکونان متّحدین فی مقام الإیجاد والتأثیر، وموجودین بإیجادٍ واحدٍ، فلا محالة یکون موجدهما مرتکباً للقبیح فی إیجاده، ومعه یستحیل أن یکون الفعل الصادر منه مقرّباً له، فلا تصحّ العبادة حینئذٍ.

وأمّا الدعوی الثانیة: وهی الصحّة فی الجهل والنسیان، لأنّه لا تنافی بین الحکمین فی مقام الجعل علی الفرض، والتنافی بینهما إنّما هو فی مقام الفعلیّة والامتثال، فإذا فرض جهل المکلّف بأحدهما، فلا مانع من فعلیّة الآخر بفعلیّة موضوعه وهو القدرة، وفی صورة النسیان کان الأمر أوضح من الجهل، لأنّه لا حرمة واقعاً فی هذه الصورة، فتکون العبادة حینئذٍ صحیحة علی کلا الفرضین من دون إشکال)، انتهی کلامه علی ما فی المحاضرات(1).

ویرد علیه أوّلاً: بأنّ القدرة إنّما هی شرط فی مقام تنجّز التکلیف بالخصوص، لا فی مرحلة الجعل، إذ لا یعدّ جعل غیر المقدور مستحیلاً فی حدّ نفسه، بل تکون استحالته من جهة صدوره بما لا یترتّب علیه الأثر، وصدور مثل ذلک عن الحکیم محال لأنّه لغوٌ لا یصدر عن مثله، فالقول بأنّ القدرة تعدّ شرطاً فی مرحلة جعل الحکم، لا یخلو عن مسامحة.

وثانیاً: أنّ مقتضی کون الطبیعة المقدورة متعلّقة للتکلیف، هو عدم کون


1- المحاضرات: 4 / 216 .

ص:563

التعلّق مرتبطاً بالطبیعة المطلقة، بل لابدّ أن یکون تعلّقه إلی الطبیعة المتقیّدة بها، مع أنّ الثابت عند الجمیع حتّی الخصم أنّ متعلّق الحکم ذات الطبیعة لا الطبیعة الخاصّة المقدورة. غایة الأمر أنّه إذا تعلّق بها بذاتها فهذه قابلة للانطباق علی مصادیق متعدّدة مقدورة وغیر مقدورة، فکلّ ما یصدق علیه وصف القدرة أصبح التکلیف فیه منجّزاً، وإلاّ فلا، ولأجل ذلک تری أنّ الطبیعة قد تتفاوت فیها بلحاظ أفراد المکلّفین حیث یصدق علی بعضهم ویتنجّز فی حقّهم لکونهم قادرین، وقد لا یتنجّز للآخرین لعدم قدرتهم.

ومن الواضح أنّ کون التکلیف فی مقام الجعل لجمیع الأفراد علی السویّة لا یعنی بأن لا یکون التکلیف مجعولاً إلاّ للقادرین منهم، خصوصاً إذا کان التفاوت فی وصف القدرة بحسب حال الأزمنة والأمکنة، هذا بخلاف ما لو قلنا بأنّ الجعل کان بالإطلاق لجمیع المکلّفین فی جمیع الأزمنة والأمکنة، فکلّ من کان واجداً للشرط فیتخیّر وإلاّ فلا، بل ویکون معذوراً، ولذلک اخترنا فیما سبق بأنّ التکلیف فعلی بالنسبة إلی جمیع الأفراد، حتّی العاجزین والجاهلین، غایة الأمر لا یکون لهم منجّزاً.

وثالثاً: أنّ الممنوع الشرعی إنّما لا یتعلّق به تکلیف إلزامی وجوبی أو غیره إمّا باعتبار أنّ الأحکام بذاتها متضادّة - وإن صحّحنا التضادّ فی الاعتباریّات - أو من جهة أنّ الأحکام بحسب معتقد الإمامیّة تابعة للمصالح والمفاسد المستلزمة للمحبوبیّة والمبغوضیّة، لذا لا یمکن أن یکون شیء واحد محبوباً ومبغوضاً فی زمان واحد، کما أنّ الأمر کذلک قطعاً فی المتعلّق الوجدانی من حیث الذات والجهة، فإن کان المقصود من ذلک بأنّ المورد یکون من هذا القبیل، فمعنی ذلک أن

ص:564

یرجع إلی القول بالامتناع، وهو مخالف لفرض المسألة من کونه اجتماعیّاً.

وإن کان المقصود بأنّ الممنوع الشرعی غیر مقدور حتّی مع عدم وحدة المتعلّق من حیث المحبوبیّة والمبغوضیّة، ومن دون ملاحظة حال تضادّ الأحکام، کان الجواب أنّ الکون المرتبط للصلاة أو الحرکة المرتبطة علی مسلک القائل بالجواز لیس هو الکون المتعلّق للغصب، وما هو المبغوض غیر المحبوب، کما أنّ المحبوب غیر المبغوض. فلا معنی لتطبیق تلک الکبری بأن یقال الممتنع الشرعی کالممتنع العقلی فی مثل المقام.

کما یرد علیه رابعاً: بما أورده علی فرض الترتّب، بدعوی (أنّ عصیان النهی الذی هو شرط الأمر بالصلاة إمّا أن یتحقّق فی ضمن نصفها أو فی ضمن ضدّها، فعلی الأوّل یلزم اشتراط الأمر بالشیء بوجود نفسه، وعلی الثانی اشتراط الأمر بالشیء علی وجود ضدّه، وکلاهما محال).

بأنّ الأمر بالصلاة إذا فرض کونه مزاحماً للغصب الأهمّ مثلاً، فلا إشکال أنّه لا یکلّف بالصلاة حال إرادة الامتثال للنهی، وأمّا حال عصیانه وتخلّفه یقول إذا کنتَ عاصیاً للنهی وکنتَ غاصباً للدار، فلا تشتغل إلاّ بالصلاة - التی تعدّ من أفراد الضدّ - لا بأمرٍ آخر من التصرّفات التی تصدق علیه الغصب، فلیس وجود الصلاة شرطاً لتحقّق أمره، ولا وجود ضدّه، بل کان انتخاب کلّ فرد من أفراد الضدّ بید المکلّف العاصی للنهی، فکما أنّ الأمر بالصلاة فی غیر المزاحم عبارة عن الأمر بإیجادها، کذلک یکون الأمر بالصلاة فی ظرف عصیان النهی أو عصیان الأمر بالأهمّ فی غیر ما نحن فیه بیده، من دون أن یستلزم هذا أمراً مستحیلاً کما فرضه رحمه الله ، مع أنّ إطلاق الغصب علی مثل الأکل أو الشرب لا یخلو عن مسامحة،

ص:565

إلاّ أن یکون مقصوده بلحاظ ما یستلزمه من الکون فیه، وإدامة الاستیلاء علیه فی حال تلک الأفعال.

کما یرد علیه خامساً من جهة الملاک أوّلاً: بأنّ القبح الفاعلی إنّما یصحّ علی فرض عدم تصحیح الترتّب، وإلاّ لکان الفاعل فی هذا الظرف حسناً بالنسبة إلی حال الصلاة، وإن کان قبیحاً بالنظر إلی حال عصیان النهی.

وثانیاً: بأنّ القبح الفاعلی هنا لا یتصوّر إلاّ أن یلتزم بالوحدة والسرایة فی المتعلّق بواسطة وحدة الوجود، وإن کانت الجهة متعدّدة، فهو عبارة عن الخروج عن القول بالجواز، فمعناه أنّه یکون امتناعیّاً، مع أنّ الکلام کان علی القول بالجواز، ویحکم بصحّة العبادة فی الدار المغصوبة علی المشهور.

وأخیراً: ثبت من خلال جمیع ما ذکرناه، اندفاع جمیع الإشکالات الواردة علی المحقّق صاحب الکفایة رحمه الله .

وأمّا الاعتراض الثانی علی صاحب «الکفایة» فی هذا المقام صادر من المحقّق الحکیم قدس سره فی کتابه «حقائق الاُصول» حیث علّق علی قول المصنّف بحصول الامتثال بإتیان المجمع بداعی الأمر علی الجواز مطلقاً، بقوله:

(قد تقدّم أنّ القول بالجواز قولٌ بعدم کون التکلیف فی نفسه محالاً، وإن جاز أن یکون تکلیفاً بالمحال، وعلیه فقد تقدّم فی ذیل مسألة الضدّ أنّ عموم الأمر بالعبادة الموسّعة للفرد المأتی به فی وقت الضدّ الأهمّ ممتنع، لأنّه تکلیفٌ بالمحال، ولا فرق بینه وبین المقام، وحینئذٍ فقصد الأمر فی المقام عند إتیان مورد التصادق، یتوقّف علی صحّة قصد الأمر بالعبادة الموسّعة عند الإتیان بها فی وقت الضدّ الأهمّ کما سیأتی)، انتهی کلامه(1).


1- حقایق الاُصول: 1 / 363 .

ص:566

ویرد علیه أوّلاً: بأنّ صحّة العبادة لا تتوقّف علی وجود الأمر، لإمکان صحّتها بواسطة قصد الملاک والمحبوبیّة المرتبطة بالجهة الخاصّة، ولا یحتاج إلی الأمر أصلاً.

وثانیاً: أنّه منوط علی القول بعدم کفایة قصد امتثال الأمر المتعلّق بالطبیعة بواسطة بعض أفرادها المیسورة، بلا وجود مزاحمة فی البین، کما أشار إلیه صاحب «الکفایة» فی بحث الترتّب کما سیأتی ذلک هاهنا.

قال المحقّق الخراسانی ثانیاً: (وکذا الحال - أی لا إشکال فی سقوط الأمر وحصول الامتثال - علی الامتناع، مع ترجیح جانب الأمر، إلاّ أنّه لا معصیة علیه)(1)، لعدم وجود نهی حینئذٍ حتّی یکون معصیة، کما هو الحال فی الصورة سابقة، وهذا السقوط والامتثال ثابت فی التوصّلی والتعبّدی، لوجود الأمر حینئذٍ بلا مزاحم معه بالنهی، کما یمکنه قصد القربة بالأمر من دون إشکال .

وأمّا علی فرض الامتناع وترجیح جانب النهی علی الأمر، فهو أیضاً تارةً یفرض کون عمل المأتی به عملاً توصّلیّاً وقع به الأمر والنهی، کقوله: (حدِّث ولا تؤذ)، فحدّث وأذّی، فلا إشکال فی سقوط الأمر بالامتثال، سواء کان عالماً بحکم الحرمة أو جاهلاً، قاصراً کان أو مقصّراً أو ناسیاً، لحصول الغرض بذلک، فیوجب سقوطه، هذا کما فی «الکفایة» ملفّقاً.

أقول: إلاّ أنّه لابدّ من تنقیح ذلک بأنّ مقتضی القول بالامتناع، هل یکون من قبیل التعارض بین دلیلی الأمر والنهی معاً حتّی یکون أحدهما صادقاً دون الآخر.


1- الکفایة: 1 / 246.

ص:567

أو بأن یکون من قبیل المتزاحمین، إلاّ أنّه حیث لا یقدر علی الامتثال، فیرتفع التکلیف فلا ینجّز فی أحدهما.

وأمّا إذا کان الملاک موجوداً فیهما معاً فیتفاوت الحال بالنسبة إلی الصورتین، حیث أنّه علی الأوّل وترجیح جانب النهی علی الأمر، فلا یصحّ الإتیان بالمجمع حینئذٍ لغرض أنّه منهیٌ عنه فعلاً، بل التزم المحقّق الخوئی - کما فی «المحاضرات» - بأنّه :

(یستحیل أن یکون مصداقاً للمأمور به، ضرورة أنّ الحرام لا یعقل أن یکون مصداقاً للواجب، فیقیّد إطلاق دلیل الواجب بغیر ذلک الفرد، من دون فرق فی ذلک بین أن یکون الواجب توصّلیّاً أو تعبّدیّاً، ضرورة استحالة أن یکون المحرّم مصداقاً له مطلقاً، فإنّ الفرق بینهما فی نقطة واحدة، وهی اعتبار قصد القربة فی الواجب العبادی دون التوصّلی، فإذن لا یصحّ الإتیان بالمجمع فی مورد الاجتماع فی التوصّلیات فضلاً عن العبادیّات، لفرض تقیید المأمور به بغیر هذا الفرد، فلا یکون هذا الفرد مصداقاً له لیکون الإتیان به مجزیاً، فإنّ إجزاء غیر المأمور به عن المأمور به یحتاج إلی دلیل، وإلاّ فمقتضی القاعدة عدم الإجزاء، ولا فرق من هذه الناحیة بین التوصّلی والتعبّدی أصلاً.

نعم، قد یعلم من الخارج أنّ الغرض من الواجب التوصّلی یحصل بمطلق وجوده فی الخارج، ولو فی ضمن فرد محرّم، وذلک کإزالة النجاسة عن البدن أو الثوب، فإنّ الغرض من وجوبها حصولها فی الخارج وتحقّقها فیه ولو کان بماء مغصوب.

وأمّا فیما إذا لم یعلم ذلک من الخارج، فلا یحکم بصحّة الواجب وسقوط الأمر عنه وحصول الغرض، وذلک کتکفین المیّت مثلاً، فإنّه واجب توصّلی، فمع

ص:568

ذلک لا یحصل الغرض منه بتکفینه بالکفن المغصوب، ولا یحکم بسقوط الأمر عنه، بل هو من موارد اجتماع الأمر والنهی.

إلی أن قال: فما أفاده - أی المحقّق الخراسانی - من أنّ الواجب إذا کان توصّلیّاً یحصل الغرض منه بإتیان المجمع لا یمکن تصدیقه بوجهٍ.

إلی أن قال: هذا فیما إذا علمت الحرمة واضح، وکذلک مع الجهل عن تقصیر أو قصور، فإنّ الأحکام الواقعیّة ثابتة لمتعلّقاتها فی الواقع، ولا دخل لعلم المکلّفین وجهلهم بها أبداً، ضرورة أنّها لا تتغیّر بواسطة جهل المکلّف بها، فلو کان شیء حراماً فی الواقع، وکان المکلّف جاهلاً بحرمته، فلا تتغیّر حرمته بواسطة جهله بها، وهذا واضح.

ومن ناحیة اُخری أنّ الحرام لا یعقل أن یکون مصداقاً للواجب، وإن فرض کون المکلّف جاهلاً بحرمته، بل معتقداً بوجوبه، ضرورة أنّ الواقع لا ینقلب عمّا هو علیه.

فالنتیجة علی ضوء ذلک، هی أنّه لا إشکال فی أنّه لا ینطبق الواجب علی المجمع بناءً علی تقدیم جانب الحرمة، فلا یسقط الأمر به بإتیان المجمع، حتّی إذا کان توصّلیّاً مع العلم بحرمته أو مع الجهل بها، إلاّ إذا علم من الخارج وفائه بالغرض. وعلی ذلک یترتّب فساد الإتیان بالمجمع کالصلاة فی الدار المغصوبة مع العلم بمبغوضیّته وحرمته، بل مع الجهل بها ولو کان عن قصور، ضرورة استحالة أن یکون الحرام مصداقاً للواجب، والمفروض أنّ الجهل بالحرمة لا یوجب تغییر الواقع وإن کان عن قصور، والعلم بوجوبه لا یوجب الأمر به فی الواقع وارتفاع حرمته، فإذن کیف یمکن الحکم بالصحّة فی فرض الجهل بها عن قصور .

ص:569

ثمّ قال: هذا بناءً علی وجهة نظرنا من أنّ هذه المسألة علی القول بالامتناع، تدخل فی کبری باب التعارض فتجری علیه أحکامه.

ولکن یمکن لنا المناقشة فیه علی وجهة نظره قدس سره - أی المحقّق الخراسانی - أیضاً ببیان أنّ قصد الملاک إنّما یکون مقرّباً، فیما إذا لم یکن مزاحماً بشیء، ولا سیّما إذا کان أقوی منه، کما هو المفروض فی المقام.

وأمّا الملاک المزاحم فلا یترتّب علیه أیّ أثر، ولا یکون قصده مقرّباً، بناءً علی ما هو الصحیح من تبعیّة الأحکام للجهات الواقعیّة لا للجهات الواصلة، وبما أنّ فی مفروض الکلام ملاک الوجوب مزاحمٌ بملاک الحرمة فی مورد الاجتماع، فلا یکون صالحاً للتقرّب به.

وعلی هذا، فلا یمکن الحکم بصحّة العبادة فی مورد الاجتماع علی هذا القول - أی علی القول بالامتناع - لا من ناحیة الأمر وانطباق المأمور به بما هو علی المأتی به فی الخارج، ولا من ناحیة الملاک، لفرض أنّه مزاحم بما هو أقوی منه)(1).

أقول: ولا یخفی ما فی کلامه من الإشکال:

أوّلاً: قد عرفت منّا سابقاً بأنّ باب اجتماع الأمر والنهی غیر مربوط بباب التعارض والتزاحم، بل قد یمکن القول بالامتناع، وبرغم ذلک :

تارةً: یکون التنافی بین الدلیلین علی نحو التنافی بین الدلیلین المتعارضین، سواءً کان التعارض بینهما من جهة إطلاق کلّ واحد منهما فی شمولهما لمورد


1- المحاضرات: 4 / 233 .

ص:570

التصادق، نظیر: (صلِّ ولا تغصب)، حتّی تکون النسبة هی العموم من وجه، لو کان التعارض بین الدلیلین الشخصیّین بالنفی والإثبات، إن قلنا بجریان نزاع باب اجتماع الأمر والنهی فیه أیضاً، مثل أن یُقال: (أکرم زیداً لعلمه وأهنه لفسقه) ومن الواضح أنّ معنی التعارض هنا، لیس إلاّ بمعنی تکاذب أحد الدلیلین دون الآخر، فإذا قدّمنا جانب النهی والحرمة، فمعناه حینئذٍ عدم وجود أمر أصلاً، فلا مأمور به حینئذٍ حتّی یقال بأنّه هل یکفی ما هو المحرّم غیر المأمور به عن المأمور به أم لا، کما لا غرض للآمر فی مثله حتّی یقال بأنّ الإتیان بفرد المحرّم هل یکفی ویفی عن غرضه أم لا، حتّی نبحث عن سقوط الأمر، إذ لا أمر حینئذٍ کما عرفت، ولا فرق فی ذلک بین کون الدلیل المتکفّل للأمر کان أمراً عبادیّاً أو توصّلیّاً، کما لا موقع هنا للبحث عن إمکان قصد القربة وعدمه، لأنّه فرع لوجود الأمر والمأمور به کما لا یخفی.

واُخری: یکون التنافی بین الدلیلین علی نحو التزاحم، بمعنی وجود الملاک فی کلّ واحد منهما، إلاّ أنّ المکلّف عاجز عن الجمع بینهما، فحینئذٍ علی القول بالامتناع یکون معناه هو الحکم بتقدیم أقوی المناطین فی مقام تنجّز التکلیف لا فعلیّته، لوجوده فی حقّ الجمیع حتّی العاجزین، فإذا رجّحنا جانب النهی وقلنا بکونه أقوی مناطاً، فلابدّ من امتثاله، فحینئذٍ لو تخلّف عنه وأتی بفرد آخر أی امتثل جانب الأمر، فلا إشکال حینئذٍ بأنّه موجب لسقوط الأمر - أی فعلیّته - لو کان وافیاً لغرضه، فیما إذا لم یکن أمراً عبادیّاً، لأنّ فیه إمّا یحتاج إلی قصد الأمر إن قلنا به، أو إلی قصد القربة إن قلنا بعدم تمشّیه فیما یکون مجزیاً.

هذا بخلاف الأمر التوصّلی إذا کان الإتیان به واجداً لسائر شرائطه

ص:571

المستفادة من دلیل آخر، نظیر ما مثّله من لزوم تحنیط المیّت عدا المجنون والصبی، فإنّ عدم سقوط الأمر هنا لیس إلاّ من جهة أنّه لم یأت بما هو واف لغرضه، فهو یکون مثل الإتیان بما هو غیر مربوط بالمأمور به أصلاً، فلا وجه لتوهّم الکفایة عنه أصلاً، فمثل ذلک غیر مقصود فی کلام صاحب «الکفایة»، فلا یرد علیه بالنقص لصحّة کلامه بحسب مبناه رحمه الله من عدّ ذلک من باب التزاحم، لأنّ ملاک الأمر ولو کان توأماً بالحرام، لکن بما أنّه یعدّ وافیاً بغرض الآمر عدّ مسقطاً لفعلیّة أمره نظیر غسل الثوب بالماء المغصوب، حیث إنّه مطهّر مع کونه حراماً، لأنّ الغرض لیس إلاّ نفس الطهارة، وهی حاصلة بالغسل الحرام.

نعم، یرد الإشکال علی صاحب «الکفایة» أیضاً من حیث انحصاره والقول بالامتناع فی خصوص المتزاحمین فقط، کما لا ینحصر علی هذا القول بخصوص باب التعارض أیضاً، بل یأتی البحث فیه علی کلا الحالین کما لا یخفی.

وثانیاً: أنّ الأحکام الواقعیّة من الحرمة والوجوب، وإن کانت ثابتة لمتعلّقها بحسب الواقع، إلاّ أنّه لا ینافی أن یکون المکلّف إذا کان ناسیاً لموضوع الغصب، أو جاهلاً به، أو کان جاهلاً بالحکم عن قصور - حیث لا یکون التکلیف بالحرمة فی حقّه منجّزاً أصلاً - أن لا یکون قیامه بإتیان الشیء المغصوب فی مقام امتثال الأمر مزاحماً للآخر، لیتحقّق به الامتثال، ویکون موجباً لسقوط الأمر عنه، خصوصاً فیما إذا لم یکن الفعل بحاجة إلی قصد القربة، لیعترض بأنّه کیف یمکن أن یکون الشیء المخصوص محبوباً ومتقرّباً فی الواقع .

وعلیه، فما ذکره المحقّق الخوئی من عدم التفاوت بین تلک الأقسام من هذه الجهة لا یخلو عن وهن، إذ التزاحم إنّما یکون فی التکلیف المنجّز لا فی

ص:572

واقعیّته من دون تنجّز. فإذن ما أفاده المحقّق الخراسانی من التفصیل لا یکون بعیداً عن الصواب.

قال المحقّق الخراسانی ثالثاً: إنّ القول بالامتناع وتقدیم جانب الحرمة، مع کون العمل عبادیّاً کالصلاة مع الغصب:

تارةً یفرض کونه ملتفتاً إلی الحرمة أو غیر ملتفت، إلاّ أنّه کان مقصّراً فی جهله بالحکم فإنّه وإن کان فی هذا الحال متمکّناً من قصد القربة ولذلک یقصدها، إلاّ أنّه مع التقصیر لا یصلح لأن یتقرّب به أصلاً، فلا یقع مقرّباً، وبدون المقرّبیة لا یکاد یحصل به الغرض الموجب للأمر به عبادة، کما لا یخفی.

أقول: ولا یخفی أنّ صحّة کلامه قدس سره من عدم صحّة العبادة مع العلم بالحرمة أو الجهل بها تقصیراً، مبنیٌّ:

إمّا علی القول بالتعارض من جهة عدم وجود ملاک الأمر، کما لا أمر حقیقة علی فرض ترجیح جانب النهی.

وإمّا بناءً علی القول بالتزاحم، برغم عدم قوله بصحّة الترتّب، حیث التزم رحمه الله باستحالة الترتّب، وإمّا علی مبنی من جوّز جریان الترتّب إذا ورد دلیل علیه من ناحیة الشارع - کما هو المختار - فله الحکم بصحّة العبادة إذا فرض تحقّق قصده لامتثال الأمر، أو علی القول بالتزاحم إذا لم نقل بکفایة قصد الملاک فی صحّة العبادة، وإلاّ مع قصده وتمشّی قصد القربة منه، ولو من جهة جهله تقصیراً، تکون الصلاة صحیحة.

فعلی هذا، لا یبعد کون قول المشهور بصحّة الصلاة فی الدار المغصوبة - حتّی عند من قال بالامتناع منهم - مبیّناً علی أحد من الوجوه المذکورة، ولا مانع

ص:573

من الالتزام بذلک ثبوتاً، کما لا یخفی.

ثمّ قال المحقّق الخراسانی رابعاً: إذا کان عدم الالتفات من جهة الجهل بالحکم قصوراً، وقد قصد القربة بإتیانه، فالأمر یسقط حینئذٍ بقصد التقرّب بما یصلح أن یتقرّب به، لاشتماله علی المصلحة، مع صدوره حسناً لأجل الجهل بحرمته قصوراً، فیحصل به الغرض من الأمر فیسقط به قطعاً، وإن لم یکن امتثالاً له، بناءاً علی تبعیّة الأحکام لما هو الأقوی من جهات المصالح والمفاسد واقعاً، لما هو المؤثّر منها فعلاً للحسن والقبح، لکونهما تابعین لما علم منهما کما حقّق فی محلّه.

ثمّ قال: مع أنّه یمکن أن یقال بحصول الامتثال مع ذلک، فإنّ العقل لا یری تفاوتاً بینه وبین سائر الأفراد فی الوفاء بغرض الطبیعة المأمور بها، وإن لم تعمّه بما هی مأمورٌ بها، لکنّه لوجود المانع لا لعدم المقتضی.

ومن هنا انقدح أنّه یجزی حتّی ولو قیل باعتبار قصد الامتثال فی صحّة العبادة، وعدم کفایة الإتیان بمجرّد المحبوبیّة، کما یکون کذلک فی هذا الواجب، حیث لا یکون هناک أمرٌ یقصده أصلاً.

وبالجملة: فمع الجهل قصوراً بالحرمة - موضوعاً أو حکماً - یعدّ الإتیان بالمجمع امتثالاً وبداعی الأمر بالطبیعة لا محالة، غایة الأمر أنّه لا یکون ممّا یسعه بما هی مأمورٌ بها لو قیل بتزاحم الجهات فی مقام تأثیرها للأحکام الواقعیّة.

وأمّا لو قیل بعدم التزاحم إلاّ فی مقام فعلیّة الأحکام، لکان ممّا یسعه وامتثالاً لأمرها بلا کلام .

إلی أن قال: (ومن هنا عُلم أنّ الثواب علیه من قبیل الثواب علی الإطاعة، لا

ص:574

الانقیاد، ومجرّد اعتقاد الموافقة).

ثمّ تعرّض أخیراً لما قلنا من أنّ الأصحاب لعلّهم لذلک یحکمون بصحّة الصلاة فی الدار المغصوبة، مع أنّ جلّهم لولا الکلّ قائلون بالامتناع، وتقدیم الحرمة فی النسیان والجهل بالموضوع، بل الحکم إذا کان عن قصور لا ما لا یکون عذراً فإنّها باطلة حینئذٍ.

انتهی کلامه رحمه الله بتقریرٍ منّا فی لفظه وعباراته(1).

أقول: وما ذکره قدس سره لا یخلو عن إشکال :

أوّلاً: من جهة أنّه قال بأنّ العقل لا یری تفاوتاً بین صورة الفرد المزاحم وبین غیره حیث یعدّ الفعل فی کلتا الصورتین امتثالاً للأمر بالطبیعة.

وجه الإشکال: أنّ سقوط الأمر بواسطة ذلک الإتیان، لا یوجب کونه من باب صدق الامتثال، لإمکان أن یکون السقوط بواسطة عدم وجود غرض للمولی حینئذٍ بعد حصول ذلک، وإن لم یکن مصداقاً للأمر، کما یسقط الأمر أیضاً بانعدام الموضوع، مع أنّه لا یصدق به الامتثال، فالقول بأنّه امتثال للأمر یعدّ مسامحة منه رحمه الله .

وثانیاً: ما ذکره (بأنّ الامتثال للأمر وکونه مأمور به لا یسعه، لو قیل بتزاحم الجهات فی مقام تأثیرها للأحکام الواقعیّة، وأمّا لو قیل بعدم التزاحم إلاّ فی مقام فعلیّة الأحکام لکان ممّا یسعه وامتثالاً لأمرها).

لا یخلو عن مناقشة، لوضوح أنّ العلم والجهل للمکلّفین لا یمکن أن یکون


1- الکفایة: 246 - 248 .

ص:575

دخیلاً فی فعلیّة الأحکام، بل یکون دخیلاً فی التنجّز وعدمه کما هو المبنی المختار، بل ربّما توهّم أنّه لو کان دخیلاً فی فعلیّة الأحکام، لزم التصویب الذی یعدّ محالاً عنده، فتکون الأحکام الشرعیّة تابعة لملاکات الواقعیّة من المصالح والمفاسد، ولذلک یظهر لک عدم تمامیّة ما عبّره فی الجاهل القاصر بصحّة ما أتاه لاشتماله علی المصلحة، مع صدوره حَسناً لأجل الجهل بحرمته قصوراً، لوضوح أنّ الحسن یکون تخیّلاً، وإلاّ لکان مبغوضاً من جهة ترکه الأهمّ.

نعم، یصحّ هذا بناءً علی القول بالترتّب، لکنّه خارج عن الفرض، وإلاّ صدق امتثال الأمر به أیضاً، مضافاً إلی أنّه رحمه الله مخالف فی تلک المسألة، وحیث التزم باستحالة الترتّب کما قدّمنا بحثه فی السابق، فلا نعید.

نعم، هذا التعبیر حسن فی الأحکام الفعلیّة؛ لأنّ العقل حسب إدراکه یحکم بالاستحقاق، فیثبت الحسن والقبح علی حسب ما وصل إلیه دون غیره، هذا ما وصل إلیه نظرنا هنا، واللّه العالم بحقیقة الحال.

***

والحمد للّه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً. هذا آخر ما ألقیناه من البحوث الواردة فی هذا الجزء بحسب ترتیب «کفایة الاُصول»، وأنا شاکرٌ للّه سبحانه وتعالی علی توفیقه إیّای، وکان الفراغ من ذلک لیلة العشرین من شهر جمادی الثانیة المصادفة لذکری ولادة الصدِّیقة الطاهرة فاطمة الزهراء علیهاالسلام من سنة ألف وأربعمائة وتسعة من الهجرة النبویّة الشریفة، وقد کتبه بیمناه الداثرة العبد المذنب، المحتاج إلی رحمة ربّه، والراجی عفوه ومغفرته الحاج السیّد محمّد علی العلوی الحسینی، ابن حجّة الإسلام والمسلمین الحاج السیّد السجّاد العلوی الگرگانی طاب ثراه وجعل اللّه الجنّة مثواه، آمین ربّ العالمین، والحمد للّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی سیّدنا محمّد وعلی آله الطیّبین الطاهرین المعصومین.

***

ص:576

صفحة بیضاء

ص:577

الفهرس

الفهرس

فی الشروط المتأخّرة عن زمان التکلیف••• 5

فی الشروط المتأخّرة فی الأحکام الوضعیّة••• 13

البحث عن الشرط المتأخّر من المأمور به••• 19

فی الواجب المطلق والمشروط••• 21

فی متعلّق الشرط الواجب المشروط••• 24

فی موانع رجوع القید إلی الهیئة••• 39

فی الواجب المنجّز والمعلّق••• 53

فی القیود الواردة فی الخطابات الشرعیّة••• 57

فی الواجب النفسی والغیری••• 73

تنبیهات باب مقدّمة الواجب••• 97

فی الواجب النفسی والتهیّؤی••• 123

فی الواجب الأصلی والتبعی••• 124

المقدّمات المطلقة والموصولة••• 126

فی الثمرات المترتّبة علی وجوب المقدّمة وعدمه••• 154

فی تأسیس الأصل فی مسألة الملازمة••• 185

فی مقدّمة ما عدا الواجب••• 225

فی اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن ضدّه وعدمه••• 236

الأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضدّه العام / ثمرة البحث••• 273

فی ثمرة البحث••• 279

البحث عن الترتّب••• 287

أدلّة القائلین بصحّة الترتّب••• 314

جریان الترتّب فی الحکمین المتساویین••• 343

ص:578

تنبیهات باب الترتّب••• 350

التنبیه الأوّل••• 350

التنبیه الثانی••• 356

التنبیه الثالث••• 357

فی جواز الأمر مع علم الآمر بانتفاء الشرط••• 362

هل یجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه••• 362

هل الأوامر والنواهی متعلّقة بالطبایع أو الأفراد••• 371

فی کیفیّة تعلّق الأوامر والنواهی••• 371

فی أنّه إذا نسخ الوجوب هل یبقی الجواز بعده أم لا••• 383

فی الواجب التخییری••• 392

فی بیان تصویر الواجب التخییری••• 392

فی الواجب العینی والکفائی••• 413

فی الواجب الموقّت وغیر الموقّت••• 432

فی أنّ الأمر بالشیء هل هو أمرٌ به••• 457

فی أنّ الأمر بالشیء هل هو أمرٌ بذلک الشیء أم لا••• 457

فی حکم الأمر بعد الأمر••• 465

فی الأمر بعد الأمر••• 465

فی دلالة مادّة النهی وصیغته••• 475

اجتماع الأمر والنهی••• 501

الفهرس••• 577

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.